Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 117-119)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ وَٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } اعلم أن الله تعالى لما بين فيما تقدم مراتب الناس في أيام غزوة تبوك ، مؤمنهم ومنافقهم ، والمنفق لها طوعاً أو كرهاً ، والمرغّب فيها أو عنها ، والمتخلف نفاقاً أو كسلاً ، وأنبأ عما لحق كلاًّ من الوعد والوعيد ، وميز الصادقين من غيرهم - ختم بفرقة منهم كانوا تخلفوا ميلاً للدعة وهم صادقون في إيمانهم ، ثم ندموا فتابوا وأنابوا ، وعلم الله صدق توبتهم ، فقبلها منهم ، ثم أنزل توبتهم في هذه الآية ، وصدرها بتوبته على رسوله ، وكبار صحبه جبراً لقلوبهم ، وتنويهاً لشأنهم ، بضمهم مع المقطوع بالرضا عنهم ، وبعثاً للمؤمنين على التوبة ، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والإستغفار ، حتى النبيّ والمهاجرون والأنصار ، كلّ على حسبه ، وإبانةً لفضل التوبة ومقدارها عند الله ، وأن صفة التوابين الأوابين صفة الأنبياء ، كما وصفهم بالصالحين ، ليظهر فضيلة الصلاح . والوصف للمدح ، كما يكون لمدح الموصوف ، يكون لمدح الصفة ، وهذا من لطائف البلاغة ، وهو كما قال حسان رضي الله عنه : @ مَا إن مَدَحْتُ مُحَمداً بمَقالتي لَكِن مَدَحتُ مَقَالتي بِمُحمَّدٍ @@ وفي الآية بيان فضل المهاجرين والأنصار . قال الحاكم : ودلت على فضل عثمان ؛ لأنه جهز جيش العسرة بمال لم يبلغ غيره مبلغه ، وقد جمع تعالى بين ذكر نبيه وذكرهم ، ووصفهم باتباعه ، فوجب القطع بموالاتهم . وقوله تعالى : { فِي سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ } أي : في وقتها ، والساعة تستعمل في معنى الزمان المطلق ، كما تستعمل الغداة والعشية واليوم ، والعسرة حالهم في غزوة تبوك ، كانوا في عسرة من الظَّهر ، يعتقب العشرة على بعير واحد ، وفي عسرة من الزاد ، حتى إن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما ، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم ، يمصها هذا ، ثم يشرب عليها ، ثم يمصها الآخر ، ثم يشرب عليها . وفي عسرة من شدة لَهَبان الحرّ ومن الجدب ، وفي عسرة من الماء ، حتى بلغ بأحدهم العطش أن نحر بعيره ، فعصر فرثه فشربه ، وجعل ما بقي على كبده . وقد حكى القالي في ( أماليه ) : أن العرب كانوا إذا أرادوا توغل الفلوات التي لا ماء فيها ، سقوا الإبل على أتمّ أظمائها ، ثم قطعوا مشافرها ، أو خزموها لئلا ترعى ، فإذا احتاجوا إلى الماء ، افتظوا كروشها ، فشربوا ثميلها ، وهو كثير في الأشعار . كذا في ( العناية ) . ونقل الرازي عن أبي مسلم أنه يجوز أن يكون المراد بـ { سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ } جميع الأحوال والأوقات الشديدة على الرسول ، وعلى المؤمنين ، فيدخل فيه غزوة الخندق وغيرها . وقد ذكر تعالى بعضها في كتابه كقوله سبحانه : { وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ } [ الأحزاب : 10 ] ، وقوله : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ } الآية : [ آل عمران : 152 ] والمقصود منه وصف المهاجرين والأنصار بأنهم اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في الأوقات الشديدة ، والأحوال الصعبة ، وذلك يفيد نهاية المدح والتعظيم . انتهى . أقول : هذا الإحتمال ، وإن كان مما يسعه اللفظ الكريم ، إلا أنه يبعده عنه سياق الآية وسباقها ، القاصران على غزوة تبوك ، ولم يتفق في غيرها عسر في الخروج ، واتباعه عليه السلام ، بل وقع أحياناً في مصاف القتال . وقد اتفق علماء الأثر والسير على تسميتها ( غزوة العسرة ) ، ومن خرج فيها ( جيش العسرة ) . وقوله تعالى : { مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ } أي : عن الحق ، أو الثبات على الاتباع ، للذي نالهم من المشقة والشدة في سفرهم . وفي تكرير التوبة عليهم بقوله تعالى : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } تأكيد ظاهر ، واعتناء بشأنها ، هذا إذا كان الضمير راجعاً إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم ، وإن كان الضمير إلى الفريق الثاني ، فلا تكرار . قال بعضهم : ذكر التوبة أولاً قبل ذكر الذنب ، تفضلاً منه ، وتطييباً لقلوبهم . ثم ذكر الذنب بعد ذلك ، وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى ، تعظيماً لشأنهم ، وليعلموا أنه تعالى قد قبل توبتهم ، وعفا عنهم . ثم أتبعه بقوله : { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } تأكيد لذلك . { وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ } أي : تركوا وأخروا عن قبول التوبة في الحال ، كما قبلت توبة أولئك المتخلفين المتقدم ذكرهم ، والثلاثة هم كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية ، وكلهم من الأنصار ، لم يقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم توبتهم حتى نزل القرآن بتوبتهم . وقوله تعالى : { حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } أي : مع سعتها ، وهو مثل الحيرة في أمرهم ، كأنهم لا يجدون فيها مكاناً يقرون فيه ، قلقاً وجزعاً مما هم فيه ، إذ لم يمكنهم الذهاب لأحد ، لمنع النبيّ صلى الله عليه وسلم من مجالستهم ومحادثتهم . و { إِذَا } ، يجوز كونها شرطية جوابها مقدر ، وأن تكون ظرفية غاية لما قبلها { وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ } أي : قلوبهم من فرط الوحشة والجفوة والغمّ ، بحيث لا يسعها أنس ولا سرور ، وذلك لأنهم لازموا بيوتهم ، وهُجِروا نحواً من خمسين ليلة ، وفيه ترق من ضيق الأرض إلى ضيقهم في أنفسهم ، وهو في غاية البلاغة { وَظَنُّوۤاْ } أي : علموا { أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ ٱللَّهِ } أي : لا مفر من غضب الله { إِلاَّ إِلَيْهِ } أي : إلى استغفاره { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ } أي : ليستقيموا على توبتهم ، ويستمروا عليها ، أو ليعدّوا من جملة التائبين ، أو المعنى : قبل توبتهم ليتوبوا في المستقبل ، إذا صدرت منهم هفوة ، ولا يقنطوا من كرمه : { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } . { يَـٰأيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ } أي : في إيمانهم ومعاهدتهم لله ولرسوله على الطاعة ، من قوله تعالى : { رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 23 ] أو هم الثلاثة ، أي : كونوا مثلهم في صدقهم وخلوص نيتهم . تنبيهات الأول : روى الإمام أحمد والشيخان حديث كعب وصاحبيه مبسوطاً بما يوضح هذه الآية . قال الزهريّ : أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه - وكان قائد كعب من بنيه ، حين عمي - قال : سمعت كعباً يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك . قال كعب : لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة غزاها قط ، إلا في غزاة تبوك ، غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر ، ولم يُعاتب أحد تخلف عنها ، وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد . ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة ، حين توافقنا على الإسلام ، وما أحب أن لي بها مشهد بدر ، وإن كانت بدرٌ أذكر في الناس منها وأشهر . وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة ، والله ! ما جمعت قبلها راحلتين قط ، حتى جمعتهما في تلك الغزاة . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها ، إلا ورّى بغيرها ، حتى كانت تلك الغزوة ، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرّ شديد ، واستقبل سفراً بعيداً ومفاوز ، واستقبل عدواً كثيراً ، فجلّى للمسلمين أمرهم ، ليتأهبوا أهبة عدوهم ، فأخبرهم وجهه الذي يريد ، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ، لا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان - قال كعب : فقلّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه ، ما لم ينزل فيه وحي من الله عزَّ وجلَّ . وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة ، حين طابت الثمار والظلال وأنا إليها أصعر - أي أميل - فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه ، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم ، فأرجع ولم أقض من جهازي شيئاً ، فأقول لنفسي : أنا قادر على ذلك إذا أردت ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً ، والمسلمون معه ، ولم أقض من جهازي شيئاً ، وقلت : أتجهز بعد يوم أو يومين ، ثم ألحقه ، فغدوت بعدُ لأتجهز ، فرجعت ولم أقض شيئاً ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو ، فهممت أن أرتحل فألحقهم - وليتني فعلت - ثم لم يقدّر ذلك لي . فكنت إذا خرجت في الناس ، بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق ، أو رجلاً ممن عذره الله عز وجل . ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك . فقال : ( وهو جالس في القوم بتبوك ) : " ما فعل كعب بن مالك ؟ " فقال رجل من بني سلمة : حبسه يا رسول الله بُراده ، والنظر في عطفيه ! فقال معاذ بن جبل : بئسما قلت . والله ! يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً ! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال كعب بن مالك : فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك ، حضرني بثّي وطفقت أتذكر الكذب ، وأقول : بم أخرج من سخطته غداً ؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي . فلما قيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً ، زاح عن الباطل ، وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبداً ، فأجمعت صدقه ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى ركعتين ثم جلس للناس - فلما فعل ذلك ، جاءه المتخلفون ، فطفقوا يعتذرون إليه ، ويحلفون له ، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً ، فيقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم ، ويستغفر لهم ، ويكل سرائرهم إلى الله تعالى ، حتى جئت ، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ، ثم قال لي : " تعال ! " فجئت أمشي حتى جلست بين يديه ، فقال لي : " ما خلفك ؟ ألم تكن قد اشتريت ظَهْراً ؟ " فقلت يا رسول الله ! إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيتُ أن أخرج من سخطه بعذر . لقد أُعطيتُ جدلاً ، ولكني ، والله ! لقد علمت ، لئن حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى به عني ، ليوشكن الله أن يسخطك عليّ ، ولئن حدثتك بصدق تجد عليّ فيه ، إني لأرجو عقبى ذلك من الله عزَّ وجلَّ . والله ! ما كان لي عذر ، والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك . قال : فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما هذا فقد صدق ، فقم حتى يقضي الله فيك ! " فقمت ، وقام إليّ رجال من بني سلمة ، واتبعوني ، فقالوا لي : والله ! ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا ، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون ، فقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك . قال : فوالله ! ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي . قال : ثم قلت لهم : هل لقي معي هذا أحد ؟ قالوا : نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت ، وقيل لهما مثل ما قيل لك . قلت : فمن هما ؟ قالوا : مرارة بن الربيع العامريّ ، وهلال بن أمية الواقفيّ ، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً ، لي فيهما أسوة . قال : فمضيت حين ذكروهما لي . فقال : ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا ، أيها الثلاثة ، من بين من تخلف . فاجتنبنا الناس ، وتغيروا لنا ، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض ، فما هي بالأرض التي كنت أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة . فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان ، وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم ، فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين ، وأطوف بالأسواق ، فلا يكلمني أحد ، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة ، فأسلم وأقول في نفسي : أحَرَّك شفتيه بردّ السلام عليّ أم لا ؟ ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ ، فإذا التفتُ نحوه أعرض عني . حتى إذا طال عليّ ذلك من هجر المسلمين ، مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة ، وهو ابن عمي ، وأحب الناس إليّ ؛ فسلمت عليه ، فوالله ! ما ردّ عليّ السلام . فقلت له : يا أبا قتادة ، أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله ؟ قال : فسكت . قال : فعدت له فنشدته فسكت ، فعدت له فنشدته فسكت ، فقال : الله ورسوله أعلم . قال ففاضت عيناي ، وتوليت حتى تسورت الجدار . فبينا أنا أمشي بسوق المدينة ، إذا أنا بنبطي من أنباط الشام ، ممن قدم بطعامه يبيعه بالمدينة ، يقول : من يدل على كعب بن مالك ؟ قال : فطفق الناس يشيرون له إليَّ ، حتى جاء فدفع إليَّ كتاباً من ملك غسان ، وكنت كاتباً ، فإذا فيه : ( أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ، وإن الله لم يجعلك بدار هوان ولا مضيعة ، فالحق بنا نواسك ) . قال : فقلت - حين قرأته : وهذا أيضاً من البلاء . قال : فتيممت به التنور فسجرته به . حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين ، إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني يقول : يأمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتزل امرأتك . قال : فقلت : أطلّقها أم ماذا أفعل ؟ فقال : بل اعتزلها ولا تقربها . قال : وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك . قال : فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما يشاء ! قال : فجاءت امرأة هلال بن أمية ، رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن هلالاً شيخ ضعيف ، ليس له خادم ، فهل تكره أن أخدمه ؟ قال : " لا ، ولكن لا يقربك " قالت : وإنه والله ! ما به من حركة إلى شيء ، وإنه والله ! مازال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا . قال : فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك ، فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه . قال : فقلت : والله ! لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أدري ما يقول فيها إذا استأذنته ، وأنا رجل شابّ . قال : فلبثنا عشر ليال ، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا . قال : ثم صليت صلاة الصبح ، صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا ، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا ، قد ضاقت عليّ نفسي ، وضاقت عليّ الأرض بما رحبت ، سمعت صارخاً أوفى على جبل سلع ، يقول بأعلى صوته : أبشر يا كعب بن مالك ! قال : فخررت ساجداً ، وعرفت أن قد جاء الفرج من الله عزَّ وجلَّ بالتوبة علينا ، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر ، فذهب الناس يبشروننا ، وذهب قِبَلَ صاحبيّ مبشرون ، وركض إليّ رجلٌ فرساً ، وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل ، فكان الصوت أسرع من الفرس ، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ فكسوته إياهما ببشراه . والله ! ما أملك يومئذ غيرهما - واستعرت ثوبين فلبستهما ، وانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئونني بتوبة الله ، يقولون : ليهنئك توبة الله عليك ! حتى دخلت المسجد ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ، والناس حوله ، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول ، حتى صافحني وهنأني - والله ! ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره - قال : فكان كعب لا ينساها لطلحة . قال كعب : فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( وهو يبرق وجهه من السرور ) : " أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك ! " قال : قلت : أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال : " لا ، بل من عند الله " قال : وكان رسول الله إذا سُرَّ استنار وجهه ، حتى كأنه قطعة قمر ، حتى يعرف ذلك منه ، فلما جلست بين يديه قلت : يا رسول الله ، إن من توبتي أن أنخلع من مالي ، صدقةً إلى الله وإلى رسوله . قال : " أمسك عليك بعض مالك ، فهو خير لك " قال : فقلت : فإني أمسك سهمي الذي بخيبر . وقلت : يا رسول الله ، إنما نجاني الله بالصدق ، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت . قال : فو الله ! ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث ، منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أحسن مما أبلاني الله تعالى . والله ! ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا ، وإني لأرجو أن يحفظني الله عزّ وجلّ فيما بقي . قال : وأنزل الله : { لَقَدْ تَابَ الله … } إلى آخر الآيات . قال كعب : فو الله ! ما أنعم عليّ من نعمة قط ، بعد أن هداني للإسلام ، أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ألا أكون كَذَبْتُهُ ، فأهلك كما هلك الذين كَذَبُوه ، فإن الله تعالى قال للذين كَذَبوه ، حين أنزل الوحي ، شرّ ما قال لأحد . فقال الله تعالى : { سَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ إِذَا ٱنْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَرْضَىٰ عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } [ التوبة : 95 - 96 ] . قال : وكنا أيها الثلاثة الذين خلِّفنا عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خلفوا ، فبايعهم واستغفر لهم ، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه ، فبذلك قال تعالى : { وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ } وليس الذي ذكر مما خلفنا عن الغزو ، وإنما هو تخليفه إيانا ، وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له ، واعتذر إليه ، فقبل منه . وفي رواية : ونهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن كلامي ، وكلام صاحبيّ ، ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا ، فاجتنب الناس كلامنا ، فلبث كذلك حتى طال عليّ الأمر ، فما من شيء أهمّ إليّ من أن أموت ، فلا يصليّ عليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، أو يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكون من الناس بتلك المنزلة ، فلا يكلمني أحد منهم ، ولا يصلّي عليّ ، ولا يسلّم عليّ . قال : وأنزل الله عز وجل توبتنا على نبيه صلى الله عليه وسلم حين بقي الثلث الأخير من الليل ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة ، وكانت أم سلمة محسنة في شأني ، معتنية بأمري . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أم سلمة ، تيب على كعب بن مالك " قالت : أفلا أرسل إليه فأبشره ؟ قال : " إذاً يحطمكم الناس فيمنعونكم النوم سائر الليل " حتى إذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر ، آذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا - أخرجه البخاريّ ومسلم - . قال ابن كثير : هذا حديث صحيح ثابت متفق على صحته ، وقد تضمن تفسير الآية بأحسن الوجوه وأبسطها . الثاني : قال بعض المفسرين : في الآية دليل على الشدة على من فعل الخطيئة ، وعلى قطع ما يلهي عن الطاعة . الثالث : في الآية دليل على التحريض على الصدق . قال القاشانيّ : في قوله تعالى : { يَـٰأيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } أي : في جميع الرذائل ، بالاجتناب عنها ، خاصة رذيلة الكذب ، وذلك معنى قوله : { وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ } فإن الكذب أسوأ الرذائل وأقبحها ، لكونه ينافي المروءة ، وقد قيل : ( لا مروءة لكذوب ) إذ المراد من الكلام الذي يتميز به الإنسان عن سائر الحيوان إخبار الغير عما لا يعلم ، فإذا كان الخبر غير مطابق ، و لم تحصل فائدة النطق ، وحصل منه اعتقاد غير مطابق ، وذلك من خواص الشيطنة . فالكاذب شيطان . وكما أن الكذب أقبح الرذائل ، فالصدق أحسن الفضائل ، وأصل كل حسنة ، ومادة كل خصلة محمودة ، وملاك كل خير وسعادة ، و به يحصل كل كمال ، وأصله الصدق في عهد الله تعالى الذي هو نتيجة الوفاء بميثاق الفطرة أو نفسه ، كما قال : { رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 23 ] في عقد العزيمة ، ووعد الخليقة . كما قال في إسماعيل : { إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ ٱلْوَعْدِ } [ مريم : 54 ] . وإذا روعي في المواطن كلها ، حتى الخاطر والفكر والنية والقول والعمل ، صدقت المنامات والواردات ، والأحوال والمقامات والمواهب والمشاهدات ، كأنه أصل شجرة الكمال ، وبذرة ثمرة الأحوال . انتهى . ولما أوجب تعالى الكون مع الصادقين ، أشار تعالى إلى أن النفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب كفاية ، فلا يجوز تخلف الجميع ، ولا يلزم النفر للناس كافة ، فقال سبحانه : { مَا كَانَ لأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ أَن … } .