Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 91-91)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } أي : ما عظموه حق تعظيمه و ( حَقَّ ) نصب على المصدرية ، وهو في الأصل صفة للمصدر . أي : قَدْرَهُ الحقَّ ، فلما أَضيف إلى موصوفه انتصب على ما كان ينتصب عليه موصوفه . { إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } أي : حين اجترؤوا على التفوه بهذه الجملة الشنعاء ، وذلك منهم مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فألزموا بما لا سبيل لهم إلى إنكاره أصلاً . حيث قيل في جواب سلبهم العام ، بإثبات قضية جزئية بديهية التسليم : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ نُوراً } حال من الضمير في { بِهِ } أو من { ٱلْكِتَٰبَ } ، { وَهُدًى لِّلنَّاسِ } أي : ضياء من ظلمة الجهالة ، وبياناً يفرق بين الحق والباطل ، { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا } : يجزئونه أوراقاً يبدونها للناس مما ينتخبونه . أي : فكيف ينكر إنزال شيء ، وهذا المنزل المذكور ظاهر للعيان . والعدول عن التوراة إلى ذكر الكتاب وصفته ، والحال بعده - لزيادة التقريع ، وتشديد التبكيت ، وإلقام الحجر . { وَتُخْفُونَ كَثِيراً } معطوف على ( تُبْدُونَها ) ، والعائد محذوف . أي : كثيراً منها . أو كلام مبتدأ لا محل له من الإعراب . أي : وهم يخفون كثيراً . أي : ومع ذلك فالإلزام يكفي بما يبدونه ، المعترف لديهم بحقيّته . وفيه نعي على أهل الكتاب بسوء صنيعهم المذكور ، إذ ما يريدون بإخفاء كثير منها إلا تبديل الدين . { وَعُلِّمْتُمْ } أي : على لسان محمد صلى الله عليه وسلم { مَّا لَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَآؤُكُمْ } من المعارف التي لا يرتاب في أنها تنزيل ربانيّ ، { قُلِ ٱللَّهُ } أي : أنزله الله ، أو الله أنزله . أمَرَهُ بأن يجيب عنهم ، إشعاراً بأن الجواب متعين لا يمكن غيره ، وتنبيهاً على أنهمُ بُهِتوا ، بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب . { ثُمَّ } بعد التبليغ وإلزام الحجة { ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ } أي : في باطلهم { يَلْعَبُونَ } أي : يفعلون فعل اللاعب ، وهو ما لا يجرّ لهم نافعاً ، ولا يدفع عنهم ضرراً ، مع تضييع الزمان . تنبيه في هذه الآية قولان : الأول : أنها مكية النزول تبعاً للسورة ، وأن القائل ذلك : هم المشركون ، وإلزامهم إنزال التوراة ، لما أنه كان عندهم من المشاهير الذائعة ، وهذا هو الظاهر . قال ابن كثير : قال ابن عباس ومجاهد ، وعبد الله بن كثير : هذه الآية نزلت في قريش ، واختاره ابن جرير . قال ابن كثير : وهو الأصح ؛ لأن اليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء ، وأما كفار قريش فكانوا ينكرون رسالة النبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه من البشر ، كما قال تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ } [ يونس : 2 ] ، وكقوله تعالى : { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 94 ] وكذا قالوا هنا : { مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } . فألزموا بإنزال الكتاب الذي جاء به موسى ، وهو التوراة التي علموا هم وكل أحد أن الله أنزلها على موسى تكذيباً لقولهم ، وإيقافاً على عنادهم . ومعلوم ما كان بين قريش ويهود المدينة من التعارف ، وتسليم قريش أنهم أهل كتاب ، وأنهم أعلم منهم لأجله ، مما يوجب اعترافهم بحقية التوراة ، وأنها منزلة من لدنه تعالى . وعلى هذا القول ، فالقراءة بالياء التحتية ظاهرة . وعلى قراءة الخطاب ، فهو التفات من خطاب قوم إلى خطاب قوم آخرين . وهو التفات عند الأدباء - حكاه الخفاجيّ - وإنما جعل من الانتقال عن خطابهم إلى خطاب اليهودية ، تعريضاً لهم بأن إنكارهم إنزال الله تعالى من جنس فعل هؤلاء بالتوراة في البطلان ، وعمد الإسناد إلى برهان . ثم القول بأن الخطاب في ( عُلِّمْتُمْ ) لمؤمني قريش . لا يقتضيه السياق ولا السباق ، وفيه تفكيك للنظم الجليل ، كالقول بأنه اعتراض للامتنان على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأتباعه ، لهدايتهم للمجادلة بالتي هي أحسن . بل الخطاب فيه كسابقه ، والمراد بتعليمهم ، وهم مشركون ، ما يسمعونه ويتلقفونه من النبيّ صلى الله عليه وسلم وصحابته ، من فرائد الوحي وفوائده ، مما لا يرتاب في تنزيلها ، كما أوضحناه قبل . القول الثاني : إن هذه الآية مدنية النزول . ولا يرد أن هذه السورة مكية ، ومناظرات اليهود كانت في المدينة ؛ لأن كثيراً من السور المكية ألحقت بها آيات مدنية ، وحينئذ فقولهم ( هذه السورة مكية ) أي : إلا ما استثني مما ألحق بها ، كما أوضحه السيوطيّ في ( الإتقان ) وساق له شواهد . وقد أشرنا إلى ذلك أول هذه السورة ، فتذكر ! ثم القائلون بأنها مدنية ، منهم من قال : نزلت في طائفة من اليهود ، أو في فنحاص ، أو في مالك بن الصيف . أخرج ابن جرير من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال : قالت اليهود : والله ما أنزل الله من السماء كتابا ، فأنزلت . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير - مرسلا - قال : " جاء رجل من اليهود يقال له : مالك بن الصيف ، فخاصم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : " أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ، هل تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين " وكان حبراً سميناً ؟ فغضب وقال : ما أنزل الله على بشر من شيء ! فقال له أصحابه : ويحك ! ولا على موسى ؟ فأنزل الله : { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ … } الآية " . قال البغويّ : وفي القصة أن مالك بن الصيف ، لما سمعت اليهود منه تلك المقالة ، عتبوا عليه ، وقالوا : أليس الله أنزل التوراة على موسى ، فلم قلت : ما أنزل الله من شيء ؟ فقال مالك بن الصيف : أغضبني محمد ، فقلت ذلك ! فقالوا له : وأنت إذا غضبت تقول على الله غير الحق ! فنزعوه عن الحبرية . وبعد الوقوف على ذلك ، فلا معنى لاعتراض بعضهم بأن مالك بن الصيف كان مفتخراً بكونه يهودياً متظاهراً بذلك ، ومع هذا المذهب لا يمكنه ألبتة أن يقول : ما أنزل الله على بشر من شيء ؛ لأنه تبين أنه قال ذلك متغيظاً ، وقد أخذ الغضب منه مأخذه عناداً ومكابرة ، توصلا لدفع ما يريده . وقد يبلغ الحمق بصاحبه إلى حدّ يتبرأ فيه من مذهبه ومعتقده ، إغاظة لخصمه على زعمه . وبوادر اللسان في حق المولى تعالى وتقدس ، مما لا تغتفر ، ولذا بين تعالى جهل ذاك القائل بقوله : { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } . قال العلامة البقاعيّ : لأن من نسب ملكا تام الملك إلى أنه لم يبث أوامره في رعيته بما يرضيه ليفعلوه ، وما يسخطه ليجتنبوه ، فقد نسبه إلى نقص عظيم . فكيف إذا كانت تلك النسبة كذباً ؟ وإنما أسند إلى الكل - والقائل بعضهم - لأنهم لم يردّوا على قائله ، ولم يعاجلوه بالأخذ على يده ، تهويلا للأمر ، وبياناً لأنه يجب على كل من سمع بآيه من آيات الله أن يسعى إليها ، ويتعرف أمورها . فمن طعن فيها أخذ على يده بما تصل إليه قدرته ، فقال مشيراً إلى أن اليهود قائلوا ذلك ، ملزماً لهم بالاعتراف بالكذب ، أو المساواة للأميّين في التمسك بالهوى دون كتاب ، موبخاً لهم ، ناعياً عليهم سوء جهلهم ، وعظيم بهتهم ، وشدة وقاحتهم ، وعدم حيائهم { قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ } ؟ أي : قل لهؤلاء السفهاء الذين تجرؤوا على هذه المقالة ، غير ناظرين في عاقبتها ، وما يلزم منها ، توبيخاً لهم ، وتوقيفاً على شنيع جهلهم { مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ } الذي أنتم تزعمون التمسك بشرعه { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ } أي : أوراقاً مفرقة ، لتتمكنوا بها من إخفاء ما أردتم ، { تُبْدُونَهَا } لِلنَّاسِ أي : تظهرونها للناس ، { وَتُخْفُونَ كَثِيراً } أي : منها مما تريدون به تبديل الدين . هذا على قراءة الفوقانية . وعلى قراءة التحتانية التفات مؤذن بشدة الغضب ، مشير إلى أن ما قالوه حقيق بأن يستحي من ذكره ، فكيف بفعله . وقوله : { وَعُلِّمْتُمْ } أي : أيها اليهود بالكتاب الذي أنزل على موسى { مَّا لَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنتُمْ } أي : أيها اليهود من أهل هذا الزمان { وَلاَ ءَابَآؤُكُمْ } أي : الأقدمون . انتهى كلام البقاعيّ رحمه الله تعالى . وفي قوله : ( وإنما أسند إلى الكل … ) إلى آخره ، نظر ؛ لأن إسناده ليس إليهم ؛ لأنهم رضوا به ؛ لأن القصة السالفة تدل على خلافه . وللبقاعيّ رحمه الله وجه آخر في الآية : قال : ويمكن أن تكون مكية ، ويكون قولهم هذا حين أرسلت إليهم قريش تسألهم عنه صلى الله عليه وسلم في أمر رسالته ، فاحتج عليهم بإرسال موسى عليه السلام ، وإنزال التوراة عليه . انتهى . وهو قريب وجيه جداً . وبالجملة ، فالآية الكريمة من متصادقة مع الأوجه المذكورة ، وتتنزل في التأويل ، على ما بينا في كلٍّ تنزيلاً لا شائبة معه لإشكال مّا . وقد استصعب الرازيّ تأويلها ، وأخذ يحاول أسئلة هي على طرف الثُّمام ، بعد النظر فيما بينّا ، فالحمد الله الذي هدانا لهذا . لطائف الأولى : قال أبو السعود رحمه الله : ليس المراد بالآية مجرد إلزامهم بالاعتراف بإنزال التوراة فقط ، بل بإنزال القرآن أيضاً ، فإن الاعتراف بإنزالها مستلزم للاعتراف بإنزاله قطعاً ، لما فيها من الشواهد الناطقة به . الثانية : قال أيضاً في قوله تعالى : { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ } ، أي : تضعونه في قراطيس مقطعة ، وورقات مفرقة ، بحذف الجار ، بناء على تشبيه القراطيس بالظرف المبهم ، أو تجعلونه نفس القراطيس المقطعة . وفيه زيادة توبيخ لهم بسوء صنيعهم ، كأنهم أخرجوه من جنس الكتاب ، ونزلوه منزلة القراطيس الخالية عن الكتابة . الثالثة : في قوله تعالى : { تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِير } دلالة على أنه لا يجوز كتم العلم الدينيّ عمن يهتدي به . قاله بعض الزيدية . ولما أبطل تعالى كلمتهم الشنعاء بتقرير إنزال التوراة ، بين تنزيل ما يصدقها بقوله : { وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ … } .