Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 118-120)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلنا إن السياق قد انتقل من الكلام في بني إسرائيل تجاه القرآن ودعوة الإسلام ورسوله إلى الكلام في شؤون المؤمنين معهم ، ومع النصارى والوثنيّين . وشيخنا لا يزال يجعل السياق واحداً غير ملتفت في التناسب بين الآيات إلى هذا التفصيل لذلك المجمل ، وقد قال هنا ما مثاله : الكلام لا يزال في القرآن ، وما كان من أمر الناس في الإيمان به وعدم الإيمان ، ذكر في الآيات المتقدّمة آنفاً من شأن أهل الكتاب ما تبيّن به أنّ عدم إيمانهم بالنبيّ وما جاء به غير قادح فيه ، ولا ينهض شبهة عليه ، وأنّ مطاعنهم فيه متهافتة منقوضة بطعنهم في أنفسهم ، وتخبطهم في أمر كتبهم ، ثم انتقل إلى ذكر شبهة مشركي العرب وبيّن أنّهم جروا فيها على الأصل المعهود من أمثالهم المشركين ، الذين سبقوهم بالضلال فقال : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } أي الجاهلون بالكتاب والشرائع من مشركي العرب . وقال ( الجلال ) : إن المراد بالذين لا يعلمون كفّار مكّة خاصّة ، ولا دليل على التخصيص ، ويرجّح العموم كون الآية مدنيّة { لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا ٱللَّهُ } كما كلّم هذا الرسول مع أنّه بشر مثلنا { أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ } من الآيات التي اقترحناها ، يعنون ما حكاه الله تعالى عنهم بمثل قوله : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] الآيات { كَذَلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ } أي مثل هذا القول ، قال الكفار الذين أرسل الله إليهم الرسل من قبلهم في معناه ، وهو أنّهم أنكروا على الرسل الإختصاص بالوحي من دونهم ، وأقترحوا عليهم الآيات تعنّتاً وعناداً { تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } لأن الطغيان قد ساوى بينهم حتى كأنّهم تواصوا بما يقولون ، كما قال في سورة الذاريات : { أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } [ الذاريات : 53 ] . ويشبه هذا ما ورد من أنّ الكفر ملّة واحدة ، وذلك أن الحق واحد ومخالفته هي الباطل أو الضلال وهو واحد ، وإن تعدّدت طرقه واختلفت وجوهه . وآثار الشيء الواحد الكلي تتشابه فيمن تصدر عنهم ، وإن اختلفت الجزئيات ، والتشابه هنا إنّما هو في مكابرة الحق ، واستبعاد كون واحد من البشر رسولا يوحى إليه ، وإقتراح الآيات تعنّتاً وعناداً . ومثال الأخلاف في الجزئيات : طلب قوم موسى رؤية الله جهرة ، وطلب قوم محمّد أن يرقى في السماء أمامهم فيأتيهم بكتاب يقرأونه . والطلب الذي مصدره العناد والتعنّت لا تفيد إجابته ؛ لأن صاحبه لا يقصد به معرفة الحق ، ولذلك قال تعالى : { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَٰباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } [ الأنعام : 7 ] والدليل المعقول على هذا : إنّه ما من نبيّ إلاّ وقد جاء بآية أو آيات كونيّة أو عقليّة ، وكانوا مع ذلك يصفونهم بالسحر ، ثم يقترحون عليهم الآيات ، ولذلك قال تعالى بعد حكاية شبهة هؤلاء الجاهلين : { قَدْ بَيَّنَّا ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي أننا لم ندعك يا محمّد بغير آية ، بل بيّنا الآيات على يديك بياناً لا يدع للريب طريقاً إلى نفس مَنْ يعقلها . وقد قال : { بَيَّنَّا ٱلآيَاتِ } ولم يقل : أعطيناك الآيات ؛ للتفرقة والفصل بين آيات القرآن التي هي من علم الله وكلامه يظهر بها الحق بطريق معقول بيّن لا يشتبه فيه الفهم ، ولا يحار فيه الذهن ، وبيّن الآيات الكونيّة التي هي من صنعه يستخذي لها العقل ويخضع لها ؛ لشعوره بأنّها من قوّة فوق قوّته . وللناس فيما يرونه فوق ما يعقلون طريقان معهودان : منهم مَنْ يسنده إلى القوّة الغيبيّة العليا ، سواء كان له سبب خفي في الواقع أو لا ، ومنهم مَنْ يسنده إلى الأسباب الخفيّة التي يسمّونها السحر ، وإن كان فوق قدرة البشر ، ولذلك ضلّت الأمم في آيات الأنبياء السابقين ، وليس لأحد أن يضلّ في آيات القرآن لأنّها بيّنة معقولة ، ولذلك قال : { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة : 2 ] . نعم إن الآيات العلميّة لا يعقلها إلاّ أهل الإستعداد للعلم واليقين ؛ ولذلك قال : { لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } قال الأستاذ الإمام : الذين يوقنون هم الذين خلصت نفوسهم من كل رأي وتقليد وتوجهوا إلى طلب الحق في الأمور الإعتقاديّة ، وأخذوا على أنفسهم العهد أن يطلبوه بدليله وبرهانه ، فهم إذا قام عندهم البرهان اعتقدوا وأيقنوا إيقاناً ، وإنّما يتوقع اليقين من مثلهم ، لا من قوم يعتقدون الشيء أوّلاً بلا دليل ولا برهان ، ثم يلتمسون له الدليل ؛ لأن مقلّديهم قالوا بوجوب معرفة الدليل فإذا أصابوه موافقاً لما اعتقدوا رضوا به ، وإن كان ظنيّاً ، وإذا نهض لهم مخالفاً لتقاليدهم رفضوه وتعلّلوا بالتعلاّت المنتحلة ، وهؤلاء هم الجماهير من الناس الذين وصفوا في الأثر بأنّهم أتباع كلّ ناعق . والعبرة في خطاب الشرع بأهل اليقين الذين صفت نفوسهم ، ومحّصت أفكارهم ، فسلموا من علّة العناد والمكابرة ، المانعين لشعاع الحق أن ينفذ إلى العقول ، ولحرارته أن تخترق الصدور إلى القلوب ، هؤلاء هم أنصار الحق ؛ لأنّهم بيقينهم لا يستطيعون المروق منه ، ولا السكوت عن الإنتصار له ، ألم تر أن كبار الصحابة كانوا يراجعون النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما لم يظهر لهم دليله لأنّهم طُبعوا على معرفة الحق بالدليل . هؤلاء هم الناس الذين تنزل الشرائع لأجلهم ، ولولا استعدادهم لها لما شُرّعت ، أو لما نجحت ، وأمّا سائر الناس فتبع لهم وعيال عليهم . ثم قال تعالى : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِٱلْحَقِّ } أي بالشيء الثابت المتحقق ، الذي لا يضل مَنْ يأخذ به ولا تعبث به رياح الأباطيل والأوهام ، بل يكون الآخذ به سعيداً بالطمأنينة واليقين . قال الأستاذ الإمام : إن الحق في هذا المقام يشمل العلوم الإعتقاديّة وغيرها فهو يقول : إنا أرسلناك بالعقائد الحق المطابقة للواقع ، والشرائع الصحيحة الموصلة إلى سعادة الدنيا والآخرة { بَشِيراً } لمن يتّبع الحق بالسعادتين { وَنَذِيراً } لمن لا يأخذ به بشقاء الدنيا وخزي الآخرة { وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ ٱلْجَحِيمِ } أي فلا يضرّك تكذيب المكذّبين ، الذين يساقون بجحودهم إلى الجحيم ؛ لأنّك لم تبعث ملزماً لهم ولا جبّاراً عليهم فيعدّ عدم إيمانهم تقصيراً منك تسئل عنه ، بل بعثت معلّماً وهادياً بالبيّان والدعوة ، وحسن الأسوة ، لا هاديّاً بالفعل ولا ملزماً بالقوّة ، { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ البقرة : 272 ] وفي الآية تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم لئلاّ يضيق صدره كما تدلّ على ذلك آيات أخرى . وفي الآية من العبرة أن الأنبياء بُعثوا معلّمين لا مسيطرين ، ولا متصرّفين في الأنفس ولا مكرهين ، فإذا جاهدوا فإنّما يجاهدون دفاعاً عن الحق لا إكراهاً عليه . وفيها أنّ الله تعالى لا يطالب الناس بأن يأخذوا عنهم إلاّ العلم الذي يهديهم إلى معرفة حقوق الله وحقوق العباد . وفي قراءة نافع ويعقوب ( ولا نسأل عن أصحاب الجحيم ) بالنهي ، بالنهي أي لا تسأل عمّا سيلاقون من الإنتقام فإنّه عظيم ، فمثل هذا النهي مستعمل في التهويل ، لا في حقيقته وهو استعمال معروف بين الناس حتى اليوم . وزعم بعض المفسّرين أن النهي على حقيقته ، وأنّه خاص بنهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن السؤال عن أبويّه ، ورووا في ذلك أنّه سأل جبريل عن قبريهما فدلّه عليهما فزارهما ودعا لهما وتمنّى لو يعرف حالهما في الآخرة وقال : " ليت شعري ما فعل أبواي " فنزلت الآية في ذلك . والحديث قال الحافظ العراقي : إنّه لم يقف عليه ، وقال السيوطي : لم يرد في ذلك إلاّ أثر معضل ضعيف الإسناد . قال الأستاذ الإمام : وقد فشا هذا القول ولولا ذلك لم نذكره ، وإنّما نريد بذكره التنبيه على أن الباطل صار يفشو في المسلمين بضعف العلم والصحيح يهجر وينسى . ولا شك أن مقام النبيّ صلى الله عليه وسلم في معرفة أسرار الدين ، وحكم الله في الأوّلين والآخرين ، ينافي صدور مثل هذا السؤال عنه ، كما أن أسلوب القرآن يأبى أن يكون هو المراد منه . ثم قال عزّ وجلّ : { وَلَنْ تَرْضَىٰ عَنكَ ٱلْيَهُودُ وَلاَ ٱلنَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } فعاد إلى ذكر أهل الكتاب على ما عهدنا في أساليب القرآن من ضروب الإنتقال بالمناسبات الدقيقة . وقد قال الأستاذ الإمام غير مرّة : إن القرآن لم يأت على طريقة المنشئين والمؤلّفين الذين يخصّون كل طائفة من الكلام بموضوع معيّن ويسمّونها فصلاً أو باباً ، ولكن للقرآن أغراضاً يبرزها بصور مختلفة ، فكلّما لاحت المناسبة لذكر شيء منها أو الإحتجاج عليه أو الدفاع عنه ، جاء به يجذب إليه الأذهان ، ويسارق به خطرات القلوب ، مع مراعاة التناسق ، وحفظ الأسلوب البليغ ، لهذا يتكرر فيه المعنى الواحد بعبارات متعدّدة ، ويتجلّى الروح الواحد في أشكال متنوعة فلم يذكر هاهنا المشركين ، إلاّ لمّا بيّنهم وبيّن أهل الكتاب من التناسب والتقارب في المجاحدة والمعاندة ، فكان ذكرهم من متمّمات الحجّة على أهل الكتاب من حيث أدّى غرضاً مقصوداً في ذاته . ولما كان ذكرهم عرض الكلام كالجملة الإعتراضيّة ، كان الرجوع إلى سرد شؤون أهل الكتاب مع النبيّ صلى الله عليه وسلم رجوعاً إلى أصل الموضوع . وقال في معنى الآية : من شأن الإنسان أن يتألّم من القبيح أشدّ التألّم إذا وقع ممّن لا يتوقع منه ، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يرجو أن يبادر أهل الكتاب إلى الإيمان به وأن لا يرى منهم المكابرة والمجاحدة والعناد ، ولهذا كبر عليه أن رأى من إعراض اليهود والنصارى عن إجابة دعوته ، وإسرافهم في مجاحدته أشد ممّا رأى من مشركي العرب الذين جاء لمحو دينهم من الأرض ، مع موافقته لأهل الكتاب في أصل دينهم ومقصده من توحيد الله تعالى ، والإخلاص له وتقويم عوج الفطرة الإنسانيّة الذي طرأ عليها بسبب التقاليد ، وترقية المعارف الدينيّة إلى أعلى ما استعد له الإنسان من الإرتقاء العقلي والأدبي ، ولذلك كان يخاطبهم بمثل قوله تعالى : { قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } [ آل عمران : 64 ] الآية وغيرها من الآيات . ولقد كان من الصعب - لولا إعلام الله تعالى - أن تعرف درجة فتك التقليد بعقول أهل الكتاب وإفساد الأهواء لقلوبهم ؛ لذلك سلّى الله تعالى نبيه عمّا كان يجده من عنادهم وإيذائهم بآيات كثيرة عرّفه فيها حقيقة حالهم ، منها هذه الآية الناطقة بأن كلاًّ من اليهود والنصارى على اتحادهم في أصل الدين ، قد تعصّب لتقاليده واتّخذ الدين جنسيّة لا يرضيه من أحد شيء ، إلاّ الدخول فيها وقبول لقبها فقوله تعالى : { حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } مراد به ما هم عليه من التقاليد والأهواء ، التي غيّروا بها وجه الدين الواحد حتى صار بعضهم يحكم بكفر بعض ، كما تقدّم في الآيات السابقة . ثم أمره تعالى في مقابلة ذلك بقوله : { قُلْ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلْهُدَىٰ } أي اجهر بقول الحق ، وهو أن الهدى الصحيح هو هدى الله الذي أنزله على أنبيائه ، دون ما أضافه إليه اليهود والنصارى بآرائهم وأهوائهم ، ففرّقوا دينهم وكانوا شيعاً ، كل شيعة تكفّر الأخرى ، وتقول إنّها ليست على شيء ، أيّ فإنّ أردت استرضاءهم فلن يرضوا عنك ، إلاّ أن تتّبع أهواءهم ، { وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُمْ } التي أضافوها على كتبهم ، وجعلوها أصولا وفروعاً لدينهم ، { بَعْدَ ٱلَّذِي جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ } اليقين بالوحي الإلهي المبين ، الذي بيّن ما كان منهم من تحويل القول عن معناه بالتأويل ، وتحريفهم الكلم عن مواضعه ، ونسيانهم حظّاً ممّا ذُكّروا به { مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } أي فإنّك لن تنجح ولن تصل إلى حقك بمجاراتهم على باطلهم ؛ لأن الله لا ينصرك على ذلك ، إذ لا يرضيه أن يكون اتباع الهوى طريقاً إلى الهدى ، والضال لا يرضيه إلاّ موافقته على ضلاله ، ومجاراته على فساده ، وإذا لم يكن الله هو الذي يتولّى شؤونك وينصرك بمعونته فمَنْ ذا الذي ينصرك ويتولاك من بعده ؟ أقول : ومفهوم هذا المصرّح به في آيات أخرى أن ثباته على هدى الله المؤيّد بالعلم ، هو الذي يكون سبباً لتولّيه تعالى له ونصره إيّاه عليهم . ومن المعلوم أن شرط إن لا يقتضي الوقوع ، فهو لا يدلّ على أن اتباع أهوائهم متوقع منه صلى الله عليه وسلم وإنّما هو فرض فُرض لبيان مضمونه الذي ذكرنا ، وفيه أن من سنن الله تأييد متّبعي الهدى على علم صحيح ، وأنّهم هم الغالبون المنصورون : وهو ما يعبّر عنه علماء الإجتماع ببقاء الأمثل في كلّ تنازع بينه وبين ما دونه . الأستاذ الإمام : مَنْ تدبّر هذا الإنذار الشديد الموجّه من الله تعالى إلى نبي الرحمة ، المؤيّد منه بالكرامة والعصمة ، علم أن المراد به الوعيد والتشديد على الأمّة ، على حد " إياك أعني واسمعي يا جارة " فإنّ الله تعالى يخاطب الناس كافة في شخص النبيّ صلى الله عليه وسلم ، كما جرى عرف التخاطب مع الرؤساء والزعماء ، فقد يقال للملك : إذا فعلت هذا كانت عاقبته كذا ، والمراد : إذا فعلته دولتك أو أمّتك ، وقد تقدّم غير مرّة إسناد عمل بعض الأفراد إلى الأمّة كلّها ولكن قوله : { وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُمْ بَعْدَ ٱلَّذِي جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ } وهو يعلم جلّ شأنه أنه لا يتبع أهواءهم في حال من الأحوال ، وقد عصمه من الزيغ والضلال ، إنّما جاء على هذا الأسلوب ليرشد مَنْ يأتي بعده ممّن يتبع سنّته ويأخذ بهديه . فهو يرشدنا بهذا التهديد العظيم إلى الصدع بالحق والإنتصار له ، وعدم المبالاة بمن يخالفه ، مهما قوي حزبهم ، واشتدّ أمرهم ، وإنّه لتهديد ترتعد منه فرائص الذين يخشون ربّهم ، ولا سيّما إذا أنسوا من أنفسهم ضعفاً في الحق ، كأنّ تركوا الجهر به أو الدفاع عنه خوفاً من إنكار العامة عليهم ، ولغط الناس بهم ، فمن عرف الحق وعرف أن الله تعالى وليّ أهله وناصرهم ، لا يخاف في تأييده لومة لائم ، ولا يغترن أحد بمن يسمّيهم الناس علماء وعارفين في سكوتهم عن الحق ، ومجاراتهم لأهل الباطل فإنّهم ليسوا على شيء من العلم الحقيقي ، وإن هي إلاّ كلمات يتلقفونها ، وعادات يتقلّدونها ، لا حجّة للأحياء فيها ، سوى قولهم إن الميّتين درجوا عليها . قال : " وليس هذا هو العلم الذي جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلم وإنّما هو شيء كان يلقّب بالعلم عند الضالين من أهل الكتاب ، والمشركين كذلك ، وقد نفى عنه كونه علماً على الحقيقة بمثل قوله : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ } [ النجم : 23 ] وبقوله : { لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } [ البقرة : 78 ] فمن أخذ بقول القائلين ، واتبع ما وجد عليه السابقين ، بدون بيّنة يعرف بها وجه الحق من ذلك ، وكتاب الله بين يديه لا ينظر فيه ولا يرجع إليه : فقد اتبع الهوى بعد الذي جاء من العلم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وباء بالخزي في الدنيا وبالنكال في الآخرة ، ولم يكن ولن يكون له من الله وليّ ولا نصير . اللّهمّ أعنّا على الجهر بالحق بعد ما عرفناه ، واجعل لنا من لدنك وليّاً واجعل لنا من لدنك نصيرا .