Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 53-53)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ } هم الشرفاء { بِبَعْضٍ } وهم المستضعفون ، بما مننا عليهم بالإيمان . وقوله : { لِّيَقُولوۤاْ } أي : الشرفاء { أَهَـٰؤُلاۤءِ } أي : المستضعفون ، { مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ } أي : بشرف الإيمان ، مع أن الشرفاء على زعمهم ، أولى بكل شرف ، فلو كان شرفاً لانعكس الأمر ، فهو إنكار لأن يُخَصَّ هؤلاء من بينهم بإصابة الحق ، والسبق إلى الخير ، كقولهم : { لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] . ثم أشار تعالى إلى أنه إنما منَّ عليهم بنعمة الإيمان ؛ لأنه علم أنهم يعرفون قدر هذه النعمة ، فيشكرونها حق شكرها ، وأما أولئك فلا يعرفون قدرها فلا يشكرونها بقوله سبحانه : { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّٰكِرِينَ } ؟ فهو ردٌ لقولهم ذلك ، وإبطالٌ له ، وإشارةٌ إلى أن مدار استحقاق الإنعام ، معرفة شأن النعمة ، والاعتراف بحق المنعم . كما أن فيه من الإشارة إلى أن أولئك المستضعفين عارفون بحق نعم الله تعالى في تنزيل القرآن ، والتوفيق للإيمان ، شاكرون له تعالى على ذلك ، مع التعريض بأن القائلين بمعزل عن ذلك كله - ما لا يخفى . قال الحافظ ابن كثير : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غالب من اتبعه في أول بعثته ضعفاء الناس ، من الرجال والنساء ، والعبيد والإماء ، ولم يتبعه من الأشراف إلا قليل ، كما قال قوم نوح لنوح : { وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأْيِ … } [ هود : 27 ] الآية وكما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان - حين سأله عن تلك المسائل : فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم ؟ قال : بل ضعفاؤهم . فقال : هم أتباع الرسل وكان مشركو مكة يسخرون بمن آمن من ضعفائهم ، ويعذبون من يقدرون عليه منهم ، وكانوا يقولون : { أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ } كقوله : { لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] ، وكقوله تعالى : { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَٰتٍ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَيُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } [ مريم : 73 ] ؟ قال الله تعالى في جواب ذلك : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً } [ مريم : 74 ] وقال في جوابهم هنا : { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّٰكِرِينَ } ، أي : له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم ، فيوفقهم ويهديهم سبل السلام ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ، ويهديهم إلى صراط مستقيم . كما قال تعالى : { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ العنكبوت : 69 ] . وفي الحديث الصحيح : " إن الله لا ينظر إلى صوركم ، ولا إلى ألوانكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " . وروى ابن جرير عن عكرمة قال : جاء عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، ومطعم بن عديّ ، والحارث بن نوفل ، وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل ، في أشراف من بني عبد مناف ، من الكفار ، إلى أبي طالب فقالوا : يا أبا طالب ، لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وحلفاءنا ، فإنما هم عبيدنا وعُسَفاؤنا - كان أعظم في صدورنا ، وأطوع له عندنا ، وأدنى لاتّباعنا إياه ، وتصديقنا له . فأتى أبو طالب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فحدثه بالذي كلموه به ، فقال عمر ابن الخطاب : لو فعلتَ ذلك ، حتى ننظر ما الذي يريدون ، وإلام يصيرون من قولهم ! فأنزل الله عز وجل هذه الآية : { وَأَنذِرْ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ } [ الأنعام : 51 ] . إلى قوله : { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّٰكِرِينَ } . قال : وكانوا : بلالٌ وعمارُ بن ياسر وسالم مولى أبي حذيفة وصبيح مولى أسيد . ومن الحلفاء : ابن مسعود ، والمقداد بن عمرو ، ومسعود بن القاريّ ، وواقد بن عبد الله الحنظليّ ، وعمرو بن عبد عمرو ذو الشمالين ، ومرثد بن أبي مرثد وأبو مرثد من غنيّ ، حليفُ حمزة بن عبد المطلب - وأشباههم من الحلفاء . ونزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء : { وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ … } الآية - فلما نزلت أقبل عمر ، فاعتذر من مقالته ، فأنزل الله عز وجل : { وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا … } [ الأنعام : 54 ] الآية . تنبيهات وفوائد قال بعض المفسرين : ثمرة الآية : 1 - أن الواجب في الدعاء : الإخلاص به ، لأنه تعالى قال : { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [ الأنعام : 52 ] - هكذا قال الحاكم - وهكذا جميع الطاعات ، لا تكون لغرض الدنيا . قال النفس الزكية عليه السلام : إذا دعا الإمام ثم وجد أفضل منه ، وجب عليه أن يسلم الأمر له . فإن لم يفعل ذلك فسق ، لأنه إن لم يفعل دل على أنه طالب للدنيا . 2 - ودلت على أن الغداة والعشيّ لهما اختصاص بفضل العمل والدعاء ، فلذلك خصهما بالذكر . 3 - ودلت على أن الفضل بالأعمال . وما خرج من المفاضلة من غير أمر الدين ، كالكفاءة في النكاح ، فذلك لمخصص ، نحو قوله عليه السلام : العرب بعضها أكفاء لبعض . 4 - ودلت على أن أحداً لا يؤخذ بذنب غيره وهي كقوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [ الأنعام : 164 ] . وقد تقدم ما ذكر فيما ورد : أن الميت ليعذَّب ببكاء أهله ، على أن المراد إذا أوصاهم بذلك . 5 - ودلت على أن حديث النفس لا يؤاخذ به ، لأنه قد روي أنه صلى الله عليه وسلم قد همّ بذلك . 6 - ودلت على أن الفقر لا يؤثر في حال المؤمن . وقد ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم بكذا سنة " وروي : أن آخر من يدخل الجنة من الصحابة عبد الرحمن بن عوف لكثرة ماله . وروي : أن علياً عليه السلام لم يخلف شيئاً بعد وفاته - هكذا في التهذيب - انتهى . أقول : الحديث الأول ، رواه الترمذيّ عن أبي هريرة وقال : حسن صحيح ، ولفظه : يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام . وأما حديث : آخر من يدخل الجنة من الصحابة … إلخ فلم أجده بهذا اللفظ . وقد روى البزار وأبو نعيم عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : " أول من يدخل الجنة من أغنياء أمتي عبد الرحمن بن عوف ، والذي نفس محمد بيده ! لن يدخلها إلا حبواً " قال السيوطي : إسناده ضعيف - كذا في ( منتخب كنز العمال ) في ترجمة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في ( فضائل الصحابة ) . 7 - هذا ، وقال ابن الفرس : قد يؤخذ من هذه الآية ألا يمنع من يذكّر الناس بالله وأمور الآخرة في جامع أو طريق أو غيره . قال : وقد اختلف المتأخرون في مؤذن يؤذن بالأسحار ، ويبتهل بالدعاء ، يردّد ذلك إلى الصباح . وتأذى به الجيران ، هل يمنع ؟ واستدل ( من قال : لا يمنع ) بهذه الآية ، وبقوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ … } [ البقرة : 114 ] الآية . انتهى . 8 - قرأ ابن عامر ( بالغُدْوَةِ ) بالواو وضم الغين ، هنا وفي سورة الكهف ، والباقون بالألف وفتح الغين . وهي قراءة الحسن ومالك بن دينار وأبي رجاء العطارديّ وغيرهم . قال أبو عبيد : قرأ ابن عامر وأبو عبد الرحمن السلميّ ( بالغدوة ) ، وقرأ العامة ( بالغداة ) ونراهما قرآ ذلك اتباعاً للخط ، لأنهما رسمت في جميع المصاحف بالواو ، كالصلاة والزكاة ، وليس ، في إثباتهم الواو في الكتابة ، دليل على أنها القراءة ، لأنهم قد كتبوا ( الصلاة والزكاة ) بالواو ، ولفظهما على تركها ، فكذلك ( الغداة ) ، على هذا وجدنا ألفاظ العرب . انتهى . وقال أبو عليّ الفارسيّ : الوجه قراءة العامة ( بالغداة ) . لأنها تستعمل نكرة ، فأمكن تعريفها بإدخال لام التعريف عليها . فأما ( غدوة ) فمعرفة ، وهو علم صيغ له ، وحينئذ فيمتنع دخول لام التعريف عليه ، كسائر المعارف ، وكتابتها بالواو لا تدل على قولهم . انتهى . قال الشهاب مجيباً ومناقشاً : إن ( غدوة ) وإن كان المعروف فيها أنها علم جنس ، ممنوع من الصرف ، ولا تدخله الألف واللام ، ولا تصح إضافته ، فلا تقول : غدوة يوم الخميس - كما قال الفرّاء - ولكنه سمع اسم جنس أيضاً ، منكّراً مصروفاً ، فتدخله اللام ، وقد نقله سيبويه في كتابه عن الخليل ، وذكره جم غفير من أهل اللغة والنحو ، فلا عبرة بقول أبي عبيد أن من قرأ بالواو أخطأ ، وأنه اتبع رسم الخط ؛ لأن الغداة تكتب بالواو ، كالصلاة والزكاة ، وهو علم جنس ، لا تدخله الألف واللام ، والمُخَطِّيء مُخْطِيء ، لما مر . وقد ذكر المبرّد عن العرب تنكيره وصرفه ، وإدخال الألف واللام عليه ، إذا لم يرد غدوة يوم بعينه ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ، وكفى بوقوعه في القراءة المتواترة حجة ، فلا حاجة إلى ما قيل : إنه علم ، لكنه نكّر ؛ لأن تنكير علم الجنس لم يعهد . ولا أنه معرفة ، ودخلته اللام لمشاكلة العشيّ . كما في قوله : رأيت الوليد بن اليزيد مباركاً ، إذ قال ( اليزيد ) لمجاورة الوليد . ومنه تعلم أن المشاكلة قد تكون حقيقة . انتهى . 9 - في القاموس : الغُدوة بالضم ، البكرة ، أو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس كالغداة . والعشيّ ، والعشية : آخر النهار . وفي الصحاح : من صلاة المغرب إلى العتمة . وقال الأزهريّ : يقع العشيّ على ما بين الزوال والغروب . 10 - جعل الزمخشريّ ( ذلك ) إشارة إلى هذا الفتن المذكور ، حيث قال : ومثل ذلك الفتن العظيم ، فتنا بعض الناس ببعض ، أي : ابتليناهم بهم . وعبر عنه بذلك ، إيذاناً بتفخيمه . كقولك : ضربت زيداً ذلك الضرب . ولا يلزم منه تشبيه الشيء بنفسه ؛ لأن المثل ليس بمراد ، إنما جيء به مبالغة ، كما يقال ( ذلك كذلك ) كذا قرره العلامة . يعني : أن التشبيه كما يجعل كناية عن الاستمرار ؛ لأن ما له أمثال يستمر نوعه بتجدد أمثاله ، كما أشار إليه شراح الحماسة في قوله : @ هكذا يذهبُ الزمانُ ويَفْنَى العـ ـلمُ فيه ويدرُسُ الأثَرُ @@ والاستمرار يقتضي التحقق والتقرر ويستلزمه ، فجعل في أمثال هذا بواسطة الإشارة إلى البعيد عبارة عن تحقق أمر عظيم . وكونه عظيماً مستفاد من لفظ ( ذلك ) المشار به إلى هذا الفتن القريب المذكور ، وليست الكاف فيه زائدة . ومن قال إنها مقحمة أراد أن التشبيه فيه غير مقصود فيه ، بل المراد لازمه الكنائيّ أو المجازيّ . والزمخشريّ ، لما في هذا الوجه من البلاغة والدقة ، اختاره فيما ورد فيه كذلك - كذا في ( العناية ) . وقال أبو السعود : ( ذلك ) إشارة إلى مصدر ما بعده من الفعل ، ومحله في الأصل النصب على أنه نعت لمصدر مؤكد محذوف . والتقدير : فتنا بعضهم ببعض فتوناً كائناً مثل ذلك الفتون ، والكاف مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة ، فصار نفس المصدر المؤكد ، لا نعتاً له . والمعنى : ذلك الفتون الكاملَ فتناً . قال الشهاب : هذا الإقحام للمبالغة ، مطرد في عُرْفيِ العرب والعجم . انتهى . وقيل : الكاف ليست بزائدة ، والمشار إليه هو المشبه به ، الأمر المقرر في الذهن ، والمشبه ما دل عليه الكلام من الأمر الخارجيّ ، والمبالغة إنما يفيدها الإبهام الذهنيّ والتفسير بقوله : ( فَتَنَّا ) ، وهو ما يعلمه كل أحد من الفَتْن مَنْ هو - انظر ( العناية ) .