Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 11-11)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ } شروع في تفصيل أحكام المواريث المجملة في قوله تعالى : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ } [ النساء : 7 ] إلخ . قال الحافظ ابن كثير : هذه الآية الكريمة والتي بعدها والآية التي هي خاتمة هذه السورة ، هن آيات علم الفرائض ، وهو مستنبط من هذه الآيات الثلاث ، ومن الأحاديث الواردة في ذلك مما هو كالتفسير لذلك . انتهى . والمعنى : يأمركم الله ويعهد إليكم في شأن ميراث أولادكم بعد موتكم { لِلذَّكَرِ } أي : منهم { مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ } أي : نصيبهما اجتماعاً وانفراداً . أما الأول فإنه يعدّ كل ذكر بأنثيين ، في مثل ابن مع بنتين ، وابن ابنٍ مع بنتي ابن ، وهكذا في السافلين ، فيضعف نصيبه ويأخذ سهمين ، كما أن لهما سهمين ، وأما الثاني فإن له الكل وهو ضعف نصيب البنت الواحدة ، لأنه جعل لها في حال انفرادها النصف ، فاقتضى ذلك أن للذكَر عند انفراده مثلي نصيبها عند انفرادها ، وذلك الكامل ، فالمذكور هنا ميراث الذكر مطلقاً ، مجتمعاً مع الإناث ومنفرداً ، كما حققه صاحب ( الانتصاف ) . تنبيه قال السيوطي : استدل بالآية من قال بدخول أولاد الابن في لفظ ( الأولاد ) للإجماع على إرثهم ، دون أولاد البنت . لطائف الأولى : وجه الحكمة في تضعيف نصيب الذكر هو احتياجه إلى مؤنة النفقة ومعاناة التجارة والتكسب وتحمل المشاق ، فهو إلى المال أحوج ، ولأنه لو كمل نصيبها ، مع أنها قليلة العقل ، كثيرة الشهوة لأتلفته في الشهوات إسرافاً ، ولأنها قد تنفق على نفسها فقط ، وهو على نفسه وزوجته . الثانية : لم يقل : للذكر ضعف نصيب الأنثى ، لأن الضعف يصدق على المثلين فصاعداً ، فلا يكون نصاً ، ولم يقل : للأنثيين مثل حظ الذكر ، ولا للأنثى نصف حظ الذكر ، تقديماً للذكر بإظهار مزيته على الأنثى ، ولم يقل : للذكر مِثْلاَ نصيب الأنثى ، لأن المثل في المقدار لا يتعدد إلا بتعدد الأشخاص ، ولم يعتبر ههنا . الثالثة : إيثار اسمي ( الذكر والأنثى ) على ما ذكر أولاً من الرجال والنساء ، للتنصيص على استواء الكبار والصغار من الفريقين في الاستحقاق ، من غير دخل للبلوغ والكبر في ذلك أصلاً كما هو زعم أهل الجاهلية حيث كانوا لا يورّثون الأطفال ، كالنساء . الرابعة : استنبط بعضهم من هذه الآية أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالدة بولدها ، حيث أوصى الوالدين بأولادهم ، فعلم أنه أرحم بهم منهم . كما جاء في الحديث الصحيح ، " وقد رأى امرأة من السبي ، فرق بينها وبين ولدها فجعلت تدور على ولدها ، فلما وجدته من السبي أخذته فألصقته بصدرها وأرضعته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " أَتُرَوْنْ هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على ذلك ؟ " قالوا : لا يا رسول الله ، قال : " فوالله ! لله أرحم بعباده من هذه بولدها " { فَإِن كُنَّ } أي : الأولاد ، والتأنيث باعتبار الخبر وهو قوله تعالى : { نِسَآءً } يعني : بنات خلصاً ليس معهن ذكر { فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ } خبر ثان أو صفة لنساء ، أي : نساء زائدات على اثنتين . { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } أي : المتوفي المدلول عليه بقرينة المقام . تنبيه ظاهر النظم القرآنيّ أن الثلثين فريضة الثلاث من البنات فصاعداً حيث لا ذكر معهن ، ولم يسم للبنتين فريضة . وقد اختلف أهل العلم في فريضتهما ، فذهب الجمهور إلى أن لهما ، إذا انفردتا عن البنين ، الثلثين . وذهب ابن عباس إلى أن فريضتهما النصف ، احتج الجمهور بالقياس على الأختين ، فإن الله سبحانه قال في شأنهما : { فَإِن كَانَتَا ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ } [ النساء : 176 ] فألحقوا البنتين بالأختين في استحقاقهما الثلثين ، كما ألحقوا الأخوات ، إذا زدن على اثنتين بالبنات في الاشتراك في الثلثين . وقيل : في الآية ما يدل على أن للبنتين الثلثين ، وذلك أنه لما كان للواحدة مع أخيها الثلث ، كان للابنتين إذا انفردتا الثلثان ، هكذا احتج بهذه الحجة إسماعيل بن عياش والمبرّد . قال النحاس : وهذا الاحتجاج عند أهل النظر غلط ، لأن الاختلاف في البنتين إذا انفردتا عن البنين ، وأيضاً للمخالف أن يقول : إذا ترك بنتين وابناً فللبنتين النصف ، فهذا دليل على أن هذا فرضهما . ويمكن تأييد ما احتج به الجمهور بأن الله سبحانه لما فرض للبنت الواحدة النصف إذا انفردت ، بقوله : { تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ } ، كان فرض البنتين ، إذا انفردتا فوق فرض الواحدة ، وأوجب القياس على الأختين الاقتصار للبنتين على الثلثين . وقيل : إن ( فوق ) زائدة ، والمعنى : إن كن نساء اثنتين ، كقوله تعالى : { فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ } [ الأنفال : 12 ] أي : الأعناق . ورد هذا النحاس وابن عطية فقالا : هو خطأ ، لأن الظروف وجميع الأسماء لا يجوز في كلام العرب أن تزاد لغير معنى . قال ابن عطية : ولأن قوله : { فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ } هو الفصيح وليست ( فوق ) زائدة بل هي محكمة المعنى ، لأن ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ ، كما قال دريد بن الصمة : اخفض عن الدماغ وارفع عن العظم ، فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال . انتهى . وأيضاً لو كان لفظ ( فوق ) زائداً كما قالوا ، لقال : فلهما ثلثا ما ترك ، ولم يقل : فلهن ثلثا ما ترك . وأوضح ما يحتج به للجمهور ما أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذيّ وابن ماجة وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم والبيهقيّ في : ( سننه ) عن جابر قال : " جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ! هاتان ابنتا سعد بن الربيع ، قتل أبوهما معك يوم ( أُحُد ) شهيداً ، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالاً ، ولا تنكحان إلاَّ ولهما مال . فقال : " يقضي الله في ذلك " ، فنزلت آية الميراث ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال : " أعط ابنتي سعد الثلثين ، وأمهما الثمن ، وما بقى فهو لك " أخرجوه من طرق ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر . قال الترمذيّ : هذا حديث صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن محمد بن عقيلٍ ، وقد رواه شريك أيضاً عن عبد الله بن محمد بن عقيل من حديثه ، كذا في : ( فتح البيان ) { وَإِن كَانَتْ } أي : المولودة { وَاحِدَةً } أي : امرأة واحدة ليس معها أخ ولا أخت { فَلَهَا ٱلنِّصْفُ } أي : نصف ما ترك ، ولم يكمل لها لأنها ناقصة ، ولذلك لم يُجْعل لها الثلثان اللذان هما نصيب الابن معها ، ثم ذكر ، بعد ميراث الأولاد ، ميراث الوالدين فقال : { وَلأَبَوَيْهِ } أي : الميت ، وهو كناية عن غير مذكور ، وجاز ذلك لدلالة الكلام عليه ، والمراد بالأبوين : الأب والأم ، والتثنية على لفظ الأب للتغليب { لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ } من المال { إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ } ذكر أو أنثى { فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ } للميت { وَلَدٌ } ذكر أو أنثى { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ ٱلثُّلُثُ } أي : ثلث المال مما ترك ، والباقي للأب للذكر مثل حظ الأنثيين . لكن قرر لها الثلث تنزيلاً لها منزلة البنت مع الابن ، لا منفردة ، حطّاً لها عن درجتها ، لقيام البنت مقام الميت في الجملة ، قاله المهايميّ . { فَإِن كَانَ لَهُ } أي : للميت { إِخْوَةٌ } من الأب والأم ، أو من الأب أو من الأم ، ذكوراً أو إناثاً . { فَلأُمِّهِ ٱلسُّدُسُ } يعني لأم الميت سدس التركة { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } خبر مبتدأ محذوف أي هذه الفروض المذكورة إنما تقسم للورثة من بعد إنفاذ وصية يوصي بها الميت إلى الثلث ، ومن بعد قضاء دين على الميت . وقرئ في ( السبع ) : " يوصِي " مبنياً للمفعول وللفاعل . قال الحافظ ابن كثير : أجمع العلماء من السلف والخلف على أن الدَّين مقدم على الوصية . وروى أحمد والترمذي وابن ماجه وأصحاب التفاسير من حديث ابن إسحاق عن الحارث بن عبد الله الأعور عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال : إنكم تقرءون هذه الآية : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَضى بالدين قبل الوصية ، وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات ، الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه . ثم قال الترمذيّ : لا نعرفه إلا من حديث الحارث ، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم ، لكن كان حافظاً للفرائض ، معتنياً بها وبالحساب ، فالله أعلم . قال السيوطي في : ( الإكليل ) : في الآية أن الميراث إنما يقسم بعد قضاء الدين وتنفيذ الوصايا ، وفيها مشروعية الوصية ، واستدل بتقديمها في الذَّكر من قال بتقديمها على الدين في التركة ، وأجاب من أخرها بأنها قدمت لئلا يتهاون بها ، واستدل بعمومها من أجاز الوصية بما قل أو كثر ، ولو استغرق المال ، ومن أجازها للوارث والكافر ، حربياً أو ذمياً ، واستدل بها من قال : إن الدَّين يمنع انتقال التركة إلى ملك الوارث ، ومن قال إن دين الحج والزكاة مقدم على الميراث ، لعموم قوله : { أَوْ دَيْنٍ } انتهى . وقد روى الإمام أحمد وابن ماجة بسند صحيح عن سعد بن الأطول " أن أخاه مات وترك ثلاث مائة درهم ، وترك عيالاً فأردت أن أنفقها على عياله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن أخاك محتبس بدَينه فاقض عنه " ، فقال : يا رسول الله ! قد أديت عنه ، إلاّ دينارين ادعتهما امرأة وليس لها بينة ، قال : " فأعطها فإنها محقة " " . لطيفة فائدة : وصف الوصية بقوله : { يُوصِي بِهَآ } ، هو الترغيب في الوصية والندب إليها . وإيثار ( أو ) المفيدة للإباحة في قوله : { أَوْ دَيْنٍ } ، على ( الواو ) للدلالة على تساويهما في الوجوب ، وتقديمها على القسمة مجموعين أو منفردين ، وتقديم الوصية على الدَّين ، ذِكْراً مع تأخرها عنه حكماً ، ما قدمنا من إظهار كمال العناية بتنفيذها ، لكونها مظنة التفريط في أدائها ، ولاطرّادها ، بخلاف الدين - أفاده أبو السعود . { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } أي : لا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم ، والمعنى : فرض الله الفرائض ، على ما هو ، على حكمة ، ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم ، فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة ، والتفاوت في السهام بتفاوت المنافع ، وأنتم لا تدرون تفاوتها ، فتولى الله ذلك فضلاً منه ، ولم يكلها إلى اجتهادكم لعجزكم عن معرفة المقادير ، وهذه الجملة اعتراضية مؤكدة لأمر القسمة ، وردّ لما كان في الجاهلية . قال السمرقندي : ويقال : معنى الآية : أن الله تعالى علمكم قسمة المواريث ، وأنكم لا تدرون أيهم أقرب موتاً فيرث منه الآخر . انتهى . { فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ } نصبت نصب مصدر مؤكد لفعل محذوف ، أي : فرض الله ذلك فرضاً ، أو لقوله تعالى : { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ } . فإنه في معنى : يأمركم ويفرض عليكم . { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً } أي : بالمصالح والرتب { حَكِيماً } أي : في كل ما قضى وقدر ، فيدخل فيه بيان أنصباء الذكر والأنثى ، دخولاً أولياً .