Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 82, Ayat: 6-8)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ } أي : أيّ شيء خدعك وجرأك على عصيانه والانحراف عن فطرته . وذكر { ٱلْكَرِيمِ } للمبالغة في المنع عن الاغترار ؛ لأنه بمعنى العظيم الجليل الكامل في نعوته . ومن كان كذلك فجدير بأن يرهب عقابه ويخشى انتقامه وعذابه . لا سيما وله من النعم العظيمة والقدرة الكاملة ما يزيد في الرهبة ، كما قال : { ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ } أي : جعلك سويّاً متساوي الأعضاء والقوى . وأصل التسوية جعل الأشياء على سواء . فتكون على وفق الحكمة ومقتضاها ، بإعطائها ما تتم به { فَعَدَلَكَ } أي : جعلك معتدلاً متناسب الخلق ، معتدل القامة . لا كالبهائم . وقرئ بالتخفيف وهو بمعنى المشدد ، أو بمعنى صرفك عن خلقة غيرك إلى خلقة حسنة ، مزتَ بها على سائر الحيوان { فِيۤ أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ } أي : في أيّ صورة شاءها ركبك عليها . يعني : أنه ركبك في صورة هي أبدع الصور وأعجبها . فـ { أَيِّ } : استفهامية . والمجرور متعلق بـ { رَكَّبَكَ } و { مَّا } زائدة ، وجملة { شَآءَ } صفة { صُورَةٍ } . والقصد : أن من خلق هذا الخلق البديع وسواه وعدله بقدرته وتقديره ، حتى أحكم صورته في ذلك التركيب ، لَجَديرٌ بأن يُتّقَى بأسه ويُحذر بطشه ويُرهب أشد ترهيب . تنبيه قال الإمام ابن القيم في ( الجواب الكافي ) : في بحث كون القرآن من أوله إلى آخره صريحا في ترتيب الجزاء بالخير والشر ، والأحكام الكونية على الأسباب ، ما تتمته : فليحذر مغالطة نفسه على هذه الأسباب - وهذا من أهم الأمور - فإن العبد يعرف أن المعصية والغفلة من الأسباب المضرة له في دنياه وآخرته ، ولا بد . ولكن تغالطه نفسه . ثم ذكر من أنواع المغترين من يغتر بفهمٍ فاسدٍ ، فَهِمَهُ هو وأضرابه من نصوص القرآن والسُّنَّة فاتكلوا عليه . قال : كاغترار بعض الجهال بقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ } فيقول : كرمه . وقد يقول بعضهم إنه لقن المغتر حجته . وهذا جهل قبيح . وإنما غره بربه الغَرور ، وهو الشيطان ، ونفسه الأمَّارة بالسوء ، وجهله وهواه . وأتى سبحانه بلفظ { ٱلْكَرِيمِ } ، وهو السيد العظيم المطاع الذي لا ينبغي الاغترار به ولا إهمال حقه . فوضع هذا المغتر ( الغرور ) في غير موضعه ، واغتر بمن لا ينبغي الاغترار به . انتهى . وفي مثل هذا الغرور يجب - كما قال الغزاليّ - على العبد أن يستعمل الخوف . فيخوّف نفسه بغضب الله وعظيم عقابه ، ويقول : إنه مع أنه غافر الذنب وقابل التوب ، شديد العقاب . وإنه مع أنه كريم ، خلد الكفار في النار أبد الآباد . مع أنه لم يضره كفرهم . بل سلط العذاب والمحن والأمراض والعلل والفقر والجوع على جملة من عباده في الدنيا . وهو قادر على إزالتها . فَمَنْ هذه سنته في عباده ، وقد خوّفني عقابه ، فكيف لا أخافه ؟ وكيف أغتر به ؟ فالخوف والرجاء قائدان وسائقان يبعثان الناس على العمل . فما لا يبعث على العمل فهو تمنّ وغرور . ورجاء كافة الخلق هو سبب فتورهم ، وسبب إقبالهم على الدنيا ، وسبب إعراضهم عن الله تعالى ، وإهمالهم السعي للآخرة ، فذلك غرور . وقد روي أن الغرور سيغلب على قلوب آخر هذه الأمة . وقد كان ذلك . فقد كان الناس في الأعصار الأول يواظبون على العبادات ، و { يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } [ المؤمنون : 60 ] ، يخافون على أنفسهم ، وهم طول الليل والنهار في طاعة الله ، يبالغون في التقوى والحذر من الشبهات ، والشهوات ، ويبكون على أنفسهم في الخلوات . وأما الآن فترى الخلق آمنين مسرورين مطمئنين غير خائفين . مع إكبابهم على المعاصي وانهماكهم في الدنيا وإعراضهم عن الله تعالى . زاعمين أنهم واثقون بكرم الله تعالى وفضله ، راجون لعفوه ومغفرته . كأنهم يزعمون أنهم عرفوا من فضله وكرمه ما لم يعرفه الأنبياء والصحابة والسلف الصالحون . فإن كان هذا الأمر يدرك بالمنى ، وينال بالهوينا ، فعلى ماذا كان بكاء أولئك وخوفهم وحزنهم ؟ ثم قال : والقرآن من أوله إلى آخره تحذير وتخويف . ولا يتفكر فيه متفكر إلا ويطول حزنه ويعظم خوفه ، إن كان مؤمناً بما فيه . وترى الناس يهذونه هذّاً . يخرجون الحروف من مخارجها ويتناظرون على خفضها ورفعها ونصبها ، وكأنهم يقرؤون شعراً من أشعار العرب . لا يهمهم الالتفات إلى معانيه ، والعمل بما فيه . وهل في العالم غرور يزيد على هذا ؟ انتهى .