Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 111-113)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذا بيان لحالين آخرين من أحوال أهل الكتاب في غرورهم بدينهم ، ما كان المسلمون قبل نزول الآيات يعرفونها : أمّا الأولى فما بيّنه تعالى بقوله : { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ } وهو عطف على قوله : { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } [ البقرة : 109 ] أي قالت اليهود : لن يدخل الجنّة إلاّ مَنْ كان هوداً ، وقالت النصارى كذلك في أنفسهم ، وهو إختصار بديع غير مخل . وهذه عقيدة الفريقين إلى اليوم ولا ينافي انسحاب حكمها على الآخرين ، أنّ نفراً من الأوّلين قالوا ذلك بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم كما يروى . وقد بيّن لنا تعالى أن هذا القول لا حجّة له في كتبهم المنزلة فقال : { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } . والأماني : جمع أمنية ، وهي ما يتمنّاه المرء ولا يدركه . وهذا القول ناطق بأمنية واحدة ولكنّها تتضمن أماني متعددة هي لوازم لها ، كنجاتهم من العذاب وكوقوع أعدائهم فيه وحرمانهم من النعيم ؛ ولهذا ذكر الأماني بالجمع ولم يقل تلك أمنيتهم . وقد انفرد بهذا الوجه الأستاذ الإمام . وهناك وجوه أخرى ، وهي أن الإشارة بـ { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } لقوله : { مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } [ البقرة : 105 ] الآية وقوله : { وَدَّ كَثِيرٌ } وقوله { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ } وقيل : إن في الكلام مضافاً محذوفاً ، أي أمثال تلك الأمنية أمانيهم ، ثم طالبهم تعالى بالبرهان على دعواهم ، فقرّر لنا قاعدة لا توجد في غير القرآن من الكتب السماويّة ، وهي أنه لا يقبل من أحد قول لا دليل عليه ، ولا يحكم لأحد بدعوى ينتحلها بغير برهان يؤيّدها ، ذلك أن الأمم التي خوطبت بالكتب السالفة لم تكن مستعدة لإستقلال الفكر ومعرفة الأمور بأدلّتها وبراهينها ؛ ولذلك اكتفى منهم بتقليد الأنبياء فيما يبلّغونهم ، وإن لم يعرفوا برهانه ، فهم مكلّفون أن يفعلوا ما يؤمرون ، سواء عرفوا لماذا أُمروا أم لم يعرفوا ، ولكن القرآن يخاطب مَنْ أنزل عليه بمثل قوله : { قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي } [ يوسف : 108 ] . وقد فسّروا البصيرة بالحجّة الواضحة ، ويستدل على قدرة الله وإرادته وعلمه وحكمته ووحدانيته بالآيات الكونيّة ، وهي كثيرة جداً في القرآن ، وبالأدلة النظريّة والعقليّة كقوله : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] وغير ذلك ، ويستدل على الأحكام بما يترتب عليها من نفي المضرّات والإفضاء إلى المنافع . علّم القرآن ، أهله أن يطالبوا الناس بالحجّة ؛ لأنّه أقامهم على سواء المحجّة ، وجدير بصاحب اليقين أن يطالب خصمه به ويدعوه إليه . وعلى هذا درج سلف هذه الأمّة الصالح ، قالوا بالدليل وطالبوا بالدليل ، ونهوا عن الأخذ بشيء من غير دليل . ثم جاء الخلف الطالح فحكم بالتقليد ، وأمر بالتقليد ، ونهى عن الإستدلال على غير صحّة التقليد ، حتى كأنّ الإسلام خرج عن حدّه ، أو انقلب إلى ضدّه . وصار الذين يعلمون أن الإسلام إمتاز عن سائر الأديان بإبطال التقليد ، وبالمطالبة بالبرهان والدليل ، وعلم الناس استقلال الفكر ، مع المشاورة في الأمر ، يطالبون المسلمين بالرجوع إلى الدليل ، ويعيبون عليهم الأخذ بقال وقيل . ويا ليته كان الأخذ بقال الله ، وقيل فيما يروى عن رسول الله ، ولكنّه الأخذ بقال فلان وقيل عن علان { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } [ النجم : 23 ] . قال تعالى رداً عليهم : { بَلَىٰ } وهي كلمة تذكر في الجواب لإثبات نفي سابق ، فهي مبطلة لقولهم { لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ } إلخ ، أي بلى إنّه يدخلها مَنْ لم يكن هوداً ولا نصارى ؛ لأن رحمة الله ليست خاصّة بشعب دون شعب ، وإنّما هي مبذولة لكلّ مَنْ يطلبها ويعمل لها عملها ، وهو ما بيّنه سبحانه وتعالى بقوله : { مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ } إسلام الوجه لله : هو التوجه إليه وحده ، وتخصيص بالعبادة دون سواه ، كما أشار إلى ذلك في قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] وغيرها من الآيات . وقد عبّر هنا عن إسلام القلب وصحّة القصد إلى الشيء بإسلام الوجه ، كما عبّر عنه بتوجيه الوجه في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم : { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ } [ الأنعام : 79 ] لأن قاصد الشيء يقبل عليه بوجهه لا يولّيه دبره ، فلمّا كان توجيه الوجه إلى شيء له جهة ، تابعاً لقصده وإشتغال القلب به ، عبّر عنه به وجعل التوجه بالوجه إلى جهة مخصوصة ( وهي القبلة ) بأمر الله ، مذكّر بإقبال القلب على الله الذي لا تحدّده الجهات . فالإنسان يتضرّع ويسجد لله تعالى بوجهه وعلى الوجه يظهر أثر الخشوع ، وظاهر أن المراد من إسلام الوجه لله توحيده بالعبادة والإخلاص له في العمل ، بأن لا يجعل العبد بينه وبينه وسطاء يقرّبونه إليه زلفى ، فإنّه أقرب إليه من حبل الوريد . ومن هنا يفهم معنى الإسلام الذي يكون به المرء مسلماً . ذكر التوحيد والإيمان الخالص ، ولم يحمل عليه الوعد بالأجر عند الله تعالى واستحقاق الكرامة في دار المقامة ، إلاّ بعد أن قيّده بإحسان العمل فقال : { بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ } وتلك سنّة القرآن ، تقرن الإيمان بعمل الصالحات ، كقوله : { لَّيْسَ بِأَمَـٰنِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً } [ النساء : 123 - 124 ] . وهذا في معنى الآيات التي نفسّرها . نفى أماني المسلمين ، كما نفى أماني أهل الكتاب ، وجعل أمر سعادة الآخرة منوطاً بالإيمان والعمل الصالح معاً ، وكقوله : { فَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ } [ الأنبياء : 94 ] الآية . ثم بعد أن أثبت للمسلم وجهه إلى الله والمحسن في عمله الأجر عند الله ، نفى عنه الخوف الذي يرهق الكافرين والمسيئين في هذه الدنيا وفي تلك الدار الآخرة والحزن الذي يصيبهم ، فقال : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ولا شك أن المخاوف والأحزان تساور الذين لبسوا إيمانهم بظلم الوثنيّة ، وأساءوا أعمالهم بالإعراض عن الهداية الدينيّة . ترى أصحاب النزغات الوثنيّة في خوف دائم ممّا لا يخيف ؛ لأنّهم يعتقدون بثبوت السلطة الغيبيّة القاهرة لكل ما يظهر لهم منه عمل لا يهتدون إلى سببه ولا يعرفون تأويله ، يستخذون للدجالين والمشعوذين ، ويرتعدون من حوادث الطبيعة الغريبة ، إذا لاح لهم نجم مذنب تخيّلوا أنّه منذر يهدّدهم بالهلاك ، وإذا أصابتهم مصيبة بما كسبت أيديهم من الفساد توهموا أنّها من تصرّف بعض العباد ، وتراهم في جزع وهلع من حدوث الحوادث ، ونزول الكوارث ، لا يصبرون في البأساء والضرّاء . ولا ينفقون في الرخاء والسرّاء { إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ ٱلْمُصَلِّينَ * ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ } [ المعارج : 19 - 23 ] . هذه حال مَنْ فقد التوحيد الخالص ، وحرم من العمل الصالح في هذه الحياة الدنيا { وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَخْزَىٰ وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ } [ فصّلت : 16 ] وإنّما كان صاحب النزغات الوثنيّة في خوف ممّا يستقبله ، وحزن ممّا ينزل به ؛ لأنّ ما اخترعه له وهمه من السلطة الغيبيّة لغير الله التي يحكمها في نفسه ، ويجعلها حجاباً بينه وبين ربّه ، لا يمكنه أن يعتمد في الشدائد عليها ، ولا يجد عندها غناء إذا هو لجأ إليها ، وما هو من سلطتها على يقين ، وإنّما هو من الظانين أو الواهمين . وأمّا ذو التوحيد الخالص فهو يعلم أنّه لا فاعل إلاّ الله تعالى ، وأنه من رحمته قد هدى الإنسان إلى السنن الحكيمة التي يجري عليها في أفعاله ، فإذا أصابه ما يكره بحث في سببه واجتهد في تلافيه من السنّة التي سنّها الله تعالى لذلك ، فإنّ كان أمراً لا مردّ له سلّم أمره فيه إلى الفاعل الحكيم ، فلا يحار ولا يضطرب ؛ لأن سنده قويّ عزيز ، والقوّة التي يلجأ إليها كبيرة لا يعجزها شيء فإذا نزل به سبب الحزن أو عرض له مقتضى الخوف ، لا يكون أثرهما إلاّ كما يطيف الخاطر بالبال ، ولا يلبث أن يعرض له الزوال : { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } [ الرعد : 28 ] فكأنّه تعالى يقول لأهل الكتاب : لا تغرّنكم الأماني ، ولا يخدعنّكم الإنتساب الباطل إلى الأنبياء ، فهذه هي طريق الجنّة ، أسلموا وجوهكم لله تسلموا ، واعملوا الصالحات تؤجروا ، وقد أفرد الضمير في قوله : { فَلَهُ أَجْرُهُ } مراعاة للفظ { مَنْ } وجمعه في قول : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } إلخ ، مراعاة لمعناها . بعد أن ذكر تزكية كل فريق من أهل الكتاب نفسه ، وحكمه بحرمان غيره من رحمة الله كيفما كانت حاله ، ذكر طعن كل فريق منهما بالآخر خاصّة ، فقال : { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ لَيْسَتِ ٱلنَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ } من الدين حقيقي يعتدّ به . فالشيء في اللغة هو الموجود المتحقق ، والإعتقادات الخياليّة التي لا تنطبق على موجود في الخارج لا تسمّى شيئاً ، فكفروا بعيسى وهم يتلون التوراة التي تبشّر به وتذكر من العلامات ما ينطبق عليه ، ولا تزال اليهود إلى اليوم تدّعي أن المسيح المبشّر به في التوراة لما يأت وتنتظر ظهوره وإعادته الملك إلى شعب إسرائيل { وَقَالَتِ ٱلنَّصَارَىٰ لَيْسَتِ ٱلْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ } من الدين حقيقي يعتدّ به ؛ لإنكارهم المسيح المتمم لشريعتهم ، يقول كل فريق منهم ما يقول { وَهُمْ يَتْلُونَ ٱلْكِتَابَ } أي يتلو كل منهم كتابه فكتاب الأوّلين ( التوراة ) يبشّر برسول منهم ظهر ولم يؤمنوا به ، فهم مخالفون لكتابهم ، وكتاب الآخرين ( الإنجيل ) يقول بلسان المسيح : إنّه جاء متمّماً لناموس موسى ، لا ناقضاً له ، وهم قد نقضوه ، فدينهم واحد ، ترك بعضهم أوّله وبعضهم آخره فلم يؤمن به كلّه أحد منهم ، والكتاب الذي يقرؤون حجّة عليهم . ثم قال تعالى : { كَذَلِكَ } أي نحو ذلك السخف والجزاف { قَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } من مشركي العرب وغيرهم من أهل الملل { مِثْلَ قَوْلِهِمْ } تعصّب كل لملّته التي جعلها جنسية ، وزعم أنّها هي المنجية لكل مَنْ وسم بها ورضى بإسمها ولقبها ، والحقّ وراء جميع المزاعم لا يتقيّد بأسماء ولا ألقاب ، وإنّما هو إيمان خالص وعمل صالح ، ولو اهتدى الناس إلى هذا لما تفرّقوا في الدين واختلفوا في أصوله ، ولكنّهم تعصّبوا وتجزّبوا لأهوائهم ، فتفرّقوا واختلفوا في آرائهم { فَٱللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } فإنّه هو العليم بما عليه كل فريق من حق وباطل . ولم يبيّن لنا تعالى هنا بماذا يحكم . وقال بعض المفسّرين إنّه يكذّبهم جميعاً ثم يلقيهم في النار ، ولكن الذي يدلّ عليه القرآن أنّه يحق الحق ويجعل أهله في النعيم ، ويبطل الباطل ويلقي بأهله في الجحيم . هذا هو معنى الآية . ويروى في سبب نزولها : إنّ يهود المدينة تماروا مع وفد نصارى نجران عند النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال كل فريق منهم ما قال في إنكار حقيقة دين الآخر . قال الأستاذ الإمام : إن فهم الآية لا يتوقف على هذه الرواية ، فالآية تحكي لنا إعتقاد كل طائفة بالأخرى ، سواء قال ذلك من ذكر أو لم يقله ، على أن ما يروى في أسباب النزول من مثل ذلك هو من تاريخ الآيات وما فيها من الوقائع ، وما روي في أسباب النزول عندنا غير كاف في ذلك ، فلا بدّ لنا من البحث والإطلاع على تاريخ الملل والأمم التي تكلّم عنها القرآن ؛ لأجل أن نفهمه تمام الفهم ، ونعرف ما يحكيه عنهم من العقائد والشؤون والأعمال ، هل كان عاماً فيهم ، أو كان في طائفة منهم ؟ وأسند إلى الأمّة لما نبّهنا عليه مراراً من إرادة تكافلها ومؤاخذة لجميع بما يصدر عن بعض الأفراد ؛ لأنّهم كُلّفوا إزالة المنكر والتناهي عنه . والعبرة في الآية أن أهل الكتاب - في تضليل بعضهم بعضاً وإعتقاد كل واحد في الآخر أنّه ليس على شيء حقيقي من أمر الدين مع أن كتاب اليهود أصل لكتاب النصارى ، وكتاب النصارى متمّم لكتاب اليهود - قد صاروا إلى حال من التهافت وإتباع الأهواء لا يعتدّ معها بقول أحد منهم في نفسه ولا في غيره . فطعنهم في النبيّ صلى الله عليه وسلم وإعراضهم عن الإيمان به لا ينهض حجّة على كونهم علموا أنّه مخالف للحق ، بل لا يصلح شبهة على ذلك لأنّهم أهل أهواء ، وتعصّب للمذاهب المبتدعة والآراء ، فإذا كانت اليهود كفرت بعيسى وأنكرته وهو منهم وهم ينتظرونه لإعادة مجدهم وتجديد عزّهم ، وإذا كانت النصارى قد رفضت التوراة وكفّرت أهلها وهي حجّتهم على دينهم ، فكيف يعتدّ بكفر هؤلاء وهؤلاء بمحمد صلى الله عليه وسلم وهو من شعب غير شعبهم ، وقد جاء بشريعة ناسخة لشرائعهم ، وهم لا يفهمون من الدين إلاّ أنه جنسيّة دنيويّة لهم ؟ وفي الآية إرشاد إلى بطلان التقليد مؤيّد لما في الآية التي تطالب المدّعي بالبرهان ، وإلى النعي على المقلّدين المتعصبين لآرائهم ، المتّبعين لأهوائهم ، وإلى التحرّي في الحكم على الشيء يعتقد الحاكم بطلانه لأنّه مخالف لما يعتقده ، فلا ينبغي للعاقل أن يحكم على شيء ، إلاّ بعد البحث والتحرّي ومعرفة مكان الخطأ والتزييل بينه وبين ما عساه يكون معه صواباً ، ألم تر أن سياق الآيات ناطق بإنكار حكم كلّ من الفريقين على الآخر من غير بيّنة ولا برهان ، ولا فصل ولا فرقان ، مع أن كل واحد منهم على شيء من الحق وشيء من الباطل ؛ لأنّ أصل دينه حق ثم طرأت عليه نزعات الوثنيّة والبدع وعرض له التحريف والتأويل ، فتجريده من كل حق لم يكن إلاّ تعصّباً للتقاليد من غير بيّنة ولا تمحيص ، وأنّى للمقلّدين بذلك ؟ وانظر كيف ألحق التقليد أهل الكتاب - الذين كانوا على علم بالدين الإلهي - بالمشركين الذين لا يعلمون منه شيئا . هذا ما فعله التقليد بهم وبمَنْ بعدهم ؛ لأنّه عدوّ العلم في كل زمان وكل مكان .