Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 109-110)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
بيّن الله تعالى في الآية الأولى من هاتين الآيتين أنّ أهل الكتاب المتعصّبين لدينهم - من حيث هو جنسيّة لهم تقوم بها منافع جنسهم لم يكتفوا بكفرهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم والكيد له ونقض ما عاهدهم عليه حسداً له ولقومه على نعمة النبوّة ، بل هم يزيدون على ذلك ما قصّه تعالى بقوله : { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } فهو بيان لما يضمرونه وما تكنّه صدورهم للمسلمين من الحسد على نعمة الإسلام التي عرفوا أنّها الحق وأن وراءها السعادة في الدارين ، ولكنّهم شقّ عليهم أن يتبعوهم فتمنّوا أن يُحرموا هذه النعمة ويرجعوا كفّاراً كما كانوا ، وذلك شأن الحاسد يتمنّى أن يسلب محسوده النعمة ولو لم تكن ضارة به ، فكيف إذا كان يعلم أن تلك النعمة إذا تمّت وثبتت يكون من أثرها سيادة المحسود عليه وإدخاله تحت سلطانه ، كما كان يتوقع علماء يهود في عصر التنزيل . وقد جاء هذا التنبيه تتمّة لقوله تعالى قبل آيات : { مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَلاَ ٱلْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [ البقرة : 105 ] وقد بيّن الله لنا ما كان من محاولة أهل الكتاب وتحيّلهم على تشكيك المسلمين في دينهم ، كقول بعضهم لبعض بأن يؤمنوا أوّل النهار ويكفروا آخره لعلّ ضعفاء الإيمان يرجعون عن الإسلام إقتداءً بهم ، كما سيأتي في سورة آل عمران ، وفي هذه الآية وما بعدها إشارة إلى أن لذلك بعض الأثر في نفوس بعض المسلمين . وفائدة هذا التنبيه أو التنبيهات : أن يعلم المسلمون أن ما يبدو من أهل الكتاب أحياناً من إلقاء الشبه على الإسلام وتشكيك المسلمين فيه إنّما هو مكر السوء يبعث عليه الحسد لا النصح الذي يبعث عليه الإعتقاد . وقال : { حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } ليبيّن أن حسدهم لم يكن عن شبهة دينيّة أو غيرة على حق يعتقدونه ، وإنّما هو خبث النفوس وفساد الأخلاق والجمود على الباطل ، وإن ظهر لصاحبه الحق ، ولذلك قفّاه بقوله : { مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ } أي بالآيات التي جاء بها النبيّ صلى الله عليه وسلم وبإنطباق ما يحفظون من بشارات كتبهم بنبي آخر الزمان عليه . ثم أمر الله تعالى المؤمنين بأن يقابلوا هذا الحسد وما ينبعث عنه بما يليق بهم من محاسن الأخلاق فقال : { فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ } ، ولم يقل : فاعفوا واصفحوا عنهم ؛ لإرادة العموم ، أي عاملوا جميع الناس بالصفح والعفو ، فإنّ هذا هو اللائق بشأن المؤمنين المتّقين : { ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [ الفرقان : 63 ] . أقول : العفو : ترك العقاب على الذنب { إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً } [ التوبة : 66 ] والصفح الإعراض عن المذنب بصفحة الوجه ، فيشمل ترك العقاب وترك اللوم والتثريب . قال الأستاذ الإمام : وفي أمره تعالى لهم بالعفو والصفح إشارة إلى أنّ المؤمنين على قلّتهم هم أصحاب القدرة والشوكة ؛ لأن الصفح إنّما يطلب من القادر على خلافه كأنّه يقول : لا يغرّنكم أيّها المؤمنون كثرة أهل الكتاب مع باطلهم ، فإنّكم على قلّتكم أقوى منهم بما أنتم عليه من الحق ، فعاملوهم معاملة القوي العادل : للقوي الجاهل . قال : وفي إنزال المؤمنين على ضعفهم منزل الأقوياء ، ووضع أهل الكتاب على كثرتهم موضع الضعفاء ، إيذان بأن أهل الحق هم المؤيّدون بالعناية الإلهية ، وأن العزّة لهم ما ثبتوا على حقهم ، ومهما يتصارع الحق والباطل فإنّ الحق هو الذي يصرع الباطل ، كما قلنا غير مرّة ، وإنّما بقاء الباطل في غفلة الحق عنه . ثم قال تعالى : { حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ } فوعدهم بأن سيمدّهم بمعونته ، ويؤيّدهم بنصره ، ثم أحالهم بقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } على قدرته النافذة التي لا يشذّ عنها شيء في العالمين ، تأييّداً للوعد وكشفاً لشبهة مَنْ عساه يقول : أنى لهذه الشرذمة القليلة العدد ، الضعيفة القوى ، أن تنتحل لنفسها وصف الملوك العالين ، وتقف مع الأمم القويّة موقف العافين قادرين ؟ فجاء الجواب يقول لمثل هذا المشتبه : إن الذي أوقفها هذا الموقف ، ومنحها هذا الوصف ، هو القادر على أن يهبها من القوّة ما تتضاءل دونه جميع القوى ، وهو ما يؤيّد به سبحانه من يقوم بالحق ويثبت عليه : { وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحج : 40 ] وقد فعل . أقول : جعل شيخنا الأمر في الغاية التي قيّد بها العفو والصفح واحد الأمور ، إذ فسّره بالنصر وأكثر المفسّرين جعلوه واحد الأوامر ، وهو الأمر بقتالهم ، ويعبّر بعضهم بآية السيف ويعنون آية التوبة التي فيها حكم الجزية ، وقال بعضهم : المراد هنا الأمر بقتل بني قريظة وإجلاء بني النضير ، وقالوا : إنّه توقيت لا يصحّ أن يسمّى منسوخاً ، أي في عرف الأصوليّين ، وإن روي عن ابن عباس وغيره . وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان عاهد جميع اليهود المجاورين له في المدينة عهداً أمّنهم فيه على أنفسهم وأموالهم وحرّية دينهم ، فغدروا ونقضوا العهد بموالاة المشركين عليه مراراً ، وكان يعفو عنهم ويصفح حتى أذن الله له بقتالهم وإجلائهم . قال الأستاذ : ثم بعد الوعد بالنصر والإرشاد إلى الإعتماد فيه على القدرة ، دلّهم على بعض وسائل تحققه ، وهي الصلاة التي توثّق عروة الإيمان وتعلّي الهمّة وترفع النفس بمناجاة الله العليّ الكبير ، وتؤلّف بين القلوب بالإجتماع لها ، والتعارف في مساجدها ، والزكاة التي تصل بين الأغنياء والفقراء فتتكوّن بإتصالهم وحدة الأمّة حتى تكون كجسم واحد ، فقال : { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ } ولم تذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في موضع من الكتاب الحكيم ، إلاّ والمقام يقتضي الذكر لبيان فائدة خاصّة لهذا الأمر ، لا يمكن أن تستفاد من ذكرهما في موضع آخر . وقد تقدّم إنّ إقامة الصلاة ليست عبارة عن أدائها مطلقاً ، وإنّما هي عبارة عن القيام بحقوقها الروحيّة في صورتها العمليّة ، وذلك بالتوجه إلى الله تعالى ومناجاته والإنقطاع إليه عمّا عداه ، وإشعار القلب عظمته وكبرياءه ، فبهذا الشعور ينمو الإيمان وتقوى الثقة بالله ، وتتنزّه النفس أن تأتي الفواحش والمنكرات ، وتستنير البصيرة فتكون أقوى نفاذاً في الحق وأشدّ بُعداً عن الأهواء فنفوس المصلّين جديرة بالنصر لما تعطيها الصلاة من القوّة المعنويّة ومن الثقة بقدرة الله تعالى ، فإذا كان قوله تعالى بعد الوعد بالنصر : { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } دليلا أيّد به الوعد فقوله : { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ } هداية إلى طريق الإقتناع التام بهذا الدليل حتى يكون وجداناً للنفس لا تزلزله الشبهات ، ولا تؤثّر فيه المشاغبات والمجادلات . وقد مضت سنّة القرآن بقرن الزكاة بالصلاة ؛ لأن الصلاة لإصلاح نفوس الأفراد ، والزكاة لإصلاح شؤون الإجتماع ، ثم إنّ فيها من معنى العبادة ما في الصلاة فإنّ المال - كما يقولون - شقيق الروح ، فمَنْ جاد به ابتغاء مرضاة الله تعالى كان بذله مزيداً في إيمانه ، فهي إصلاح روحي أيضاً . وبعد أن أمر بالصلاة والزكاة في سياق كشف شبهة مَنْ يشتبه من ضعفاء الإيمان في نصر الله المؤمنين ، وجعل السلطان لهم على الكافرين ، وبيان أن إقامة هذين الركنين من وسائل النصر والسلطان في الدنيا ، بيّن لهم أنّها من أسباب السعادة في الآخرة ، فقال : { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ } ولكن البيان جاء في صورة عامة ، وهذا من الأساليب التي لا تكاد تجد لها في غير القرآن نظيراً - ينتقل من بيان حكم إلى آخر ، فيكون الثاني قائماً بنفسه وشاملا للأوّل بعمومه وتكون صلة العموم والخصوص هي الرابط في النظم . وقوله تعالى : { تَجِدُوهُ } هو كقوله : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ] وقالوا : إنّ المراد أنّه يرى ويجد جزاءه ، ولكن لمّا كان الجزاء مبنيّاً على أثر العمل في نفس العامل وارتقائها به ، كان الجزاء بمثابة العمل نفسه . ووصل الوعد بالجزاء على العمل بما يبعث المؤمن على الإحسان فيه ويدلّ على تحققه ، فقال : { إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فلا يخفى عليه منه شيء فتخافوا أن ينقصكم من أجوركم شيئاً . الأستاذ الإمام : هذه الآيات هي آخر ما أدب الله تعالى به المؤمنين في هذا المقام على ما يخامر البعض منهم وما يعن له من الشبه في مستقبل الإسلام وتأييده تعالى لنبيّه وإعزازه لحزبه ، وكان أوّلها قوله عزّ وجلّ : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا } [ البقرة : 104 ] وكأن منشأ تلك الخواطر هو ما يرونه في التنزيل المرّة بعد المرّة ، وما يشاهدونه من عمل النبيّ صلى الله عليه وسلم من الجزم بأن الأسباب مقرونة بمسبباتها وأنّ حوادث الكون جارية على سنن مطردة ، وما كان هذا الفريق من المؤمنين يعلم قبل إعلام الله تعالى إياهم بأن الإيمان الصحيح الذي يتوكّل صاحبه - بعد إتخاذ الأسباب والوسائل - على القدرة الإلهية والعناية الغيبيّة ، وعمل الصالحات الذي يصلح النفوس ، ويؤلف مع الإعتقاد بين القلوب ، هما أكبر أسباب القوّة ، وأقرب وسائل السيادة والسعادة ، وقد جاء هذا الإرشاد والتأديب في سياق الكلام على أهل الكتاب ؛ لأن مكرهم السيء كان مثاراً لبعض الخواطر في المسلمين ، فالكلام تأديب للمؤمنين ورد على اليهود . ثم انتقل إلى الكلام على أهل الكتاب عامّة وما يلام عليه الفريقان منهم - اليهود والنصارى - فقال : { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ … } .