Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 3-3)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ } وهي ما فارقه الروح بغير سبب خارجيّ . لأنها تنجست بمفارقته من غير مطهر ، من ذكر اسم الله تحقيقاً أو تقديراً ، كإسلام الذابح ، كذا في ( التبصير ) . وقد خص من ( الميتة ) السمك بالسّنة : فإنه حلال ، مات بتذكية أو غيرها ؛ لما رواه مالك في موطئه ، والشافعيّ وأحمد في مسنديهما ، وأبو داود والترمذيّ والنسائيّ وابن ماجه في سننهم ، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما ، عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ماء البحر ؟ فقال : " هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته " ، وهكذا الجراد ، لما سيأتي . قال الرازيّ : تحريم الميتة موافق لما في العقول ، لأن الدم جوهر لطيف جداً ، فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه ، وتعفن وفسد ، وحصل من أكله مضار عظيمة . انتهى . أخرج ابن منده في كتاب ( الصحابة ) من طريق عبد الله بن جبلة بن حبان بن حجر عن أبيه عن جده حبان قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا أوقد تحت قدر فيها لحم ميتة ، فأنزل تحريم الميتة فأكفأت القدر . { وَٱلْدَّمُ } أي : المسفوح منه ، لقوله تعالى في الأنعام : { أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً } [ الأنعام : 145 ] . وقد روى ابن أبي حاتم عن عِكْرِمَة عن ابن عباس أنه سئل عن الطحال ؟ فقال : كلوه . فقالوا : إنه دم . فقال : إنما حرم عليكم الدم المسفوح . وكذا رواه حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد عن القاسم عن عائشة قالت : إنما نهي عن الدم السافح . قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعيّ : حدثنا عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم عن أبيه عن ابن عمر مرفوعا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أحل لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان فالسمك والجراد ، وأما الدمان فالكبد والطحال " وكذا رواه أحمد بن حنبل وابن ماجه والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم . وهو ضعيف . قال الحافظ البيهقيّ : ورواه إسماعيل بن أبي إدريس ، عن أسامة ، وعبد الله وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر ، مرفوعاً . قال الحافظ ابن كثير : وثلاثتهم كلهم ضعفاء . ولكن بعضهم أصلح من بعض . وقد رواه سليمان بن بلال ، أحد الأثبات ، عن زيد بن أسلم عن ابن عمر ، فوقفه بعضهم عليه . قال الحافظ أبو زرعة الرازيّ : وهو أصح . نقله ابن كثير . أقول : أقوى مما ذكر في الحجة ، ما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن أبي أوفى قال : " غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد . وفيهما أيضاً من حديث جابر ؛ إن البحر ألقى حوتاً ميتاً فأكل منه الجيش ، فلما قدموا قالوا للنبيَّ صلى الله عليه وسلم . فقال : " كلوا رزقاً أخرج الله لكم ، أطعمونا منه إن كان معكم " . فأتاه بعضهم بشيء " وفي البخاريّ عن عمر في قوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ وَطَعَامُهُ } [ المائدة : 96 ] ، قال : صيده ما اصطيد ، وطعامه ما رمي به . وفيه عن ابن عباس قال : طعامه : ميتته . قال ابن كثير : روى ابن أبي حاتم عن أبي أمامة وهو صدَيّ بن عجلان قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله ، وأعرض عليهم شرائع الإسلام ، فأتيتهم ، فبينما نحن كذلك ، إذ جاءوا بقصعة من دم فاجتمعوا عليها يأكلونها . فقالوا : هلم ، يا صديّ ! فكل . قال ، قلت : ويحكم ، إنما أتيتكم من عند من يحرّم هذا عليكم . فأقبلوا عليه ، قالوا : وما ذاك ؟ فتلوت عليهم هذه الآية : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ … } الآية . ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه . وزاد بعد هذا السياق قال : فجعلت أدعوهم إلى الإسلام ويأبون عليّ . فقلت : ويحكم ! اسقوني شربة من ماء فإني شديد العطش . قال ، وعليّ عباءتي . فقالوا : لا . ولكن ندعك حتى تموت عطشاً . قال : فاغتممت وضربت برأسي في العباء ، ونمت على الرمضاء في حرّ شديد . قال ، فأتاني آت في منامي بقدح من زجاج ، لم ير الناس أحسن منه ، وفيه شراب لم ير الناس ألذ منه ، فأمكنني منه فشربته . فلما فرغت من شرابي استيقظت ، فلا ، والله ! ما عطشت ولا عربت ( عرب كفرح ؛ فسدت معدته . قاموس ) بعد تيك الشربة . ورواه الحاكم في مستدركه عن عليّ بن حماد ، عن أحمد بن حنبل بسنده إلى أبي أمامة ، وزاد بعد قوله : ( بعد تيك الشربة ) : فسمعتهم يقولون : أتاكم رجل من سراة قومكم فلم تُمْجعُوهُ بمذقة ؟ فأتوني بمذقة فقلت : لا حاجة لي فيها ، إن الله أطعمني وسقاني . وأريتهم بطني ، فأسلموا عن آخرهم . انتهى . قال الزمخشري : كان أهل الجاهلية يأكلون هذه المحرمات : البهيمة التي تموت حتف أنفها . والفصيد ، وهو الدم في المباعر ، يشوونها ويقولون : لم يُحْرَمْ من فُزْدَ لَهُ . وتقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة في قوله تعالى : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ … } [ البقرة : 173 ] الآية . قال المهايميّ : حرم الدم لأنه متعلق الروح بلا واسطة ، فأشبه النجس بالذات ، لا يؤثر فيه المطهر { وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ } لأنه نجس في حياته بصفاته الذميمة وهي ، وإن زالت بالموت ، فهو منجَّس ولم يقبل التطهير ؛ لأنه لما كان نجسا حال الحياة والموت ، أشبه النجس بالذات ، فكأنه زيد تنجيسه بالموت . وإنما ذكر اللحم إشارة إلى أنه ، وإن لم يكن موصوفاً في الحياة بالصفات المنجسة لروحه ، كان متنجساً بنجاسة روحه ، ثم بزوال الروح . انتهى . قال ابن كثير : وقوله تعالى : { وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ } ، يعني : إنسيّه ووحشيه ، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم ، كما هو المفهوم من لغة العرب ومن العرف المطَّرد . وفي صحيح مسلم عن بُرَيْدَةَ بن الحصيب الأسلميّ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لعب بالنردشير ، فكأنما صبغ يده بلحم الخنزير ودمه " فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس ، فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به ؟ وفيه دلالة على شمول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم وغيره . وفي الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " " إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام " . فقيل : يا رسول الله ، أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويَستصبح بها الناس ؟ فقال : " لا ، وهو حرام " " . { وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ } أي : نودي عليه بغير اسم الله ، كما في ( الصحاح ) وأصل الإهلال رفع الصوت . وكان العرب في الجاهلية ، يذكرون أسماء أصنامهم عند الذبح . فحرم الله ذلك بهذه الآية ، وبقوله : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } [ الأنعام : 121 ] . قال ابن كثير في الآية : أي : ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله ، فهو حرام . لأن الله تعالى أوجب أن تذبح مخلوقاته على اسمه العظيم . فمن عدل بها عن ذلك ، وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك من سائر المخلوقات ، فإنها حرام بالإجماع . وإنما اختلف العلماء في متروك التسمية ، إما عمدا أو نسيانا . كما سيأتي تقريره في سورة الأنعام ، إن شاء الله تعالى . وروى ابن أبي حاتم عن الجارود بن أبي سبرة قال : كان رجل من بني رياح يقال له : ابن نائل ، وكان شاعرا ، نافر غالباً ، جدّ الفرزدق بماء بظهر الكوفة ، على أن يعقر هذا مائة من إبله ، إذا وردت الماء ، فلما وردت الماء قاما بسيفيهما فجعلا يكشفان عراقيبها . قال : فخرج الناس على الحمرات والبغال يريدون اللحم ، وعليّ بالكوفة . قال : فخرج عليّ على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء ، وهو ينادي : يا أيها الناس ، لا تأكلوا من لحومها ، فإنما أهل بها لغير الله . هذا أثر غريب ، يشهد له بالصحة ما رواه أبو داود عن ابن عباس قال : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معاقرة الأعراب " ثم أسند عن عكرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل . أفاده ابن كثير . في القاموس وشرحه : وعاقره : فاخره وكارمه في عقر الإبل . ويقال : تعاقرا إذا عقرا إبلهما ، يتباريان بذلك ، ليرى أيهما أعقر لها . ومن ذلك معاقرة غالب بن صعصعة ، أبي الفرزدق وسحيم بن وثيل الرياحيّ لما تعاقرا بصوأر ، فعقر سحيم خمسا ثم بدا له ، وعقر غالب مائة . وفي حديث ابن عباس : لا تأكلوا من تعاقر الأعراب ، فإني لا آمن أن يكون مما أهل به لغير الله . قال ابن الأثير : هو عقرهم الإبل . كان الرجلان يتباريان في الجود والسخاء ، فيعقر هذا وهذا ، حتى يعجز أحدهما الآخر . وكانوا يفعلونه رياء وسمعة وتفاخراً ، ولا يقصدون به وجه الله تعالى ، فشبهه بما ذبح لغير الله تعالى . انتهى . وروى الإمام مسلم عن عليّ رضي الله عنه قال : حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات : " لعن الله من ذبح لغير الله ، لعن الله من لعن والديه ، لعن الله من آوى محدثا ، لعن الله من غيرّ منار الأرض " . وروى الإمام أحمد عن طارق بن شهاب ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " " دخل الجنة رجل في ذباب ، ودخل النار رجل في ذباب " . قالوا : وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال : " مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرِّب له شيئاً . فقالوا لأحدهما : قرِّب قال ليس عندي شيء أقرب . قالوا له : قرِّب ولو ذباباً . فقرَّب ذبابا ، فخلُّوا سبيله ، فدخل النار . وقالوا للآخر : قرِّب . فقال : ما كنت لأقرِّب لأحد شيئاً دون الله عز وجل ، فضربوا عنقه ، فدخل الجنة " " . وفي هذه القصة ترهيب من وجوه : منها : كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده ، بل فعله تخلصاً من شرهم . ومنها : معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين ، كيف صبر ذلك على القتل ولم يوافقهم على طلبتهم ، مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر . ومنها : أن في هذا شاهد للحديث الصحيح : " الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك " كذا في كتاب ( التوحيد ) . { وَٱلْمُنْخَنِقَةُ } وهي التي تموت بالخنق إما قصدا وإما اتفاقا ، بأن تتخبل في وثاقها فتموت به . قال الحسن وغيره : هي التي تختنق بحبل الصائد أو غيره ، وبأي وجه اختنقت فهي حرام . وقال ابن عباس : كانت الجاهلية يخنقون الشاة ، حتى إذا ماتت أكلوها . والمنخنقة من جنس الميتة ، لأنها لما ماتت ، وما سال دمها ، كانت كالميت حتف أنفه ، إلا أنها فارقت الميتة بكونها تموت بسبب انعصار الحلق بالخنق ، بخلاف الميتة فإنها بلا سبب . قال المهايميّ : المنخنقة ، وإن ذكر اسم الله عليها فقد عارضه سريان خباثة الخانق إليها ، مع تنجسها بالموت : { وَٱلْمَوْقُوذَةُ } ، يعني : المقتولة بالخشب ، وكان أهل الجاهلية يضربون الشاة بالعصيّ ، حتى إذا ماتت أكلوها . وفي ( القاموس وشرحه ) الوقذ : شدة الضرب . وقذه يقذه وقذاً : ضربه حتى استرخى وأشرف على الموت . وشاة وقيذ وموقوذة قتلت بالخشب . وقال أبو سعيد : الوقذ : الضرب على فأس القفا ، فيصير هدتها إلى الدماغ ، فيذهب العقل ، فيقال : رجل موقوذ . وفي الصحيح أن عديّ بن حاتم قال : " قلت : يا رسول الله ! إني أرمي بالمعراض الصيد ، فأصيب . قال : " إذا رميت بالمعراض فخزق فكله ، وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ ، فلا تأكله " " . { وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ } هي الساقطة من جبل أو في بئر ، فتموت . والتردي : السقوط في مهواة . وهذه الثلاثة في معنى الميتة ، فإنها ماتت ولم يسل دمها . { وَٱلنَّطِيحَةُ } هي التي نطحتها أخرى فماتت ، فهي حرام ، وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من مذبحها ، وإن أرسل إنسان الناطح بذكر اسم الله ، لأنه لما لم يكن بطريق الصيد المشروع ، لم تخل من خباثة . فائدة قال التبريزيّ في ( تهذيبه ) وابن قتيبة في ( أدب الكاتب ) : ما كان على فعيل نعتا للمؤنث وهو في تأويل مفعول ، كان بغير هاء . نحو كف خضيب وملحفة غسيل . وربما جاءت بالهاء يُذْهَبُ بها مذهب الأسماء ؛ نحو النطيحة والذبيحة والفريسة وأكيلة السبع . وقالوا : ملحفة جديد ؛ لأنها في تأويل مجدودة أي : مقطوعة . وإذا لم يجز فيه مفعول فهو بالهاء . نحو مريضة وظريفة وكبيرة وصغيرة . وجاءت أشياء شاذة ، فقالوا : ريح خريق وناقة سديس وكثيبة خصيف . وقال ابن السكيت : قد تأتي فعيلة بالهاء وهي في تأويل مفعول بها ، تخرج مخرج الأسماء ولا يُذْهب بها مذهب النعوت ؛ نحو النطيحة والذبيحة والفريسة وأكيلة السبع ، ومررت بقتيلة بني فلان . وقال الجوهريّ : إنما جاءت النطيحة بالهاء ، لغلبة الاسم عليها ، وكذلك الفريسة والأكيلة والرميّة ، لأنه ليس هو على ( نَطَحْتُها ، فهي منطوحة ) وإنما هو الشيء في نفسه مما يُنطح والشيء مما يفرس ويؤكل . { وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ } أي : ما عدا عليها فأكل بعضها . قال قتادة : كان أهل الجاهلية ، إذا جرح السبع شيئاً فقتله أو أكل منه ، أكلوا ما بقى منه ، فحرمه الله تعالى . قال المهايميّ : هو ، وإن أشبه الصيد ، لكنه لما أكله قصد بذلك نفسه ، فسرت خباثته فيها . انتهى . و ( السبع ) بضم الباء وفتحها وسكونها : المفترس من الحيوان . مثل الأسد والذئب والنمر والفهد . وما أشبهها مما له ناب ، ويعدوا على الناس والدواب فيفترسها . وسمي ذلك لتمام قوته ، وذلك أن ( السبع ) من الأعداد التامة ، وفي الآية محذوف تقديره . " وما أكل السبع بعضَه " ، كما ذكرنا . لأن ما أكله فَقَدْ فُقِدَ . فلا حكم له ، إنما الحكم للباقي منه . وقوله تعالى : { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } أي : ما أدركتم ذكاته من هذه المذكورات المنخنقة فما بعدها ، بحيث ينسب موتها إلى الذبح دون غيره ، فإنه يتحقق فيه المطهر ، ولا يؤثر فيه السابق ، لأن اللاحق ينسخه ، بل هو واقع قبل تأثير السابق ، إذ لا يتم التأثير إلا بالموت ، أفاده المهايميّ . قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : أي : إلا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روح ، فكلوه فهو ذكّي . وكذا روي عن سعيد بن جبير والحسن والسدّيّ . وروي ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عليّ ، في الآية قال : إن مصعت بذنبها ، أو ركضت برجلها ، أو طرفت بعينها ، فكل . وروى ابن جرير عن الحارث عن عليّ أيضاً قال : إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة ، وهي تحرك يدا أو رجلا ، فكلها . وهكذا روي عن طاوس والحسن وقتادة وعبيد بن عمير والضحاك وغير واحد ؛ أن المذكاه متى تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة بعد الذبح ، فهي حلال . وهذا مذهب جمهور الفقهاء . أفاده ابن كثير . وفي الموطأ : سئل مالك عن شاة تردت فتكسّرت ، فأدركها صاحبها فذبحها ، فسال الدم منها ولم تتحرك ؟ فقال مالك : إذا كان ذبحها ونَفَسُها يجري وهو تطرف ، فليأكلها . والتذكية : الذبح ، كالذكا والذكاة . قال الراغب : حقيقة التذكية إخراج الحرارة الغريزية ، لكن خص في الشرع بإبطال الحياة على وجه دون وجه . أي : وهو قطع الحلقوم والمريء ، بمُنْهرٍ للدم : من سكين وسيف وزجاج وحجر وقصب ، له حد يقطع كما السلاح المحدد ، ما لم يكن سنا أو ظفراً ؛ لحديث رافع بن خديج في الصحيحين وغيرهما قال : " قلت يا رسول الله ! إنا لاقو العدوّ غدا ، وليس معنا مدى ، أفنذبح بالقصب ؟ فقال : " ما أنْهَرَ الدم وذُكِر اسم الله عليه ، فكلوه . ليس السن والظفر . وسأحدثكم عن ذلك : أما السن فعظم . وأما الظفر فمدى الحبشة " " . وأما حديث أبي العشراء عن أبيه : " قلت : يا رسول الله ، أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبّة ؟ قال : " لو طعنت في فخذها لأجزأك " ، أخرجه أحمد وأهل السنن - ففي إسناده مجهولون . وأبو العشراء لا يعرف من أبوه ، ولم يَرْو عنه غير حماد بن سلمة ، فهو مجهول . كذا في ( الروضة ) . وقال الحافظ ابن حجر في ( التلخيص ) : أبو العشراء مختلف في اسمه وفي اسم أبيه ، وقد تفرد حماد بن سلمة بالرواية عنه على الصحيح ، ولا يعرف حاله . وقال في ( التقريب ) : أعرابيّ مجهول . قال الترمذيّ في جامعه ، بعد سوقه لهذا الحديث : قال أحمد بن منيع : قال يزيد بن هارون : هذا في الضرورة ، وفي الباب عن رافع بن خديج . انتهى . وقال ابن كثير : وهذا الحديث صحيح . ولكنه محمول على ما لا يقدر على ذبحه في الحلق واللبة . انتهى . وتصحيحه له ، مع جهالة راويه المذكور ، فيه نظر ؛ فإن حد الصحيح كما في ( التقريب ) ما اتصل إسناده بالعدول الضابطين من غير شذوذ ولا علة . قال ( شارحه السيوطيّ ) : فخرج بقيد ( العدول ) ما نقله مجهول عيناً أو حالاً ، أي : فليس بصحيح بل ضعيف . وفي ( النخبة ) أن خبر الآحاد مقبول ومردود ، والثاني إما لسقط من إسناد أو طعن في راوٍ ، والطعن إما لكذب أو تهمته بذلك . إلى أن قال : أو جهالته بأن لا يعرف فيه تعديل ولا تجريح معيّن . فتبصّر . { وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ } قال الزمخشريّ : كانت لهم حجارة منصوبة حول البيت ، يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها ، يعظمونها بذلك ويتقربون به إليها ، تسمى الأنصاب . قال ابن كثير : فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع وحرّم عليهم أكل هذه الذبائح ، حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله ، لما في الذبح عند النصب من الشرك الذي حرمه الله ورسوله . انتهى . وقد ورد النهي عن الذبح لله بمكان يذبح فيه لغيره تعالى ، فروى أبو داود ، بإسناد على شرط الشيخين ، عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال : " نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة . فسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : " هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ " قالوا : لا . قال : " فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ " قالوا : لا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أوف بنذرك . فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله . ولا فيما لا يملك ابن آدم " " . ففيه ، أن المعصية قد تؤثر في الأرض ، وكذلك الطاعة . وفيه المنع من النذر إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية ، ولو بعد زواله . أو عيد من أعيادهم ، ولو بعد زواله أيضاً . وأنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة لأن نذر معصية . وفيه الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ، ولو لم يقصده . كذا في ( كتاب التوحيد ) . لطيفة ( النُّصب ) بضمتين ، وضم فسكون ، إما جمعٌ واحدهُ نِصَاب ، ككتاب وكتب . أو مفرد ، جمعه أنصاب ، كعُنُق وأعناق ، وقُفْل وأقفال . وفي ( القاموس وشرحه ) : النُّصُبُ : كل ما نصب وجعل علَما ، وكل ما نُصِب فعبد من دون الله تعالى . والأنصاب حجارة كانت حول الكعبة تنصب فَيُهَلُّ عليها ويذبح لغير الله تعالى . وقال القتيبيّ : النصب صنم أو حجر ، وكانت الجاهلية تنصبه تذبح عنده ، فيحمرّ بالدم . ومنه حديث أبي ذر في إسلامه قال : فخرجت مغشياً عليّ ثم ارتفعت كأني نُصُبٌ أحمر . يريد أنهم ضربوه حتى أَدْمَوْهُ ، فصار كالنصب المحمّر بدم الذبائح . انتهى . قال ابن جريج : كانت النصب ثلاثمائة وستين نصبا ، وكانوا يذبحون عندها وينضحون ما أقبل منها إلى البيت ، بدماء تلك الذبائح ، ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب . { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ } أي : وحرم عليكم ، أيها المؤمنون ، الاستقسام بالأزلام ، أي : طلب القسْم والحكم بها . والأزلام جمع زَلَم ( محركة ) و ( كصُرَد ) وهي : قداح ثلاثة كانوا يستقسمون به في الجاهلية ، مكتوب على أحدها : ( افعلْ ) وعلى الآخر ( لا تفعل ) والثالث غفل ، ليس عليه شيء . وقد زُلِّمت وسُوِّيت ووضعت في الكعبة ، يقوم بها سدنة البيت . فإذا أراد رجل سفراً أو نكاحاً ، أتى السادن وقال : أخْرِجْ لي زلما ، فيجيلها ثم يُخرج زلما منها . فإذا خرج قدحُ الأمر ، مضى علي ما عزم عليه ، أو النهي قعد عما أراده ، أو الفارغ أعاد . قال الأزهريّ ( في معنى الآية ) : أي : تطلبوا من جهة الأزلام ما قسم لكم من أحد الأمرين . فمعنى الاستقسام : هو طلب معرفة ما قسم له من الخير والشر ، مما لم يقسم له بواسطة ضرب القداح . وذكر محمد بن إسحاق وغيره ؛ أن أعظم أصنام قريش ، صنم كان يقال له : هُبَل ، منصوب على بئر داخل الكعبة ، فيها توضع الهدايا ، وأموال الكعبة فيه . وكان عنده سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه مما أشكل عليهم . فما خرج لهم منها رجعوا إليه ولم يعدلوا عنه . في ( اللباب ) : كانت أزلامهم سبع قداح مستوية مكتوب على واحد منها : ( أمرني ربي ) وعلى واحد : ( نهاني ) وعلى واحد ( منكم ) وعلى واحد ( من غيركم ) وعلى واحد : ( ملصق ) وعلى واحد : ( العقل ) وعلى واحد غفل ، أي : ليس عليه الشيء . وكانت العرب ، في الجاهلية ، إذا أرادوا سفرا أو تجارة أو نكاحاً ، أو اختلفوا في نسب أو أمر قتيل ، أو تحمل عقل ، أو غير ذلك من الأمور العظام - جاءوا إلى هُبَل ، وكانت أعظم صنم لقريش بمكة ، وجاؤا بمائة درهم ، وأعطوها صاحب القداح حتى يجيلها لهم . فإن خرج ( أمرني ربي ) فعلوا ذلك الأمر ، وإن خرج ( نهاني ربي ) لم يفعلوه . وإن أجالوا على نسب ، فإن خرج ( منكم ) كان وسطاً فيهم ، وإن خرج ( من غيركم ) كان حلفا فيهم . وإن خرج ( ملصق ) كان على حاله . وإن اختلفوا في العقل ، وهو الدين ، فمن خرج عليه قدح العقل تحمّله . وإن خرج غفل أجالوا ثانياً . حتى يخرج المكتوب عليه . فنهاهم الله عن ذلك وحرمه وسماه فسقاً . كما يأتي . وثبت في الصحيحين " أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة ، وجد إبراهيم وإسماعيل مصوريْن فيها . وفي أيديهما الأزلام . فقال : " قاتلهم الله . لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبداً " وفي الصحيح أن سراقَة بن مالك بن جعشم ، لما خرج في طلب النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وهما ذاهبان إلى المدينة مهاجريْن ، قال : فاستقسمت بالأزلام : هل أضرّهم أم لا ؟ فخرج الذي أكره : لا تضرهم . قال فعصيت الأزلام واتبعتهم . ثم استقسم بها ثانية وثالثة . كل ذلك يخرج الذي يكره : لا تضرهم . وكان كذلك . وكان سراقَة لم يُسلم إذ ذاك . ثم أسلم بعد ذلك . وروى ابن مردويه عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لن يلج الدرجات من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر طائرا { ذٰلِكُمْ فِسْقٌ } " أي : خروج عن الأخذ بالطريق المشروع . والإشارة إلى الاستقسام . أو إلى تناول ما حرم عليهم ؛ لأن المعنى : حرم عليكم تناول الميتة وكذا وكذا . فإن قلت : لِمَ كان استقسام المسافر وغيره بالأزلام ، لتعرف الحال - فسقاً ؟ قلت : لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر به علام الغيوب وقال : { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وٱلأَرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ } [ النمل : 65 ] . واعتقاد أنه إليه طريقاً وإلى استنباطه . وقوله : أمرني ربي ونهاني ربي - افتراء على الله . وما يدريه أنه أمره أو نهاه ؟ والكهنة والمنجمون بهذه المثابة . وإن كان أراد بالرب الصنم ، فقد روي أنهم كانوا يجيلونها عند أصنامهم - فأمره ظاهر . كذا في الكشاف . تنبيه في ( الإكليل ) : استدل بهذه الآية على تحريم القمار والتنجيم والرمل وكل ما شاكل ذلك . وعداه بعضهم إلى منع القرعة في الأحكام ، وهو مردود . انتهى . أي لتباين القصد فيهما . فإن القرعة في قسمة الغنائم وإخراج النساء ونحوها ، لتطييب نفوسهم والبراءة من التهمة في إيثار البعض ، ولو اصطلحوا على ذلك جاز من غير قرعة . كما ( في العناية ) . قال الحاكم : وتدل على تحريم التمسك بالفأل والزجر والتطير والنجوم . فأما التفاؤل بالخير فمباح . قال الأصمّ : ومن هذا قول المنجم : إذا طلع نجم كذا فاخرج ، وإن لم يطلع فلا تخرج . قال الراضي بالله : ومن عمل بالأيام في السعد والنحس ، معتقداً أن لها تأثيرا كفر . وإن لم يعتقد أثِم . وقد روى أبو داود والنسائيّ وابن حبان عن قطن بن قَبيصة ، عن أبيه ، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت " . قال عوف أحد رواته : العيافة : زجر الطير ، والطرق : الخط يخط بالأرض . وفي ( القاموس ) عِفْتُ الطير عيافة : زجرتها . وهو أن تعتبر بأسمائها ومساقطها ، فَتَتَسَعَّد أو تَتَشَئَّام ، وهو من عادة العرب كثيراً . وقال أبو زيد : الطرق أن يخط الرجل في الأرض بإصبعين ثم بإصبع . وقال ابن الأثير : الطرق الضرب بالحصى الذي تفعله النساء . وقيل : هو الخط بالرمل . والجبت : كل ما عبد من دون الله تعالى . وقد روى مسلم في صحيحه ، عن بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أتى عرافاً فسأله عن شيء ، فصدقه ، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً " وروى الإمام أحمد وأبو داود والحاكم عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " وعن عمران ابن حصين مرفوعاً : " ليس منا من تَطَيَّر أو تُطَيِّرَ له ، أو تَكَهَّن أو تُكُهِّنَ له ، أو سَحَر أو سُحِرَ له . ومن أتي كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم الله " رواه البزار بإسناد جيد . ورواه الطبراني في ( الأوسط ) بإسناد حسن من حديث ابن عباس . دون قوله : " وَمَنْ أتَى " إلخ . قال البغويّ : العراف : الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك . وقيل : هو الكاهن . الكاهن : هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل . وقيل : الذي يخبر عما في الضمير . وقال أبو العباس بن تيمية : العراف : اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ، ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق . وقال ابن عباس ( في قوم يكتبون أبا جاد وينظرون في النجوم ) : ما أرى من فعل ذلك ، له عند الله من خلاق . وفي الأحاديث السابقة من الترهيب ما فيها من التصريح بأنه لا يجمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن ، والتصريح بأنه كفر ، وعن ابن مسعود مرفوعا : " الطيرة شرك . الطيرة شرك . وما منا إلا … ولكن الله يذهبه بالتوكل " رواه أبو داود والترمذيّ وصححه . وجعل آخره من قول ابن مسعود . ولأحمد من حديث ابن عَمْروٍ : من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك . قالوا : فما كفارة ذلك ؟ قال : أن تقول : اللهم ! لا خير إلا خيرك ، ولا طير إلا طيرك ، ولا إله غيرك . وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل " . قالوا : وما الفأل ؟ قال : " الكلمة الطيبة " رواه الشيخان . ولأبي داود بسند صحيح عن عروة بن عامر قال : " ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أحسنها الفأل ولا تردّ مسلما . فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل : اللهم ! لا يأتي بالحسنات إلا أنت ؛ ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك " " . فائدة قال الحافظ ابن كثير : قد أمر الله المؤمنين ، إذا ترددوا في أمورهم ، أن يستخيروه ، بأن يعبدوه ، ثم يسألوه الخيرة في الأمر الذي يريدونه . كما رواه الإمام أحمد والبخاريّ . وأهل السنن من طرق عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور ، كما يعلمنا السورة من القرآن . ويقول : " إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل : اللهم ! إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب . اللهم ! إن كنت تعلم أن هذا الأمر ( ويسميه باسمه ) خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري ( أو قال : عاجل أمري ) وآجله فأقدره لي ، ويسره لي ثم بارك لي فيه . وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ودنياي ، ومعاشي ، وعاقبة أمري ، فاصرفني عنه واصرفه عني ، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به " هذا لفظ الإمام أحمد . { ٱلْيَوْمَ يَئِسَ } أي : قنط { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ؛ يعني : يئسوا أن يراجعوا دينهم . وكذا روي عن عطاء بن أبي رباح والسدّيّ ومقاتل بن حيان . وعلى هذا المعنى يرد الحديث الثابت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن بالتحريش بينهم " نقله ابن كثير . وعليه فـ ( من ) تعليلية . أي : يئسوا من مراجعة دينهم لأجل دينكم الذي ضم إليه جمهور الأمة العربية من أدناها إلى أقصاها . ودخلوا فيه أفواجا . وللزمخشريّ تأويل بديع ، تابعه عليه مَن بعده ، ونحن نسوقه أيضا . قال رحمه الله : لم يُرَدْ بقوله : { ٱلْيَوْمَ } يوم بعينه . وإنما أريد به الزمان الحاضر ، وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية . كقولك : كنت بالأمس شاباً وأنت اليوم أشيب . فلا تريد ( بالأمس ) اليوم الذي قبل يومك ولا ( باليوم ) يومك . وقيل : أريد يوم نزولها . وقد نزلت يوم الجمعة ، وكان يوم عرفة ، بعد العصر في حجة الوداع . وقوله تعالى : { يَئِسَ } إلخ . أي يئسوا منه أن يبطلوه وأن ترجعوا محللين لهذه الخبائث ، بعد ما حرمت عليكم . وقيل : يئسوا من دينكم أن يغلبوه ؛ لأن الله عز وجل وفى بوعده من إظهاره على الدين كله . { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ } بعد إظهار الدين ، وزوال الخوف من الكفار ، وانقلابهم مغلوبين مقهورين ، بعدما كانوا غالبين { وَٱخْشَوْنِ } وأخلصوا لي الخشية . انتهى كلامه . وأوضح الوجه الأول ، الرازيّ فقال : ليس المراد باليوم هو ذلك اليوم بعينه ، حتى يقال : إنهم ما يئسوا قبله بيوم أو يومين ، وإنما هو كلام خارج على عادة أهل اللسان ، معناه : لا حاجة بكم الآن إلى مداهنة هؤلاء الكفار ؛ لأنكم الآن صرتم حيث لا يطمع أحد من أعدائكم في توهين أمركم . ثم بين تعالى أكبر نعمه وأعظم مننه على هذه الأمة وهو : إكماله لهم دينهم ، فلا يحتاجون إلى دين غيره ، ولا إلى نبيّ غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه ، ولهذا جعله تعالى خاتم الأنبياء ، وبعثه إلى الإنس والجن ، فلا حلال إلا ما أحلّه ، ولا حرام إلا ما حرّمه ، ولا دين إلا ما شرعه . فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة . ولهذا قال : { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } يعني أحكامه وفرائضه ، فلا زيادة بعده . ولم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام . هذا ما روي عن ابن عباس . وقال سعيد بن جبير وقتادة : معنى ( الإكمال ) أنه لم يحج معهم مشرك . وخلا الموسم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين . وقيل : معناه كفايتهم أمر العدوّ ، وجعل اليد العليا لهم ، كما تقول الملوك : اليوم كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد ، إذا كفوا من ينازعهم . وبما ذكرنا أولاً - من أن المراد بالإكمال عدم الزيادة - يندفع ما يتوهم من ثبوت النقص أولاً . ولذا قال ابن الأنباريّ ( في الآية ) : { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ } شرائع الإسلام على غير نقصان كان قبل هذا الوقت . وذلك أنّ الله تعالى كان يتعبد خلقه بالشيء في وقت ثم يزيد عليه في وقت آخر . فيكون الوقت الأول تامّاً في وقته ، وكذلك الوقت الثاني تامّاً في وقته . فهو كما يقول القائل : عندي عشرة كاملة ، ومعلوم أنّ العشرين أكمل منها . والشرائع التي تعبد الله عز وجلّ بها عباده ، في الأوقات المختلفة ، مختلفة . وكل شريعة منها كاملة في وقت التعبّد بها . فكمل الله عز وجلّ الشرائع في اليوم الذي ذكره - وهو يوم عرفة - ولم يوجب ذلك ، أنّ الدين كان ناقصاً في وقت من الأوقات . وللإمام القفّال نحو ذلك ، نقله عنه الرازيّ واختاره ، قال : إنّ الدين ما كان ناقصاً البتة ، بل كان أبداً كاملاً . يعني : كانت الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت كافية في ذلك الوقت . إلا أنه تعالى كان عالماً في أول وقت المبعث بأن ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد ولا صلاح فيه . فلا جرم كان ينسخ بعد الثبوت . وكان يزيد بعد العدم . وأما في آخر زمان المبعث فأنزل الله شريعة كاملة ، وحكم ببقائها إلى يوم القيامة ، فالشرع أبداً كان كاملاً . إلا أن الأول كمال إلى زمان مخصوص . والثاني كمال إلى يوم القيامة . فلأجل هذا قال : { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } . { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } يعني : بإكمال الدين والشريعة . لأنه لا نعمة أتمّ من نعمة الإسلام . أو بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين . وهدم منار الجاهلية ومناسكهم ، وإن لم يحج معكم مشرك ، ولم يطف بالبيت عريان . أو بإنجاز ما وعدهم بقوله : { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 15 ] فكان من تمام النعمة فتح مكة وما ذكرناه . { وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً } يعني : اخترته لكم من بين الأديان ، وآذنتكم بأنه هو الدين المرضي وحده . { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] أو معناه : الانقياد لأمري فيما شرعت لكم من الفرائض والأحكام والحدود ومعالم الدين الذي أكملته لكم . ومعلوم أن الإسلام لم يزل مرضياً للحق تعالى منذ القدم ، إلا أن المعنيّ به ، في الآية ، الصفة التي هو اليوم بها . وهي نهاية الكمال والبلوغ به أقصى درجاته . أي : فالزموه ولا تفارقوه : { إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ … } [ آل عمران : 19 ] . روى البغويّ بسنده عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولّ : " قال جبريل : قال الله عز وجلّ : هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه " . فوائد الأولى : روى الإمام أحمد والشيخان وغيرهم عن طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال : يا أمير المؤمنين ، إنكم تقرأون آيةً في كتابكم ، لو علينا ، معشر اليهود ، نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً . قال : وأيّ آية ؟ قال : قوله : { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } . فقال عمر : والله ! إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة في يوم جمعة . قال ابن كثير : وقد روي هذا من غير وجه عن عمر . وروى ابن جرير عن قبيصة بن أبي ذئب قال : قال كعب : لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيداً يجتمعون فيه . فقال عمر : أيّ آيةٍ يا كعب ؟ فقال : { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } . فقال عمر : قد علمت اليوم الذي أنزلت ، والمكان الذي أنزلت فيه . نزلت في يوم جمعة ويوم عرفة . وكلاهما بحمد الله لنا عيدٌ . وروى ابن جرير القصة أيضاً عن ابن عباس ، وأنه قال : نزلت يوم عيدين اثنين ، يوم عيد ويوم جمعة … وروى ابن مردويه عن ابن الحنفية عن عليّ قال : نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم عشية عرفة : { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } . ورواه أيضاً عن سمرة . وروى ابن جرير نحوه عن معاوية . وروي عن السدي قال : نزلت هذه الآية يوم عرفة ، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام . ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات . فقالت أسماء بنت عميس : حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحجة ، فبينما نحن نسير إذ تجلّى له جبريل ، فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم على الراحلة . فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن . فنزلت . فأتيته فسجيت عليه برداً كان عليّ . وقال ابن جرير وغيره : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوماً . وقال ابن جرير : حدثنا سفيان بن وكيع : حدثنا ابن فضيل عن هارون عن عنترة عن أبيه قال : " لما نزلت : { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } - وذلك يوم الحج الأكبر - بكى عمر . فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : " ما يبكيك ؟ " قال : أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا . فأما إذ كمل ، فإنه لم يكمل شيء إلا نقص . فقال : " صدقت " " . قال ابن كثير : ويشد لهذا المعنى الحديث الثابت : " إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء " انتهى . قلت : والحديث المذكور رواه مسلم عن أبي هريرة . والترمذيّ عن ابن مسعود . وابن ماجه عنهما أيضاً وعن أنس . والطبرانيّ عن سلمان وسهل وابن عباس . هذا ، وروى ابن جرير من طريق العوفيّ عن ابن عباس في الآية قال : ليس ذلك بيومٍ معلوم عند الناس . ومن طريق أبي جعفر الرازيّ : عن الربيع بن أنس قال : نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى حجة الوداع . وروى ابن مردويه من طريق أبي هارون العبديّ عن أبي سعيد الخدريّ ؛ أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خمّ ، حين قال لعليّ : " من كنت مولاه فعليّ مولاه " ثم رواه عن أبي هريرة وفيه : إنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة - يعني مرجعه عليه الصلاة والسلام من حجة الوداع . قال ابن كثير : ولا يصح لا هذا ولا هذا . بل الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية ، أنها نزلت يوم عرفة وكان يوم جمعة . كما قدمنا عن عمر وعليّ ومعاوية وابن عباس وسمرة رضي الله عنهم ، وعن ثلّة من التابعين . الثانية : استدلّ نفاة القياس بهذه الآية ، على أنّ القياس باطل . وذلك لأنّ الآية دلت على أنه تعالى قد نصّ على الحكم في جميع الوقائع . إذ لو بقي بعضها غير مبيّن الحكم لم يكن الدين كاملاً ، وإذا حصل النص في جميع الوقائع ، فالقياس - إن كان على وفق ذلك النص - كان عبثاً . وإن كان على خلافه كان باطلاً . وأجاب عنه مثبتو القياس بما بسطه الرازي . فانظره . الثالثة : قال صاحب ( فتح البيان ) : لا معنى للإكمال في الآية إلا وفاء النصوص بما يحتاج إليه الشرع . إمّا بالنص على كل فرد فرد ، أو باندراج ما يحتاج إليه تحت العمومات الشاملة . ومما يؤيد ذلك قوله تعالى : { مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَٰبِ مِن شَيْءٍ } [ الأنعام : 38 ] . وقوله : { وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " تركتكم على الواضحة ، ليلها كنهارها " وجاءت نصوص الكتاب العزيز بإكمال الدين . وبما يفيد هذا المعنى ، ويصحح دلالته ، ويؤيد برهانه . ويكفي في دفع الرأي ، وأنه ليس من الدين - قول الله تعالى هذا . فإنه إذا كان الله قد أكمل دينه قبل أن يقبض إليه نبيه صلى الله عليه وسلم ، فما هذا الرأي الذي أحدثه أهله بعد أن أكمل الله دينه ؟ لأنه إن كان من الدين - في اعتقادهم - فهو لم يكمل عندهم إلا برأيهم . وهذا فيه ردّ للقرآن . وإن لم يكّن من الدين ، فأيّ فائدة في الاشتغال بما ليس منه ؟ وما ليس منه فهو ردّ بنص السنة المطهرة - كما ثبت في ( الصحيح ) - وهذه حجة قاهرة ودليل باهر لا يمكن أهل الرأي أن يدفعوه بدافع أبداً . فاجعل هذه الآية الشريفة أول ما تصكّ به وجوه أهل الرأي ، وترغم به آنافهم ، وتدحض به حجتهم . فقد أخبرنا الله في محكم كتابه أنه أكمل دينه . ولم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن أخبرنا بهذا الخبر عن الله عز وجل . فمن جاء بشيء من عند نفسه وزعم أنه من ديننا قلنا له : إنّ الله أصدق منك : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلاً } [ النساء : 122 ] . اذهب لا حاجة لنا في رأيك . وليت المقلدة فهموا هذه الآية حقّ الفهم حتى يستريحوا ويريحوا . وقد أخبرنا الله في محكم كتابه أنّ القرآن أحاط بكل شيء فقال : { مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَٰبِ مِن شَيْءٍ } [ الأنعام : 38 ] . وقال : { تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً } [ النحل : 89 ] . ثم أمر عباده بالحكم بكتابه فقال : { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } [ المائدة : 49 ] . وقال : { لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ } [ النساء : 105 ] . وقال : { إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ ٱلْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْفَٰصِلِينَ } [ الأنعام : 57 ] . وقال : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } [ المائدة : 44 ] . وفي آية … { هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } [ المائدة : 45 ] . وفي أخرى { … هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } [ المائدة : 47 ] . وأمر عباده أيضاً في محكم كتابه باتباع ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم فقال : { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } [ الحشر : 7 ] . وهذه أعم آية في القرآن ، وأبْيَنُها في الأخذ بالسنة المطهرة ، وقال : { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ } [ النساء : 59 ] . وقد تكرر هذا في مواضع من الكتاب العزيز . وقال : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [ النور : 51 ] . وقال : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] والاستكثار من الاستدلال على وجوب طاعة الله وطاعة رسوله لا يأتي بعائدة ، ولا فائدة زائدة ، فليس أحد من المسلمين يخالف في ذلك . ومن أنكره فهو خارج عن حزب المسلمين . وإنما أوردنا هذه الآيات الكريمة ، والبينات العظيمة ، تلييناً لقلب الملّقد الذي قد جمد ، وصار كالجلمد . فإنه إذا سمع مثل هذه الأوامر القرآنية ، ربما امتثلها وأخذ دينه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، طاعة لأوامره . فإنّ هذه الطاعة ، وإن كانت معلومة لكل مسلم ، لكن الإنسان قد يذهل عن القوارع الفرقانية والزواجر المحمدية . فإذا ذُكِّر بها ذَكَرَ . ولا سيما من نشأ على التقليد ، وأدرك سلفه ثابتين عليه غير متزحزحين عنه . فإنه يقع في قلبه ؛ أن دين الإسلام هو هذا الذي هو عليه . وما كان مخالفاً له فليس من الإسلام في شيء . فإذا راجع نفسه رجع … ولهذا تجد الرجل إذا نشأ على مذهب من هذه المذاهب ، ثم سمع - قبل أن يتمرد بالعلم ويعرف ما قاله الناس - خلاف ذلك المألوف ، استنكره وأباه قلبه ، ونفر عنه طبعه . وقد رأينا وسمعنا من هذا الجنس ما لا يأتي عليه الحصر . ولكن إذا وازن العاقل بعقله ، بين من اتبع أحد أئمة المذاهب في مسألةٍ من مسائله التي رواها عنه المقلّد - ولا مستند لذلك العالم فيها ، بل قالها بمحض الرأي لعدم وقوفه على الدليل - وبين من تمسك في تلك المسألة بخصوصها بالدليل الثابت في القرآن والسنة ؛ أفاده العقل بأن بينهما مسافات تنقطع فيها أعناق الإبل ، لا جامع بينهما . لأنّ من تمسك بالدليل أخذ بما أوجب الله عليه الأخذ به ، واتبع ما شرعه الشارع لجميع الأمة : أولها وآخرها ، وحيّها وميتها … ! والعالم يمكنه الوقوف على الدليل من دون أن يرجع إلى غيره . والجاهل يمكنه الوقوف على الدليل بسؤال علماء الشريعة ، واسترواء النص ، وكيف حكم الله في محكم كتابه أو على لسان رسوله في تلك المسألة . فيفيدونه النص إن كان ممن يعقل الحجة إذا دل عليها ، أو يفيدونه مضمون النص بالتعبير عنه بعبارة يفهمها . فهم رواة وهو مستروٍ ، وهذا عامل بالرواية لا بالرأي ؛ والمقلد عامل بالرأي لا بالرواية . لأنه يقبل قول الغير من دون أن يطالبه بحجة . وذلك في سؤاله يطالب بالحجة لا بالرأي ، فهو قابل لرواية الغير لا لرأيه . وهما من هذه الحيثية متقابلان ؛ فانظر كم الفرق بين المنزلتين ؟ والكلام في ذلك يطول ويستدعي استغراق الأوراق الكثيرة ، وهو مبسوط في مواطنه ، وفيما ذكرناه مقنع وبلاغ ، وبالله التوفيق . انتهى كلامه . الرابعة : قال بعض الزيدية : ثمرة الآية تعظيم هذا اليوم المذكور ، وأنه يلزم الشكر لله تعالى على التمسك بمّلة الإسلام . وقوله تعالى : { فَمَنِ ٱضْطُرَّ } متصل بذكر المحرمات . وما بينهما اعتراض بما يوجب أن يجتنب عنه . وهو أنّ تناولها فسوق ، وحرمتها من جملة الدين الكامل ، والنعمة التامة ، والإسلام المرضيّ . ومعناه : فمن اضطر إلى تناول شيء من هذه المحرمات : الميتة وما بعدها ، أي : أصيب بالضر الذي لا يمكنه الامتناع معه من الميتة وما بعدها { فِي مَخْمَصَةٍ } أي : مجاعة يخاف معها الموت أو مبادئه - و ( المخمصة ) : مصدر مثل المَغْضبة والمَعْتبة . يقال : خمصه الجوع خمصاً ومخمصة ، وخمص البطن ( مثلثة الميم ) خلا . { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ } أي : غير منحرف إليه بالأكل فوق الضرورة ، أو العصيان بالسفر . كقوله تعالى : { غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } [ البقرة : 173 ، والأنعام : 145 ، والنحل : 115 ] . { فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لتناوله الحرام - فلا يؤاخذه به { رَّحِيمٌ } أي : بإعطائه الرخصة فيه لعلمه بحاجة عبده المضطر ، وافتقاره إلى ذلك ، فيتجاوز عنه ويغفر له ، وفي ( المسند ) و ( صحيح ) ابن حبان عن ابن عمر - مرفوعاً - قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " إنّ الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته " لفظ ابن حبان . وفي لفظٍ لأحمد : " من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة " ولهذا قال الفقهاء : قد يكون تناول الميتة واجباً في بعض الأحيان . وهو ما إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها . وقد يكون مندوباً ، وقد يكون مباحاً ، بحسب الأحوال . واختلفوا : هل يتناول منها قدر ما يسد به الرمق ، أو له أن يشبع ويتزود ؟ على أقوال . وليس من شرط تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاماً - كما قد يتوهمه كثير من العوام وغيرهم - بل متى اضطر إلى ذلك جاز له . وقد روى الإمام أحمد عن أبي واقد الليثيّ ؛ أنهم قالوا : " يا رسول الله ! إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة . فمتى تحل لنا بها الميتة ؟ فقال : " إذا لم تصطحبوا ولم تغتبقوا ولم تحتفئوا بقلا ، فشأنكم بها " إسناده صحيح على شرط الشيخين ، والاصطباح : شرب اللبن بالغداة فما دون القائلة ، وما كان منه بالعشيّ فهو الاغتباق ؛ ومعنى لم تحتفئوا : أي تقتلعوا . وفي اللفظة عدة روايات ، وروى أبو داود عن الفجيع العامريّ : أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ما يحل لنا من الميتة ؟ قال : " ما طعامكم ؟ " قلنا : نصطبح ونغتبق ! قال أبو نعيم : فسره لي عقبة : قدح غدوة وقدح عشية ، قال : ذاك ، وأبي الجوع . فأحل لهم الميتة على هذه الحال " تفرد به أبو داود . وكأنهم كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئاً لا يكفيهم . فأحلّ لهم الميتة لتمام كفايتهم . وقد يحتج به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حدّ الشبع ، ولا يتقيد ذلك بسدّ الرمق ، والله أعلم . وروى أبو داود عن جابر بن سمرة " أنّ رجلاً نزل الحرّة ومعه أهله وولده . فقال رجل : إنّ ناقة لي ضلت . فإن وجدتها فأمسكها ، فوجدها فلم يجد صاحبها فمرضت ، فقالت له امرأته : انحرها ! فأبى ، فنفقت ، فقالت : اسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها ونأكله ، فقال : حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأتاه ، فسأله ، فقال له : " هل عندك غنى يغنيك ؟ " قال : لا . قال : " فكلوها " ! قال : فجاء صاحبها فأخبره الخبر فقال : هلا كنت نحرتها ؟ قال : استحييت منك ! " تفرد به . وقد يحتج به من يجوّز الأكل والشبع والتزود منها مدة ، يغلب على ظنه الاحتياج إليها . والله أعلم . أفاده ابن كثير . وقوله : ( فنفقت ) أي : ماتت . ( من باب نصر وفرح ) قال ابن برّي : أنشد ثعلب : @ فما أشياء نشريها بمال فإن نفقت فأكسد ما تكون ؟ @@ تنبيه قال بعض المفسرين : ليس في هذه الآية بيان لتقديم أحدها . والفقهاء يقولون : يقدم الأخف تحريماً ، فميتة المأكول على ميتة غيره . انتهى . وفي ( رحمة الأمة ) أنّ المضطر إذا وجد ميتة وطعام الغير ، ومالكه غائب . أنّ له أكله بشرط الضمان ، دون الميتة . عند مالك وأكثر أصحاب الشافعيّ وجماعة من الحنفية . وعن أحمد وآخرين : يأكل الميتة . قال ابن كثير : قد استدل بقوله تعالى : { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ } من يقول بأنّ العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر ، لأنّ الرخص لا تنال بالمعاصي . والله أعلم .