Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 49, Ayat: 11-11)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ } أي : لا يهزأ رجال من رجال ، فيروا أنفسهم خيراً من المسخور منهم { عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ } أي : الساخرات . قال أبو السعود : فإن مناط الخيرية في الفريقين ، ليس ما يظهر للناس من الصور والأشكال ولا الأوضاع والأطوار التي عليها يدور أمر السخرية غالباً . بل إنما هو الأمور الكامنة في القلوب ، فلا يجترئ أحد على استحقار أحد ، فلعله أجمع منه ، لما نيط به من الخيرية عند الله تعالى ، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله تعالى ، والاستعانة بمن عظمه الله تعالى . ومن أهل التأويل من خص السخرية بما يقع من الغنيّ للفقير . وآخرون بما يعثر من أحد على زلة أو هفوة ، فيسخر به من أجلها . قال الطبريّ : والصواب أن يقال إن الله عَمَّ ، بنهيه المؤمنين من أن يسخر بعضهم من بعض ، جميعَ معاني السخرية . فلا يحل لمؤمن أن يسخر من مؤمن ، لا لفقره ، ولا لذنب ركبه ، ولا لغير ذلك . وقد عدّ الغزاليّ في ( الإحياء ) السخرية من آفات اللسان ، وأوضح معناها بما لا مطلب وراءه فننقله هنا تتميماً للفائدة ، قال رحمه الله : الآفة الحادية عشرة : السخرية والاستهزاء : وهذا محرم مهما كان مؤذياً ، كما قال تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ … } الآية . ومعنى السخرية : الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص ، على وجه يُضحك منه . وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول ، وقد يكون بالإشارة والإيماء ، وإذا كان بحضرة المستهزأ به لم يسم ذلك غيبة ، وفيه معنى الغيبة . وقالت عائشة رضي الله عنها : حاكيت ، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم : " والله ما أحب أني حاكيت إنساناً ، ولي كذا وكذا " . وقال ابن عباس في قوله تعالى : { يٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [ الكهف : 49 ] إن الصغيرة التبسم بالاستهزاء بالمؤمن ، والكبيرة القهقهة بذلك . وهذا إشارة إلى أن الضحك على الناس من جملة الذنوب الكبائر . وقال معاذ بن جبل : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " من عيّر أخاه بذنب قد تاب منه ، لم يمت حتى يعمله " . وكل هذا يرجع إلى استحقار الغير ، والضحك عليه ، والاستهانة به ، والاستصغار له . وعليه نبه قوله تعالى : { عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ } . أي : لا تستحقره استصغاراً ، فلعله خير منك . وهذا إنما يحرم في حق من يتأذى به . فأما من جعل نفسه مسخرة ، وربما فرح من أن يسخر به ، وكان السخرية في حقه من جملة المزح . ومنه ما يذم وما يمدح . وإنما المحرم استصغار يتأذى به المستهزأ به ، لما فيه من التحقير والتهاون ، وذلك تارة بأن يضحك على كلامه إذا تخبط فيه ولم ينتظم ، أو على أفعاله إذا كانت مشوشة ، كالضحك على حفظه وعلى صنعته أو على صورته وخلقته ، إذا كان قصيراً أو ناقصاً ، لعيب من العيوب ، فالضحك من جميع ذلك داخل في السخرية المنهيّ عنها . انتهى . لطيفة قال أبو السعود : القوم مختص بالرجال ، لأنهم القُوَّام على النساء ( والأحسن المهمات ) وهو في الأصل إما جمع قائم كصَوْم ، وزَوْر في جمع صائم وزائر . أو مصدر نعت به فشاع في الجمع . وأما تعميمه في مثل قوم عاد وقوم فرعون ، فإما للتغليب ، أو لأنهن توابع واختيار الجمع لغلبة وقوع السخرية في المجامع . والتنكير إما للتعميم أو للقصد إلى نهي بعضهم عن سخرية بعض لما أنها مما يجري بين بعض وبعض . { وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } أي : لا يعيب بعضكم على بعض ولا يطعن . قال الشهاب : ضمير : { تَلْمِزُوۤاْ } للجمع بتقدير مضاف فيه . و { أَنفُسَكُمْ } عبارة عن بعض آخر من جنس المخاطبين ، وهم المؤمنون ، فجعل ما هو من جنسهم بمنزلة أنفسهم ، كما في قوله : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [ التوبة : 128 ] وقوله : { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] فأطلق الأنفس على الجنس استعارة . ففي اللفظ الكريم تجوّز ، وتقدير مضاف . والنهي على هذا مخصوص بالمؤمنين ، وهو مغاير لما قبله ، وإن كان مخصوصاً بالمؤمنين أيضاً بحسب المفهوم ، لتغاير الطعن والسخرية ، فلا يقال : إن الأول مغن عنه ، إذ السخرية ذكره بما يكره على وجه مضحك بحضرته ، وهذا ذكره بما يكره مطلقاً . أو هو تعميم بعد التخصيص ، كما يعطف العام على الخاص ، لإفادة الشمول . وقيل : إنه من عطف العلة على المعلول ، أو اللمز مخصوص بما كان على وجه الخفية ، كالإشارة . أو هو من عطف الخاص على العام لجعل الخاص كجنس آخر مبالغة . انتهى . وقيل : معنى الآية : لا تفعلوا ما تلمزون به ، فإن من فعل ما استحق به اللمز ، فقد لمز نفسه . قال الشهاب : فـ { أَنفُسَكُمْ } على ظاهره والتجوّز في قوله : { تَلْمِزُوۤاْ } . فهو مجاز ذكر فيه المسبّب ، وأريد السبب . والمراد : لا ترتكبوا أمراً تعابون به ، وضعف بأنه بعيد من السياق ، وغير مناسب لقوله : { وَلاَ تَنَابَزُواْ } ، كما في ( الكشف ) ، وكونه من التجوّز في الإسناد ، إذ أسند فيه ما للمسبب إلى السبب ، تكلف ظاهر ، وكذا كونه كالتعليل للنهي السابق ، لا يدفع كونه مخالفاً للظاهر . وكذا كون المراد به لا تتسببوا في الطعن فيكم ، بالطعن على غيركم ، كما في الحديث " من الكبائر أن يشتم الرجل والديه " ، إذ فُسِّر بأنه إذا شتم والدي غيره ، شتم الغيرُ والديه أيضاً . { وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ } أي : ولا تداعوا بالألقاب التي يكره النبزَ بها الملقب فقد روي أنه عنى بها قوم كانت لهم أسماء في الجاهلية ، فلما أسلموا كانوا يغضبون من الدعاء بها رواه أحمد وأبو داود . وفسره بعض السلف يقول الرجل للرجل : يا فاسق ، يا منافق ، وبعض بتسمية الرجل بالكفر بعد الإسلام ، وبالفسوق بعد التوبة . الآية - كما قال ابن جرير : تشمل ذلك كله قال : لأن التنابز بالألقاب هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة . { بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ } قال الزمخشريّ : { ٱلاسْمُ } ههنا بمعنى الذكر . من قولهم : طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم ، كما يقال : طار ثناؤه وصيته . وحقيقته ما سماه ذكره ، وارتفع بين الناس . ألا ترى إلى قولهم : أشاد بذكره ؟ كأنه قيل بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائر ، أن يذكروا بالفسق . وفي قوله : { بَعْدَ ٱلإَيمَانِ } ثلاثة أوجه : أحدها : استقباح الجمع بين الإيمان وبين الفسق الذي يأباه ، الإيمان ويحظره ، كما تقول : بئس الشأن بعد الكبرة ، الصبوةُ . والثاني : أنه كان في شتائمهم لمن أسلم من اليهود : يا يهوديّ ، يا فاسق ، فنهوا عنه ، وقيل لهم : بئس الذكر ، أن تذكروا الرجل بالفسق واليهودية بعد إيمانه . والجملة على هذا التفسير متعلق بالنهي عن التنابز . والثالث : أن يجعل من فسق غير مؤمن ، كما تقول للمتحوّل عن التجارة إلى الفلاحة : بئست الحرفة ، الفلاحة بعد التجارة . انتهى . واختار ابن جرير الثالث ، لا ذهاباً لرأي المعتزلة من أن الفاسق غير مؤمن ، كما أنه غير كافر ، فهو في منزلة بين المنزلتين ؛ بل لأن السياق يقتضي ختم الكلام بالوعيد ، فإن التلقيب بما يكرهه الناس أمر مذموم لا يجتمع مع الإيمان ، فإن شعار الجاهلية . وعبارته : يقول تعالى ذكره : ومن فعل ما نهينا عنه ، وتقدم على معصيتنا بعد إيمانه ، فسخر من المؤمنين ، ولمز أخاه المؤمن ، ونبزه بالألقاب ، فهو فاسق { بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ } يقول : فلا تفعلوا فتستحقوا ، إن فعلتموه ، أن تسموا فساقاً ، بئس الاسم الفسوق . وترك ذكر ما وصفنا من الكلام ، اكتفاء بدلالة قوله : { بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ } عليه . ثم ضعف القول الثاني وقال : وغير ذلك من التأويل أولى بالكلام ، وذلك أن الله تقدم بالنهي عما تقدم النهي عنه في أول هذه الآية , فالذي هو أولى أن يختمها بالوعيد لمن تقدم على بغيه ، أو بقبيح ركوبه ما ركب مما نهي عنه ، لا أن يخبر عن قبح ما كان التائب أتاه من قبل توبته ، إذ كانت الآية لم تفتتح بالخبر عن ركوبه ما كان ركب قبل التوبة من القبيح ، فيختم آخرها بالوعيد عليه ، أو القبيح . انتهى . { وَمَن لَّمْ يَتُبْ } أي : من نبزه أخاه بما نهى عن نبزه به من الألقاب ، أو لمزه إياه ، أو سخريته منه { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } أي : الذين ظلموا أنفسهم فأكسبوها العقاب بركوبهم ما نهوا عنه .