Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 33, Ayat: 40-40)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } هذا دفعٌ لتعيير من جهل ، فقال : تزوج محمد زوج ابنه زيد . فدفعه تعالى بأنه إنما يتصور لو كان صلّى الله عليه وسلم أبا لزيد على الحقيقة ، لكنه ليس أبا لأحد من أصحابه ، حتى يثبت بينه وبينه ، ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح ، وزيدٌ واحد منهم ، الذين ليسوا بأولاده حقيقة . فكان حكمه حكمهم . والادعاء والتبني من باب الاختصاص والتقريب لاغير { وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ } أي : ولكن كان رسول الله مبلغا رسالاته { وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ } بفتح التاء وكسرها ، قراءتان . أي : فهذا نعته وهذه صفته . فليس هو في حكم الأب الحقيقيّ ، وإنما ختمت النبوة به ، لأنه شرع له من الشرائع ما ينطبق على مصالح الناس في كل زمان وكل مكان . لأن القرآن الكريم لم يدع أُمّاً من أمهات المصالح إلا جلاها ، ولا مكرمة من أصول الفضائل إلا أحياها ، فتمت الرسالات برسالته إلى الناس أجمعين ، وظهر مصداق ذلك بخيبة كل من أدعى النبوة بعده ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وهو خير الوارثين { وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } أي : فلا يقضي إلا بما سبق به علمه ، ونفذت فيه مشيئته ، واقتضته حكمته . تنبيهان في لطائف هذه القصة ، وفوائدها الباهرات الأول : لم تختلف الروايات أنها نزلت في قصة زيد بن حارثة وزوجه زينب بنت جحش . ورواه البخاري عن أنس في التفسير . ورواه عنه في التوحيد قال : جاء زيدا بن حارثة يشكو ، فجعل النبيّ صلّى الله عليه وسلم يقول : " اتق الله وأمسك عليك زوجك " وأخرجه أحمد بلفظ أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم منزل زيد بن حارثة . فجاءه زيد يشكوها إليه . فقال له : " أمسك زوجك واتق الله " فنزلت . وقد أخرج ابن أبي حاتم هذه القصة من طريق السّديّ . فساقها سياقاً حسناً واضحاً ولفظه : بلغنا أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش ، وكانت أمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أراد أن يزوجها زيد بن حارثة مولاه فكرهت ذلك ، ثم إنها رضيت بما صنع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فزوجها إياه ، ثم أعلم الله عز وجل نبيّه صلّى الله عليه وسلم بعدُ ، أنها من أزواجه . فكان يستحيي أن يأمره بطلاقها ، وكان لا يزال يكون بين زيد وزينب ما يكون من الناس ، فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يمسك عليه زوجه ، وأن يتقي الله . وكان يخشى الناس أن يعيبوا عليه ويقولوا تزوج امرأة ابنه . وكان قد تبنى زيداً . وعنده ، ومن طريق علي بن زيد بن جدعان عن عليّ بن الحسين بن عليّ ، قال : " أعلم الله نبيه صلّى الله عليه وسلم ؛ أن زينب ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها . فلما أتاه زيد يشكوها إليه ، وقال له : اتق الله وأمسك عليك زوجك . قال الله تعالى : قد أخبرتك أنى مزوجكها " وتخفي في نفسك ما الله مبديه . قال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) بعد نقل ما تقدم : ووردت آثار أخرى أخرجها ابن أبي حاتم والطبريّ ، ونقلها كثير من المفسرين ، لا ينبغي التشاغل بها ، والذي أوردته منها هو المعتمد . انتهى . وقال الحافظ ابن كثير : ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير ههنا أثاراً ، أحببنا أن نضرب عنها صفحاً ، لعدم صحتها ، فلا نوردها . انتهى . الثاني : قال القاضي عياض رحمه الله في ( الشفا ) في بحث أقواله صلى الله عليه وسلم الدنيوية : ولا يجوز عليه صلّى الله عليه وسلم أن يأمر أحداً بشيء أو ينهى أحداً عن شيء ، وهو يبطن خلافه وقد قال عليه السلام : " ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين ، فكيف أن تكون له خائنة قلب ؟ " فإن قلت : فما معنى قوله في قصة زيد { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ } [ الأحزاب : 37 ] … الآية . فاعلم أكرمك الله ولا تسترب في تنزيه النبيّ عليه السلام عن هذا الظاهر ، وأن يأمر زيدا بإمساكها وهو يحب تطليقه إياها ، ذكر عن جماعة من المفسرين . وأصح ما في هذا ما حكاه أهل التفسير عن عليّ بن حسين . أن الله تعالى كان أعلم نبيه أن زينب ستكون من أزواجه . فلما شكاها إليه زيد ، قال له النبيّ صلّى الله عليه وسلم : " أمسك عليك زوجك ، واتق الله " وأخفى منه في نفسه ما أعلمه الله به أنه سيتزوجها مما الله مبديه ومظهره بتمام التزويج وطلاق زيد لها . وروى نحوه عمرو بن فائد عن الزهريّ قال : نزل جبريل عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وسلم يعلمه أن الله يزوجه زينب بنت جحش . فذلك الذي أخفى في نفسه ، ويصحح هذا قول المفسرين في قوله بعد هذا { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً } [ الأحزاب : 37 ] أي : لا بد لك أن تتزوجها . ويوضح هذا أن الله تعالى لم يبد من أمره معها غير زواجه لها . فدل أنه الذي أخفاه عليه السلام ، مما كان أعلمه به تعالى ، وقوله تعالى في القصة : { مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُ } [ الأحزاب : 38 ] دل على أنه لم يكن عليه حرج في الأمر . ولو كان على ما قيل من وقوعها في قلبه ، ومحبة طلاق زيد لها ، لكان فيه أعظم الحرج . وكيف يقال : رآها فأعجبته وهي بنت عمته . ولم يزل يراها منذ ولدت . ولا كان النساء يحتجبن منه عليه السلام ، وهو زوّجها لزيد ، وإنما جعل الله طلاق زيد لها وتزويج النبيّ صلّى الله عليه وسلم إياها ، لإزالة حرمة التبني وإبطال سببه . كما قال : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } [ الأحزاب : 40 ] وقال : { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ } [ الأحزاب : 37 ] قال ابن فورك : وليس معنى الخشية هنا الخوف . وإنما معناه الاستحياء . أي : يستحي منهم أن يقولوا تزوج زوجة ابنه . وأن خشيته عليه السلام من الناس كانت من إرجاف المنافقين واليهود ، وتشغيبهم على المسلمين بقولهم : تزوج زوجة ابنه بعد نهيه عن نكاح حلائل الأبناء ، كما كان . فعتبه الله تعالى على هذا ، أو نزهه عن الالتفات إليهم فيما أحلّه له ، كما عتبه على مراعاة رضا أزواجه في سورة التحريم بقوله : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } [ التحريم : 1 ] الآية . كذلك قوله ههنا . انتهى ملخصاً . الثالث - قال الإمام ابن حزم في ( الفصِلَ ) يردّ على من استدل بمثل هذه الآية على جواز وقوع الصغائر من الأنبياء ، ما مثاله : وأما قوله تعالى : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ } [ الأحزاب : 37 ] الآية فقد أنفنا من ذلك . إذ لم يكن فيه معصية أصلا ولا خلاف فيما أمره الله تعالى به وأن ما كان أراده زواج . مباح له فعله ومباح له تركه ومباح له طيه ومباح له إظهاره . وإنما خشي النبيّ صلّى الله عليه وسلم الناس في ذلك خوف أن يقولوا قولا ويظنوا ظنا ، فيهلكوا . كما قال عليه السلام للأنصاريين : إنها صفية . فاستعظما ذلك ، فأخبرهما النبي صلّى الله عليه وسلم أنه إنما يخشى أن يلقي الشيطان في قلوبهما شيئاً . وهذا الذي خشيه عليه السلام على الناس من هلاك أديانهم ، بظن يظنونه به عليه السلام ، هو الذي يحققه هؤلاء المخذولون المخالفون لنا في هذا الباب . وكان مراد الله عز وجل أن يبدي ما في نفسه ، لما كان سلف علمه من السعادة لأمنا زينب رضي الله عنها ، انتهى . الرابع : للإمام مفتي مصر رحمه الله مقالة على هذه الآية : رأيت نقلها هنا تعزيزاً لما سلف ، وإيقافاً من أسرار الآية على نخب ما وصف . قال رحمه الله : نزلت هذه الآية في زينب بنت جحش . وهي بنت عمته صلّى الله عليه وسلم أميمة بنت عبد المطلب . وقد خطبها الرسول على مولاه زيد بن حارثة . فأبت وأبى أخوها عبد الله بن جحش فنزلت آية { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ } … [ الأحزاب : 36 ] الخ ، فلما نزلت الآية قالا : رضينا يا رسول الله . فأنكحها إياه . وساق عنه إليها مهرها ستين درهما وخمارا وملحفة ودرعا وإزاراً وخمسين مُداً من طعام ، وثلاثين صاعاً من تمر . كذا يروى . فنحن من جهة ، نرى أن زينب كانت بنت عمة النبيّ صلّى الله عليه وسلم ، ربيت تحت نظره وشملها من عنايته ما يشمل البنت مع والدها لأول الأمر . حتى أنه اختارها لمولاه زوجة . مع إبائها وإباء أخيها . وعدّ إباءها هذا عصيانا . ولا زالت كذلك حتى نزل في شأنها قرآن . فكأنه أرغمها على زواجه ، لما ألهمه الله من المصلحة لها وللمسلمين في ذلك . ولو كان للجمال سلطان على قلبه صلّى الله عليه وسلم ، لكان أقوى سلطانه عليه جمال البكر في روائه ، ونضرة جدته ، وقد كان يراها ولم يكن بينه وبينها حجاب . ولا يخفى عليه شيء من محاسنها الظاهرة . ولكنه لم يرغبها لنفسه ، ورغبها لمولاه , فكيف يمتد نظره إليها ، ويصيب قلبه سهم حبها ، بعد أن صارت زوجة لعبد من عبيده أنعم عليه بالعتق والحرية ؟ لم يُعرف فيما يغلب على مألوف البشر ، أن تعظم شهوة القريب وولعه بالقريب ، إلى أن تبلغ حد العشق ، خصوصاً إذا كان عشيره منذ صغره . بل المألوف زهادة الأقرباء بعضهم في بعض . متى تعوّد بعضهم النظر إلى بعض ، من بداية السن إلى أن يبلغ حداً منه يجول فيه نظر الشهوة . فكيف يظن أو يتوهم أن النبيّ الذي يقول الله له { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [ طه : 131 ] يخالف مألوف العادة ، ثم يخالف أمر الله في ذلك ؟ أم كيف يخطر بالبال أن من عصم الله قلبه عن كل دنيئة ، يغلب عليه سلطانه شهوةٍ في بنت عمته ، بعد أن زوجها بنفسه لعبد من عبيده ؟ ومن جهة أخرى ترى أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم ، وهو الرؤوف الرحيم ، لم يبال بإباء زينب ورغبتها عن زيد ، وقد كان لا يخفى عليه أن نفور قلب المرأة من زوجها مما تسوء معه العشرة وتفسد به شئون المعيشة . فما كان له - وهو سيد المصلحين - أن يرغم امرأة على الاقتران برجل وهي لا ترضاه ، مع ما في ذلك من الضرر الظاهر بكل من الزوجين . لا ريب أننا نجد من ذلك هاديا إلى وجه الحق في فهم الآية التي نحن بصدد تفسيرها . ذلك أن التصاق الأدعياء بالبيوت واتصالهم بأنسابها ، كان أمراً تدين به العرب ، وتعدّه أصلا يرجع إليه في الشرف والحسب . وكانوا يعطون الدعيّ جميع حقوق الابن ، ويجرون له وعليه جميع الأحكام التي يعتبرونها للابن ، حتى في الميراث وحرمة النسب وهي عقيدة جاهلية رديئة . أراد الله محوها بالإسلام ، حتى لا يعرف من النسب إلا الصريح ولا يجري من أحكامه إلا ماله أساس صحيح . لهذا أنزل الله { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي ٱلسَّبِيلَ } [ الأحزاب : 4 ] ثم قال { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } [ الأحزاب : 5 ] فهذا العدل الإلهيّ ، أن لا ينال حقَّ الابن إلا من يكون ابنا . أما المتبنَّى واللصيق فلا يكون له إلا حق المولى والأخ في الدين . فحرّم الله على المسلمين أن ينسبوا الدعيّ لمن تبناه . وحظر عليهم أن يقتطعوا له شيئاً من حقوق الابن لا قليلاً ولا كثيراً . وشدد الأمر حتى قال : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [ الأحزاب : 5 ] فهو يعفو عن اللفظة تصدر من غير قصد بأن يقول الرجل لآخر : هذا ابني . أو ينادى شخص آخر بمثل ذلك . لا عن قصد التبنّي . ولكنه لا يعفو عن العمد من ذلك ، الذي يقصد منه الإلصاق بتلك اللحمة ، كما كان معروفا من قبل . مضت سنة الله في خلقه ، أن ما رسخ في النفس بحكم العادة , لا يسهل عليها التفصّي منه ، ولا يقدر على ذلك إلا من رفعه الله فوق العادات ، وأعتقه من رق الشهوات ، وجعل همته فوق المألوفات . فلا يُطبيه ( أي : يستميله ) إلا الحق . ولا يحكم عليه إلف ، ولا يغلبه عرف . ذلك هو النبيّ صلّى الله عليه وسلم ، ومن يختصه الله بالتأسي به . لهذا ، كان الأمر ، إذا نهى الله عن مكروه كانت الجاهلية عليه ، أو أحل شيئاً كانت الجاهلية تحرّمه ، بَادَرَ النبيّ صلّى الله عليه وسلم إلى امتثال النهي بالكف عن المنهيّ عنه ، والإتيان بصده . وسارع إلى تنفيذ الأمر بإتيان المأمور به ، حتى يكون قدوة حسنة ، ومثالا صالحا تحاكيه النفوس ، وتحتذيه الهمم ، وحتى يخفّ وزر العادة وتخلص العقول من ريب الشبهة . نادى صلّى الله عليه وسلم في حجة الوداع بحرمة الربا . وأول ربا وضعه ربا عمه العباس . حتى يرى الناس صنيعه بأقرب الناس إليه وأكرمهم عليه ، فيسهل عليهم ترك ما لهم ، وتنقطع وساوس الشيطان من صدورهم ، على هذا السنن الإلهي كان عمل النبيّ صلّى الله عليه وسلم في أمر زينب ، كبر على العرب أن يفصلوا عن أهلهم من ألصقوه بأنسابهم من أدعيائهم كما دل عليه قوله تعالى : { وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ } [ الأحزاب : 36 ] الخ فعمد النبيّ صلّى الله عليه وسلم ، على سنته ، إلى خرق العادة بنفسه . وما كان ينبغي له ، ولا من مقتضى الحكمة ، أن يكلف أحد الأدعياء الأباعد عنه ، أن يتزوج ، ثم يأمره بالطلاق ثم يأمر من كان قد تبناه أن يتزوج مطلقته . ففي ذلك من المشقة مع تحكم العادة وتمكن الاشمئزاز من النفوس ، ما لا يخفى على أحد . فألهمه الله أن يتولى الأمر بنفسه في أحد عتقائه ، لتسقط العادة بالفعل . كما ألغى حكمها بالقول الفصل . لهذا أرغم النبيّ صلّى الله عليه وسلم زينب أن تتزوج بزيد ، وهو مولاه وصفيّه ، والنبيّ يجد في نفسه أن هذا الزواج مقدمة لتقرير شرع ، وتنفيذ حكم إلهيّ . وبعد أن صارت زينب إلى زيد لم يَلِنْ إباؤها الأول ، ولم يسلس قيادها ، بل شمخت بأنفها وذهبت تؤذي زوجها وتفخر عليه بنسبها ، وبأنها أكرم منه عرقاً وأصرح منه حرية . لأنه لم يجر عليها رقّ كما جرى عليه فاشتكى منها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم المرة بعد المرة . وهو عليه السلام مع علوّ مقامه يغلبه الحياء فيتّئد ويتمكّث في تنفيذ حكم الله ولا يعجل ، فكان يقول لزيد : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ } [ الأحزاب : 37 ] إلى أن غلب أمر الله على أمر الأنفة ، وسمح لزيد بطلاقها بعد أن مضّه العيش معها ثم تزوجها بعد ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليمزّق حجاب تلك العادة ، ويكسر ذلك الباب الذي كان مغلقا دون مخالفتها كما قال : { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً } [ الأحزاب : 37 ] وأكد ذلك بالتصريح في نفي الشبهة بقوله : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } [ الأحزاب : 40 ] الآية هذه هي الرواية الصحيحة والقولة الراجحة . ثم قال : وأما ما رووه من أن النبيّ مَرّ ببيت زيد وهو غائب ، فرأى زينب ، فوقع منها في قلبه شيء ، فقال : سبحان مقلب القلوب ! فسمعت التسبيحة فنقلتها إلى زيد ، فوقع في قلبه أن يطلقها … الخ ما حكوه - فقد قال الإمام أبو بكر بن العربي ّ : إنه لا يصح . وإن الناقلين له المحتجين به على مزاعمهم في فهم الآية ، لم يقدروا مقام النبوّة حق قدره ، ولم تصب عقولهم من معنى العصمة كنهها . وأطال في ذلك ، وأذكر من كلامه ما يؤيد ذكرنا في شأن هذه الروايات . قال ، بعد الكلام في عصمة النبيّ صلّى الله عليه وسلم وطهارته من العيب في زمن الجاهلية : وبعد أن جاء الإسلام : وقد مهّدنا لك روايات كلها ساقطة الأسانيد . وإنما الصحيح منها ما روي عن عائشة أنها قالت : لو كان النبيّ صلّى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ } [ الأحزب : 37 ] يعني بالإسلام { وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } [ الأحزب : 37 ] فأعتقته { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } [ الأحزب : 37 ] إلى قوله : { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً } [ الأحزاب : 37 ] وأن رسول الله لما تزوجها قالوا : تزوج حليلة ابنه ، فأنزل الله { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } [ الأحزاب : 40 ] وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم تبناه وهو صغير ، فلبث حتى صار رجلا ، يقال له : ( زيد ابن محمد ) . فأنزل الله { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } [ الأحزاب : 5 ] يعني أنه أعدل عند الله قال القاضي : وما وراء هذه الآية غير معتبر . فأما قولهم إنّ النبي صلّى الله عليه وسلم رآها ، فوقعت في قلبه ، فباطل . فإنه كان معها في كل وقت وموضع . ولم يكن حينئذ حجاب . فكيف تنشأ معه وينشأ معها ، ويلحظها في كل ساعة ولا تقع في قلبه ، إلا إذا كان لها زوج ؟ وقد وهبته نفسها وكرهت غيره . فلم تخطر بباله . فكيف يتجدد هوى لم يكن ! حاشا لذلك القلب المطهر من هذه العلاقة الفاسدة . وقد قال سبحانه وتعالى : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ } [ طه : 131 ] والنساء أفتن الزهرات ، وأنشر الرياحين ، فيخالف هذا في المطلقات . فكيف في المنكوحات المحبوسات ؟ ؟ ثم ساق الكلام في نفس الآية على حسب ما صح في الواقعة . ولولا خوف التطويل لنقلت كلامه بحروف . سبحان الله ! كيف ساغ لقوم مسلمين أن يعتقدوا بمثل هذه الروايات ، وقد علموا أن الله لم يدع لنبيّه أن يعرض عن ابن أم مكتوم ، ويتصدى لصناديد قريش طمعا في إسلامهم ، حتى عاتبه على ذلك في قوله : { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ } [ عبس : 1 ] … إلى آخر الآيات ، مع أنه لم ينصرف عن الأعمى إلا لاشتغاله بما كان يعدّه في نفسه خيرا للدين ، ولم يكن رغبة في جاه ، ولا شرها إلى مال ، ولا طموحا إلى لذة . فلو صحّت الرواية التي زعموها في شأن زينب ، لكان العتاب على تلك التسبيحة ، بمسمع من زينب ، ثم على الزواج بعد الطلاق ، كما أشار إليه في قصة داود عليه السلام . وما كان محمد صلّى الله عليه وسلم في علوّ مقامه ورفعة منزلته من النبوّة ، لتطمح نفسه إلى التلذذ ببنت عمته وزوجة مولاه ولا أن يسمعها ما يدل على شغفه بها ولا أن تضعف عزيمته عن قمع شهوته وكبح جماحها . وما كان رب محمد يعلّل شهوته ، ويرفّه من هواه فيما يخالف أمره ، وهو الذي نهاه أن يمد عينيه إلى ما متع به الناس من زهرة الحياة الدنيا ، ومن زهرتها النساء . تسامى قدر محمد عن ذلك ، وتعالى شأن ربه عن هذا علواً كبيراً . أما والله ! لولا ما أدخل الضعفاء أو المدلّسون من مثل هذه الرواية ، ما خطر ببال مطلع على الآية الكريمة شيء مما يرمون إليه . فإن نص الآية ظاهر جليّ لا يحتمل معناه التأويل ، ولا يذهب إلى النفس منه إلا أن العتاب كان على التمهل في الأمر ، والتريث به ، وأن الذي كان يخفيه في نفسه هو ذلك الأمر الإلهي الصادر إليه ، بأن يهدم تلك العادة المتأصلة في نفوس العرب ، وأن يتناول المعول لهدمها بنفسه كما قدر له أن يهدم أصنامهم بيده لأول مرة عند فتح مكة وكما هو شأنه في جميع ما نهى عنه من عاداتهم . وهذا الذي كان يخفيه في نفسه كان الله مبديه بأمره الذي أوحاه إليه في كتابه ، وبتزويجه زوجة من كانوا يدعونه ابنا له ، كما تقدم بيانه . ولم يكن يمنعه عن إبداء ما أبدى الله ، إلا حياءُ الكريم ، وتؤدة الحكيم ، مع العلم بأنه سيفعل لا محالة ، لكن مع معاونة الزمان . ثم قال الإمام رحمه الله : أذكر لطيفة لبعض الأذكياء جرت بمحضر مني لدى أحد الأساتذة الأميركانيين ، فجاء في الحديث ذكر قوله تعالى : { ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } [ السجدة : 7 ] فقال الأميركيّ : حتى زينب زوجة زيد بن حارثة . يشير بقوله هذا إلى تلك الحادثة ، ويعرض بعشقه صلّى الله عليه وسلم لزينب على ما زعموا ، فقال له صاحبي : سبحان الله ! إنكم تشتغلون بعلوم السماوات والأرض ، ولا تستعملون عقولكم في أقرب الأشياء إليكم ، مع أنكم ، في المشهور عنكم ، من أشدّ الناس ولعاً بالبحث في الأديان . إن الله أمر نبيه أن يتزوج زوجة من دعاه ابنا له ، ليبيّن للناس بالفعل أنه ليس كل من لقب بالابن يكون على الحقيقة ابنا ، فإن كان المسيح قد دُعِي في لسان الإنجيل بـ ( الابن ) فليس هذا على الحقيقة ، وإنما ( الابن ) الحقيقيّ من ولد من أبيه ولادة صحيحة ، إن في ذلك لذكرى للعالمين . والله أعلم . انتهى كلامه رحمه الله تعالى . الخامس : روى الإمام أحمد ومسلم والنسائيّ عن أنس قال : " لما انقضت عِدّة زينب رضي الله عنها قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة : " اذهب فاذكرها عليّ " . فانطلق حتى أتاها وهي تخمر عجينها . قال : فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها وأقول إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذكرها . فوليتها ظهري ونكصت على عقبي وقلت : يا زينب ! أبشري . أرسلني رسول الله صلّى الله عليه وسلم يذكرك . قالت : ما أنا بصانعةٍ شيئاً حتى أؤامر ربي عز وجل . فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن ، وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن . ولقد رأيتنا ، حين دخلت على النبيّ صلّى الله عليه وسلم ، أطمعنا عليها الخبز واللحم " . قال الحافظ ابن حجر : وهذا أيضاً من أبلغ ما وقع في ذلك : وهو أن يكون الذي كان زوّجها هو الخاطب ، لئلا يظن أحد أن ذلك وقع قهرا بغير رضاه . وفيه أيضاً اختبار ما كان عنده منها . هل بقي منه شيء أم لا ؟ وفيه استحباب فعل المرأة الاستخارة ودعائها عند الخطبة قبل الإجابة . وأن من وَكَلَ أمره إلى الله عز وجل ، يسّر الله له ما هو الأحظّ له والأنفع دنيا وأخرى . انتهى . أي : فقد حفظ الله شرفها أن يضيع بعد زواجها بمولى . فاختار لها ما شرّفها به وأسمى مكانتها ، عناية منه ورحمة للأمة أيضا . السادس : روى ابن جرير عن الشعبيّ قال : " كانت زينب رضي الله عنها تقول للنبيّ صلّى الله عليه وسلم إني لأُدِلّ عليك بثلاث ، ما من نسائك امرأة تدل بهن : إن جدّي وجدّك واحد : وإني أنكحنيك الله عز وجل من السماء . وإن السفير لجبريل عليه السلام " . وروى البخاريّ بعضه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " إن زينب كانت تفخر على أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلم فتقول : زوجكن أهاليكن ، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات " . قال ابن القيم في ( زاد المعاد ) : ومن خصائص زينب أن الله سبحانه كان هو وليّها الذي زوجها لرسوله من فوق سماواته . وتوفيت في أول خلافة عمر بن الخطاب . وكانت أولاً عند زيد بن حارثة . وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم تبناه ، فلما طلقها زوجه الله إياها ، لتتأسى به أمته في نكاح أزواج من تبّنوه . انتهى . السابع : قالوا : لا ينقض عموم قوله تعالى : { مِّن رِّجَالِكُمْ } بكونه عليه الصلاة والسلام أباً للطاهر والقاسم وإبراهيم ، لأنهم لم يبلغوا الحلم . ولو بلغوا لكانوا رجالا له ، عليه الصلاة والسلام ، لا لهم . انتهى . وهذا من التعمق في البحث . وإلا فدلالة السياق أوضح من تخصيص الإضافة . قال ابن كثير : لم يعيش له عليه الصلاة والسلام ولد ذكر ، حتى بلغ الحلم . فإنه صلّى الله عليه وسلم ولد له القاسم والطيب والطاهر من خديجة رضي الله عنها ، فماتوا صغارا ، وولد له صلّى الله عليه وسلم إبراهيم من مارية القبطية ، فمات أيضاً رضيعاً . وكان له صلّى الله عليه وسلم من خديجة أربع بنات : زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة ، رضي الله عنهن أجمعين ، فمات في حياته صلّى الله عليه وسلم ثلاث . وتوفيت فاطمة بعده بستة أشهر . انتهى . ثم أمر تعالى بكثرة ذكره ، والعناية بشكره لما منّ به من هدايته ، إلى نور شريعته حتى ينسى عار الكفر وجاهليته ، بقوله سبحانه : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } .