Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 124-124)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أقول : بعد أن أقام الله الحجّة على أهل الكتاب وبيّن شؤونهم في الكفر بالنبيّ الذي كانوا ينتظرونه لبشارة رسلهم به ، وشؤونهم في التلاعب بدينهم وشؤونهم مع المؤمنين ، بيّن في هذه الآيات وما بعدها ما يستند إليه الإسلام ونبي الإسلام من أصل ونسب يجلّه أهل الكتاب والعرب جميعاً وهو ملّة إبراهيم ونسبه ، فهو في هذا السياق يبيّن لأهل الكتاب - ولا سيّما اليهود المحتكرين للوحي في قومهم والمفضّلين لأنفسهم على العرب بنسبهم - أنّ هذا لو كان حجّة لما قامت هذه الحجّة على محمّد صلى الله عليه وسلم وقومه ، إذ الملّة في الأصل واحدة والنسب واحد ، ولكنّهم كفروا النعمتين بما تقدّم ذكره من أعمالهم ، فجاء النبيّ الموعود به لإصلاح حالهم وحال غيرهم . وسيأتي قوله تعالى في هذا السياق : { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [ البقرة : 146 ] وجرى شيخنا في الدرس على طيته في التناسب بين هذا السياق وما قبله فقال ما مثاله : كان الكلام في أوّل السورة إلى هذه الآية بأسلوب واحد في سياق واحد : ذكر حقيّة الكتاب وكونه من نصوع البرهان بحيث يدفع ريب المرتابين أن يدنو منه أو يتسامى إليه ، ثم ذكر أصناف الناس في أمر الإيمان به وعدم الإيمان به . وأطال الحجاج والمناظرة في خطاب أهل الكتاب خاصّة ، لما تقدّم من أنّهم كانوا موضع الرجاء في المبادرة إلى الإيمان بالنبيّ وما جاء به ؛ لأنّه وافقهم في أصل الدين وصدق أنبياءهم وكتبهم ، وذكّرهم بما نسوا ، وعلّمهم ما جهلوا ، وأصلح لهم ما حرّفوا ، وزادهم معرفة بأسرار الدين وحكمته ، كما أنّهم كانوا في موضع الشبهة عند المشركين والمنافقين بما كفروا ، وفي موضع الحجّة عليهم بما آمنوا ، قال تعالى في الإحتجاج على المشركين : { أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } [ الشعراء : 197 ] وقد جاءت محاجة أهل الكتاب على طريقة الإطناب ، لما كانوا عليه من جمود القرائح والبعد عن البلاغة ، كما حكى عنهم أنّهم قالوا : " قلوبنا غلف " ومن فساد الأذهان بالتعوّد على التأويل والتحريف ، فكان يبدأ لهم المعنى ويعاد ، ويساق إليهم القول بطرق بيّنة ، ويؤكّد بضروب من التأكيد ، تبعد به عن قبول التأويل والتحويل ، وكان ممّا حجوا به ، التذكير بحال سلفهم الأنبياء وبحالهم معهم من عصيانهم وإيذائهم بل قتلهم في عهدهم ، والغرور بانتظار شفاعتهم والإستغناء بها من بعدهم . ثم إن الكلام في هذه الآية { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ } وما بعدها موجّه إلى مشركي العرب ، ووجه الاتصال بينها وبين ما قبلها أن ذلك كان يتضمّن الإحتجاج على أهل الكتاب بسلفهم الصالح ، وهذا يتضمّن الإحتجاج على مشركي قريش وأمثالهم بسلفهم الصالح ، فإنّهم ينتسبون إلى إسماعيل وإبراهيم ويفتخرون بأنّهما بنيا لهم الكعبة معبدهم الأكبر : وكانوا في عهد التنزيل قد اختلطوا بالأمم المجاورة التي تعرف لهم هذا النسب . وإنّك لترى الكلام هنا جارياً على طريقة الإيجاز والإشارة ، لما كان عليه العرب من حدّة الفكر وصفاء الأذهان ، ودقّة الفهم ورقّة الوجدان ، على أن هذه الآيات تصلح حجّة على الفريقين ؛ لأن أهل الكتاب كافّة يجلّون إبراهيم عليه الصلاة والسلام ويعتقدون نبوّته ، والإسرائيليّون منهم ينتسبون إليه ، ولكنّ الخطاب في قصّته موجّه إلى العرب أوّلاً وبالذات . فتلك حجج القرآن على أهل الكتاب الذي جاء لإصلاح دينهم وترقيتهم فيه ، ودين الله واحد في جوهره ، وهذه حججه على أهل الشرك والوثنيّة الخاصة التي جاء لمحوها من الأرض وإثبات نقيضها وهو التوحيد والتنزيه وإثبات البعث والنشور ، وقد أقام الحجج على هذين الأصلين من الطرق العقليّة والكونيّة في مواضع كثيرة ، ولا سيّما في السور المكيّة . قال تبارك اسمه : { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } أقول أشهر الأقوال وأظهرها في متعلّق " إذ " هنا قولان : 1 - أنّه مقدّر معلوم من السياق ، ومن أمثاله وهو " اذكر " وإذا جعل الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أي " واذكر " لأهل الكتاب ولقومك وغيرهم { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ } إلخ ، وإذا جعل الخطاب للمكلّفين { وَٱذْكُرُواْ } وتقدّم نظيره في خطاب بني إسرائيل . 2 - أنه متعلّق بقوله : { قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } والكلمات جمع كلمة ، وتطلق على اللفظ المفرد وعلى الجمل المفيدة من الكلام . والمراد منها هنا مضمونها من أمر ونهي ، روى عكرمة عن ابن عباس قال : لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه كلّه إلاّ إبراهيم ابتلاه الله بثلاثين خصلة من خصال الإسلام واستنبطها ابن عباس بالعدد من أربع سور ، ليس فيها خطاب له عليه الصلاة والسلام وقال شيخنا في الدرس : جعل التكليف بالكلمات لأنّها تدلّ عليها وتعرّف بها عادة ، ولم يذكر الكلمات ما هي ولا الإتمام كيف كان ؛ لأن العرب تفهم المراد بهذا الإبهام والإجمال وأن المقام مقام إثبات أن الله تعالى عامل إبراهيم معاملة المبتلى ، أي المختبر له لتظهر حقيقة حاله ويترتب عليها ما هو أثر لها ، فظهر بهذا الإبتلاء والإختبار فضله بإتمامه ما كلّفه الله تعالى إيّاه ، وإتيانه به على وجه الكمال . هذا هو المبادر ، ولكن المفسّرين لم يألوا في تفسير الكلمات والخبط في تعيينها فقال بعضهم : إنّها مناسك الحج ، وقال آخرون : إنّها خصال الإيمان واستخرجوها من آيات من القرآن ، وذهب بعضهم إلى أن الإشارة بالكلمات إلى الكوكب والقمر والشمس التي رآها واستدلّ بأفولها على وحدانية الله تعالى ، وكأن قائل هذا يعتقد أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يظن أن هذه الكواكب أرباباً وحاش لله ما كان منه إلاّ أن قال : { هَـٰذَا رَبِّي } [ الأنعام : 76 ] تمهيداً للحجّة والبرهان ، ولذلك قال تعالى بعد حكاية ذلك عنه : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَٰهَآ إِبْرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ } [ الأنعام : 83 ] وذهب قوم إلى أن المراد بها جعل الله إيّاه إماماً ، وتكليفه بإقامة البيت وتطهيره ، وأن بقيّة الآية مفسّر للإبهام فيها . وادّعى بعضهم أن المراد : أمره في المنام بذبح ولده ، وإنّما هذا الأمر كلمة واحدة فكيف جعلوها عشراً ؟ وزعم آخرون أن الكلمات هي الخصال العشر التي تسمّى خصال الفطرة ، وهي قصّ الشارب والمضمضة والإستنشاق والسواك وفرق الرأس وتقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط والاستحداد وقيل غير ذلك . قال الأستاذ الإمام : عند إيراد قول المفسّر ( الجلال ) في تفسير الكلمات إنّها الخصال العشر : إن هذا من الجراءة الغريبة على القرآن ولا شك عندي في أن هذا ممّا أدخله اليهود على المسلمين ليتّخذوا دينهم هزواً ، وأي سخافة أشد من سخافة مَنْ يقول : إن الله تعالى ابتلى نبيّاً من أجلّ الأنبياء بمثل هذه الأمور ، وأثنى عليه بإتمامها ، وجعل ذلك كالتمهيد لجعله إماماً للناس وأصلا لشجرة النبوّة - وإن هذه الخصال لو كُلّف بها صبيّ مميّز لسهل عليه إتمامها ولم يعد ذلك منه أمراً عظيماً ؟ والحق أن مثل هذا يؤخذ كما أخبر الله تعالى به ولا ينبغي تعيين المراد به إلاّ بنصّ عن المعصوم . هذا ملخّص ما قاله شيخنا في الدرس وهو صفوة الحقيقة ، ولكن كتب إليه رجل من المشتغلين بالعلم في سوريّة كتاباً عقب قراءته ذلك في المنار يقول فيه ، إن تفسير الكلمات بخصال الفطرة ، مرويّ عن ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما ، فكيف يخالفه فيه ؟ وشدد النكير في ذلك وأطنب في مدح ابن عباس . وقد أرسل إلى الأستاذ كتابه عند وصوله وكتب عليه : الشيخ رشيد يجيب هذا الحيوان : فكتبت إليه وكان صديقاً ليّ كتاباّ لطيفاً كان ممّا قلته فيه على ما أتذكر : إنّنا لم نرِ أحداً من المفسّرين ولا من أئمّة العلماء التزم موافقة ابن عباس في كل ما يروى عنه ، وإن صحّ سنده عنده ، فكيف إذا لم يصحّ ؟ وقد قال الشيخ محمد عبده : إنّه يجلّ ابن عباس عن هذه الرواية ولا يصدقها ، ولما كانت مثل هذه الشبهة أو الطعن في أي عالم بأنّه خالف فلاناً الصحابي أو الإمام فلاناً ممّا يروّج في سوق العوام ، نذكر هنا ما قاله شيخ المفسّرين ابن جرير الطبري بعد ذكر رواياته المختلفة في تفسير ( الكلمات ) عن ابن عباس وغيره من مفسّري السلف ، ونقله عند ابن كثير مقرّاً له ، قال هذا : قال أبو جعفر بن جرير ما حاصله : إنّه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ما ذكر ، وجائز أن يكون بعض ذلك ، ولا يجوز الجزم بشيء منها أنّه المراد على التعيين إلاّ بحديث أو إجماع ، قال : ولم يصحّ في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له ، اهـ المراد منه ، وهو عين ما ذهب إليه شيخنا وهذه الحجّة يدلي بها ابن جرير في مواضع كثيرة من تفسيره وهي الحق . ذكر تعالى أن إبراهيم أتمّ الكلمات وأنّه تعالى { قَالَ } له : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } وقد فصلت الجملة عمّا قبلها ؛ لأنّها جواب عن سؤال مقدّر تدلّ عليه القرينة ، قال شيخنا : ولم يقل فقال إنّي جاعلك : للإشعار بأن هذه الإمامة بمحض فضل الله تعالى واصطفائه ، لا بسبب ، إتمام الكلمات ، فإنّ الإمامة هنا عبارة عن الرسالة وهي لا تنال بكسب الكاسب . وليس في الكلام دليل على أن الإبتلاء كان قبل النبوّة . وأمّا فائدة الإبتلاء : فهي تعريف إبراهيم عليه السلام بنفسه وأنّه جدير بما اختصّه الله به ، وتقوية له على القيام بما يوجه إليه ، وقد تحققت إمامته للناس بدعوته إياهم إلى التوحيد الخالص - وكانت الوثنيّة قد عمّتهم وأحاطت بهم - فقام على عهده بالحنيفيّة ، وهي الإيمان بتوحيد الله والبراءة من الشرك وإثبات الرسالة ، وتسلسل ذلك في ذريته خاصّة ، فلم ينقطع منها دين التوحيد ، ولذلك وصف الله الإسلام بأنّه ملّة إبراهيم . وماذا قال إبراهيم لمّا بشّره الله تعالى بجعله إماماً للناس { قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي } أي قال : واجعل من ذريتي أئمّة للناس ، وهو إيجاز في الحكاية عنه لا يعهد مثله إلاّ في القرآن . وقد جرى إبراهيم صلى الله عليه وسلم على سنّة الفطرة في دعائه هذا ، فإنّ الإنسان لما يعلم من أن بقاء ولده بقاء له ، يحب أن تكون ذريته على أحسن حال يكون هو عليها ، ليكون له حظّ من البقاء جسداً وروحاً . ومن دعاء إبراهيم الذي حكاه الله عنه في السورة المسمّاة باسمه : { رَبِّ ٱجْعَلْنِي مُقِيمَ ٱلصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَتِي } [ إبراهيم : 40 ] وقد راعى الأدب في طلبه ، فلم يطلب الإمامة لجميع ذريته بل لبعضها ، لأنّه الممكن ، وفي هذا مراعاة لسنن الفطرة أيضاً . وذلك من شروط الدعاء وآدابه ، فمن خالف في دعائه سنن الله في خليقته أو في شريعته ، فهو غير جدير بالإجابة ، بل هو سيء الأدب مع الله تعالى ؛ لأنّه يدعوه لأن يبطل لأجله سنّته التي لا تتبدل ولا تتحول ، أو ينسخ شريعته بعد ختم النبوّة وإتمام الدين . وبماذا أجاب الله إبراهيم حين دعاه هذا الدعاء ؟ { قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } أي إنّني أعطيك ما طلبت ، وسأجعل من ذريتك أئمّة للناس ، ولكن عهدي بالإمامة لا ينال الظالمين ؛ لأنّهم ليسوا بأهل لأن يقتدى بهم . ففي العبارة من الإيجاز ما يناسب ما قبلها ، وإنّما اكتفى في الجواب بذكر المانع من منصب الإمامة مطلقاً : وهو الظلم ؛ لتنفير ذريّة إبراهيم من الظلم وتبغيضه إليهم ، ليتحاموه وينشئوا أولادهم على كراهته ، ويربّوهم على التباعد عنه ؛ لكيلا يقعوا فيه فيحرموا من هذا المنصب العظيم ، الذي هو أعلى المناصب وأشرفها ، ولتنفير سائر الناس من الظالمين وترغيبهم عن الإقتداء بهم ، فإنّ الناس قد اعتادوا الإقتداء بالرؤساء والملوك الظالمين لأنفسهم ولغيرهم بالخروج عن الشريعة إلاّ ما يوافق أهواءهم ، ويحرّفون أو يؤوّلون الأحكام لتطابق شهواتهم ، وقد درجوا على ذلك في كل عصر ما عدا عصر النبوّة وما قاربه ، كعصر خلافة النبوّة كما يعلم من شهادة التاريخ التي لا تردّ . أقول : وذهب بعض المفسّرين إلى أن المراد بالظلم هنا أشدّ أنواعه قُبحاً وضرراً ، وهو الشرك والكفر ، ومنه { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] { وَٱلْكَٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ } [ البقرة : 254 ] ولكن لا دليل هنا على الحصر أو القصر ، ومَنْ يظلم الناس من الموحّدين المقرّين بالرسالة ، غير أهل لإمامتهم ؛ لأنّه قدوة باطل وشر ، يفسد عليهم دينهم ودنياهم . وإذا كان فقهاؤنا يقولون بأن الإمام لا ينبذ عهده إلاّ بالكفر الصريح دون الظلم والفسق ، فإنّما يقولون ذلك خوفاً من وقوع الفتنة ، لا لأن الظالم أهل للإمامة ، ألم تر أنّهم يشترطون في إختياره وبيعته العدالة ، ومن قواعدهم أنه يغتفر في البقاء والإستمرار ما لا يغتفر في الإبتداء ، وليس هذا في كل شيء أيضاً . قال الأستاذ : الإمامة الصحيحة والأسوة الحسنة ، هي فيما تكون عليه الأرواح من الصفات الفاضلة والملكات العلميّة ، التي تملك على صاحبها طرق العمل فتسوقه إلى خيرها وتزعه عن شرّها ، ولا حظّ للظالمين في شيء منها ، وإنّما هم أصحاب الرسم وأهل الخداع والإنخداع بالظاهر ، ولذلك يصفون أعمالهم وأحكامهم بالرسميّة . وقد جعل الله إبراهيم إماماً للناس وذكر لنا في كتابه كثيراً من صفاته الجليلة ، كقوله تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً } [ النحل : 120 ] الآيات ، وقوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ } [ هود : 75 ] ولم يذكر لنا شيئاً من زيّه وصفة ثيابه ، ولا وصف أنواع طعامه وشرابه ، بل أرشدنا إلى أن دعوته الصالحة لا يدخل فيها ولا ينتفع بها أحد من ذريته ، إلاّ مَنْ اجتنب الظلم لنفسه وللناس . قال : وقد أخذوا من هذه الآية حكماً أصوليّاً ، وهو أن الظالم لا يجوز أن يولّى منصب الإمامة العظمى ، واشترطوا لصحّة الخلافة فيما اشترطوا ، العلم والعدل . ونقل أن أبا حنيفة ( رح ) كان يفتي سرّاً بجواز الخروج على المنصور ويساعد عليّاً بن الحسن على ما كان ينزع إليه من الخروج عليه . اكتفى الأستاذ الإمام من الدرس بهذا القدر من الإستشهاد . ومن الناس مَنْ يعلّل إباء أبي حنيفة وغيره من الأئمّة منصب القضاء في زمن المنصور وأمثاله من الأمراء بإعتقاد عدم صحّة إمامتهم ، وعدم انعقاد ولايتهم ، ويروى أن أبا حنيفة كان يرى يومئذ أن الإمامة يجب أن تكون للعلويّين خاصّة . ثم ذكر الأستاذ الإمام هنا أئمّة العلم وقال : إن الناس لم يرعووا عن الإقتداء بالظالمين حتى بعد هذا التحذير الذي أوحاه الله إلى إبراهيم ، ثم أعلم به محمّداً عليهما الصلاة والسلام ، فإنّهم ظلّوا على دين ملوكهم ، وهم اليوم وقبل اليوم يدّعون الإقتداء بالأئمّة الأربعة رضي الله عنهم ، وهم كاذبون في هذه الدعوى ، فإنّهم ليسوا على شيء من سيرتهم في التخلّق بأخلاق القرآن ، وتحرّي اتباع الكتاب والسنّة في جميع الأعمال . اكتفى الأستاذ الإمام بهذه الإشارة في الدرس ، ونزيدها إيضاحاً فنقول : قد غلبت على الناس أهواء السلاطين والحكّام الظالمين ، حتى إن هؤلاء الأئمّة الأربعة لم يسلموا من أولئك الظالمين ، فقد سُجن أبو حنيفة وحاولوا إكراهه على قبول القضاء لمّا رأوا من إقبال الناس على الأخذ عنه فلم يقبل ، فضربوه وحبسوه ولم يقبل كما هو مشهور . وضُرب الإمام مالك سبعين سوطاً لأجل فتوى لم توافق غرض السلطان ، نقله ابن خلكان عن شذور العقود لابن الجوزي ، ونقل عن الواقدي أنّه لم يكن في آخر عهده يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة ، وكان يقول : ليس كل الناس يقدر أن يتكلّم بعذره . وسعى به إلى جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنهما وهو عمّ أبي جعفر المنصور وقالوا له إنّه لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء ، فغضب جعفر ودعا به وجرّده وضربه بالسياط ، ومُدّت يده حتى انخلعت كتفه وارتكب منه أمراً عظيماً . وخبر طلب هارون الرشيد الشافعي للقضاء وإبائه واختفائه ثم هربه مشهور ، وسببه الورع . وأشهر منه محنة الإمام أحمد وحبسه وضربه الضرب المبرح ليقول بخلق القرآن . فهكذا عامل الملوك الظالمون هؤلاء الأئمّة وبلغوا منهم ومن الناس بظلمهم ما أرادوا من إفساد الدين والدنيا . وكلّنا يعلم أنّ أولئك الذين ظلموا الأئمّة الذين يدعي الأمراء والحكّام اليوم اتباعهم ، كانوا أقل توغلاً وإسرافاً في الظلم من أكثر الملوك والأمراء المتأخرين ، وإنّك لترى أكثر الناس تبعاً لأهواء هؤلاء الرؤساء ، إلاّ مَنْ وفّقه الله وهداه ، وقليل ما هم ، بل هم الغرباء في الأرض . والعبرة في مثل ما أشرنا إليه من الأحداث أن الظالمين من حكّام هذه الأمّة بدأوا بتحكيم أهوائهم السياسية في الدين وأهله من القرن الأوّل ، وكانوا إذا رأوا الناس قد أقبلوا على رجل من رجال الدين استمالوه ، فإنّ لم يمل إليهم آذوه وأهانوه ، ولكن كان الدين وطلب الحق غالباً على أمر المسلمين ، فقد نقل المؤرخون أن الإمام مالكاً لم يزل بعد ذلك الضرب في علوّ ورفعة ، وكأنّما كانت تلك السياط حليّاً حلّى به . ولو أمر أحد السلاطين المتأخرين بضرب عالم من أعلم أهل العصر لأنّه لا يرى عهد بيعته صحيحاً ، أو لأنّه أفتى بما لا يوافق غرضه ( كما نُقل عن مالك ) لما رأيت له رفعة ولا إحتراماً عند الناس ، ولأعرض الجميع عنه ، فأمّا العقلاء العارفون بفضله فيعرضون عنه بوجوههم ، وأمّا الغوغاء من العامة ومَنْ في حكمهم فيعرضون عنه بقلوبهم ووجوههم ، ويعتقدون كفره أو فسقه وابتداعه . ذلك أن الظالمين من الأمراء قد استعانوا بالظالمين من الفقهاء على إقناع العامّة بأنّهم أئمّة الدين الذين يجب اتّباعهم حتى في الأمور الدينيّة ، وحالوا بينهم وبين كتاب الله الذي ينطق بأن عهد الله بالإمامة لا ينال الظالمين ، وغشّوهم بأنّ أئمّة الفقه الأربعة يحكمون بذلك ، ولو عرف الناس سيرتهم مع خلفاء زمنهم لما تيسّر غشهم . هذا وإن الحاكمين على عهدهم كانوا على علم بالكتاب والسنّة واتّباع لهما في أكثر أعمالهم وأحكامهم ، وأمّا المتأخرون فلا يعرفون من ذلك أكثر ممّا يعرفه السوقة ويعملون بخلاف ما يعلمون ، بل يشرّعون للناس أحكاماً جديدة يأخذونها من قوانين الأمم تخالف الشريعة ولا توافق مصلحة الأمّة ويلزمون عمّالهم وقضاتهم الحكم بها باسمهم ، لا باسم الله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } [ المائدة : 45 ]