Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 104-105)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أقول : هذا خطاب للمؤمنين في أمر له علاقة بما كان بينهم وبين اليهود فهو متعلّق بماضي السياق الخاص ببني إسرائيل ، وبدء إنتقال منه إلى سياق مشترك بين المؤمنين واليهود والنصارى جميعاً في أمر الدين . و " راعنا " كلمة كانت تدور على ألسنة الصحابة في خطاب النبيّ صلى الله عليه وسلم . والمعنى المتبادر منها لغةً هو : راعنا سمعك ، وهو كأرعنا سمعك ، أي اسمع لنا ما نريد أن نسأل عنه ونراجعك القول فيه لنفهمه عنّك ، أو راقبنا وأنتظر ما يكون من شأننا في حفظ ما تلقيه علينا وفهمه . قال في مجاز الأساس : " وراعيت الأمر : نظرت إلام يصير . وأنا أراعي فلاناً : أنظر ماذا يفعل ، وأرعيته سمعي وأرعني سمعك وراعني سمعك " اهـ ، ولكن الله تعالى نهى المؤمنين عن قول هذه الكلمة والمشهور في كتب التفسير : أنّ سبب ذلك هو أن اليهود سمعوها فافترصوها وصاروا يخاطبون بها النبيّ صلى الله عليه وسلم لاوين ألسنتهم بها لتوافق كلمة شتم بلسانهم العبراني ، قيل : كانوا ينطقون بها " راعينا " وقيل : كانوا يريدون بتحريفها نسبته إلى الرعونة وفي سورة النساء : { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَٰعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي ٱلدِّينِ } [ النساء : 46 ] الآية . الأستاذ الإمام : إنّ هذا النهي له صلة وارتباط بشأن اليهود لا محالة ؛ لأنّ الكلام لا يزال في شؤونهم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، ولكن هذا لا يستلزم أن يكون سبب النهي هو كون الكلمة تستعمل للشتم في العبرانيّة ، ولا أقول بهذا إلاّ بنقل صحيح عمّن يعرف هذه اللغة ، وللمفسّرين وجوه أخرى في تعليل النهي فعن مجاهد وغيره أنّ معنى الكلمة " خلاف " والمراد لا تخالفوه كما يفعل أهل الكتاب ، ولكن اعترض على هذا الوجه بأن ليس له شاهد من اللغة . والمعروف في اللغة أن " راعنا " من المراعاة . وهي تقتضي المشاركة في الرعاية ، أي أرعنا نرعك ، وفي خطاب النبيّ بذلك من سوء الأدب ما هو ظاهر ، فالنهي عنه تأديب كقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } [ الحجرات : 2 ] كأنّه يقول لا تكونوا كهؤلاء الغلاظ القلوب الذين قصصنا عليكم خبرهم ، أو الذين عرفتم سوء أدبهم مع الأنبياء ، بل اجمعوا بين الطاعة والأدب . قال : وهاهنا وجه آخر وهو أنّه يقال في اللغة : راعى الحمار الحمر ، إذا رعى معها ، فيجوز أن اليهود كانوا يحرّفون الكلمة بصرفها إلى هذا المعنى ، فنهى الله المسلمين عن هذه الكلمة وشنّع على اليهود بإظهار سوء قصدهم فيها . وقد رضوا بصرف اللفظ إلى هذا المعنى ، وإن كان يتضمن أنّهم حمر ؛ لأنّ السبّاب يسب نفسه كما يسب غيره فهو على حدّ قول القائل : @ اقتلوني ومالكاً واقتلوا مالكاً معي @@ قال تعالى : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ ٱنْظُرْنَا وَٱسْمَعُواْ } نهاهم تعالى عن كلمة كانوا يقولون وأمرهم بكلمة خير منها تفيد ما كانوا يريدونه منها . فكلمة " أنظرنا " تفيد معنى كلمة " راعنا " فإنّ فيها معنى الإنظار والإمهال ويؤيّد هذا المعنى قراءة " أنظرنا " من الإنظار وفيها معنى المراقبة وهو ما يستفاد من النظر بالعين . تقول : نظرت الشيء ونظرت إليه ، إذا وجهت إليه بصرك ورأيته . وتقول : نظرته بمعنى إنتظرته ومنه { مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } [ يس : 49 ] أذن الله تعالى لهم بهذه الكلمة " أنظرنا " وأمرهم بالسماع للنبيّ ليعوا عنه ما يقول من الدين ، وهو أمر يتضمّن الطاعة والإستجابة . ثم ختم الآية بقوله : { وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } لبيان أن ما صدر عن اليهود من سوء الأدب في خطاب الرسول ، هو أثر من آثار الكفر الذي يعذّبون عليه العذاب الموجع أشد الإيجاع ، وللتنبيه على أن التقصير في الأدب معه صلى الله عليه وسلم ذنب مجاور للكفر يوشك أن يجر إليه ، فيجب الإحتراس منه بترك الألفاظ الموهمة للمساواة ، بله الألفاظ المنافية للآداب . أقول : لا شك أنّ مَنْ يعامل أستاذه ومرشده معاملة المساواة في القول والعمل ، يقلّ إحترامه له وتزول هيبته من نفسه ، حتى تقل الإستفادة منه أو تعدم . وإذا لم تزل الإستفادة منه من حيث كونه معلّماً ، فإنّها تقل وتزول لا محالة من حيث كونه مربيّاً ؛ لأنّ المدار في التربية على التأسّي والقدوة ، ومَنْ أراه مثلي لا أرضاه إماماً وقدوة ليّ ، فإنّ رضيته بالمواضعة والتقليد ، وكذّبتني المعاملة ، فأيّ قيمة لهذا الرضى والعبرة بما في الواقع ونفس الأمر ، وهو أن مَنْ اعتقد أن امرءاً فوقه علماً وكمالا ، وأنّه في حاجة للإستفادة من علمه وإرشاده ومن أخلاقه وآدابه ، فإنّه لا يستطيع أن يساوي نفسه به في المعاملة القوليّة ولا الفعليّة ، إلاّ ما يكون من فلتات اللسان ومن اللمم ، وعن مثل هذا نهى الصحابة رضي الله عنهم لئلاّ يجرّهم الأنس به صلى الله عليه وسلم وكرم أخلاقه إلى إعتداء حدود الأدب الواجب معه ، الذي لا تكمل التربية إلاّ بكماله ، وهو تعالى يقول : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] الآية . الأستاذ الإمام : إنّما كان عدم الإصغاء لما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم ، وخطابه خطاب الأكفاء والنظراء مجاوراً للكفر ؛ لأنه يتكلّم عن الله عزّ وجلّ لسعادة من يسمع ويعقل ويأخذ ما يؤمر به بالأدب ويسأل عمّا لا يفهمه بالأدب ، ومَنْ فاتته هذه السعادة فهو الشقي الذي لا يعدل بشقائه شقاء . ومعنى هذه المجاورة أن سوء الأدب بنحو ما حكى عن اليهود في سورة النساء هو من الكفر الصريح ولذلك قال بعده : { وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَٱسْمَعْ وَٱنْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 46 ] فالألفاظ التي تحاكي الألفاظ التي توعدوا عليها بهذا الوعيد على أنّها كفر ، إذا صدرت من المؤمن غير محرّفة ولا مقصوداً بها ما كانوا يقصدون ، تسمّى مجاورة لألفاظ الكفر ؛ لأنّها موهمة وخارجة عن حدود الأدب اللائق بالمؤمنين . قال : إنّ لمن جاء بعد الرسول حظّاً من هذا التأديب ، وليس هو خاصّاً بمَنْ كان في عصره من المؤمنين فهذا كتاب الله الذي كان يتلوه عليهم ، وكان يجب الإستماع له والإنصات لأجل تدبّره . هو الذي يتلى علينا بعينه لم يذهب منه شيء ، وهو كلام الله الذي به كان الرسول رسولا تجب طاعته والإهتداء بهديه ، فما هذا الأدب الذي يقابله به الأكثرون ؟ إنّهم يلغطون في مجلس القرآن ، فلا يستمعون ولا ينصتون ، ومَنْ أنصت واستمع فإنّما ينصت طرباً بالصوت وإستلذاذاً بتوقيع نغمات القارئ وإنّهم ليقولون في إستحسان ذلك واستجادته ما يقولونه في مجالس الغناء ، ويهتزّون للتلاوة ويصوّتون بأصوات مخصوصة ، كما يفعلون عند سماع الغناء بلا فرق ، ولا يلتفتون إلى شيء من معانيه إلاّ ما يرونه مدعاة لسرورهم في مثل قصّة يوسف عليه السلام ، مع الغفلة عمّا فيها من العبرة وإعلاء شأن الفضيلة ، ولا سيّما العفّة والأمانة . أليس هذا أقرب إلى الإستهانة بالقرآن منه بالأدب اللائق الذي ترشد إليه هذه الآية الكريمة وأمثالها ، وتتوعد على تركه بجعله مجاوراً للكفر الذي يسوق صاحبه إلى العذاب الأليم { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ ٱلْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ ٱلأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } [ المؤمنون : 68 - 69 ] . ثم قال تعالى : { مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَلاَ ٱلْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ } يقول تعالى للمؤمنين : إن هؤلاء الذين علمتم شأنهم مع أنبيائهم حسدة ، لا يلتفت إلى تكذيبهم ولا يبالي بعدوانهم ، ولا يضرّكم كفرهم وعنادهم ، فهم لحسدهم لا يودّون أن ينزّل عليكم أدنى خير من ربكم ، والقرآن أعظم الخيرات ؛ لأنّه النظام الكامل ، والفضل الشامل ، والهداية العظمى ، والآية الكبرى ، جمع به شملكم ، ووصل حبلكم ، ووحّد شعوبكم وقبائلكم ، وطهّر عقولكم من نزغات الوثنيّة ، وزكّى نفوسكم من أدران الجاهليّة ، وأقامكم على سنن الفطرة ، وشرّع لكم الحنيفيّة السمحة ، فكيف لا يحرق الحسد عليه أكبادهم ويخرج أضغانهم عليكم وأحقادهم ؟ أقول : الودّ محبّة الشيء وتمنّي وقوعه ، يطلق على كلّ منهما قصداً ، وعلى الآخر تبعاً . ويكون مفعول الأوّل مفرداً والثاني جملة ، ونفيه بمعنى الكراهة ، فالمعنى : ما يحب الذين كفروا من اليهود والنصارى ولا من المشركين ، أن ينزل عليكم أدنى خير من ربكم . أمّا أهل الكتاب ولا سيّما اليهود فلحسدهم للعرب أن يكون فيهم الكتاب والنبوّة ، وهو ما كانوا يحتكرونه لأنفسهم ، وأمّا المشركون فلأن في التنزيل المرّة بعد المرّة من قوّة الإسلام ورسوخه وانتشاره ما خيّب آمالهم في تربصهم الدوائر بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وإنتهاء أمره . ثم إن الله تعالى ردّ عليهم بما بيّن جهلهم وجهل جميع الحاسدين فقال : { وَٱللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } أي أن الحاسد لغباوته وفساد طويّته يكون ساخطاً على الله تعالى ومعترضاً عليه أن أنعم على المحسود بما أنعم ، ولا يضرّ الله تعالى سخط الساخطين ، ولا يحوّل مجاري نعمه حسد الحاسدين ، فالله يختصّ برحمته مَنْ يشاء من عباده ، والله ذو الفضل العظيم . أسند كلا من هذين الأمرين إلى اسم الذات الأعظم ؛ لبيان أنّهما حقّه لذاته فليس لأحد من عبيده أدنى تأثير في منحهما ولا في منعهما .