Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 2-2)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ } ، أي : معالم دينه ، وهي المناسك . وإحلالها أن يتهاون بحرمتها ، وأن يحال بينهما وبين المتنسكين بها . وقد روى ابن جرير عن عكرمة والسّدّيّ قالا : " نزلت في الحُطَم ، واسمه شريح بن هند البكريّ ، أتى المدينة وَحْدَهُ ، وخَلَّف خيله خارج المدينة ، ودخل على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له : إلامَ تدعو الناس ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة " . فقال : حسن . إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم ، ولعلي أُسْلِمُ وآتي بهم ، فخرج من عنده . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : " يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان " فلما خرج شريح قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " لقد دخل بوجه كافر ، وخرج بقفا غادر ، وما الرجل بمسلم " . فمر بسرح من سراح المدينة فاستاقه وانطلق به وهو يرتجز ويقول : قد لَفَّهَا الليلُ بِسَوَّاقٍ حُطَمْ * لَيْسَ بِرَاعِيِ إِبِلٍ وَلا غَنَمْ وَلا بِجَزَّارٍ عَلَى ظَهْرِ الْوَضَمْ * بَاتُوا نِيَاماً وابنُ هِنْدٍ لَمْ يَنَمْ بَاتَ يُقَاسِهَا غُلامٌ كَالزَّلَمْ * خَدَلَّجُ السَّاقَيْنِ مَمْسُوحُ القَدَمْ فتبعوه فلم يدركوه . فلما كان العام القابل ، خرج شريح حاجا مع حُجاج بكر بن وائل ، من اليمامة ، معه تجارة عظيمة ، وقد قلّد الهدي . فقال المسلمون : يا رسول الله ، هذا الحطم قد خرج حاجاً فَخَلِّ بيننا وبينه . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " إنه قد قلّد الهدي " فقالوا : يا رسول الله ، هذا شيء كنا نفعله في الجاهلية . فأبى النبيّ صلى الله عليه وسلم . فأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ } " قال ابن عباس : هي المناسك ، لأن المشركون يحجون ويهدون ، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم ، فنهاهم الله عن ذلك . وعن ابن عباس أيضاً : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ } : هي أن تصيد وأنت محرم . ويقال : شعائر الله ، شرائع دينه التي حدها لعباده ، وإحلالها الإخلال بها . وظاهر أن عموم اللفظ يشمل الجميع . { وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ } المراد به الجنس ، فيدخل في ذلك جميع الأشهر الحرم ، وهي أربعة : ذو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم ، ورجب ، أي : لا تحلوها بالقتال فيها . وقد كانت العرب تحرم القتال فيها في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام لم يَنْقُضْ هذا الحكم ، بل أكده . كذا في ( لباب التأويل ) . قال ابن كثير : يعني بقوله : { وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ } ، تحريمه والاعتراف بتعظيمه ، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه ، من الابتداء بالقتال . كما قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } [ البقرة : 217 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً } [ التوبة : 36 ] الآية ، وفي صحيح البخاريّ عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، في حجة الوداع : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض . السنة اثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم " الحديث . وقال عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس رضي الله عنه ، في قوله تعالى : { وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ } : يعني : لا تستحلوا القتال فيه . وكذا قال مقاتل وعبد الكريم بن مالك الجزري . واختاره ابن جرير أيضاً . وذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ . وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم . واحتجوا بقوله تعالى : { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] . والمراد أشهر التيسير الأربعة . قالوا : فلم يستثن شهرا حراما من غيره . انتهى . وفي كتاب ( الناسخ والمنسوخ ) لابن حزم : إن الآية نسخت بآية السيف . ونقل بعض الزيدية في ( تفسيره ) عن الحسن أنه ليس في هذه السورة منسوخ . وعن أبي ميسرة . فيها ثماني عشرة فريضة . وليس فيها منسوخ . انتهى . وروى ابن أبي حاتم عن ابن عوف قال : قلت للحسن : نسخ من المائدة شيء ؟ قال : لا . وقال الإمام ابن القيّم في ( زاد المعاد ) في ( فصل سرية الخبط ) كان أميرها أبا عبيدة ابن الجراح ، وكانت في رجب ، فيما ذكره الحافظ ابن سيد الناس في ( عيون الأثر ) . ثم قال ، في فقه هذه القصة : إن فيها جواز القتال في الشهر الحرام . إن كان ذِكْرُ التاريخ فيها برجب ، محفوظاً . والظاهر ، والله أعلم ، أنه وهم غير محفوظ . إذ لم يحفظ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه غزا في الشهر الحرام ، ولا أغار فيه ، ولا بعث فيه سرية . وقد عيّر المشركون المسلمين لقتالهم فيه في أول رجب ، في قصة العلاء بن الحضرميّ ، فقالوا : استحل محمد الشهر الحرام . وأنزل الله في ذلك : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } [ البقرة : 217 ] . ولم يثبت ما ينسخ هذا بنص يجب المصير إليه ، ولا اجتمعت الأمة على نسخه . وقد استدل على تحريم القتال في الأشهر الحرام بقوله تعالى : { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] ، ولا حجة في هذا ، لأن الأشهر الحرم هاهنا هي أشهر التيسير التي سيّر الله فيها المشركين في الأرض يأمنون فيها . وكان أولها يوم الحج الأكبر ، عاشر ذي الحجة ، وآخرها عاشر ربيع الآخر . هذا هو الصحيح في الآية لوجوه عديدة ، ليس هذا موضعها . انتهى . وقوله تعالى : { وَلاَ ٱلْهَدْيَ } أي : لا تحلوه بأن يُتعرض له بالغصب أو بالمنع عن بلوغ محله . والهدي : ما أهدي إلى الكعبة من إبل أو بقر أو شاء . وفي ( الإكليل ) : هذا أصل في مشروعية الإهداء إلى البيت ، وتحريم الإغارة عليه ، وذبحه قبل بلوغ محله . واستدل بالآية أيضاً على منع الأكل منه . { وَلاَ الْقَلآئِدَ } جمع قلادة ، وهي ما يقلد به الهدي ، من نعل أو لحاء شجر ، ليعلم أنه هدي ، فلا يتعرض له ، والمراد النهي عن التعرض لذوات القلائد من الهدي ، وهي البدن . وعطفها على ( الهدي ) مع دخولها فيه ، لمزيد التوصية بها ، لمزيتها على ما عداها ، إذ هي أشرف الهدي ، كقوله تعالى : { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَٰلَ } [ البقرة : 98 ] عطفاً على الملائكة . كأنه قيل : والقلائد منه ، خصوصاً . أو النهي عن التعرض لنفس القلائد ، مبالغة في النهي عن التعرض لأصحابها ، على معنى : لا تحلوا قلائدها فضلا عن أن تحلوها . كما نهى عن إبداء الزينة بقوله تعالى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } [ النور : 31 ] ، مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها . كذا لأبي السعود . وقال الحافظ ابن كثير : يعني لا تتركوا الإهداء إلى البيت الحرام ، فإن فيه تعظيم شعائر الله ، ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام ، وليعلم أنه هدي إلى الكعبة ، فيجتنبها من يريدها بسوء ، وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها . فإن من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ولهذا لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم بات بذي الحُلَيفة ، وهو وادي العقيق ، فلما أصبح طاف على نسائه ، وكن تسعا ، ثم اغتسل وتطيّب وصلى ركعتين . ثم أشعر هديه وقلّده ، وأهلّ للحج والعمرة ، وكان هديه إبلا كثيرة تُنيف على الستين ، من أحسن الأشكال والألوان كما قال تعالى : { ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ } [ الحج : 32 ] . قال بعض السلف : إعظامها استحسانها واستسمانها . قال عليّ بن أبي طالب : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن . رواه أهل السنن . وقال مقاتل : ولا القلائد ، فلا تستحلوه . وكان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم ، قلدوا أنفسهم بالشعر والوبر ، وتقلد مشركو الحرم من لحاء شجره فيأمنون به . رواه ابن أبي حاتم . وقال عطاء : كانوا يتقلدون من شجر الحرم فيأمنون ، فنهى الله عن قطع شجره . وكذا قال مطرف بن عبد الله . وأمانهم بذلك منسوخ ، كما روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : نُسخ من هذه السورة آيتان : آية القلائد وقوله : { فَإِن جَآءُوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } [ المائدة : 42 ] . وبسنده إلى ابن عوف قال : قلت للحسن : نسخ من المائدة شيء ؟ قال : لا . { وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ } ، أي : لا تحلوا قوما قاصدين زيارة المسجد الحرام بأن تصدوهم أو تقاتلوهم أو تؤذوهم ، لأنه من دخله كان آمناً . وقوله تعالى : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } حال من المستكن في { آمِّينَ } أي : قاصدين زيارته حال كونهم طالبين التجارة ورضوان الله بحجهم . ونقل ابن كثير عن ثمانية من سلف المفسرين أنه عنى بالفضل طلب الرزق بالتجارة ، قال : كما تقدم في قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } [ البقرة : 198 ] . وقد ذكر عكرمة والسدّيّ وابن جرير أن الآية نزلت في الحُطَم بن هند البكريّ ، وتقدمت قصته . وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : كان المؤمنون والمشركون يحجون ، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا من مؤمن أو كافر ، ثم أنزل الله بعدها : { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } [ التوبة : 28 ] الآية ، وقال تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَٰجِدَ ٱللهِ } [ التوبة : 17 ] ، وقال : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } [ التوبة : 18 ] ، فنفى المشركين من المسجد الحرام . وقال عبد الرزاق : حدثنا معمر عن قتادة في قوله : { وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ } ، قال : منسوخ . كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج ، تقلد من الشجر ، فلم يعرض له أحد . فإذا رجع تقلد قلادة من شعر ، فلم يعرض له أحد ، وكان المشرك يومئذ لا يُصدّ عن البيت ، فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ، ولا عند البيت ، فنسخها قوله : { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] . وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله : { وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ } ، يعني : أن من تقلد قلادة من الحرم ، فأمنوه . قال : ولم تزل العرب تعيِّر من أخفر ذلك . قال الشاعر : @ ألمْ تقتلا الْحِرْجَيْنِ إِذْا أَعْوَرَا كُمَا يُمِرَّانِ بِالأَيْدِي اللِّحَاءَ الْمُضَفَّرَا @@ أفاده ابن كثير . وهذه الروايات توضح أنه عنى بـ " الآمّين " : المشركين خاصة ، إذا هم المحتاجون إلى نهي المؤمنين عن إحلالهم وما يفيده التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم ، وكذا الرضوان من تشريفهم ، والإشعار بحصول مبتغاهم . فالسرّ فيه تأكيد النهي والمبالغة في استنكار النهيّ عنه . قال الزمخشريّ وأبو السعود : قد كانوا يزعمون أنهم على سداد من دينهم ، وأن الحج يقربهم إلى الله تعالى . فوصفهم الله تعالى بظنهم . وذلك الظن الفاسد ، وإن كان بمعزل من استتباع رضوانه تعالى ، لكن لا بُعْدَ في كونه مداراً لحصول بعض مقاصدهم الدنيوية ، وخلاصهم عن المكاره العاجلة . لا سيما في ضمن مراعاة حقوق الله تعالى وتعظيم شعائره . ونقل الرازيّ عن أبي مسلم الأصفهانيّ ؛ أن المراد بالآية ، الكفار الذين كانوا في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلما زال العهد بسورة براءة ، زال ذلك الخطر ، ولزم المراد بقوله تعالى : { فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } [ التوبة : 28 ] . انتهى . { وَإِذَا حَلَلْتُمْ } أي : خرجتم من الإحرام ، أو خرجتم من الحرم إلى الحل { فَٱصْطَادُواْ } أي : فلا جناح عليكم في الاصطياد { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ } أي : لا يحملنكم على الجريمة ، شدةُ بغض قوم { أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } ، أي : لأن صدوكم عن زيارته والطواف به للعمرة . وقرئ بكسر الهمزة من ( إِن ) على أنها شرطية { أَن تَعْتَدُواْ } أي : عليهم . قال أبو السعود : وإنما حذف ، تعويلاً على ظهوره ، وإيماء إلى أن المقصد الأصلي من النهيّ ، منع صدور الاعتداء عن المخاطبين ، محافظة على تعظيم الشعائر ، لا منع وقوعه على القوم ، مراعاة لجانبهم . وهو ثاني مفعولي { يَجْرِمَنَّكُمْ } أي : لا يكسبنكم شدةُ بغضكم لهم ، لصدهم إياكم عن المسجد الحرام ، اعتداءكم عليهم وانتقامكم منهم للتشفّي . تنبيهات الأول : قال ابن كثير : أي : لا يحملنكم بغض قوم ، قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام ، وذلك عام الحديبية ، على أن تعتدوا حكم الله فيهم ، فتقتصوا منهم ظلما وعدوانا ، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد . وهذه الآية كما سيأتي من قوله : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } [ المائدة : 8 ] أي : لا يحملنكم بغض أقوام على ترك العدل . فإن العدل واجب على كل أحد ، في كل أحد ، في كل حال . وقال بعض السلف : ما عاملتَ من عصى الله فيك ، بمثل أن تطيع الله فيه . والعدل به قامت السماوات والأرض . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سهل ابن عفان ، حدثنا عبد الله بن جعفر ، عن زيد بن أسلم ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وأصحابه ، حين صدهم المشركون عن البيت ، وقد اشتد ذلك عليهم ، فمر بهم ناس من المشركين من أهل المشرق ، يريدون العمرة . فقال أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم : نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم ، فأنزل إليه هذه الآية . الثاني : قوله : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } نهيٌ عن إحلال قوم من الآمين ، خصوا به مع اندراجهم في النهي عن إحلال الكل كافة ، لاستقلالهم بأمور ربما يتوهم كونها مصححة لإحلالهم ، داعية إليه . الثالث : لعل تأخير هذا النهي عن قوله تعالى : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ } ، مع ظهور تعلقه بما قبله ، للإيذان بأن حرمة الاعتداء لا تنتهي بالخروج عن الإحرام ، كانتهاء حرمة الاصطياد به ، بل هي باقية ما لم تنقطع علامتهم عن الشعائر بالكلية . وبذلك يعلم بقاء حرمة التعرض بسائر الآمّين ، بالطريق الأولى . أفاده أبو السعود . الرابع : دلت الآية على أن المضارّة ممنوعة ، ومثله قوله عليه الصلاة والسلام : " لا ضرر ولا ضرار في الإسلام " ، وقوله عليه الصلاة والسلام : " أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك " ذكره بعض الزيدية . وفي ( الإكليل ) : في الآية النهي عن الاعتداء ، وأنه لا يؤخذ أحد بذنب أحد . الخامس : ( جرم ) جارٍ مجرى ( كسب ) في المعنى وفي التعدي إلى مفعول واحد ، وإلى اثنين . يقال : جرم ذنبا ، نحو كسبه ، وجرمته ذنبا ، نحو كسبته إياه . خلا أن ( جرم ) يستعمل غالبا في كَسْب ما لا خير فيه ، وهو السبب في إيثاره ههنا على الثاني . وقد ينقل الأول من كل منهما بالهمزة إلى معنى الثاني . فيقال : أجرمته ذنبا وأكسبته إياه . وعليه قراءة من قرأ " يُجْرِمَنَّكُمْ " بضم الياء . أفاده أبو السعود . { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ } لما كان الاعتداء غالباً بطريق التظاهر والتعاون ، أمروا ، إِثر ما نهوا عنه ، بأن يتعاونوا على كل ما هو من باب البر والتقوى ، ومتابعة الأمر ومجانبة الهوى ، فدخل فيه ما نحن بصدده من التعاون على العفو والإغضاء عما وقع منهم ، دخولا أوليا . ثم نهوا عن التعاون في كل ما هو من مقولة الظلم والمعاصي ، فاندرج فيه النهي عن التعاون على الاعتداء والانتقام بالطريق البرهاني . أفاده أبو السعود . قال ابن جرير : الإثم : ترك ما أمر الله بفعله ، والعدوان : جواز ما حدّ الله في الدين ، ومجاوزة ما فرض الله في النفس والغير . وفي معنى الآية أحاديث كثيرة ، منها ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدال على الخير كفاعله " رواه البزار ، وعن أبي مسعود البدريّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من دل على خير فله مثل أجر فاعله " رواه مسلم . وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه ، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً . ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه ، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً " رواه مسلم . وعن سهل بن سعد ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعليّ عليه السلام ، يوم خيبر : " فوالله ! لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً ، خير لك من حمر النعم " متفق عليه . وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " . قيل : يا رسول الله هذا نَصَرْتهُ مظلوماً ، فكيف أنصره إذا كان ظالماً ؟ قال : " تحجزه وتمنعه من الظلم . فذاك نصرك إِياه " رواه الإمام أحمد والشيخان . وعن يحيى بن وثاب عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، أعظم أجراً من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم " رواه الإمام أحمد . وروى الطبرانيّ والضياء المقدسي عن أوس بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من مشى مع ظالم ليعينه ، وهو يعلم أنه ظالم ، فقد خرج من الإسلام " وعن النوّاس بن سمعان قال : " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم ؟ فقال : " البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس " رواه مسلم . تنبيه في فروع مهمة قال بعض الزيدية : من ثمرات الآية وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأنه لا يجوز إعانة متعدّ ولا عاص . فيدخل في ذلك تكثير سواد الظلمة بوجهٍ ، من قولٍ أو فعلٍ أو أخذ ولايةٍ أو مساكنةٍ . وفي ( الإكليل ) : استدل المالكية بالآية على بطلان إجارة الإنسان نفسه ، لحمل خمر ونحوه . وبيع العنب لعاصره خمراً ، والسلاح لمن يعصي به ، وأشباه ذلك . انتهى . وهو مُتّجِهٌ . وقال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية في كتابه ( السياسة الشرعية ) : ولا يحل للرجل أن يكون عونا على ظلم . فإن التعاون نوعان : نوع على البر والتقوى ، من الجهاد وإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين ، فهذا ما أمر الله به ورسوله . ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة ، فقد ترك فرضاً على الأعيان أو على الكفاية ، متوهما أنه متورع . وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل بالورع ، إذ كل منهما كف وإمساك . والثاني : تعاون على الإثم والعدوان ، كالإعانة على دم معصوم ، أو أخذ مال معصوم ، وضرب من لا يستحق الضرب ، ونحو ذلك ، فهذا الذي حرمه الله ورسوله . نعم ، إذا كانت الأموال قد أخذت بغير حق ، وتعذر ردها إلى أصحابها ، ككثير من الأموال السلطانية ، فالإعانة على صرف هذه الأموال في مصالح المسلمين ، كسداد الثغور ونفقة المقاتلة ، ونحو ذلك ، من الإعانة على البر والتقوى . إذ الواجب على السلطان في هذه الأموال ، إذا لم يمكن معرفة أصحابها وردها عليهم ولا على ورثتهم - أن يصرفها مع التوبة ، إن كان هو الظالم ، إلى مصالح المسلمين ، إن كان غيره قد أخذها فعليه أن يفعل بها ذلك . وكذلك لو امتنع السلطان من ردها ، كان الإعانة على إنفاقها في مصالح أصحابها ، أولى من تركها بيد من يضيعها على أصحابها وعلى المسلمين . فإن مدار الشريعة على قوله تعالى : { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] المفسر لقوله : { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] وعلى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " أخرجاه في الصحيحين . وعلى أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها ، وتبطيل المفاسد وتقليلها . فإذا تعارضت ، كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما - هو المشروع . والمعينُ على الإثم والعدوان من أعان ظالماً على ظلمه . أما من أعان المظلوم على تخفيف الظلم عنه ، أو على أداء المظلمة ، فهو وكيل المظلوم لا وكيل الظالم ، بمنزلة الذي يقرضه أو الذي يتوكل في حمل المال له إلى الظالم . مثال ذلك : وليّ اليتيم والوقف ، إذا طلب ظالم منه مالاً ، فاجتهد في دفع ذلك ، بدفع ما هو أقل منه إليه أو إلى غيره بعد الاجتهاد التام في الدفع - فهو محسن ، وما على المحسنين من سبيل ، وكذلك وكيل المالك من المتأدبين والكتّاب وغيرهم ، الذي يتوكل لهم في العقد والقبض ودفع ما يطلب منهم ، لا يتوكل للظالمين في الأخذ . وكذلك لو وضعت مظلمة على أهل قرية أو درب أو سوق أو مدينة ، فتوسط رجل محسن في الدفع عنهم بغاية الإمكان ، وقسّطها بينهم على قدر طاقتهم ، من غير محاباة لنفسه ولا لغيره ، ولا ارتشاء ، بل توكل لهم في الدفع عنهم والإعطاء - كان محسناً ، لكن الغالب أن من يدخل في ذلك يكون وكيل الظالمين محابياً مرتشياً مخفراً لمن يريد ، وآخذا ممن يريد . وهذا من أكبر الظلمة الذين يحشرون في توابيت من نارٍ هم وأعوانهم وأشباههم ، ثم يقذفون في النار . انتهى . { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } أي : اخشوه فيما أمركم ونهاكم { إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } ، يعني : لمن خالف أمره ، ففيه وعيد وتهديد عظيم . ثم بين تعالى المحرمات التي أشير إليها بقوله تعالى : { إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } [ المائدة : 1 ] فقال : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ … } .