Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 71-71)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي : ظن بنو إسرائيل أنهم لا يصيبهم من الله عذاب بقتل الأنبياء وتكذيب الرسل { فَعَمُوا وَصَمُّوا } عطف على ( حسبوا ) ، و ( الفاء ) للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها ؛ أي : آمنوا بأس الله تعالى ، فتمادوا في فنون الغيّ والفساد ، وعموا عن الدين ، بعد ما هداهم الرسل إلى معالمه الظاهرة ، وصمّوا عن استماع الحق الذي أَلْقَوْهُ عليهم ، ولذلك فعلوا ما فعلوا { ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ } أي : مما كانوا فيه . قال العلامة أبو السعود : لم يسند التوبة إليهم كسائر أحوالهم من الحسبان والعمى والصم ، تجافياً عن التصريح بنسبة الخير إليهم . وإنما أشير إليها في ضمن بيان توبته تعالى عليهم ، تمهيداً لبيان نقضهم إياها بقوله تعالى : { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ } كرة أخرى { كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } بدل من الضمير في الفعلين أو خبر محذوف ، أي : أولئك كثير منهم { وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي : بما عملوا ، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضاراً لصورتها الفظيعة ورعايةً للفواصل . والجملة تذييل أشير به إلى بطلان حسبانهم المذكور . ووقوع العذاب من حيث لم يحتسبوا ، إشارة إجمالية ، اكتفى بها تعويلاً على ما فصل نوع تفصيل في سورة ( بني إسرائيل ) - أفاده أبو السعود . وهو مأخوذ من كلام القفال ، كما سيأتي : تنبيه في هذه الآية إشارة إلى ما اكتنف بني إسرائيل من الفتنة وعذاب الله الذي حاق بهم قبل عيسى وبعده . وذلك أن أنبياءهم قبل عيسى كانوا يوبخون رؤساءهم الأشرار وشعبهم على خطاياهم . ولا سيما في عبادتهم الأوثان . وينصحونهم أن يرجعوا إلى الله . وينذرونهم بعقابه تعالى الشديد ودمارهم إن لم يتوبوا . كما أنبأهم إرْميا عليه السلام بخراب بلدهم ، وقضائه تعالى الهائل عليهم ، إن أصرّوا على طغيانهم ، فما استمعوا له . حتى روي أنه ختم له بالشهادة . إذ رجمته اليهود بمصر عتوّاً واستكباراً . ثم سلط الله عليهم بختنصر , ملك بابل ، وسبى شعبهم وهدمت جنوده مدينتهم بيت المقدس وهيكلها . وصار تلال خرابٍ . وذلك لاستئصال كفرهم وشرورهم , وتطهير هيكلهم من نجاسة أوثانهم . فحلّ عليهم من البابلية الشقاء والويل . وأخذوا أسرى إلى ما وراء الفرات . ولم يترك منهم إلا الفقراء فقط . وبذلك انتهى ملكهم . وكان ذلك قبل ولادة عيسى عليه السلام بنحو خمسمائة وثمان وثمانون سنة . ثم تاب الله عليهم ورحمهم من سبيهم ، وأعادهم برحمته إلى مدينتهم بيت المقدس ، بعد أن أقاموا في بابل سبعين وسنة ، وابتدؤوا ببناء هيكلهم ثانية . وأرجعوا العبادة إليه ، وقام حزقيال عليه السلام بوعظهم وتهذيبهم ودعوتهم إلى التوبة وتذكيرهم بما مضى ليعتبروا . وهكذا كل نبيٍّ فيهم ، لم يزل ينذرهم ويدعوهم إلى الله إلى أن بعث الله عيسى عليه السلام . فعموا عن الاهتداء به وصمّوا عن وعظه ، وكان ما كان من همّهم بقتله . فدمرهم الله بعد ذلك وأباد مملكتهم ، وطُرِدوا من أرضهم بعد رفع عيسى عليه السلام بنحو أربعين سنة . وأخذ الرومانيون مدينتهم وهدموها مع الهيكل . وحلت عليهم نقمة الله فتفرقوا شذر مذر . هذا ، وما قيل بأن قوله تعالى : { فَعَمُواْ وَصَمُّواْ } إشارة إلى عبادتهم العجل - فإنه بعيد . لأنها ، وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كمال العمى والصمم ، لكنها في عصر موسى عليه السلام ، ولا تعلّق لها بما حكي عنهم مما فعلوا بالرسل الذين جاؤوهم بعده عليه السلام بأعصار . وكذا ما قيل بأن قوله تعالى : { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ } إشارة إلى طلبهم الرؤية - فبعيد أيضاً ، لما ذكرنا . وفنون الجنايات الصادرة عنهم لا تكاد تتناهى . خلا أنّ انحصار ما حكي عنهم ههنا في المرتين ، وترتبه على حكاية ما فعلوا بالرسل عليهم السلام ، يقضي بأن المراد ما ذكرناه . والله عنده علم الكتاب . كذا أفاده أبو السعود . ونحن نوافقه على ما رآه . بيد أنّ ما سقناه في التنبيه أظهر في ما جرياتهم ، وأشدّ مطابقةً لما في تواريخهم ، مما ساقه هنا . فتثبت . ويرحم الله الإمام القفال حيث قال : ذكر الله تعالى في سورة ( بني إسرائيل ) ما يجوز أن يكون تفسيراً لهذه الآية فقال : { وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ ٱلدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } [ الإسراء : 4 - 6 ] . فهذا في معنى { فَعَمُواْ وَصَمُّواْ } ثم قال : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً } [ الإسراء : 7 ] . فهذا في معنى قوله : { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } انتهى . ثم بيّن تعالى كفر النصارى وما هم عليه من فساد الاعتقاد المباين لأصل دعوة عيسى عليه السلام ، من التوحيد الخالص ، بقوله سبحانه : { لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ … } .