Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 4-4)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ } أي : من المطاعم { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ } أي : ما ليس بخبيث منها ، وهو كل ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة . و ( الطيِّب ) في اللغة هو المستلذ ، و ( الحلال ) المأذون فيه ، يسمى طيبا تشبيهاً بما هو مستلذ ، لأنهما اجتمعا في انتفاء المضرة . { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ } عطف على ( الطيبات ) بتقدير مضاف ، أي : وصيد ما علمتموه . أو مبتدأ ، على أنّ ( ما ) شرطية وجوابها ( فكلوا ) . و ( الجوارح ) : الكواسب من سباع البهائم والطير - كالكلب والفهد والعقاب والصقر والبازي والشاهين - لأنها تجرح لأهلها أي تكسب لهم ، الواحدة جارحة ، تقول العرب : فلان جرح أهله خيراً ، أي : كسبهم خيراً ، وفلان لا جارح له ، أي : لا كاسب ، ومنه قوله تعالى : { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ } [ الأنعام : 60 ] ؛ أي : كسبتم . وقيل : سميت ( جوارح ) لأنها تجرح الصيد عند إمساكه . وقوله تعالى : { مُكَلِّبِينَ } أي : معلمين لها أن تَسْتَشْلِيَ إذا أُشْلِيَتْ ، وتنزجر إذا زجرت ، ويجتنب عند الدعوة ، ولا تنفر عند الإرادة ، فتصير كأنها وكلاؤكم لتعلمهن . إلا إذا قتلت بأنفسها من غير تعليم ، فلا يحل صيدها . قال الزمخشريّ : ( المكلّب ) مؤدب الجوارح ومضريها بالصيد لصاحبها ورائضها لذلك ، بما علم من الحيل وطرق التأديب والتثقيف . واشتقاقه من ( الكلب ) لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب ، فاشتق من لفظه لكثرته في جنسه ، أو لأن السبع يسمى كلباً ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : " " اللهمّ سلط عليه كلباً من كلابك " فأكله الأسد " ( الحديث حسن ، أخرجه الحاكم ) أو من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة ، يقال : هو كلب بكذا إذا كان ضارياً به . وانتصاب ( مكلّبين ) على الحال من ( علمتم ) . فإذا قلت : ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها بـ ( علمتم ) ؟ قلت : فائدتها أن يكون مَن يعلم الجوارح نحريراً في علمه ، مدرباً فيه ، موصوفاً بالتكليب . وقوله تعالى : { تُعَلِّمُونَهُنَّ } حال ثانية أو استئناف ، وفيه فائدة جليلة . وهي أنّ على كل آخذٍ علماً أن لا يأخذه إلا من أَفْتَلِ أهله علماً ، وأنحرهم دراية ، وأغوصهم على لطائفه وحقائقه . وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل . فكم من آخذٍ ، عن غيره متقن ، قد ضيع أيامه ، وعض عند لقاء النحارير أنامله { مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ } أي : من علم التكليب . لأنه إلهام من الله ومكتسب بالعقل . أو مما عرفكم أن تعلموه من إتباع الصيد بإرسال صاحبه . وانزجاره بزجره . وانصرافه بدعائه . وإمساك الصيد عليه وأن لا يأكل منه . انتهى . وقال الناصر في ( الانتصاف ) : وفي الآية دليل على أن البهائم لها علم . لأن تعليمها ، معناه لغةً ، تحصيل العلم له بطرقه . خلافاً لمنكري ذلك . { فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } أي : صِدْنَ لكم وإن قتلته بأن لم يأكلن منه { وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } الضمير يرجع إلى ( ما علمتم من الجوارح ) أي : سموا عليه عند إرساله ، كما بيّنه حديث أبي ثعلبة وعديّ الآتي . وجوز رجوعه إلى ( ما أمسكن ) على معنى : وسموا عليه إذا أدركتم زكاته { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } أي : بالأكل مما فقد فيه شرط من هذه الشرائط استعجالاً إليها { إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } أي : المجازاة على كل ما جلّ ودقّ . تنبيهات الأول : روى ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير ، عن عديّ بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيّيْن . سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : يا رسول الله ، قد حرّم الله الميتة فماذا يحل لنا منها ؟ فنزلت : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ } ؛ قال سعيد : يعني الذبائح الحلال الطيبة لهم ؛ وقال مقاتل : ما أحل لهم من كل شيء أن يصيبوه ، وهو الحلال من الرزق . وقد سئل الزهريّ عن شرب البول للتداوي ؟ فقال : ليس هو من الطيبات ، رواه ابن أبي حاتم . وقال ابن وهب : سئل مالك عن بيع الطين الذي يأكله الناس ؟ فقال ليس هو من الطيبات . وروى ابن أبي حاتم في سبب نزولها أثراً آخر ، عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب فقتلت ، فجاء الناس فقالوا : يا رسول الله ، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ فسكت . فأنزل الله : { يَسْأَلُونَكَ … } الآية . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " إذا أرسل الرجل كلبه وسمى فأمسك عليه ، فليأكل مما لم يأكل " . وعند ابن جرير عن أبي رافع قال : " جاء جبريل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليستأذن عليه ، فأذن له . فقال : قد أذنّا لك يا رسول الله ! قال : " أجل . ولكنا لا ندخل بيتاً فيه كلب " . قال أبو رافع : فأمرني أن أقتل كلّ كلب بالمدينة . حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها فتركته رحمة لها . ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته . فأمرني فرجعت إلى الكلب فقتلته ، فجاؤوا فقالوا : يا رسول الله ، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ قال ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فأنزل الله عز وجل : { يَسْأَلُونَكَ … } " الآية . ورواه الحاكم في ( مستدركه ) وقال : صحيح ولم يخرجاه . وروى ابن جرير أيضاً عن عكرمة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب حتى بلغ العوالي . فجاء عاصم بن عديّ وسعيد بن خيثمة وعويمر بن ساعدة فقالوا : ماذا أحلّ لنا يا رسول الله ؟ فنزلت الآية . ورواه الحاكم أيضاً عن عكرمة . وكذا قال محمد بن كعب القرظيّ في سبب نزولها : أنه في قتل الكلاب - أفاده ابن كثير . قال بعض المفسرين : لما نزلت الآية ، أذن صلى الله عليه وسلم في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها ، ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها . وأمر بقتل العقور وما يضر . انتهى . أقول : روى الإمام أحمد ومسلم عن جابر قال : " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب . حتى أن المرأة تقدم من البادية بكلبها فتقتله ، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلها وقال : " عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان " " . وروى الشيخان عن ابن عمر : " أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب ، إلا كلب صيد أو كلب غنم أو ماشية " . وعن عبد الله بن المغفل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " لولا أنّ الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها كلها . فاقتلوا منها كل أسود بهيم " رواه أبو داود والدارميّ ، وزاد الترمذي والنسائيّ : " وما من أهل بيت يرتبطون كلباً إلا نقص من عملهم كل يوم قيراط . إلا كلب صيد أو كلب حرث أو كلب غنم " . وظاهر هذه الأحاديث ، أنه صلى الله عليه وسلم كان أمر بقتلها كلها . ثم رخص في استبقائها . إلا أن الأسود فإنه مستحق القتل . وقول إمام الحرمين : ثم استقر الشرع على النهي عن قتل جميع الكلاب حيث لا ضرر فيها حتى الأسود البهيم - يحتاج إلى برهان . قال ابن عبد البر : في هذه الأحاديث إباحة اتخاذ الكلب للصيد والماشية . وكذلك للزرع . لأنها زيادة حافظ . وكراهة اتخاذها لغير ذلك . إلا أنه يدخل في معنى الصيد وغيره مما ذكر ، اتخاذها لجلب المنافع ودفع المضارّ قياساً ، فتمحض كراهة اتخاذها لغير حاجة ، لما فيه من ترويع الناس ، وامتناع دخول الملائكة إلى البيت الذي الكلاب فيه . ثم قال : ووجه الحديث عندي ؛ أن المعاني المتعبد بها في الكلاب . من غسل الإناء سبعاً ، لا يكاد يقوم بها المكلف ولا يتحفظ منها ، فربما دخل عليه باتخاذها ما ينقص أجره من ذلك . وروي أن المنصور بالله سأل عمرو بن عبيد عن سبب هذا الحديث ؟ فلم يعرفه . فقال المنصور : لأنه ينبح الضيف ويروّع السائل . انتهى . وقال الخطابي : معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " لولا أن الكلاب أمة من الأمم … " الخ . أنه صلى الله عليه وسلم كره إفناء أمة من الأمم وإعدام جيل من الخلق ، لأنه ما من خلق لله تعالى إلا وفيه نوع من الحكمة وضرب من المصلحة . يقول : إذا كان الأمر على هذا ، ولا سبيل إلى قتلهن ، فاقتلوا أشرارهن وهي السود البُهم . وأبقوا ما سواها لتنتفعوا بهنّ في الحراسة . وقال الطيبيّ : قوله : " أمة من الأمم " إشارة إلى قوله تعالى : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } [ الأنعام : 38 ] . أي : أمثالكم في كونها دالة على الصانع ومسبحة له . قال تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 44 ] . أي : يسبح بلسان المقال أو الحال . حيث يدل على الصانع وعلى قدرته وحكمته وتنزيهه عمّا لا يجوز عليه ، فبالنظر إلى هذا المعنى ، لا يجوز التعرض لها بالقتل والإفناء . ولكن إذا كان لدفع مضرةٍ - كقتل الفواسق الخمس - أو جلب منفعةٍ - كذبح الحيوانات المأكولة - جاز ذلك . الثاني : ذهب جمهور الصحابة والتابعين والأئمة إلى أنّ الجوارح التي يحل صيدها ، ما قَبِلَ التعليم من ذي ناب ( كالكلب والفهد والنمر ) أو ذي مخلب ( كالطيور المذكورة قبل ) . قال في ( النهاية ) : حتى الهرّ إن تعلّم ، واحتجوا بعموم الآية . وروى أحمد وأبو داود عن مجالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " " ما علَّمت من كلبٍ أو بازٍ ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه ، فكل ما أمسك عليك " . قلت : وإن قتل ؟ قال : " وإن قتل ولم يأكل منه شيئاً . فإنه أمسكه عليك " " . قال البيهقيّ : تفرد مجالد بذكر الباز فيه ، وخالف الحفاظ . أقول : روى ابن جرير بالمسند المذكور إلى عديّ قال : " سألت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي ؟ فقال : " ما أمسك عليك فكل " وعن ابن عمر ومجاهد : " لا يحل إلا صيد الكلب فقط " وروى ابن جرير بسنده ، أن ابن عمر قال : أما ما صاد من الطير ( والبراة من الطير ) فما أدركت فهو لك ، وإلا فلا تطعمه . وقال ابن أبي حاتم : كره مجاهد صيد الطير كلّه ، وقرأ قوله : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } أي : فإن قوله تعالى : { مُكَلِّبِينَ } يشير إلى قصر ذلك على الكلب . وقال الحسن البصريّ والنخعيّ وأحمد وإسحاق : يحل من كل شيء إلا الكلب الأسود البهيم . لأنه قد أمر بقتله . الثالث : قدمنا أنّ انتصاب { مُكَلِّبِينَ } على الحال من { عَلَّمْتُمْ } ، قال ابن كثير : ويحتمل أن يكون حالاً من المفعول وهو ( الجوارح ) أي : وما علمتم من الجوارح في حال كونهن مكلبات للصيد . وذلك أن تصيد بمخالبها وأظفارها . فيستدل بذلك ، والحالة هذه ، على أن الجارح إذا قتل الصيد بصدمته وبمخالبه وظفره ، أنه لا يحل . كما هو أحد قولي الشافعيّ وطائفة من العلماء ، ولهذا قوله : { تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ } وهو أنه إذا أرسله استرسل ، وإذا استشلاه استُشْلِيَ ، وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه ، ولا يمسكه لنفسه . ولهذا قال تعالى : { فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } ، فمتى كان الجارح معلماً وأمسك على صاحبه - وكان قد ذكر اسم الله عليه وقت إرساله - حلّ الصيد وإن قتله ، بالإجماع . وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة . كما ثبت في ( الصحيحين ) عن عديّ بن حاتم قال : قلت : " يا رسول الله ، إني أرسل الكلاب المعلَّمة ، وأذكر اسم الله ؟ فقال : " إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله ، فكل ما أمسك عليك " . قلت : وإن قتلن ؟ قال : " وإن قتلن ، ما لم يشركها كلب ليس منها . فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسمّ على غيره " . قلت له : فإني أرمي بالمعراض الصيد ؟ فقال : " إذا رميت بالمعراض الصيد فخزق فكله ، فإن أصابه بعرض ، فإنه وقيذ ، فلا تأكله " " . وفي لفظٍ لهما : " إذا أرسلت كلبك فاذكر الله ، فإن أمسك عليك فأدركته حيّاً ، فاذبحه ، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه . فكله . وإن أخذ الكلب ذكاته " وفي رواية لهما : " فإن أكل فلا تأكله ، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه " فهذا دليل للجمهور أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقاً ، ولم يستفصلوا . كما ورد بذلك الحديث ، وحكي عن طائفة من السلف أنهم قالوا : لا يحرم مطلقاً ؛ أَكَلَ أو لم يأكل . روى ابن جرير عن سلمان الفارسيّ وأبي هريرة قالا : كُلْ وإن أكل ثلثيه . وعن سعد بن أبي وقاص : … وإن أكل ثلثيه . وعنه : … وإن لم يبق إلا بضعة . وعن ابن عمر : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك ؛ أكل أو لم يأكل . وحكاه عن عليّ وابن عباس وغير واحدٍ من التابعين . وروي ذلك مرفوعاً أيضاً . أخرج أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنّ أعرابيّاً ، يقال له أبو ثعلبة ، قال : " يا رسول الله ! إنّ لي كلاباً مكلبة فأفتني في صيدها . قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " إن كان لك كلاب مكلبة ، فكل مما أمسكن عليك " . فقال : ذكيّ وغير ذكيّ ، وإن أكل منه ؟ قال : " نعم وإن أكل منه " . فقال : يا رسول الله ، أفتني في قوسي ! فقال : " كلْ ما ردت عليك قوسك " . قال : ذكيّ وغير ذكيّ ؟ قال : " وإن تغيب عنك ما لم يَضِلّ أو تجد فيه أثرا غير سهمك " . قال : أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها . قال : " اغسلها وكُلْ فيها " هكذا رواه أبو داود وقد أخرجه النسائيّ . وكذا رواه أبو داود عن أبي إدريس الخولانيّ عن أبي ثعلبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله ، فكُلْ وإن أكل منه ، وكُلْ ما ردت عليك يدك " . وقد احتج بما ذكرنا من لم يحرم الصيد بأكل الكلب وما أشبهه ، وقد توسط آخرون فقالوا : إن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم . لحديث عديّ ، وللعلة التي أشار إليها النبيّ صلى الله عليه وسلم . وأما إن أمسكه . ثم انتظر صاحبه ، فطال عليه ، وجاع فأكل منه لجوعه ، فإنه لا يؤثر في التحريم . وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة . وهذا تفريقٌ حسن ، وجمعٌ بين الحديثين ، صحيح . وقد تمنى الأستاذ أبو المعالي الجويني في كتابه ( النهاية ) : أن لو فصل مفصل هذا التفصيل . وقد حقق الله أمنيته ، وقال بهذا القول والتفريق طائفة من الأصحاب . أفاده ابن كثير . قال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) : وسلك الناس في الجمع بين حديث عديّ وأبي ثعلبة طرقاً منها للقائلين بالتحريم : الأولى : حمل حديث أبي ثعلبة الأعرابيّ على ما إذا قتله وخلاه ثم عاد فأكل منه ، والثانية : الترجيح ، فرواية عديّ في الصحيحين ورواية الأعرابيّ في غيرهما . ومختلف في تضعيفها . وأيضاً ، فرواية عديّ صريحة مقرونة بالتعليل المناسب للتحريم . وهو خوف الإمساك على نفسه ، متأيد بأن الأصل في الميتة التحريم . فإذا شككنا في السبب المبيح ، رجعنا إلى الأصل ولظاهر الآية المذكورة ، فإن مقتضاها أنّ الذي تمسكه من غير إرسال لا يباح . ويتقوي أيضاً بالشواهد من حديث ابن عباس عند أحمد : إذا أرسلت الكلب فأكل الصيد ، فلا تأكل ، فإنما أمسك على نفسه ، فإذا أرسلته فقتله ولم يأكل ، فكُلْ ، فإنما أمسك على صاحبه . وأخرجه البزار من وجه آخر عن ابن عباس ، وابن أبي شيبة من حديث أبى رافع ، نحوه بمعناه . ولو كان مجرّد الإمساك كافياً لما احتيج إلى زيادة ( عليكم ) في الآية . وأما القائلون بالإباحة ، فحملوا حديث عديّ على كراهة التنزيه ، وحديث الأعرابيّ على بيان الجواز . قال بعضهم : ومناسبة ذلك أن عدّياً كان موسراً . فاختير له الحمل على الأولى . بخلاف أبي ثعلبة ، فإنه كان بعكسه . ولا يخفي ضعف هذا التمسك ، مع التصريح بالتعليل في الحديث لخوف الإمساك على نفسه . وقد وقع في رواية لابن أبي شيبة : إن شرب من دمه فلا تأكل فإنه لم يُعَلَّمْ ما عَلَّمته . وفي هذا إشارة إلى أنه إذا شرع في أكله ، دلّ على أنه ليس يعلم التعليم المشترط . الرابع : في الآية مشروعية التسمية . قال ابن كثير : قوله تعالى : { وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } ، أي : عند إرساله له ، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعديّ بن حاتم : " إذا أرسلت كلبك المعلّم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك " وفي حديث أبي ثعلبة المخرج في ( الصحيحين ) أيضاً : " إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله ، وإذا رميت بسهمك " ولهذا اشترط مَن اشترط من الأئمة ، كالإمام أحمد رحمه الله ، في المشهور عنه ، التسمية عند إرسال الكلب والرمي بالسهم لهذه الآية وهذا الحديث . وهذا القول هو المشهور عند الجمهور أن المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الإرسال . كما قال السدّيّ وغيره . وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ، في هذه الآية : " إذا أرسلت جارحك فقل : بسم الله . وإن نسيت فلا حرج " انتهى . قال بعض الزيدية : والتسمية هنا كالتسمية على الذبيحة . فمن قائل بوجوبها على الذاكر لا الناسي . لحديث : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " ومن قائلٍ بأنها مستحبة ، ومن قائلٍ بأنها شرط مطلقاً ، والمشهور عن أحمد التفرقة بين الصيد والذبيحة . فذهب في الذبيحة إلى هذا القول الثالث . ثم قال : لقائلٍ أن يقول : يحتمل أن يرجع قوله تعالى : { وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } إلى الأكل . أي : فسموا عند الأكل . فدلالة الآية محتملة في وجوب التسمية . انتهى . وهذا الاحتمال حكاه ابن كثير ونصّه : وقال بعض الناس : المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الأكل . كما ثبت في ( الصحيحين ) ؛ " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علّم ربيبه ، عمر بن أبي سلمة ، فقال : " سمِّ الله وكُلْ بيمينك وكُلْ مما يليك " وفي ( صحيح البخاريّ ) عن عائشة ؛ أنهم قالوا : " يا رسول الله ، إن قوماً يأتوننا ، حديث عهد بكفرٍ ، بلحمانٍ ، لا ندري أَذُكِرَ اسم الله عليها أم لا ؟ فقال : " سموا الله أنتم وكلوا أنتم " وقال الترمذيّ : حسن صحيح . الخامس : في الآية جواز تعليم الحيوان وضربه للمصلحة ؛ لأن التعليم قد يحتاج إلى ذلك . كذا في ( الإكليل ) . وتقدم عن الزمخشريّ والناصر ما في الآية أيضاً من الأخذ عن النحرير ، وأن البهائم لها علم . واستدلّ بالآية على إباحة اتخاذ الكلب للصيد وللحراسة ، بالسنّة . كما تقدم .