Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 101-103)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } تقدّم معناه في تفسير الآية 41 والآية 89 وقوله : { نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } بيان لحال جديدة من أحوال أهل الكتاب يصحّ أن تكون علّة لجميع ما صدر عنهم من الشناعات في معاداة النبيّ عليه السلام ومجاحدته ، وهي أن فريقاً منهم قد نبذوا كتاب الله الذي يفاخرون به ويحتجّون بأنّهم اكتفوا بالهداية به ، بأنّه لا حاجة لهم بسواه ، نبذوه أن جاءهم رسول مصدّق له بحاله وصفاته - لأن البشارات التي فيه بالنبي الذي يجيء من آل إسماعيل لا تنطبق إلاّ على هذا الرسول - ومصدّق له بمقاله بإعترافه بنبوّة موسى عليه السلام وصدقه فيما جاء به من الهدى والشريعة ، وتوبيخه اليهود على تحريف بعضها ونسيان بعض وترك العمل بما بقي لهم منها . قال الأستاذ الإمام : ليس المراد بنبذ الكتاب وراء ظهورهم أنّهم طرحوه برمّته ، وتركوا التصديق به في جملته وتفصيله ، وإنّما المراد أنّهم طرحوا جزءاً منه وهو ما يبشّر بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ويبيّن صفاته ويأمرهم بالإيمان به وإتباعه ، أي فهو تشبيه لتركهم إيّاه وإنكاره بمَنْ يلقي الشيء وراء ظهره حتى لا يراه فيتذكره . وترك الجزء منه ، كتركه كلّه ؛ لأن ترك البعض يذهب بحرمة الوحي من النفس ويجرّئ على ترك الباقي { مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي ٱلأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } [ المائدة : 32 ] . قال : ولا فرق في هذا الحكم بين اليهود والنصارى ، فكلّ منهما مبشّر بالنبيّ صلى الله عليه وسلم في كتابه ، وكلّ منهما قد نبذ الكتاب فلم يعمل به . ولم يضر النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الجحود من الفريق الجاحد ؛ لأن دعوته قد قبلها الآخرون واهتدى بها مَنْ لا يحصى من الأمّتين ومن سائر الأمم ، وإنّما يضر الجاحدين لأنّهم تركوا كتابهم الذي يزعمون أنّه المنجي والمخلّص لهم وحُرموا من هداية خاتم النبيّين ، التي هي أكمل هداية أنعم الله بها على العالمين . قال تعالى بعد ما ذكر نبذهم الكتاب : { كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي نبذوه نبذ مَنْ لا يعلم أنّه كتاب الله ، يريد أنّهم بالغوا في تركه وإهماله ، ومَنْ ترك شيئاً من أمر الله وهو يعلم أنّه أمره ، ولكن طاف به طائف من الشيطان فغلب على أمره فإنّه لا يلبث أن يعود ، ولكن هذا الفريق النابذ لكتاب الله تعالى من حيث هو مبشّر بالنبيّ وآمر باتباعه ، يتمادى بهم الزمان ولا يتوبون ولا يرجعون ، وما أحسن التعبير عن ذلك بنفي الحال والإستقبال دون نفي الماضي . مبحث السحر وهاروت وماروت ثم ذكر تعالى أنّ أولئك الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم مجاحدة للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، وحسداً له قد تبدّلوا الكفر بالإيمان ، واشتروا الضلالة بالهدى { وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ } من الإنس في قصصها وأساطيرها ، أو من الجن في وسوستها ، أو منهما جميعاً ، على حدّ قوله تعالى : { شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً } [ الأنعام : 112 ] { عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ } أي ما كانت تتلو على عهده وفي أيام ملكه ، إذ زعموا أنّ ملكه قام على أساس السحر والطلسمات ، وأنّه ارتدّ في آخر عمره وعبد الأصنام مرضاة لنسائه الوثنيّات { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ } وما سحر { وَلَـٰكِنَّ } أولئك { ٱلشَّيَـٰطِينَ } الذين يسندون إليه ما انتحلوه من السحر ، وما تلبّسوا به من الكفر ، هم الذين { كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ } ليفتنوا به العامة ، ويضلونهم عن طلب الأشياء من أسبابها الظاهرة ومناهجها المشروعة . هذه الأوهام والأكاذيب على نبي الله سليمان عليه السلام ممّا افتجره بعض الدجالين من بني إسرائيل ، ووسوسوا به إلى بعض المسلمين فصدّقوهم في بعض ما زعموه من حكايات السحر ، وكذّبوهم فيما رموا به سليمان من الكفر ، وإنّك لترى دحاجلة المسلمين إلى اليوم يتلون أقساماً وعزائم ، ويخطّون خطوطاً وطلاسم ويسمّون ذلك خاتم سليمان وعهوده ، ويزعمون أنّها تقي حاملها من إعتداء الجن ومسّ العفاريت ، ولقد رأى كاتب هذا التفسير شيئاً من ذلك ، وكان في أيام حداثته يصدّق به ويعتقد فائدته . وقد زعم اليهود أن سليمان سحر ودُفن السحر تحت كرسيّه ، وأنه أضاع خاتمه الذي كان به ملكه ، فوقع في يد آخر وجلس مجلسه للحكم ، إلخ ما خلطوا فيه التاريخ بالدجل . وروي عنهم أن سليمان هو الذي جمع كتب السحر من الناس ودفنها تحت كرسيّه ثم استخرجها الناس وتناقلوها . وفي رواية أخرى أنّه إنّما دفن تحت كرسيه كتباً أخرى في العلوم فلما استخرجت أشاع الشياطين أنّها كتب سحر ، وأنشأ الدجالون بعد ذلك ينتحلون ما شاءوا وينسبونه إلى تلك الكتب . ولا شك أنّ ما قالوه على سليمان وملكه من خبر السحر والكفر مكذوب إفتراه أهل الأهواء ، وقد قصّه الله تعالى علينا ، لنعتبر بما افتراه هؤلاء الناس على الأنبياء ، وبترجيح فريق من خلفهم الإشتغال بذلك على الإهتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم حتى إنّهم نبذوا كتابهم الذي بشر به وراء ظهورهم . ومن البديهي أن ذكر القصّة في القرآن لا يقتضي أن يكون كل ما يحكى فيها عن الناس صحيحاً ، فذكر السحر في هذه الآيات لا يستلزم إثبات ما يعتقد الناس منه ، كما أن نسبة الكفر إلى سليمان التي علمت من النفي ، لا تستلزم أن تكون صحيحة ؛ لأنّها ذُكرت في القرآن ولو لم يكن ذكرها في سياق النفي . قال الأستاذ الإمام ما مثاله : بيّنا غير مرّة أن القصص جاءت في القرآن لأجل الموعظة والإعتبار ، لا لبيان التاريخ ولا للحمل على الإعتقاد بجزئيات الأخبار عند الغابرين ، وإنّه ليحكى من عقائدهم الحق والباطل ، ومن تقاليدهم الصادق والكاذب ، ومن عاداتهم النافع والضار ، لأجل الموعظة والإعتبار ، فحكاية القرآن لا تعدو موضع العبرة ولا تتجاوز موطن الهداية ، ولا بدَّ أن يأتي في العبارة أو السياق وأسلوب النظم ما يدلّ على إستحسان الحسن واستهجان القبيح . وقد يأتي في الحكاية بالتعبيرات المستعملة عند المخاطبين أو المحكي عنهم ، وإن لم تكن صحيحة في نفسها كقوله : { كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَانُ مِنَ ٱلْمَسِّ } [ البقرة : 275 ] وكقوله : { بَلَغَ مَطْلِعَ ٱلشَّمْسِ } [ الكهف : 90 ] وهذا الأسلوب مألوف فإنّنا نرى كثيراً من كتّاب العربية وكتّاب الإفرنج يذكرون آلهة الخير والشر في خطبهم ومقالاتهم ، لا سيّما في سياق كلامهم عن اليونان والمصريّين القدماء ، ولا يعتقد أحد منهم شيئاً من تلك الخرافات الوثنيّة . ويقول أهل السواحل غربت الشمس أو سقط قرص الشمس في البحر أو في الماء ، ولا يعتقدون ذلك وإنّما يعبّرون به عن المرئي . جاء ذكر السحر في مواضع متعدّدة في القرآن ، وأكثره في قصّة موسى وفرعون وذكر هنا في الكلام عن اليهود . وإذا أردنا فهمه من عرف اللغة وجدنا أن السحر عند العرب كل ما لطف مأخذه ودق وخفي ، وقالوا سحره وسحَّره بمعنى خدعه وعلّله ، وقالوا عين ساحرة وعيون سواحر ، وفي الحديث الصحيح : " إن من البيان لسحراً " ، والسحر بالفتح وبالتحريك الرئة ، وهي أصل هذه المادّة ، والرئة في الباطن ، فما لطف مأخذه ودق صنعه حتى لا يهتدي إليه غير أهله ، فهو باطن خفي ، ومنه الخداع ، وهو أن يظهر لك شيئاً غير الواقع في نفس الأمر ، فالواقع باطن خفي ، وتأثير العيون في عشّاق الحسان ، والكلام البليغ في عشّاق البيان ، ممّا يخفى مسلكه ويدق سببه ، حتى يعسر على أكثر الناس الوقوف على العلّة في تأثيره . وقد وصف الله السحر في القرآن بأنّه تخييل يخدع الأعين فيريها ما ليس بكائن كائناً فقال : { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ } [ طه : 66 ] والكلام في حبال السحرة وعصيّهم وفي آية أخرى { سَحَرُوۤاْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ } [ الأعراف : 116 ] وفي هذه الآية التي نفسّرها أنّ السحر كان يؤخذ بالتعليم والتاريخ يشهد بهذا ، وقد كان المصريون يطلقون لقب الساحر على العالم كما يؤخذ من قوله تعالى : { وَقَالُواْ يَٰأَيُّهَ ٱلسَّاحِرُ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ } [ الزخرف : 49 ] . ومجموع هذه النصوص يدلّ على أنّ السحر إمّا حيلة وشعوذة ، وأمّا صناعة علميّة خفيّة يعرفها بعض الناس ويجهلها الأكثرون ، فيسمّون العمل بها سحراً لخفاء سببه ولطف مأخذه ، ويمكن أن يعدّ منه تأثير النفس الإنسانيّة في نفس أخرى لمثل هذه العلّة . وقد قال المؤرّخون : إن سحرة فرعون قد استعانوا بالزئبق على إظهار الحبال والعصي بصور الحيّات والثعابين وتخييل أنّها تسعى . وقد إعتاد الذين اتخذوا التأثيرات النفسيّة صناعة ووسيلة للمعاش أن يستعينوا بكلام مبهم وأسماء غريبة اشتهر عند الناس أنّها من أسماء الشياطين وملوك الجان ، وأنّهم يحضّرون إذا دعوا بها ويكونون مسخّرين للداعي . ولمثل هذا الكلام تأثير في إثارة الوهم عرف بالتجربة ، وسببه إعتقاد الواهم أن الشياطين يستجيبون لقارئه ويطيعون أمره ، ومنهم مَن يعتقد أن فيه خاصيّة التأثير ، وليس فيه خاصيّة وإنّما تلك العقيدة الفاسدة تفعل في النفس الواهمة ما يغني منتحل السحر عن توجيه همّته وتأثير إرادته . وهذا هو السبب في إعتقاد الدهماء أن السحر عمل يستعان عليه بالشياطين وأرواح الكواكب . وقد اختلف المتكلّمون والمفسّرون والفقهاء في حقيقة السحر وفي أحكامه ، وعدّه بعضهم من خوارق العادات ، وفرّقوا بينه وبين المعجزة ، ولم يذكروا في فروقهم أن السحر يتلقى بالتعليم ويتكرر بالعمل ، فهو أمر عادي قطعاً بخلاف المعجزة . قال الأستاذ الإمام : في قوله تعالى : { يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ } [ البقرة : 102 ] وجهان : أحدهما : أنّه متصل بقوله : { وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ كَفَرُواْ } أي إن الشياطين هم الذين يعلّمون الناس السحر . والثاني : وهو الأظهر أنّه متصل بالكلام عن اليهود وأن الكلام في الشياطين قد انتهى عند القول بكفرهم . وانتحال اليهود لتعليم السحر أمر كان مشهوراً في زمن التنزيل ، ولا يزالون ينتحلون ذلك إلى اليوم . أي إن فريقاً من اليهود نبذوا كتاب الله واتّبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ، وهاهنا يقول القائل : بماذا اتبعوا أولئك الشياطين الذين كذّبوا على سليمان في رميه بالكفر وزعمهم أنّ السحر إستخرج من كتبه التي كانت تحت كرسيه ؟ فأجاب على طريق الإستئناف البياني { يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ } إلخ ، ونفى الكفر عن سليمان - وإلصاقه بالشياطين الكاذبين ، ذكر بطريق الإعتراض فعلم أيضاً أنّهم اتبعوا الشياطين بهذه الفرية أيضاً . وإنّما كان القصد إلى وصف اليهود بتعليم السحر ؛ لأنّه من السيئات التي كانوا متلبّسين بها ويضرون بها الناس خداعاً وتمويهاً وتلبيساً . ثم قال : { وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ } فأجمل بهذه العبارة الوجيزة ، خبر قصّة كانوا يتحدثون بها ، كما أجمل في ذكر تعليم السحر فلم يذكر ما هو ؟ أشعوذة وتخييل ؛ أم خواص طبيعيّة ، وتأثيرات نفسيّة ؟ وهذا ضرب من الإعجاز في الإيجاز انفرد به القرآن - يذكر الأمر المشهور بين الناس في وقت من الأوقات لأجل الإعتبار به فينظّمه في أسلوب يمكن لكل أحد أن يقبله فيه مهما يكن إعتقاده لذلك الشيء في تفصيله ، ألاّ ترى كيف ذكر السحر هنا ، وفي مواضع أخرى بأساليب لا يستطيع أن ينكرها مَنْ يدّعي أن السحر حيلة وشعوذة ، أو غير ذلك ممّا ذكرناه ، ولا يستطيع أن يردّها مَنْ يدّعي أنه من خوارق العادات ؟ والحكمة في ذلك أن الله عزّ وجلّ قد وكّل معرفة هذه الحقائق الكونيّة إلى بحث الإنسان واشتغاله بالعلم ؛ لأنّه من الأمور الكسبيّة ، ولو بيّن مسائلها بالنصّ القاطع لجاءت مخالفة لعلم الناس واختبارهم في كل جيل لم يرتق العلم فيه إلى أعلى درجة ، ولكانت تلك المخالفة من أسباب الشك أو التكذيب ، فإنّنا نرى من الناس مَنْ يطعن في كتب الوحي ؛ لتفسير بعض تلك الأمور المجملة بما يتراءى لهم ، وإن تكن نصاً ولا ظاهراً فيه ، ويزعمون أن كتاب الدين جاء مخالفاً للعلم ، وإنّ كان ذلك الذي يطلقون عليه اسم العلم ظنيّاً أو فرضيّاً . في ( الملكين ) قراءتان فتح اللام وكسرها ، فالأولى قراءة الجمهور والثانية قراءة ابن عباس والحسن وأبي الأسود والضحاك . وحمل بعضهم قراءة الفتح على قراءة الكسر ويؤيّده ما قيل إن المراد بهما داود وسليمان عليهما السلام . وقيل بل هما رجلان صاحبا وقار وسمت فشُبّها بالملائكة ، وكان يؤمّهما الناس بالحوائج الأهليّة ويجلّونهما أشد الإجلال فشُبّها بالملوك ، وتلك عادة الناس فيمن ينفرد بالصفات المحمودة يقولون : هذا مَلَك وليس بإنسان ، كما يقولون فيمن كان سيّداً عزيزاً يظهر الغنى عن الناس من حيث يحتاجون إليه : وهذا سلطان زمانه . جلّت حكمة الله في خلقه فقد قدَّ هؤلاء الآدميّين من أديم واحد ، كان الناس على عهد هاروت وماروت - اللذين كان يتحدّث بخبرهما ولا يحدّد تاريخهما - على مثالهم اليوم لا يقصدون للفصل في شؤونهم الأهليّة من الجهة الروحانيّة ، إلاّ إلى أهل السمت والوقار اللابسين لباس أهل التقوى والصلاح ؛ هذا ما نشاهدهم عليه في زماننا ، وهذا ما حكى الله تعالى عنهم في الزمن القديم ، وقال الأستاذ الإمام : لعلّ الله تعالى سمّاهما ملَكين بفتح اللام حكاية لإعتقاد الناس فيهما ، وأجاز أيضاً كون إطلاق لفظ الملكين عليهما مجازاً ، كما قال بعض المفسّرين . قال تعالى في اليهود : { يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ } [ البقرة : 102 ] والظاهر من العطف أن ما أنزل عليهما هو غير السحر ، ضمّ إليه لأنّه من جنسه في كون تعليمه سيّئة مذمومة ، أو هو لتغاير الإعتبار أو النوع . وليس معنى الإنزال عليهما أنّه وحي من الله كوحيه للأنبياء ، فيشكل عدّه من الشر والباطل الذي يُذم تعلّمه ، فإنّ كلمة ( أنزل ) تستعمل في مواضع لا صلة بينها وبين وحي الأنبياء . قالوا : أنزلت حاجتي على كريم ، وأنزل ليّ عن هذه الأبيات ، ويقال : قد أنزل الصبر على قلب فلان ، وقال تعالى : { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ } [ الحديد : 25 ] وقال : { ثُمَّ أَنَزلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ التوبة : 26 ] ولعل التعبير عمّا أوتياه من العلم بالإنزال ؛ لأنّه لم يكن يعرف له مأخذ غيرهما ، يراد أنّهما ألهماه إلهاماً واهتديا إليه من غير أستاذ ولا معلّم . ويصحّ أن يسمّى مثل هذا وحياً لخفاء منبعه ، وليس الوحي وإلهام الخواطر خاصّاً - في عرف اللغة ولا عرف القرآن - بالأنبياء ولا بما يكون موضوعه خيراً أو حقّاً ، فقد قال تعالى : { وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ } [ النحل : 68 ] وقال : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ } [ القصص : 7 ] وقال : { شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً } [ الأنعام : 112 ] وقال الشاعر : @ رأس الغواية في العقل السقيم فما فيه فأكثره وحي الشياطين @@ وذكر ابن جرير الطبري وجها آخر في تفسير { وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ } ونقله كثير من المفسّرين ، وهو إنّ ( ما ) نافية أي إن اليهود يعلّمون الناس السحر ويرتقون بسنده إلى الملكين ببابل ، وما أنزل السحر على الملكين فكيف كانوا يعلّمونه بني إسرائيل ؟ وقد ضعّفوه بأن الثابت في الواقع أنّ بني إسرائيل كانوا يعلّمون الناس السحر وما أُنزل على الملكين . وقد أجاز هذا التضعيف الأستاذ الإمام ، على أنّه يمكن أن يراد به نفي الإنزال خاصّة ، أي أن ذلك السحر الذي ينسبونه إلى الملكين لم ينزل عليهما إنزالا من الله فينظّمه اليهود في سلك العلوم المحمودة ، ويزعمون أنّه حق ، وإنّما هو شيء افتجراه واخترعاه من عند أنفسهما . ثم قال : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } أي إن ما عندنا هو أمر يبتلي به الله الناس ويختبرهم ، فلا تتعلّم ما هو كفر ، فإن أصرّ علّماه . هذا ما عليه الجمهور واقتصر عليه الأستاذ الإمام في الدرس . وقال البيضاوي : وما يعلّمان أحدا حتى ينصحاه ويقولا له : إنّما نحن إبتلاء من الله فمَنْ تعلّم منّا وعمل به كفر ، ومَنْ تعلّم وتوقّى عمله ثبت على الإيمان ، فلا تكفر بإعتقاد جوازه والعمل به ، وفيه دليل على أن تعلم السحر وما لا يجوز إتباعه غير محظور وإنّما المنع من إتباعه والعمل به . اهـ . ويجوز أن يكون المعنى إنّما نحن أولو فتنة نبلوك ونختبرك أتشكر أم تكفر ، وننصح لك بأن لا تكفر . ولعلّهما يقولان هذا للمحافظة على حسن إعتقاد الناس بفضلهما إذ كانوا يقولون هما ملكان . وإنّنا نسمع الدجاجلة الذين ينتحلون مثل هذا ويوهمون الناس أنّهم روحانيون ، يقولون لمَنْ يعلّمونهم الكتابة للمحبّة وللبغض : نوصيك بأن لا تكتب هذا لجلب امرأة متزوّجة إلى حب رجل غير زوجها . ولا تكتب لأحد الزوجين بأن يبغض الآخر ، وأن تخصّ هذه الفوائد بالمصلحة كالحب بين الزوجين ، والتفريق بين العاشقين الفاسقين . وإنّما يقولون هذا ليوهموا الناس أن علومهم إلهيّة ، وإنّ صناعتهم روحانيّة ، وأنّهم صحيحوا النيّة . وقد كان اليهود يسندون سحرهم إلى ملكين ببابل ، ونرى دجاجلة المسلمين من المغاربة وغيرهم ، يسندون خزعبلاتهم إلى " دانيال النبيّ " ، وهذا المعنى يصحّ على القول بأنّ قوله : " وما أنزل " نفي بحسب توجيهنا السابق ، وقال البيضاوي : إنّ معناه على وجه النفي : إنّما نحن مفتونون فلا تكن مثلنا . قال تعالى : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } صيغة المضارع في هذه الجملة وما قبلها لتصوير ما كان كأنّه كائن ، فالكلام تصوير للقصّة لا حكم بمضمونها ، أي أنّهم كانوا يتعلّمون منهم ما وضع لأجل التفريق بين الزوجين وهو نحو ما يسمّيه الدجاجلة الآن " كتاب البغضة " وليس في العبارة ما يدلّ أن ما يتعلّمونه لهذا الغرض هو مؤثّر فيه بطبعه ، أو بسبب خفي ، أو بخارقة لا تعقل لها علّة ، ولا أنّه غير مؤثّر ، وليس فيها بيان لما يتعلّمونه هل هو كتابة تمائم ، أو تلاوة رقى وعزائم ، أو أساليب سعاية ، أو دسائس تنفير ونكاية ، أو تأثير نفساني ، أو وسواس شيطاني ؟ وأي شيء من ذلك ثبت علماً ، كان تفصيلاً لما أجمله القرآن في الواقع . ولا يجوز لنا أن نتحكّم بتفصيل ما أجمله القرآن فنحمله على أحد ما ذكر أو على غيره . ولو علم الله أن الخير لنا في بيان ذلك لبيّنه كما قلناه في مثله مراراً . لم يبيّن القرآن ذلك الإجمال ولا حقيقة ذلك العلم ؛ لأنّه موكول إلى بحث البشر وارتقائهم في العلم كما تقدّم ، ولكنّه لم يهمل ما يتعلّق بالعقائد وبيان الحق فيها ، ولذلك قال بعد حكاية السحر عنهم : { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } أي أنّهم ليس لهم قوّة غيبيّة وراء الأسباب التي ربط الله بها المسبّبات ، فهم يفعلون بها ما يوهمون الناس أنّه فوق إستعداد البشر ، وفوق ما منحوا من القوى والقدر ، فإذا اتّفق أن أُصيب أحد بضرر من أعمالهم ، فإنّما ذلك بإذن الله ، أي بسبب من الأسباب التي جرت العادة بأن تحصل المسبّبات من ضرّ ونفع عند حصولها بإذن الله تعالى . وهذا الحكم التوحيدي هو المقصد الأوّل من مقاصد الدين ، فالقرآن لا يترك بيانه عند الحاجة ، بل يبيّنه عند كل مناسبة وربّما ترد في القرآن قصّة مثل هذه القصّة لأجل بيان الحق في مسألة إعتقاديّة كهذه المسألة ؛ لأن إيراد الأحكام في سياق الوقائع أوقع في النفس وأعصى على التأويل والتحريف . ثم قال بعد نفي القوّة التي وراء الأسباب عنهم : { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } يضرّهم لأنّه سبب في الإضرار بالناس وهو محرّم يعاقب الله تعالى عليه في الآخرة ، ومَنْ عُرف بإيذاء الناس يمقته الناس ويكونون عليه . ولمّا كان بعض الضار من جهة ، نافعاً من جهة أخرى ، وربّما كانت منفعته أكبر من إثمه ، نفى المنفعة بعد إثبات المضرّة ، فهذا النفي واجب في قانون البلاغة لا بدّ منه . وقد صدق الله تعالى ، فإنّنا نرى منتحلي السحر وما في معناه أفقر الناس وأحقرهم ، ولو عقل السفهاء الذين يختلفون إليهم يلتمسون المنافع لأنفسهم والإيقاع بأعدائهم لعلموا أن الشقي في نفسه لا يمكن أن يهب السعادة لغيره ؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه . هذه حالهم في الدنيا فكيف يكونون في الآخرة يوم توفّى كلّ نفس ما كسبت وهم لا يظلمون لا جرم أنّها تكون حالا سوءى ، واليهود يعلمون ذلك كما قال : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَٰـقٍ } أي إنّهم يعلمون أن مَنْ اختار هذا واستبدله بما آتاه الله من أصول الدين الحق وأحكام الشريعة العادلة الموصلين إلى سعادة الدنيا والآخرة فليس له نصيب في نعيم الآخرة ، وذلك أن التوراة قد حظرت تعليم السحر وجعلته كعبادة الأوثان وشدّدت العقوبة على فاعله وعلى إتباع الجن والشياطين والكهّان ، ولا ينافي هذا العلم قوله : { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } . فإنّ العلم علمان : علم تفصيلي متمكن من النفس متسلّط على إرادتها يحرّكها إلى العمل ، وعلم إجمالي خيالي يلوّح في الذهن مبهماً عندما يعرض ما يذكر به ككتاب وإلقاء سؤال ، وهو يقبل التحريف والتأويل ، وليس له منفذ إلى الإرادة ولا سبيل . فقد كانوا يستحلّون أكل السحت ، كالرشوة والربا ، بالتأويل كما يفعل غيرهم اليوم وقبل اليوم . ولو كانوا يعلمون حرمة ما ذكر علماً تفصيليّاً يستغرق جميع جزئيات المحرّم ، ويفقهون علّة التحريم وسرّه ، ويصدّقون بما توعّد الله مرتكبه من العقوبة في الآخرة تصديقاً جازماً ، ويتذكّرونه وقت العمل بما للعقيدة من السلطان على الإرادة ، لما ارتكبوا ما ارتكبوه مع الإصرار عليه ، ولكنّهم فقدوا هذا النوع من العلم ولم يغن عنهم تصوّر أن السحر والخداع كلاهما حرام كالربا والرشوة ؛ لأن في الكتاب عبارة تدلّ على ذلك ، فإنّ العبارة تحتمل ضروباً من التأويل ، ككون النهي خاصّاً بمعاملة شعب إسرائيل ، وكانوا يقولون : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ٱلأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } [ آل عمران : 75 ] إذا أكلنا أموالهم بالباطل ، وكاشتراط الضرر في السحر مع ادّعاء أنّ ما يأتونه منه نافع غير ضار ، وغير ذلك . وإنّنا نرى كثيراً من الحرّمات قد انتهكت في المسلمين بمثل تلك التأويلات ، حتى جوّز بعض المشتغلين بالفقه هدم ركن من أعظم أركان الإسلام بالحيلة وهو ركن الزكاة الذي يحارب تاركوه شرعاً ، وترى هذه الحيل قد أثّرت في الأمّة أسوأ التأثير فقلّما يوجد فيها غني يؤدّي الزكاة . ولا يعتقد المتمسّك بالدين من هؤلاء الأغنياء أنّه متعرّض لمقت الله وعقوبته ، وأنّه قد فسق عن أمر ربّه ؛ لأنّه يمنع الزكاة بحيلة يسمّيها شرعيّة ، وقد أخذها عمّن يُسمّون فقهاء ويفتخرون بأنّهم ورثة الأنبياء . ثم إن الحيل على التزوير وأكل أموال الناس بالباطل لها في بعض الكتب وعلى ألسنة كثيرين من أصحاب العمائم مجال واسع وميدان فسيح ، ولها أقبح التأثير في إفساد العامّة واستباحتهم المحظورات ، ولقد صارت هذه الحيل على الله عزّ وجلّ والتأويلات الباطلة الهادمة لدينه ، معدودة من علم الدين حتّى إنّه ليأتيها من لا منفعة له في إتيانها ممّن يعدّون صالحين . ومن أعجب ذلك أن بعض أهل العلم الصالحين يشهد الزور بمثل هذه التأويلات ، وقد نقل الثقات أن طالب الشهادة يستعطفه ويستميل قلبه بالشكوى من الظلم وإرادة الإستعانة بشهادته على دفع المظلمة والتخلّص من الأذى فيأمر الشيخ بأن تطوى الورقة المشتملة على قول الزور بحيث يحجب سواد الكتابة فلا يراه ويضع توقيعه وختمه في ذيلها كأنّه وضعهما على ورقة خالية ، وهو يعلم أنّها ليست خالية من الكتابة ، ويعرف ما فيها من الكذب . فهل نقول إنّه غير عالم بقوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ } [ الفرقان : 72 ] وقوله : { إِنَّمَا يَفْتَرِي ٱلْكَذِبَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ النحل : 105 ] وبما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي بكرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال وكان متكئاً " ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر ؟ الإشراك بالله وعقوق الوالدين - ثم قعد فقال - ألاَّ وقول الزور وشهادة الزور " فما زال يكرّرها حتى قلنا ليته سكت . وبما روياه من حديث أبي هريرة مرفوعاً أيضاً " آية المنافق ثلاث إذا حدّث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان " وفي رواية لغيرهما " ثلاث مَنْ كنّ فيه فهو منافق وإن صام وصلّى وحج واعتمر وقال إنّه مسلم " وذكرهن - بلى إنّه عالم بكل ذلك ولكنّه التأويل أفسد على كل أهل دين دينهم . أقول : أشار الأستاذ الإمام إلى ما كان من إقدام هذا العالم العابد على شهادة الزور واستحلالها بتلك الحيلة السخيفة ، وذكر أمثلة أخرى وقد تذكرت عند كتابة الحديث في المنافقين أن بعض شيوخ الأزهر المعروفين كان وعدني وعداً وأخلف فسألته به فقال : إن فقهاءنا الحنفيّة قالوا بأنّ الوفاء بالوعد غير واجب ، فقلت وقد تميّزت من الغيظ : إن مَنْ يقول هذا القول بعدما ورد من النصوص الصريحة في الوفاء وفي الوعيد على تركه فهو مخطيء وقوله مردود كما ورد في الصحيح ( بل قلت أكثر من هذا ) وأنّني أبرّيء الأئمّة من القول بحل إخلاف الوعد من غير عذر صحيح ، ولكنّني أعذر الفقهاء إذا قالوا بأنّه ليس للقاضي أن يحكم على مَنْ وعد بالوفاء ويلزمه ذلك إلزاماً ، ولا أعذر مَنْ يقول إن الوفاء مستحب وتركه جائز ، وإن كان هو المعروف في أكثر كتب الفقه المتداولة . ولقد صار العالم المسلم عاجزاً في أكبر بلاد المسلمين عن إنكار ما يخالف هدى الكتاب والسنّة من كتب الميّتين ، لا سيّما إذا اشتهروا بإختيار كتبهم للتدريس . وحجّة هؤلاء المقلّدين على نصر كتب الميّتين وترجيحها على كتاب الله وسنّة رسوله ، هي أنّ القادرين على الإهتداء بهما قد انقرضوا ، فوجب على المسلمين ترك العمل بهما والإعتماد على كتب العلماء المتأخرين الذين استنبطوا من قواعد أئمّتهم جميع مسائل الدين ، فعلينا أن نأخذ بكل ما قالوا ، وأن لا ننظر في الكتاب والسنّة إلاّ للتبرّك بهما ، فإنّ رأينا خلافاً بين قول الله ورسوله وقول الفقيه لا يحتمل التأويل ، فعلينا أن نتهم عقولنا وأفهامنا وننزّه فهم الفقيه الميّت وعقله ، ونعمل بقوله مكابرين أنفسنا التي سجّل عليها الحرمان من فهم الكتاب المبين والسنّة البيضاء ، التي وصفها صاحبها بأن ليلها كنهارها ، أي لا يشتبه فيها أحد ! ! ! هذا ما عليه جماهير المسلمين ، ولم يبعد من قبلهم عن كتاب ربّهم أشدّ من هذا البعد ، وسيعودون إليه بعد حين ، فقد أخذهم العذاب على تركه { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنينَ } [ الروم : 47 ] . ثم قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ وٱتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ خَيْرٌ } أي لو أنّهم استبدلوا الإيمان بما جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذا السحر الخادع وإتباع نزغات الشياطين ، أو لو آمنوا بكتابهم إيماناً حقيقيّاً ومنه البشارة بالنبيّ والأمر بإتّباعه ، واتقوا بالعمل به والمحافظة على حدوده مغبّة ما ينتظره المجرمون من العقوبة على العصيان ، لكان ثواب الله لهم على الإيمان الصحيح والعمل الصالح خيراً لهم من جميع ما توهموه في المخالفة من المنافع . ثم قال : { لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أي إنّهم في كلّ ما هم عليه من الأباطيل ، ومن زعمهم أنّها ترجع إلى الكتاب بضروب من التأويل ، يتّبعون الظنون ويعتمدون على التقليد ، وليسوا على شيء من العلم الصحيح ، ولو كانوا يعلمون علماً صحيحاً لظهر أثره في أعمالهم ولآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم واتّبعوه فكانوا من المفلحين . ومن مباحث اللفظ في الآيات : أن بابل بلدة قديمة كانت في سواد الكوفة ( قبل الكوفة ) في أشهر أقوال المفسّرين ، ويؤخذ من بعض كتب التاريخ أنّها كانت في الجانب الشرقي من نهر الفرات بعيدة عنه ، ويقال : إنّ أصل اشتقاقها في العبرانيّة يدلّ على الخلط ، إشارة إلى ما يرويه العبرانيّون من إختلاط الألسنة هناك . وهاروت وماروت إسمان أعجميّان ، ولو كانا مشتقّين من الهرت والمرت كما زعم بعضهم لما منعا من الصرف . و " من " في قوله تعالى : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ } لإستغراق النفي وتأكده ، وقد شدّد الأستاذ الإمام كعادته الإنكار على مَنْ قال إنّها زائدة ، وقال : إنّما الزائدة ما يُذكر للتحلية ولا يكون له معنى ما ، وفاقاً لكثير من المفسّرين . والمثوبة الثواب و { لَمَثُوبَةٌ } خبر { وَلَوْ } . قال الأستاذ : أي لكانت مثوبة من الله خيراً . وقد قدّروا لها فعلاً فقالوا : الأصل لأثيبوا مثوبة ، فحذف الفعل وركّب الباقي جملة إسميّة ليدلّ على ثبات المثوبة ، ونُكّرت لبيان أنّها مهما قلت فهي خير لهم ، وأصلها الثوب بمعنى الرجوع ، كأنّ المحسن يثوب إلى مَنْ أحسن إليه بعد الإعراض .