Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 121-123)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الصلة بين قوله تعالى : { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ } الآية وبين ما قبلها ، واضحة جليّة ، وهي : إنّ هذه جاءت في موضع الإستدراك على ما سبقها من إيئاس النبيّ والمؤمنين من أهل الكتاب . فقد علمنا أن آية : { وَلَنْ تَرْضَىٰ عَنكَ ٱلْيَهُودُ وَلاَ ٱلنَّصَارَىٰ } [ البقرة : 120 ] قد سلّت ما كان يخالج النفوس من الرجاء بإيمان أهل الكتاب كلّهم ، وهذه الآية تنطق بأن منهم مَنْ يُرجى إيمانه ، وهم الذين وصفهم بما هو علّة الرجاء ومناط الأمل ، وهو تلاوة كتابهم حقّ تلاوته ، وعدم الجمود على الظواهر والتقاليد ، والإكتفاء بالأماني والظنون . كأنّه يقول : إن كانت نفسك تحدّثك بأن أهل الكتاب أقرب إلى الإيمان بما جئت به ؛ لأنّه يشبه ما عندهم ويصدّق أنبياءهم وأصول شرائعهم ، من حيث يقتلّع جذور دين الوثنيين ويمحوه محواً ، فيكون الوثنيّون أجدر من أهل الكتاب بمعاندتك ومجاحدتك ، فاعلم : إنّ هؤلاء قد ألحقوا بدينهم من التقاليد والمخترعات ، وألصقوا به من البدع والعادات ، ما غرّهم في دينهم بغير فهم ، وجعلهم يتعصّبون له بغير عقل ، فكانوا بذلك أبعد عن حقيقة الإيمان من أولئك الذين يعبدون الأوثان ، وذلك أنّهم اتخذوا الدين جنسيّة ، فليس لهم منه إلاّ الجمود على عادات صارت مميّزة للمنتسبين إليه . ولكن لا يزال فيهم نفر يرجى منهم تدبّر الشيء والتمييز بين الحق والباطل وهم : { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ } وهم : { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ } أي يفهمون أسراره ويفقهون حكمة تشريعه ، وفائدة نوط التكليف به ، لا يتقيّدون في ذلك بآراء مَنْ سبقهم فيه ، ولا بتحريفهم كلمه عن مواضعه { أُوْلَـٰئِكَ } هم الذين يقدّرون ما جئت به من الترقّي في الدين ، وإقامة قواعده على الأساس المتين ، و { يُؤْمِنُونَ بِهِ } بعد العلم بأنّه الحق الذي يزيل ما بينهم من الخلاف ويهديهم إلى طريق السعادة في الدنيا والآخرة { وَمن يَكْفُرْ بِهِ } من الرؤساء المعاندين والمقلّدين الجاهلين وهم الأكثرون ، { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ } لهذه السعادة ، المحرومون ممّا يكون للمؤمنين من المجد والسيادة ، سواء كان كفرهم بتحريفه ليوافق مذاهبهم التقليديّة ، أم بإهماله إكتفاء بقول علمائهم . ويجوز أن يكون الضمير في قوله : { بِهِ } للهدى الذي ذكر في الآيات السابقة . الأستاذ الإمام : عبّر عن التدبّر والفهم بالتلاوة حق التلاوة ؛ ليرشدنا إلى أن ذلك هو المقصود من التلاوة التي يشترك فيها أهل الأهواء والبدع مع أهل العلم والفهم . والتعبير يشعر بأن أولئك الذين حكم بنفي رضاهم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نفياً مؤكّداً . لا حظّ لهم من الكتاب إلاّ مجرّد التلاوة وتحريك اللسان بالألفاظ ، لا يعقلون عقائده ، ولا يتدبّرون حكمه ومواعظه ، ولا يفقهون أحكامه وشرائعه ؛ لأنّهم استغنوا عنه بتقليد بعض الرؤساء والإكتفاء بما يقولون ، فلا عجب إذا أعرضوا عمّا جاء به النبيّ ولا ضرر في إعراضهم . وأمّا الآخرون فإنّهم لتدبّرهم وفهمهم أسرار الدين ، وعلمهم بوجوب مطابقتها لمصالح المكلّفين ، يعقلون إنّ ما جاء به هو الحق الذي يتفق مع مصلحة البشر في ترقية أرواحهم ، وفي نظام معايشهم ، فيؤمنون به وإنّما ينتفع بإيمان أمثالهم . وجملة القول : إنّ هذا التعبير أفاد حكماً جديداً وإرشاداً عظيماً ، وهو أن الذي يتلو الكتاب لمجرّد التلاوة ، مثله كمثل الحمار يحملُ أسفاراً ، فلا حظّ له من الإيمان بالكتاب ؛ لأنّه لا يفهم أسراره ولا يعرف هداية الله فيه . وقراءة الألفاظ لا تفيد الهداية ، وإنّ كان القارئ ، يفهم مدلولاتها ، كما يقول المفسّر والمعلّم لها ؛ لأنّ هذا الفهم من قبيل التصوّر ، ما التصور إلاّ خيال يلّوح ويتراءى ، ثم يغيب ويتناءى ، وإنّما الفهم فهم التصديق والإذعان ، ممّن يتدبّر الكتاب مستهدياً مسترشداً ملاحظاً أنّه مخاطب به من الله تعالى ليأخذ به فيهتدي ويرشد ، والمقلّدون محرومون من هذا فلا يخطر لهم ببال أنّهم مطالبون بالإهتداء بكتاب الله تعالى ، وإنّما الهداية عندهم محصورة في كلام رؤسائهم الدينيّين ، ولا سيّما إذا كانوا ميّتين . وإذا كنّا نعتبر بما قصّ الله تعالى علينا من خبر أهل الكتاب ، كما قال : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } [ يوسف : 111 ] فإنّنا نعرف حكم أهل القرآن عنده تعالى ، ممّا ذكره عن أهل التوراة والإنجيل ، كما نعرفه من مثل قوله عزّ وجلّ : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } [ محمد : 24 ] وقوله : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوۤاْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } [ ص : 29 ] فكل هذه الآيات والعبر لم تحل دون اتباع هذه الأمّة سنن مَنْ قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع كما أنبئت للتحذير ، والقرآن حجّة عليها كما ورد في الحديث " والقرآن حجّة لك أو عليك " ولا شك أن مَنْ يتلو ألفاظ القرآن وهو معرض عن هدايته غير معتبر بوعده ووعيده فهو كالمستهزيء بربّه . سأل سائل من المقلّدين حاضري الدرس بأن العلماء قالوا : إن القرآن يتعبد بتلاوته . فقال الأستاذ الإمام : نعم ولكنّهم لم يقولوا إنّه أُنزل لذلك ، وكيف يقولون ذلك والله الذي أنزله يقول : إنّه أنزله { لِّيَدَّبَّرُوۤاْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } [ ص : 29 ] فالقرآن وكذلك السنّة يصرّحان في مواضع كثيرة بخلاف هذا القول ، إذا أخذ على إطلاقه وجعل معناه أو من معناه أن الله تعالى يطالب عباده بقراءة القرآن بدون تدبّر ولا تذكّر . وقد جاء من الأحاديث ما يصف حال قوم يأتون بعد " يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم " وقد سمّاهم شرار الخلق ، فهؤلاء الأشرار قد اتخذوا القرآن من الأغاني والمطربات ، وإذا طالبت أحدهم بالفهم والتدبّر ، أخذته العزّة بالإثم واحتجّ عليك بكلمة قالها فلان ، أو حلم رآه فلان ، وهكذا انقلب على المسلمين وضع الدين ، ثم هم يتعجّبون مع ذلك كيف حُرموا من وعد الله في قوله : { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنينَ } [ الروم : 47 ] { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ ٱلْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ ٱلأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } [ المؤمنون : 68 - 69 ] وضرب الأستاذ مثلا رجلا يرسل كتاباً إلى آخر فيقرأه المُرسل إليه هذرمة أو يترنّم به ولا يلتفت إلى معناه ولا يكلّف نفسه إجابة ما طلب فيه ، ثم يسأل الرسول أو غيره : ماذا قال صاحب الكتاب فيه وماذا يريد منه ؟ أيرضى المرسل من المرسل إليه بهذا ، أم يراه استهزاء به ؟ فالمثل ظاهر وإن كان الحق لا يقاس على الخلق ، فإنّ الكتاب لا يرسل لأجل ورقه ، ولا لأجل نقوشه ، ولا لأجل أن تكيّف الأصوات حروفه وكلمه ، ولكن ليعلم مراد المرسل منه ويعمل به . الأستاذ الإمام : إن الإستهداء بالقرآن ، واجب على كلّ مكلّف في كل زمان ومكان ، فعلى كل قارئ أن يتلو القرآن بالتدبّر وأن يطالب نفسه بفهمه والعمل به ، ولا شك أن كل مَنْ له معرفة ولو قليلة باللغة العربيّة ، فإنّه يفهم من القرآن ما يهتدي به ، ومَنْ كان أمّياً أو عجميّاً فإنّه ينبغي له أن يسأل القارئين أن يقرأوا له القرآن ويفهموه معناه . وقد تقدّم التنبيه على هذا في مقدّمة تفسير سورة الفاتحة . بل قال الأستاذ في هذا المقام : إنّني أعتقد أنه يجب على كلّ مسلم أن يقرأ القرآن أو يسمعه كلّه ولو مرّة واحدة في عمره ، ومن فوائد ذلك أن يأمن من إنكار شيء منه إذا عُرض عليه أو سمعه مع التشكيك فيه . أقام الله تعالى الحجج الدامغة على أهل الكتاب ثم ناداهم ودعاهم إلى ترك أسباب الغرور المانع من الإيمان فقال : { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } وقد سبق التذكير بهذه النعمة في أوّل المحاجّة ، ثم أعيد هنا للمناسبة الظاهرة ، وهي أنّه بعد ما ذكر أن الإعراض عن تدبّر الكتاب والتفقه فيه هو كفر به ، ذكّرهم بأنّه لا يليق بمن كرّمه ربّه وفضّله على غيره من الشعوب بإيتائه الكتاب ، أن يكون حظّه منه كحظّ الحمار يحمل أسفاراً . فإذا كان ابتدأ العظة والدعوة بذكر هذا التفضيل ؛ لتتوجه إليها الأنظار وتصغي إليها الأسماع كما تقدّم في تفسير الآية الأولى ( 47 ) فلا غرو أن يذكر هذا التفضيل ثانياً بعد التوبيخ والتقريع ، لإزالة ما ربّما يحدثه ذلك من الإستياء الذي يتوقع أن يكون من أسباب التنفير عمّا في الآية التالية ، وليس هذا من التكرار الذي يتحاماه البلغاء وإنّما هو من إعادة الشيء لإفادة ما لا يستفاد بدونه . كأنّ هذه الآية تمهيد لما بعدها وهو فذلكة القصّة ، والمقصود من إقامة الحجّة . ذلك قوله تعالى : { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } فلا ينفعكم يوم القيامة أن تعتذروا عن الإعراض عن فهم كتاب الله بأن بعض سلفكم كانوا يفهمونه ويتدبّرونه ، وإنكم استغنيتم بتدبّرهم وفهمهم عن أن تفهموا وتتدبّروا ، فإنّه يوم لا يغني فيه أحد عن أحد شيئاً . ويؤيّد الآية حديث الصحيحين : " يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنكِ من الله شيئاً " إلخ وإذا كان لا يجزي فهم سلفكم عنكم أنّكم أعرضتم عن هداية كتابه ، فلا تنفعكم شفاعتهم أيضاً ، كما أنّه لا يقبل منكم عدل ولا فداء تفتدون به وتجعلونه معادلا لما فرّطتم فيه كما قال : { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ } وكانوا يعتقدون بالمكفّرات تؤخذ عدلا عمّا فرطوا فيه ، وبشفاعة أنبيائهم ، فأخبرهم الله تعالى أنه لا يقوم مقام الإهتداء بكتابه شيء آخر ، ثم قطع حبل رجائهم من كل ناصر ينصرهم فقال : { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } أي إنّه لا يأتيهم نصر من هاتين الجهتين ولا من غيرهما . وقد تقدّم في تفسير الآيات الأولى ما يغني عن الإطالة هنا ، وليس في هذه زيادة في المعنى إلاّ أن التعبير قد اختلف تفنّناً ، ففي الآية الأولى تقدّم ذكر الشفاعة منفيّة القبول ، وتأخّر ذكر العدل غير مأخوذ ، وفي هذه الآية نفي قبول العدل أوّلاً ، ثم نفى نفع الشفاعة ثانياً ، وكأنّه يشير بهذا التفنّن إلى أنّه لا فرق بين الفداء والشفاعة في الجواز والمنع ، فمن منع العوض في الآخر لزمه منع الشفاعة ، فإنّ جوّزها جوّزه .