Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 63, Ayat: 8-8)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } أي : لمكان غرورهم وجهلهم وشدة ارتيابهم . تنبيهان الأول : قال ابن جرير : عني بهذه الآيات كلها - فيما ذكر - عبد الله بن أبيّ بن سلول . " وذلك أنه قال لأصحابه : لا تنفقوا على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينفضوا . وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . فسمع بذلك زيد بن أرقم ، فأخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأله عما أخبر به عنه ، فحلف أنه ما قال ! وقيل له : لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته أن يستغفر لك ، فجعل يلوي رأسه ويحركه استهزاء ، ويعني بذلك أنه غير فاعل ما أشاروا به عليه ، فأنزل الله عز وجل فيه هذه السورة من أولها إلى آخرها " . ثم أورد ابن جرير الروايات في ذلك ، وتقدمه الإمام البخاريّ ، فأسندها من طرق . ويجمعها كلها ما رواه ابن إسحاق في غزوة بني المصطلق : " أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيهم على ماء لهم يقال له : ( المريسيع ) وأظفره الله بهم . قال : فبينا الناس على ذلك الماء ، وردت واردة الناس ، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار ، يقال له : ( جهجاه ) ، يقود فرسه . فازدحم جهجاه وسنان الجهنيّ حليف بني عوف بن الخزرج ، على الماء فاقتتلا ، فصرخ الجهنيّ : يا معشر الأنصار ، وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين ، فغضب عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، وعنده رهط من قومه ، فيهم زيد بن أرقم ، غلام حدَث ، فقال : أو قد فعلوها ؟ ! قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا ! والله ! ما أَعُدُّنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال الأول : سمن كلبك يأكلك ! أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . ثم أقبل على من حضر من قومه فقال لهم : هذا ما فعلتم بأنفسكم ! أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم . أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم ، لتحولوا إلى غير داركم . فسمع ذلك زيد ابن أرقم ، فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك عند فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوّه ، فأخبره الخبر ، وعنده عمر بن الخطاب . فقال : مُرْ به عباد بن بشر فليقتله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فكيف يا عمر ، إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ؟ لا ! ولكن أذِّن بالرحيل " ، في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها . فارتحل الناس ، وقد مشى عبد الله بن أبيّ بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمع منه ، فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به . وكان في قومه شريفاً عظيما . فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار من أصحابه : يا رسول الله ، عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه ، ولم يحفظ ما قاله الرجل - حَدَبا على ابن سلول ودفعاً عنه . قال ابن إسحاق : فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقيه أسيد بن حضير ، فحياه بتحية النبوة ، وسلم عليه ، ثم قال : يا نبي الله ، والله لقد رحت في ساعة منكرة ، ما كنت تروح في مثلها . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أو ما بلغك ما قال صاحبكم ؟ " قال : وأي صاحب يا رسول الله ؟ قال : " عبد الله بن أبيّ ! " قال : وما قال ؟ قال : " زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل " ! قال : فأنت يا رسول الله ، والله ، تخرجه منها إن شئت . هو والله ، الذليل وأنت العزيز . ثم قال : يا رسول الله ! ارفق به . فوالله لقد جاءنا الله بك ، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه ، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا ، ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومهم ذلك ، حتى أمسى ، وليلتهم حتى أصبح ، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ، ثم نزل بالناس ، فلم يلبثوا أن وجدوا مسّ الأرض ، فوقعوا نياماً . وإنما فعل ذلك رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم ، ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبي . ثم راح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ، وقدم المدينة ، ونزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين ، في ابن أبيّ ، ومن كان على مثل أمره ، فلما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد بن أرقم ، ثم قال : " هذا الذي أوفى لله بأذنه " اهـ . وكانت غزاة بني المصطلق هذه ، في شعبان سنة خمس ، كما في ( زاد المعاد ) . وزعم قوم أن هذه المقالة كانت في غزوة تبوك . قال الحافظ ابن حجر : وقع في رواية محمد بن كعب عن زيد بن أرقم عند ( النسائي ) أنها غزوة تبوك . ويؤيده قوله في رواية زهير : في سفر أصاب الناس فيه شدة . وأخرج عبد بن حميد بإسناد صحيح عن سعيد ابن جبير مرسلا ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل منزلاً لم يرتحل منه حتى يصلي فيه . فلما كانت غزوة تبوك ، نزل منزلاً ، فقال عبد الله بن أبيّ : فذكر القصة . والذي عليه أهل المغازي أنها بني المصطلق ، ويؤيده قول جابر ، بعد قوله صلى الله عليه وسلم لعمر : " دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه " . وكان الأنصار أكثر من المهاجرين حين قدموا المدينة ، ثم إن المهاجرين كثروا بعد . فهذا مما يوضح وهم من قال : إنها كانت بتبوك ؛ لأن المهاجرين حينئذ كانوا كثيراً جدا . وقد انضافت إليهم مسلمة الفتح في غزوة تبوك ، فكانوا حينئذ أكثر من الأنصار . انتهى . وسبقه ابن كثير حيث قال : وقوله - أي : ابن جبير - إن ذلك كان في غزوة تبوك ، فيه نظر ، بل ليس بجيد ، فإن عبد الله بن أبيّ بن سلول لم يكن ممن خرج في غزوة تبوك ، بل رجع بطائفة من الجيش . وإنما المشهور عند أصحاب المغازي والسير ، أن ذلك كان في غزوة المريسيع ، وهي غزوة بني المصطلق . انتهى . التنبيه الثاني : قال الزمخشريّ : معنى قوله تعالى : { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ } إلخ أي : الغلبة والقوة ، ولمن أعزه وأيده من رسوله ومن المؤمنين . وهم الأخصاء بذلك . كما أن المذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين . وعن بعض الصالحات - وكانت في هيئة رثة - ألستُ على الإسلام ، وهو العز الذي لا ذل معه ، والغنى الذي لا فقر معه ؟ وعن الحسن بن عليّ رضي الله عنهما ؛ أن رجلاً قال له : إن الناس يزعمون أن فيك تيهاً ؟ قال : ليس بتيه ، ولكنه عزة وتلا هذه الآية . انتهى . قال الرازيّ : قال بعض العارفين في تحقيق هذا المعنى : العزة غير الكبر ، ولا يحل للمؤمن أن يذل نفسه ، فالعزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه ، وإكرامها عن أن يضعها لأقسام عاجلة دنيوية . كما أن الكبر جهل الإنسان بنفسه ، وإنزالها فوق منزلها . فالعزة تشبه الكبر من حيث الصورة ، وتختلف من حيث الحقيقة ، كاشتباه التواضع بالضعة ، والتواضع محمود ، والضعة مذمومة . والكبر مذموم ، والعزة محمودة . ولما كانت غير مذمومة ، وفيها مشاكلة للكبر ، قال تعالى : { بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } [ الأحقاف : 20 ] وفيه إشارة خفية لإثبات العزة بالحق ، والوقوف على حد التواضع ، من غير انحراف إلى الضعة ، وقوف على صراط العزة المنصوب على نار الكبر .