Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 114-117)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الكلام في أهل الكتاب عامّة ومَنْ على شاكلتهم ، فقوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَآ } الآية فيه وجوه : أحدها : أنّه يشير إلى حادثة وقعت بعد المسيح بسبعين سنة ، وهي دخول تيطس الروماني بيت المقدس وتخريبها ، حتّى صارت المدينة تّلا من التراب ، وهدمه هيكل سليمان عليه السلام ، حتى لم يبق منه إلاّ بعض الجدر المدعثرة ، وإحراقه ما كان عند اليهود من نسخ التوراة ، وكان المسيح عليه السلام قد أوعد اليهود بذلك . وقال بعض المفسّرين : إن أتباع المسيح هم الذين هيّجوا الرومانيين وأغرّوهم بهذا العمل . قال الأستاذ الإمام : ولا أدري هل يصحّ هذا الخبر أم لا ، فإنّ قائليه لم يأتوا عليه بأدلّة ولا بنقول تاريخية ، ولكنني أعلم أن المسيحيّين - على قلّتهم وتشتتهم واستخفائهم من اضطهاد اليهود كانوا قد وصلوا إلى ( روميّة ) وكانوا يودّون الإيقاع باليهود الذين اضطرّوهم إلى الخروج من بلادهم انتقاماً منهم وتحقيقاً لوعيد المسيح ، وأن الرومانيين - وإن كانوا وثنيّين يرون أن اليهود ليسوا على شيء لم تكن حروبهم دينيّة ، وإنّما كانوا يحاربون اليهود وغيرهم لشغبهم وفتنهم ، أو للطمع في بلادهم ، وذلك لا يقضي بهدم المعبد وإحراق كتب الدين . فهذه قرائن ترجّح أنّه كان للمسيحيين يد في إغارة تيطش ، ولكن لا يجزم به إلاّ إذا وجد نقل تاريخي صحيح يؤيّد الخبر . ومن الغريب : أن ابن جرير الطبري قال في تفسيره : إن الآية في اتحاد المسيحيين مع بختنصر البابلي على تخريب بيت المقدس ، مع أن حادثة بختنصر كانت قبل وجود المسيح والمسيحيّة بست مائة وثلاث وثلاثين سنة ، ولو لم يكن مؤرّخاً من أكبر المؤرّخين لالتمس له العذر بحمل قوله على حادثة أدرينال الروماني الذي جاء بعد المسيح بمائة وثلاثين سنة ، وبنى مدينة على أطلال أورشليم وزيّنها وجعل فيها الحمّامات ، وبنى هيكلا للمشتري على أطلال هيكل سليمان ، وحرّم على اليهود دخول هذه المدينة ، وجعل جزاء مَنْ يدخلها القتل ، فلذلك كان اليهود يسمّونه بختنصر الثاني ؛ لشدّة ما قاسوا من ظلمه واضطهاده . ولكن هذا لا يصحّ أن يكون عذراً للمؤرّخ . الثاني : ذهب بعض المفسّرين إلى أن قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ } نزل في منع مشركي العرب النبيّ وأصحابه من دخول مكّة في قصّة عمرة الحديبيّة ، وقالوا إن حادثة الرومانيين كانت قد طال عليها الأمدّ ، فلا مناسبة لإراداتها بالآية . واعترض هذا القول بأنّ مشركي العرب ما سعوا في خراب الكعبة ، بل كانوا عمّروها في الجاهليّة وكانوا يعظّمونها ويرونها مناط عزّهم ومحل شرفهم وفخرهم . وقال الأستاذ الإمام : يصحّ أن تكون الآية في الأمرين على التوزيع ، فالذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه هم مشركو مكّة ، والذين سعوا في خرابها هم مشركو الرومانيين . ويكون قرن ما عمل المشركون من منع البيت الحرام أن يُذكر فيه اسم الله بزيارة النبيّ وأصحابه ، بما عمل من قبلهم من مشركي الرومانيين من التخريب من قبيل الإشارة إلى تساوي الفعلين في القبح . الثالث : إنّ الكلام في أهل الكتاب ، وأن الآية ليست منبّئة بأمر وقع ، ولكن بأمر سيقع ، وهو ما كان بعد ذلك من إغارة الصليبيين على بيت المقدس وغيره من بلاد المسلمين ، وصدّهم إياهم عن المسجد الأقصى وتخريبهم كثيراً من المساجد . الرابع : وهو مبني أيضاً على أن الآية منبّئة عن أمر سيقع ، أن المراد بها حادثة القرامطة الذين هدّموا الكعبة ومنعوا المسلمين منها وهدموا كثيراً من المساجد . كأنّه بعد أن ذكر حال أهل الكتاب في طعن اليهود منهم بالنصارى ، وقولهم فيهم إنّهم ليسوا على شيء من الدين ، وطعن النصارى في اليهود كذلك ، وبعد قوله في المشركين الذين لا يعلمون الكتاب ، أنّهم قالوا مثل قولهم ، لم يبق إلاّ ما سيقع للمسلمين وفي المسلمين ، فأنبأ الله تعالى بهذه الحادثة من الإخبار بالغيب فوقعت وكانت حادثتهم من أكبر الأحداث في المسلمين ، فإنّهم استولوا على جزء كبير من ممّالك الإسلام وهدّموا المساجد وعاثوا في الأرض فساداً ، ولم يكن في أيام الحروب الصليبيّة على طولها من الصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة مثلما كان على عهد القرامطة . فالآيات على هذا مبيّنة لأحوال جميع الملل . قال شيخنا : سواء كانت الآية في حادثة واقعة ، أو منتظرة ، أم كانت وعيداً للذين لا يحترمون المعابد على الإطلاق ، هي على كل حال : ناطقة بوجوب إحترام كل معبد يذكر فيه اسم الله تعالى بالصلاة والتسبيح ، وبتحريم السعي في خراب المعابد ، وبالحكم على الذين يصدّون الناس عنها ويسعون في خرابها - أي هدمها أو تعطيل شعائرها ومنع عبادة الله فيها - بكونهم أظلم الناس كما يستفاد من استفهام الإنكار ؛ لأنّ المنع من ذكر الله تعالى وإبطال شعائر المعابد التي تذكر به ، وتشعر القلوب عظمته ، انتهاك لحرمة الدين يفضي إلى نسيان الناس الرقيب المهيمن عليهم ، فيمسون كالهمل وتفشو فيهم المنكرات والفواحش ، وانتهاك الحرمات ، وهضم الحقوق ، وسفك الدماء . وعبادة الله تعالى بذكره والصلاة له ، تنهي بطبيعتها عن الفحشاء والمنكر ، ولا ينافي ذلك ما عساه يطرأ على العبادة أو يوجد في المساجد من الأشياء المبتدعة التي لم يأمر بها الكتاب . فمن علم بهذه البدع فعليه أن ينكرها ويسعى في إزالتها ، ولا يجوز له السعي في إزالة المعابد من الأرض لما في ذلك من الفساد الذي أشرنا إليه . وهذا هو السر في حكم الشريعة الإسلاميّة بإحترام كنائس أهل الكتاب وبيعهم وصوامعهم وعبادهم ، وإحترام معابد الذين لهم شبهة كتاب أيضاً ، كالمجوس والصابئين ، بل الأستاذ الإمام يعدّ الصابئين من أهل الكتاب . وأمّا الوثنيون الخلّص ، الذين اتخذوا من دون الله أولياء ويبنون المساجد لذكر غيره والتقرّب إلى سواه فهؤلاء لم يتعرّض لذكرهم ولم يتوعد مَنْ يمنعهم من سخفهم . أقول : لكن ذكر بعض الفقهاء أنّه يجب هدم ما بني من المساجد والقباب على قبور كثير من الأئمة آل البيت ، وأئمّة الفقه ، وغيرهم من الصالحين ، وارتكبوا فيها المحظورات الكثيرة التي يعدّ بعضها من الشرك الصريح ، وبعضها من البدع والمعاصي ، ولا سيّما المعاصي التي تفعل تديّناً وتقرّباً وتوسّلا إلى الله تعالى ، كما ترى في كتاب الزواجر للفقيه ابن حجر من فقهاء الشافعيّة وغيره من كتبهم ، وفي كثير من كتب الحنابلة ويحتجّون بهدم النبيّ صلى الله عليه وسلم لمسجد الضرار . وإنّما يعني شيخنا بتعطيل المساجد هنا : إبطال التديّن والعبادة مطلقاً ، كما يعلم ممّا يأتي ، لا إبطال البدع التي شوّهت الإسلام . ثم قال تعالى في شأن المعتدين على المساجد : { أُوْلَـٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ } أي فكيف يدخلونها مفسدين ومخرّبين ؟ ولا ينبغي للعاقل أن يقدم على أمر إلاّ بعد النظر فيه والعلم بدرجة نفعه أو ضرّه . وما كانت عبادة الله تعالى ، إلاّ نافعة ، وما كان تركها ، إلاّ ضاراً . وما عساه يوجد في عبادات الأمم من الخرافات الضارة ، فإنّما المكروه منه ما فيه ممّا يبعد عن عبادة الله تعالى ويوقع في إشراك غيره فيها . على أن العبادة الممزوجة بنزغات الوثنيّة ، أهون من التعطيل القاضي بالجحود المطلق ، لذلك توعّد الله تعالى أولئك المعتدين الظالمين بقوله : { لَّهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } فأمّا خزي الدنيا فهو ما يعقبه الظلم من فساد العمران ، المفضي إلى الذل والهوان ، وناهيك بظلم يحل القيود ، ويهدم الحدود ، ويغري الناس بالفواحش والمنكرات ، ويسهّل عليهم سبل الشرور والموبقات ، وهو ظلم إبطال العبادة من المساجد ، والسعي في خراب المعابد ، إذا وقع هذا الظلم كان الحاكم الظالم مخذولاً في حكمه ، والفاتح الظالم غير أمين في فتحه . وإذا أردت تطبيق ذلك على مَنْ نسب إليهم هذا الظلم فأنظر ماذا حلّ بالرومانيين ، وماذا كانت عاقبة العرب المشركين ، وبماذا انتهى عدوان الصليبيّين ، وكيف انقرض حزب القرامطة المجرمين ، وأمّا عذاب الآخرة فالله أعلم به ونحن بوعده ووعيده من المؤمنين . ثم قال تعالى : { وَللَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ } ذهب المفسّر ( الجلال ) إلى أن المراد بالمشرق والمغرب الأرض كلّها ؛ لأنّهما ناحيتاها ، وقال في قوله : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ } أي أيُّ مكان تستقبلونه في صلاتكم فهناك وجه القبلة التي أمر الله بأن يتوجه إليها . ووجّه الأستاذ الإمام هذا بقوله : إنّ من شأن العابد أن يستقبل وجه المعبود ، ولما كان سبحانه منزّهاً عن المادّة والجهة ، واستقباله بهذا المعنى مستحيلا ، شرّع للناس مكاناً مخصوصاً يستقبلونه في عبادتهم إيّاه ، وجعل استقبال ذلك المكان كإستقبال وجهه تعالى . ثم قال : هذه الآية متّصلة بما قبلها وهو قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ } إلخ . وأكثر المفسّرين على خلاف ما قال ( الجلال ) في تفسير المشرق والمغرب ، قالوا : إن المراد بهما الجهتان المعلومتان لكلّ أحد ، ولذلك خصّهما بالذكر ، فهو كقوله تعالى : { رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ } [ الرحمن : 17 ] وهو يستلزم ما قاله ( الجلال ) فإن المراد على كل حال : أيّة جهة استقبلت وتوجهت إليها في صلاتك ، فأنت متوجه إلى الله تعالى ؛ لأنّ كلّ الجهات له { إِنَّ ٱللَّهَ وَاسِعٌ } لا يتحدّد ولا يحصر ، فيصّح أن يتوجه إليه في كل مكان { عَلِيمٌ } بالتوجه إليه أينما كان ، أي فاعبد الله حيثما كنت ، وتوجه إليه أينما حللت ، ولا تتقيّد بالأمكنة فإنّ معبودك غير مقيّد . أقول : بل هو فوق كل شيء بائنا منه . وأزيد على ذلك أنّ بعض رواة المأثور ، قالوا : إنّ هذه الآية نزلت قبل الأمر بالتوجه إلى قبلة معيّنة . وقال آخرون : إنّها نزلت في تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة . ولكن هذا فيه آيات مفصّلة ستأتي في أوّل الجزء الثاني من هذه السورة . وقال بعضهم : إنّها نزلت في صلاة التطوّع في السفر لا يشترط فيها استقبال القبلة . وقال آخرون : إنّهما فيمن يجتهدون في القبلة فيخطئون ، فإنّ صلاتهم صحيحة ؛ لأن إيجاب استقبال جهة معيّنة إنّما هو للمعنى الإجتماعي في الصلاة ووحدة الأمّة فيها . والتعليل يصحّ في كلّ قول من هذه الأقوال ، فإنّه أينما توجه المصلّي في صلاته الصحيحة فهو متوجه إلى الله تعالى لا يقصد بصلاته غيره ، وهو تعالى مقبل عليه راض عنه . ومن المعلوم أن أهل الكتاب يلتزمون في صلاتهم جهة معيّنة كالتزام النصارى جهة المشرق ، وأن استقبال المسلمين الكعبة يقتضي أن يصلّي أهل كلّ قطر إلى جهة من الجهات الأربع فهم يصلّون إلى جميع الجهات ، ولا ينافي ذلك توجههم إلى الله تعالى . والوجه هنا قيل : إنّه بمعنى الجهة وهو صحيح لغة ، والمعنى : فهناك القبلة التي يرضاها لكم . وقيل : إنّه على حدّ { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] . ووجه المناسبة والاتصال بين هذه الآية وما قبلها ظاهر - على هذا التفسير - فإنّ فيها إبطال ما كان عليه أهل الملل السابقة ، من إعتقاد أنّ العبادة لله تعالى لا يصحّ أن تكون إلاّ في الهيكل والمعبد المخصوص ، وفي إبطال هذا إزالة ما عساه يتوهم من وعيد مَنْ منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، من أنّه وعيد على إبطال العبادة في المواضع المخصوصة ، لأنّه إبطال لها بالمرّة ، إذ لا تصحّ إلاّ في تلك المواضع ، فهذه الآية تنفي ذلك التوهم من حيث تثبت لنا قاعدة من أهم قواعد الإعتقاد ، وهي : إنّ الله تعالى لا تحدده الجهات ، ولا تحصره الأمكنة ، ولا يتقرّب إليه بالبقاع والمعاهد ، ولا تنحصر عبادته في الهياكل والمساجد ، وإنّما ذلك الوعيد لانتهاك حرمات الله وإبطال نوع من أنواع عبادته ، وهو العبادة الإجتماعية التي يجتمع لها الناس في أشرف المعاهد على خير الأعمال التي تطهّر نفوسهم وتهذّب أخلاقهم . وهذا الضرب من البيان ممّا امتاز به القرآن على سائر الكلام : فإنّك لترى فيه فنوناً من الإستدراك والإحتراس قد جاءت في خلال القصص وسياق الأحكام ، تقرأ الآية في حكم من الأحكام ، أو عظة من المواعظ ، أو واقعة تاريخيّة فيها عبرة من العبر ، فتراها مستقلّة بالبيان ، ولكنّها باتصالها بما قبلها قد أزالت وهما أو تمّمت حكماً ، وكان ينبغي لأهل العربيّة أن يقتبسوا هذه الضروب من البيان ، ويتوسّعوا بها في أساليب الكلام ، فإنّ القرآن قد أطلق لهم اللغة من عقالها ، وعلّمهم من الأساليب الرفيعة ما كانت تستحليه أذواقهم ، وتنفعل له قلوبهم ، وتهتزّ له نفوسهم ، وتتحرّك به أريحيّتهم ، ولكنّهم لم يوفقوا لإقتباس هذه الأساليب الجديدة ، على أن ملكتهم في حسن البيان ، قد ارتفعت بعد نزول القرآن . قال الأستاذ الإمام : وسنعطي هذا الموضوع حقّه من البيان في موضع تكون مناسبته أقوى من هذه المناسبة . ثم عاد الكتاب إلى النسق السابق في تعداد مخازي أهل الكتاب والمشركين بعدما ذكر من وعيد - من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه - ما ذكر ، وبيّن أنه يعبد في كل مكان ، فقال جلّ وعز : { وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً } فهذا عطف على قوله تعالى : { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ } [ البقرة : 111 ] وقوله : { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ لَيْسَتِ ٱلنَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ } [ البقرة : 113 ] إلخ . ويصحّ أن ينسب هذا إلى اليهود والنصارى والذين لا يعلمون جميعاً ، وإلى فرقة واحدة منهم ، ووجه العموم : إنّ الله تعالى أخبرنا في مواضع من كتابه بأن اليهود قالت : عزير ابن الله ، وإنّ النصارى قالت : المسيح ابن الله ، وأن المشركين قالوا : إن الملائكة بنات الله . ولا فرق في الأحكام التي تسند إلى الأمم بين كونها صدرت من جميع أفراد الأمّة أو صدرت من بعضهم ، فإنّ مثل هذا الإسناد منبيء بتكافل الأمم كما تقدّم غير مرّة . وقد نقل أنّ كلمة { عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ } [ التوبة : 30 ] قالها بعض اليهود لا كلّهم ، وكذلك إعتقاد كون الملائكة بنات الله لم يكن عامّاً في مشركي العرب ، وإنّما عُرف عن بعضهم . ثم ردّ على مدّعي اتخاذ الولد بقوله : { سُبْحَـٰنَهُ بَل لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } نزّه تعالى نفسه بكلمة { سُبْحَـٰنَهُ } التي تفيد التنزيه ، مع التعجب ممّا ينافيه - كأنّ الذي يعرفه تعالى لا ينبغي أن يصدر عنه مثل هذا القول ، الذي يشعر بأن له تعالى جنساً يماثله ، فإنّ قائل ذلك لا يكون على علم بالله تعالى وإنّما يكون زاعماً فيه المزاعم وظانّاً فيه الظنون - أي تنزيهاً له أن يكون له ولد ، كما زعم هؤلاء الجاهلون الظانون بالله غير الحق ، فإنّه لا جنس له فيكون له ولد منه . وهذا الولد الذي نسبوه إليه تعالى لا بدّ أن يكون من العالم العلوي وهو السماء ، أن من العالم السفلي وهو الأرض ، ولا يصلح شيء منهما أن يكون مجانساً له عزّ وجلّ ؛ لأنّ جميع ما في السماوات والأرض ملك له ، قانت لعزّته وجلاله ، أي خاضع لقهره ، مسخّر لمشيئته . فإذا كانوا سوءا في كونهم مسخّرين له بفطرتهم ، منقادين لإرادته بطبيعتهم واستعدادهم ، فلا معنى حينئذٍ لتخصيص واحد منهم بالإنتساب إليه وجعله ولداً مجانساً له { إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ إِلاَّ آتِي ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْداً } [ مريم : 93 ] نعم ، إن له سبحانه أن يختص مَنْ شاء ، بما شاء كما اختص الأنبياء بالوحي ، ولكن هذا التخصيص لا يرتقي بالمخلوق إلى مرتبة الخالق ، ولا يعرج بالموجود الممكن إلى درجة الوجود الواجب ، وإنّما يودع سبحانه في فطرة مَنْ شاء ما يؤهله لما شاء منه { أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } [ طه : 50 ] وليست شبهة الذين اتخذوا بعض البشر آلهة بأمثل من شبهة الذين اتخذوا بعض الكواكب آلهة ، إذ التفاوت بين الشمس والقمر أظهر مثلاً من التفاوت بين المسيح وبين سائر الناس الذين عبدوه وقالوا هو ابن الله أو هو الله . وقد غلب في الملكيّة ما لا يعقل فقال : { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَٰتِ } إلخ ؛ لأن المراد بتسخيرها له التسخير الطبيعي الذي لا يشترط فيه الإختيار ، لا التسخير الشرعي المعبّر عنه بالتكليف الذي يفعله الكاسب بإختياره . ويستوي في التسخير الطبيعي العاقل وغيره ، ولكنّه في غير العاقل أظهر . ولما ذكر القنوت له تعالى جمعه بضمير العاقل ، فغلب فيه العقلاء ؛ لأنّ من شأن القنوت أن يكون من العاقل الذي يشعر بموجبه ويفعله باختياره ، وإن كان لغير العاقل قنوت يليق به . وجملة القول : أن الآية ناطقة بأن ما في السماوات والأرض ملك لله تعالى ، ومسخّر لإرادته ومشيئته لا فرق بين العاقل وغيره ، فقد حكم على الجميع بالملكيّة وبالقنوت الذي يراد به التسخير وقبول تعلّق الإرادة والقدرة ، ولكنّه عند ذكر الملك عبّر عنه بالكلمة التي تستعمل غالباً في غير العاقل وهي كلمة { مَا } لأن المعهود في ذوق اللغة وعرف أهلها أن الملك يتعلّق بما لا يعقل ، وعند ذكر القنوت عبّر عنه بضمير العقلاء لأنّه من أعمالهم ، وممّا يعهد منهم ويسند إليهم لغة وعرفاً . وهذا كما ترى من أدق التعبير وألطفه ، وأعلى البيان وأشرفه . ثم زاد هذين الحكمين بياناً وتأكيداً ، فقال : { بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } قال المفسّرون : إن البديع : بمعنى المبدع ، فهو مشتق من الرباعي " أبدع " واستشهدوا ببيت من كلام عمرو بن معدي كرب جاء فيه { سَمِيعٌ } بمعنى مسمع ، وقالوا : قد تعاقب فعيل ومفعل في حروف كثيرة ، كحكيم ومحكم وقعيد ومقعد وسخين ومسخن ، وقالوا : إن الإبداع هو إيجاد الشيء بصورة مخترعة على غير مثال سبق ، وهو لا يقتضي سبق المادة ، وأمّا الخلق فمعناه التقدير وهو يقتضي شيئاً موجوداً يقع فيه التقدير . وإذا كان هو المبدع للسماوات والأرض والمخترع لهما والموجد لجميع ما فيهما ، فكيف يصحّ أن ينسب إليه شيء منهما على أنّه جنس له ؟ تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً . وكان الأصمعي ينكّر فعيلا بمعنى مفعل ؛ لأن القياس بناؤه من الثلاثي ويقول : إن بديعاً صفة مشبهة بمعنى لا نظير له ، وبديع السماوات معناه البديعة سماواته ، وفي هذا ترك للقياس الذي قضى في الصفة المشبهة التي تضاف إلى الفاعل أن تكون متضمّنة ضميراً يعود على الموصوف ، والحق أن تحكيم القياس فيما ثبت من كلام العرب تحكيم جائر ، فما كان للدخيل في القوم أن يعمد إلى طائفة من كلامهم فيضع لها قانوناً يبطل به كلاماً آخر ثبت عنهم ويعدّه خارجاً عن لغتهم بعد ثبوت نطقهم به . فإذا كان كل واحد من الوجهين صحيح المعنى ، حكمنا بصحّة كلّ منهما ، والأوّل أظهر ، وشواهده المسموعة أكثر . وأمّا قوله : { وَإِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } فمعناه أنّه إذا أراد إيجاد أمر وإحداثه فإنّما يأمره أن يكون موجوداً فيكون موجوداً ، فكن ويكون من كان التامة . وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا ضرب من التمثيل ، أي أن تعلّق إرادته تعالى بإيجاد الشيء يعقبه وجوده ، كأمر يصدر فيعقبه الإمتثال ، فليس بعد الإرادة إلاّ حصول المراد . وقال بعضهم بل هو قول حقيقي . قال الأستاذ الإمام : وقد وقع هذا الخلاف من أهل السنّة وغيرهم ، وعجيب وقوعه منهم ، فإنّ عندهم مذهبين في المتشابهات التي يستحيل حملها على ظاهرها ، وهما : مذهب السلف في التفويض ، ومذهب الخلف في التأويل . وظاهر أن هذا من المتشابه ، والقاعدة في تأويل مثله معروفة ومتفق عليها وهي إرجاع النقلي إلى العقلي لأنّه الأصل ، وهاهنا يقولون : إن الأمر بمعنى تعلّق الإرادة وأن معنى ( يكون ) يوجد . وأقول : إن الأمر بكلمة كنّ هنا هو الأصل فيما يسمّونه أمر التكوين ويقابله أمر التكليف ، فالأوّل متعلّق صفة الإرادة ، والثاني متعلّق صفة الكلام ، وأمر التكليف يخاطب به العاقل فيسمّى المكلّف ، ولا يخاطب به غيره فضلا عن المعدوم ، وأمر التكوين يتوجه إلى المعدوم ما يتوجه إلى الموجود ، إذ المراد به جعله موجوداً ، وإنّما يوجه إليه لأنّه معلوم فالله تعالى يعلم الشيء قبل وجوده ، وأنّه سيوجد في وقت كذا ، فتتعلّق إرادته بوجوده على حسب ما في علمه فيوجد . وشيخ الإسلام ابن تيمية يسمّيه الأمر القدري الكوني ، ويسمّى مقابله الأمر الشرعي . قرأ الجمهور ( يكون ) في كل موضع بضم النون على تقدير فهو يكون كما أراد ، وقرأه ابن عامر بفتحها في كل موضع ، إلاّ في آل عمران والأنعام ، بناء على أن جواب الأمر بالفاء يكون منصوباً . ذلك شأنه تعالى في الإيجاد والتكوين ، وهو أغمض أسرار الألوهيّة فمن عرف حقيقته فقد عرف حقيقة المبدع الأوّل وذلك ما لا مطمع فيه . وقد عبّر عن هذا السرّ بهذا التعبير الذي يقرّبه من الفهم ، بما لا يتشعب فيه الوهم ، ولا يوجد في الكلام تعبير آخر أليق به من هذا التعبير : يقول للشيء " كن " فيكون ، فالتوالد محال في جانبه تعالى ؛ لأن ما يعهد في حدوث بعض الأشياء وتولّدها من بعض فهو لا يعدو طريقين : الإستعداد القهري الذي لا مجال للإختيار فيه كحدوث الحرارة من النور وتولّد العفونة من الماء يتّحد بغيره ، والسعي الإختياري كتولد الناس بالازدواج الذي يساقون إليه مع إختياره والقصد إليه . وإذا كان كلّ واحد من الأمرين محالا على الله تعالى وكان تعالى هو المبدع لجميع الكائنات وهي بأسرها ملكه ومسخّرة لإرادته ، فلا معنى لإضافة الولد إليه . { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلاَمٌ عَلَىٰ ٱلْمُرْسَلِينَ * وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الصافات : 180 - 182 ] .