Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 49, Ayat: 12-12)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ } أي : كونوا على جانب منه . وذلك بأن تظنوا بالناس سوءاً ؛ فإن الظانّ غير محقق . وإبهام ( الكثير ) لإيجاب الاحتياط والتورع فيما يخالج الأفئدة من هواجسه ، إذ لا داعية تدعو المؤمن للمشي وراءه ، أو صرف الذهن فيه ، بل من مقتضى الإيمان ظن المؤمنين بأنفسهم الحسن . قال تعالى : { لَّوْلاۤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَـٰذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ } [ النور : 12 ] . نعم ! من أظهر فسقه ، وهتك ستره ، فقد أباح عرضه للناس . ومنه ما روي : من ألقى جلباب الحياء ، فلا غيبة له . ولذا قال الزمخشريّ : والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها ، أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة ، وسبب ظاهر ، كان حراماً واجب الاجتناب . وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح ، وأونست منه الأمانة في الظاهر ، فظنُّ الفساد والخيانة به محرم ، بخلاف من اشتهره الناس بتعاطي الرَيب ، والمجاهرة بالخبائث . { إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ } وهو ظن المؤمن الشر ، لا الخير : { إِثْمٌ } أي : مكسب للعقاب ؛ لأن فيه ارتكاب ما نهى عنه . قال حجة الإسلام الغزاليّ في ( الإحياء ) في بيان تحريم الغيبة بالقلب : اعلم أن سوء الظن حرام ، مثل سوء القول . فكما يحرم عليك أن تحدث غيرك بلسانك بمساوئ الغير ، فليس لك أن تحدّث نفسك ، وتسيء الظن بأخيك . قال : ولست أعني به إلا عقد القلب ، وحكمه على غيره بسوء الظن . فأما الخواطر وحديث النفس ، فهو معفوّ عنه ، بل الشك أيضاً معفوّ عنه . ولكن المنهيّ عنه أن يظن . والظن عبارة عما تركن إليه النفس ، ويميل إليه القلب . فقد قال تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ } . قال : وسبب تحريمه أن أسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب ، فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءاً إلا إذا انكشف لك بعيان لا يقبل التأويل . فعند ذلك لا يمكنك أن لا تعتقد ما علمته وشاهدته . وما لم تشاهده بعينيك ، ولم تسمعه بأذنك ، ثم وقع في قلبك ، فإنما الشيطان يلقيه إليك ، فينبغي أن تكذّبه فإن أفسق الفساق . إلى أن قال : فلا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به المال ، وهو بعين مشاهدة ، أو بينة عادلة . انتهى . ولما كان من ثمرات سوء الظن التجسس ، فإن القلب لا يقنع بالظن ، ويطلب التحقيق فيشتغل بالتجسس ، ذكر سبحانه النهي عنه ، إثر سوء الظن لذلك ، فقال تعالى : { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } قال ابن جرير : أي : لا يتبع بعضكم عورة بعض ، ولا يبحث عن سرائره ، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه ، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره ، وبه فاحمدوا أو ذموا ، لا على ما تعلمونه من سرائره . يقال : تجسس الأمر إذا تطلبه ، وبحث عنه ، كتلمس . قال الشهاب : الجس ( بالجيم ) كاللمس ، فيه معنى الطلب ؛ لأن من يطلب الشيء يمسه ويجسه ، فأريد به ما يلزمه ، واستعمل التفعل للمبالغة فيه . قال الغزالي : ومعنى التجسس أن لا يترك عباد الله تحت ستر الله ، فيتوصل إلى الاطلاع ، وهتك الستر ، حتى ينكشف له ما هو كان مستوراً عنه ، كان أسلم لقلبه ودينه . وقد روي في معنى الآية أحاديث كثيرة ، منها حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فرفع صوته حتى أسمع العواتق في خدورهن ، فقال : " يا معشر من آمن بلسانه ، ولم يخلص الإيمان في قلبه ! لا تتبعوا عورات المسلمين ، فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه ، ولو في جوف بيته " . وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم : " لا تجسسوا ولا تحسسوا ، ولا تباغضوا ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخواناً " . وروى أبو داود : أن ابن مسعود رضي الله عنه أتى برجل ، فقيل له : هذا فلان ، تقطر لحيته خمراً ! فقال : إنا قد نهينا عن التجسس ، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به - والرجل سماه ابن أبي حاتم في روايته : الوليد بن عقبة بن أبي معيط . وروى أبو داود عن معاوية قال : سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : " إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم ، أو كدت أن تفسدهم " فقال أبو الدرداء رضي الله عنه : كلمةٌ سمعها معاوية من رسول الله ، نفعه الله بها . وروى الإمام أحمد عن دجين ، كاتب عقبة ، قال : قلت لعقبة : إنا لنا جيراناً يشربون الخمر ، وأنا داع لهم الشُّرَط فيأخذونهم ! قال : لا تفعل ، ولكن عظهم وتهددهم ! قال : ففعل فلم ينتهوا . قال : فجاءه دجين فقال : إني نهيتهم فلم ينتهوا ، وإني داع لهم الشُّرَط فتأخذهم ! فقال له عقبة : ويحك ! لا تفعل ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيى موؤودة من قبرها ! " . وروى أبو داود عن أبي أمامة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم " . قال الأوزاعيّ : ويدخل في التجسس استماع قوم وهم له كارهون . { وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } أي : لا يقل بعضكم في بعض بظهر الغيب ، ما يكره المقول فيه ذلك ، أن يقال له في وجهه . يقال : غابه واغتابه ، كغاله واغتاله ، إذا ذكره بسوء في غيبته . { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ } أي : فلو عرض عليكم ، نفرت عنه نفوسكم ، وكرهتموه . فلذا ينبغي أن تكرهوا الغيبة . وفيه استعارة تمثيلية ، مثَّل اغتياب الإنسان لآخر بأكل لحم الأخ ميتاً . لطائف الأولى : قال الزمخشريّ : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ } … إلخ تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه ، وفيه مبالغات شتى : منها - الاستفهام الذي معناه التقرير ( وهو يفيد المبالغة من حيث إنه لا يقع إلا في كلام مسلم عند كل سامع ، حقيقة أو ادعاءً ) . ومنها : جعل ما هو الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة . ومنها : إسناد الفعل إلى ( أحدكم ) ، والإشعار بأن أحداً من الأحدين لا يحب ذلك . ومنها : أن لم يقتصر تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان ، حتى جعل الإنسان أخاً . ومنها : أن لم يقتصر على أكل لحم الأخ ، حتى جعل ميتاً . انتهى . وقال ابن الأثير في ( المثل السائر ) في بحث الكناية : فمن ذلك قوله تعالى : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ } إلخ فإنه كنى الغيبة بأكل الإنسان لحم إنسان آخر مثله ، ثم لم يقتصر على ذلك حتى جعله ميتاً ، ثم جعل ما هو الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة . فهذه أربع دلالات واقعة على ما قصدت له ، مطابقة للمعنى الذي وردت من أجله . فأما جعل الغيبة كأكل لحم الإنسان لحم إنسان آخر مثله ، فشديد المناسبة جداً ؛ لأن الغيبة إنما هي ذكر مثالب الناس ، وتمزيق أعراضهم . وتمزيقُ العرض مماثل لأكل الإنسان لحم من يغتابه ، لأن أكل اللحم تمزيق على الحقيقة . وأما جعله كلحم الأخ فلما في الغيبة من الكراهة ؛ لأن العقل والشرع مجتمعان على استكراهها ، آمران بتركها ، والبعد عنها ، ولما كانت كذلك جعلت بمنزلة لحم الأخ في كراهته . ومن المعلوم أن لحم الإنسان مستكره عند إنسان آخر ، إلا أنه لا يكون مثل كراهة لحم أخيه . فهذا القول مبالغة في استكراه الغيبة . وأما جعله ما هو في الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة ، فلما جبلت عليه النفوس من الميل إلى الغيبة ، والشهوة لها ، مع العلم بقبحها فانظر أيها المتأمل إلى هذه الكناية تجدها من أشد الكنايات شبهاً ؛ لأنك إذا نظرت إلى كل واحدة من تلك الدلالات الأربع التي أشرنا إليها ، وجدتها مناسبة لما قصدت له . انتهى . الثانية : الفاء في قوله تعالى : { فَكَرِهْتُمُوهُ } فصيحة في جواب شرط مقدّر . والمعنى : إن صح ذلك ، أو عرض عليكم هذا ، فقد كرهتموه ، فما ذكر جواب للشرط ، وهو ماض فيقدر معه ( قد ) ليصح دخول الفاء على الجواب الماضي ، كما في قوله تعالى : { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ } [ الفرقان : 19 ] وضمير { فَكَرِهْتُمُوهُ } للأكل ، وقد جوز كونه للاغتياب المفهوم منه . والمعنى : فاكرهوه كراهيتهم لذلك الأكل . وعبر عنه بالماضي للمبالغة ، فإذا أوِّل بما ذكر يكون إنشائيّاً غير محتاج لتقدير ( قد ) - أفاده الشهاب . الثالثة : قال ابن الفَرَس : يستدل بالآية على أن لا يجوز للمضطر أكل ميتة الآدميّ ؛ لأنه ضرب به المثل في تحريم الغيبة ، ولم يضرب بميتة سائر الحيوان . فدل على أنه في التحريم فوقها . ومن أراد استيفاء مباحث الغيبة فعليه ( بالإحياء ) للغزاليّ ، فإنه جمع فأوعى . { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } أي : خافوا عقوبته بانتهائكم عما نهاكم عنه من ظن السوء ، والتجسس عما ستر والاغتياب وغير ذلك من المناهي { إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } أي : يقبل توبة التائبين إليه ، ويتكرم برحمته عن عقوبتهم بعد متابهم . ثم نبه تعالى ، بعد نهيه عن الغيبة واحتقار الناس بعضهم لبعض ، على تساويهم في البشرية ، كما قال ابن كثير ، بقوله سبحانه : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ … } .