Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 127-129)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ذكر الله تعالى العرب أوّلاً بنعمته عليهم بهذا البيت : أن جعله مثابة للناس وأمناً ، وبدعاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام لبلد البيت واستجابة الله تعالى دعاءه إذ جعله بلداً آمناً تجبى إليه الثمرات من البلاد البعيدة فيتمتّع أهله بها ، وهي نعم يعرفونها لا ينكرها أحد ، وانتقل منها إلى التذكير بالنعم المعنويّة ، فذكر عهده إلى إبراهيم وإسماعيل بأن يطهرا بيته للطائفين والعاكفين والركّع السجود ؛ لينبههم بإضافة البيت إلى نفسه : إنّه لا يليق أن يعبد فيه غيره . وبتطهيره لأجل الطواف والإعتكاف والصلاة : أنّه يجب تنزيهه عن الأصنام والتماثيل وعبادتها الفاسدة ، وعن سائر الأعمال الذميمة ، كطواف العريان وكانوا يفعلونه . ثم ذكرهم بعد هذا بأنّ إبراهيم هو الذي بنى هذا البيت بمساعدة ابنه إسماعيل ، وذكر لهم من دعائهما هنالك ما يرشدهم إلى العبادة الصحيحة والدين الحق ، ويجذبهم إلى الإقتداء بذلك السلف الصالح الذي ينتمون إليه ويفاخرون به ، فإنّ قريشاً كانت تنتسب إلى إبراهيم وإسماعيل بحقّ ، وتدّعي أنّها على ملّة إبراهيم ، ولذلك كانت ترى أنّها أهدى من الفرس والروم ، وسائر العرب تبع لقريش . قوله تعالى : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَٰعِيلُ } ظاهر في أنّهما هما اللذان بنيا هذا البيت لعبادة الله تعالى في تلك البلاد الوثنيّة ، ولكن القصّاصين ومَنْ تبعهم من المفسّرين ، جاءونا من ذلك بغير ما قصّه الله تعالى علينا وتفنّنوا في رواياتهم عن قدم البيت ، وعن حج آدم ومَنْ بعده من الأنبياء إليه وعن ارتفاعه إلى السماء في وقت الطوفان ، ثم نزوله مرّة أخرى ، وهذه الروايات يناقض ، أو يعارض بعضها بعضاً ، فهي فاسدة في تناقضها وتعارضها ، وفاسدة في عدم صحّة أسانيدها : وفاسدة في مخالفتها لظاهر القرآن ، ولم يستح بعض الناس من إدخالها في تفسير القرآن وإلصاقها به وهو بريء منها . ومن ذلك زعمهم أن الكعبة نزلت من السماء في زمن آدم ، ووصفهم حج آدم إليها وتعارفه بحوّاء في عرفة بعد أن كانت قد ضلّت عنه بعد هبوطهما من الجنّة ، وحاولوا تأكيد ذلك بتزوير قبر لها في جدّة ، وزعمهم أنّها هبطت مرّة أخرى إلى الأرض بعد ارتفاعها بسبب الطوفان ، وحلّيت بالحجر الأسود ، وأن هذا الحجر كان ياقوتة بيضاء - وقيل زمرّدة - من يواقيت الجنّة أو زمرّدها ، وأنّها كانت مودعة في باطن جبل أبي قبيس فتمخّض الجبل فولدها ، وأن الحجر إنّما أسودّ لملامسة النساء الحيّض له ، وقيل لاستلام المذنبين إياه . وكل هذه الروايات خرافات إسرائيليّة بثّها زنادقة اليهود في المسلمين ليشوّهوا عليهم دينهم وينفّروا أهل الكتاب منه . الأستاذ الإمام : لو كان أولئك القصّاصون يعرفون الماس لقالوا إن الحجر الأسود منه ؛ لأنّه أبهج الجواهر منظراً وأكثرها بهاء ، وقد أراد هؤلاء أن يزيّنوا الدين ويرقشوه برواياتهم هذه ، ولكنّها إذا راقت للبله من العامة ، فإنّها لا تروق لأهل العقل والعلم الذين يعلمون أن الشريف هذا الضرب من الشرف المعنوي ، هو ما شرّفه الله تعالى ، فشرف هذا البيت إنّما هو بتسمية الله تعالى إيّاه بيته ، وجعله موضعاً لضروب من عبادته لا تكون في غيره كما تقدّم ، لا بكون أحجاره تفضل سائر الأحجار ، ولا بكون موقعه يفضل سائر المواقع ، ولا بكونه من السماء ، ولا بأنّه من عالم الضياء . وكذلك شرف الأنبياء على غيرهم من البشر ليس لمزيّة في أجسامهم ولا في ملابسهم ، وإنّما هو لاصطفاء الله تعالى إيّاهم ، وتخصيصهم بالنبوّة التي هي أمر معنوي . وقد كان أهل الدنيا أحسن زينة وأكثر نعمة منهم . وقد أفصح عن هذا المعنى الذي قرّره الأستاذ الإمام ، أمير المؤمنين ومشيّد دعائم الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، إذ قال عند استلام الحجر الأسود : " أما والله إنّي لأعلم إنّك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أنّي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبّلك ما قبّلتك : ثم دنا فقبّله " رواه أبو بكر بن أبي شيبة والإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم من عدّة طرق . وروى ابن أبي شيبة والدارقطني في العلل عن عيسى بن طلحة عن رجل رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم وقف عند الحجر فقال : " إنّي لأعلم أنّك حجر لا تضر ولا تنفع ثم قبّله " ، ثم حج أبو بكر فوقف عند الحجر ثم قال : إنّي لأعلم إنّك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا إنّي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبّلتك " وحديث عمر يؤيّد الرواية المرفوعة ، وإنّما قدّمناه لأنّه أصحّ سنداً . وما روى من مراجعة عليّ لعمر في ذلك غير صحيح ، فلا يعوّل عليه . والحديث يرشدنا إلى أن الحجر لا مزيّة له في ذاته فهو كسائر الحجارة ، وإنّما استلامه أمر تعبّدي في معنى إستقبال الكعبة وجعل التوجّه إليها توجّها إلى الله ، الذي لا يحدّده مكان ولا تحصره جهة من الجهات ، على أنّه قد غرز في طبائع البشر تكريم البيوت والمعاهد ، والآثار والمشاهد ، التي تنسب للأحباء ، أو تضاف إلى العظماء . @ أمرّ على الديار ديار ليلى أُقبّل ذا الجدار وذا الجدارا وما حبّ الديار شغفن قلبي ولكن حبّ مَنْ سكن الديارا @@ وإنّما يكون التعظيم والتكريم للديار ، في حال غيبة الساكن والديّار ؛ لأن النفس إذا حرمت من المشاهدة التي تذكي نار الحب ، وتهيج الإحساس والشعور بلذّة القرب ، تحاول أن تذكي تلك النار ، بالتعلل بالأطلال والآثار ، ولا يقال لماذا خصّص الحجر الأسود بالتقبيل ؟ فإنّ كلّ مشعر من تلك المشاعر قد خُصّ بمزية تثير شعوراً دينيّاً خاصاً يليق به ، فلا يقال : لماذا كان الوقوف والإجتماع ، وتعارف أهل الآفاق والأصقاع ، مخصوصاً بعرفة دون غيرها من البقاع . ولهذه المشاعر والشعائر معان وأسرار أخرى عند بعض الخواص ، لا ينبغي شرحها لعامة الناس . وقد جعل القصّاص تلك الأحاديث والآثار ، وهذه المعاني والأسراء ، وجعلوا مزية البيت الحرام ومشاعره وحجره المكرّم محصورة في مخالفتها لسائر الحجارة ، وكون أصلها من جواهر الجنّة التي هي من عالم الغيب ، ولو كان ذلك صحيحاً لبقيت حجارتها كما كانت عندما نزلت من الجنّة بزعمهم ، وقد راجت بضاعتهم المزجاة عند أهل العلم والعقل عند مَنْ لا يعرف من الدين إلاّ هذه الرسوم الظاهرة ، ومنها كسوة الكعبة الحريريّة المزركشة ، فإنّها عند عامّتنا في هذه الأزمنة من أعظم شعائر الدين ، وإن حرم حضور احتفالها أو رؤيتها بعض علماء الأزهر المتأخرين ( كالباجوري ) وليس هذا التحريم لذاتها فإنّها مشروعة ، بل لما في الإحتفال بها من البدع وما عليه العوام من اعتقاد البركة فيها وفي جملها ، الذي يقبّل مقوده الأمراء والوزراء ورؤساء العلماء الرسميّين المدهنين لهم . وهكذا كل واحد يفهم الدين ، ويأخذ من كتب الأوّلين والآخرين ، ما يناسب استعداد عقله ، ويحسن في نظر جيرانه وأهله ، حتى يخرج المسلمون من هذه الفوضى في الدين والعلم ، ويدير شؤونهم الإجتماعية أهل الحكمة والفهم ، فيضعون لهم نظاماً يتبع في تعميم التربية والتعليم { وَمَن يَعْتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ آل عمران : 101 ] . ومن مباحث اللفظ في الجملة : أن القواعد جمع قاعدة ، وهي ما يقعد ويقوم عليه البناء من الأساس أو من الساقات ، ورفعها إعلاء البناء عليها أو إعلاؤها نفسها على الخلاف و " من البيت " قال ( الجلال ) إنّه متعلّق بيرفع ، وهذا إنّما يصحّ إذا أُريد بالبيت العرصة أو البقعة التي وقع فيها البناء ، والأكثرون على أن " من " للبيان وعليه يكون البيت بمعنى نفس البناء والجدران ، وهناك قول ثالث وهو أن " ممن " للتبعيض ، بناء على أن البيت مجموع العرصة والبناء . قال الأستاذ الإمام : وفي الكلام نكتة لطيفة وهي أن ذكر القواعد أوّلاً ، ينبّه الذهن ويحرّكه إلى طلب معرفة القواعد ما هي ؟ وقواعد أي شيء هي ؟ فإذا جاء البيان بعد ذلك كان أحسن وقعاً في النفس ، وأشدّ تمكناً في الذهن . وأمّا النكتة في تأخير ذكر إسماعيل عن ذكر المفعول ، مع أن الظاهر أن يقال : وإذ يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت ، فهي : الإلماع إلى كون المأمور من الله ببناء البيت هو إبراهيم ، وإنّما كان إسماعيل مساعداً له وقد ورد أنّه كان يناوله الحجارة . وقوله تعالى : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ } إلخ ، حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل عند البناء ، وهو أنّهما كانا يقولان ذلك ، حذف القول للإيجاز الذي عهد من القرآن في خطاب العرب كما تقدّم ، وجملة القول بيان لحالهما وقتئذٍ . وتقبّل الله العمل : قبله ورضي به { إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ } لأقوالنا { ٱلْعَلِيمُ } بأعمالنا وبنيتنا فيها . { رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } المسلم والمسلِّم والمستسلم واحد ، وهو المنقاد الخاضع ، والمراد بالكلمة ما يشمل التوحيد والإخلاص لله تعالى في الإعتقاد والعمل جميعاً ، ومعنى الأوّل أي الإخلاص في الإعتقاد - أن لا يتوجّه المسلم بقلبه إلاّ إلى الله ولا يستعين بأحد فيما وراء الأسباب الظاهرة إلاّ بالله ، ومعنى الثاني أن يقصد بعمله مرضاة الله تعالى لا إتباع الهوى وإرضاء الشهوة ، وإنّما يرضيه - تعالى - منّا أن نزكّي نفوسنا بمكارم الأخلاق ، ونرقّي عقولنا بالإعتقاد الصحيح المؤيّد بالبرهان ، فبذلك نكون محل عنايته تعالى ومستودع معرفته وموضع كرامته . ومن يقصد بأعماله إرضاء شهوته وإتباع هواه لا يزيد نفسه إلاّ خبثاً ، وبذلك يكون بعيداً عن الإسلام ويصدق عليه قوله : { أَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً } [ الفرقان : 43 ] . وقد يقال : إن الإنسان يندفع لمعظم الأعمال بسائق طلب المنفعة واللذة ، وهو سائق فطري ، فكيف ينافيه الإسلام وهو دين الفطرة . ومثاله طلب الغذاء لقوام الجسم يسوق إليه التلذذ بالطعام ، ومثل ذلك طلب اللذات العقليّة والأدبيّة ، فكيف يمكن أن يكون ما يُطلب للذة خالصاً لله وحده ؟ والجواب : إنّ الإسلام قد حلّ هذه المسألة حلاّ لا يجده الإنسان في ديانة أخرى ، ذلك أنّه لم يحرّم علينا إلاّ ما هو ضار بنا ، ولم يوجب علينا إلاّ ما هو نافع لنا ، وقد أباح لنا ما لا ضرر في فعله ولا في تركه من ضروب الزينة واللذة ، إذا قصد بها مجرّد اللذة ، وأمّا إذا قصد بها مع اللذة غرض صحيح وفعلت بنيّة صالحة ، فهي في حكم الطاعات التي يثاب عليها ، ومن نيّة المرء الصالحة في الزينة والطيب أن يُسرّ إخوانه بلقائه ، وأن يظهر نعم الله عليه ، وأن يتقرّب إلى امرأته ويدخل السرور عليها . وإنّما الهوى المذموم في الإسلام هو الهوى الباطل كأن يتزيّن الرجل ويتطيّب للمفاخرة والمباهاة ، أو ليستميل إليه النساء الأجنبيات عنه ، وبذلك تكون الزينة مذمومة شرعاً " وإنّما الأعمال بالنيات " . دعا هذان النبيان العظيمان لأنفسهما بحقيقة الإسلام ، ثم دعوا بذلك لذريتهما فقالا : { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } أي واجعل من ذريتنا أمّة مسلمة لك كإسلامنا ؛ ليستمر الإسلام لك بقوّة الأمّة وتعاون الجماعة . قال الأستاذ الإمام : أضافا الذرية إلى ضمير الأثنين ، للدلالة على أن المراد الذريّة التي تنسب إليهما معاً ، وهي ما يكون من ولد إسماعيل ، اللفظ ظاهر في هذا المعنى ، ويرجّحه الحال والمحل الذي كانا فيه ، وعزم إبراهيم على أن يدع إسماعيل في بلاد العرب داعياً إلى توحيد الله ، وإسلام القلب إليه ، ويرجع هو إلى بلاد الشام . وكذلك الدعاء لهذه الذريّة بأن يبعث الله فيهم رسولا منهم كما سيأتي . وقد استجاب الله تعالى دعاء إبراهيم وولده عليهما السلام ، وجعل في ذريتهما أمّة الإسلام ، وبعث فيها منها خاتم النبيّين عليه الصلاة والسلام ، وإلى هذا الدعاء الإشارة بقوله في سورة الحج { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ } [ الحج : 78 ] . وعلم ممّا تقدّم أن المراد بالإسلام ، معناه الذي شرحناه ، فمَنْ قام به هذا المعنى فهو المسلم في عرف القرآن ، وليس المراد به اسم في حكم الجامد يطلق على أمّة مخصوصة ، حتّى يكون كلّ مَنْ يولد فيها ، أو يقبل لقبها مسلماً ذلك الإسلام الذي نطق به القرآن ، ويكون من الذين تنالهم دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وقد جرى إبراهيم وولده على سنّة الفطرة في هذا الدعاء أيضاً فخصّاه ببعض الذريّة ؛ لأنّه قد يكون منها مَنْ لا يتناول الإسلام . { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } أي علّمنا إيّاها علماً يكون كالرؤية البصريّة في الجلاء والوضوح . والمناسَك : جمع منسك بفتح السين في الأفصح من النسك ( بضمتين ) ومعناه غاية العبادة ، وغلب استعمال النسك في عبادة الحج خاصّة ، والمناسك في معالمه أو أعماله { وَتُبْ عَلَيْنَآ } أي وفّقنا للتوبة لنتوب ونرجع إليك من كل حال أو عمل يشغلنا عنك . ويدلّ عليه قوله تعالى : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ } [ التوبة : 118 ] أو المعنى اقبل توبتنا ، ومنه الحديث " ويتوب الله على مَنْ تاب " وتاب - بالمثنّاة - كثاب ( بالمثلثة ) ومعناه رجع ، ويقال : تاب العبد إلى ربّه أي رجع إليه ؛ لأنّ اقتراف الذنب إعراض عن الله ، أي عن طريق دينه وموجبات رضوانه ، ويقال : تاب الله على العبد ؛ لأنّ التوبة من الله تتضمّن معنى الرحمة والعطف ، كأنّ الرحمة الإلهية تنحرف عن المذنب بإقترافه أسباب العقوبة ، فإذا تاب عادت إليه ، وعطف ربّه عليه . والتوبة تختلف بإختلاف درجات الناس ، فعبدك يتوب إليك من ترك ما أمرته بفعله ، أو فعل ما أمرته بتركه ؛ وصديقك يتوب إليك ويعتذر إذا هو قصّر في عمل لك فيه فائدة عمّا في إمكانه واستطاعته ؛ وولدك يتوب إذا قصّر في أدب من الآداب التي ترشده إليها ليكون في نفسه عزيزاً كريماً . وكذلك تختلف توبات التائبين إلى الله تعالى بإختلاف درجاتهم في معرفته ، وفهم أسرار شريعته ، فعامة المؤمنين لا يعرفون من موجبات سخط الله تعالى وأسباب عقوبته إلا المعاصي التي شدّدت الشريعة في النهي عنها ، وإذا تابوا من عمل سيئ فإنّما يتوبون منها ، وخواص المؤمنين يعرفون أن لكل عمل سيئ لوثة في النفس تبعد بها عن الكمال ، ولكل عمل صالح أثر فيها يقرّبها من الله وصفاته . فالتقصير في الصالحات يعدّ عند هؤلاء من الذنوب التي تهبط بالنفس وتبعدها عن الله تعالى ، فهي إذا قصّرت فيها تتوب ، وإذا شمّرت لا تأمن النقائص والعيوب . ويختلف إتهام هؤلاء الأبرار لأنفسهم بإختلاف معرفتهم بصفات النفس وما يعرض لها من الآفات في سيرها ، ومعرفتهم بكمال الله جلّ جلاله ومعنى القرب منه واستحقاق رضوانه ، ولذلك قال بعض العارفين ، حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين . ومن هنا نفهم معنى التوبة التي طلبها إبراهيم وإسماعيل ، عليهما وعلى آلهما الصلاة والتسليم ، { إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } أي إنّك أنت وحدك الكثير التوب على عبادك ، وإن كثر تحوّلهم عن سبيلك بتوفيقهم للتوبة إليك ، وقبول توبتهم منهم الرحيم بالتائبين . { رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ } أي من أنفسهم ، ويتضمن هذا الدعاء لهم بالإرتقاء الذي يؤهلهم ويعدّهم لظهور النبيّ منهم . وقد أجاب الله تعالى هذه الدعوة بخاتم النبيّين والمرسلين صلى الله عليه وسلم كما ورد في حديث أحمد " أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى " إلخ ، ثم وصّف هذا الرسول بقوله : { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَٰتِكَ } الدالة على وحدانيتك وتنزيهك وعظمة شأنك ، والدالة على صدق رسلك إلى خلقك . فالمراد بالآيات : الآيات الكونيّة والعقليّة ، أو المراد آيات الوحي التي تنزلها عليه فتكون دليلا على صدقه ، ومشتملة على تفصيل آيات الله في خلقه ، كبراهين التوحيد والتنزيه ، ودلائل النبوّة والبعث . وتلاوتها : ذكرها المرّة بعد المرّة ؛ لترسّخ في النفس ، وتؤثّر في القلب . { وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ } قال الأستاذ الإمام : فسّروا الكتاب بالقرآن ، والحكمة بالسنّة . والثاني غير مسلّم على عمومه ، أمّا الأوّل فله وجه . وعليه : يكون المراد بالآيات فيما سبق دلائل العقائد وبراهينها كما تقدّم فيما سبق دون الوحي وإلاّ كان مكرراً . وفيه وجه ثان ، وهو أن المراد بالكتاب مصدر كتب ، يقال : كتب كتاباً وكتابة ، وإنّما الدعاء لأمّة أميّة ، لا بدّ في إصلاحها وتهذيبها من تعليمها الكتابة ، وقد كانت الأمم المجاورة لها من أهل الكتاب ، فلا يتيسّر لها اللحاق بها أو سبقها ، حتى تكون من الكاتبين مثلها ، وأمّا الحكمة ، فهي في كل شيء : معرفة سرّه وفائدته ، والمراد بها أسرار الأحكام الدينيّة والشرائع ومقاصدها ، وقد بيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك بسيرته في المسلمين ، وما فيها من الفقه في الدين . فإنّ أرادوا من السنّة هذا المعنى في تفسير الحكمة فهو مسلّم ، وهو الذي كان يفهم من اسمها في الصدر الأوّل ، وإن أرادوا بالسنّة ما يفسّرها به أهل الأصول والمحدّثون ، فلا تصحّ على إطلاقها ، فالحكمة مأخوذة من الحكمة - بالتحريك - وهي ما أحاط بحنكي الفرس من اللجام وفيها العذاران ، وفي ذلك معنى ما يضبط به الشيء ، ومن ذلك إحكام الأمر وإتقانه . وما كلّ مَنْ يروي الأحاديث يحقق له هذا المعنى ، ولكن الذي يتفقه في الدين ويفهم أسراره ومقاصده يصحّ أن يقال : إنّه قد أُوتي الحكمة ، التي قال الله فيها { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [ البقرة : 269 ] ولن يكون أحد داخلا في دعوة إبراهيم ، حتّى يقبل تعليم الحكمة من هذا النبيّ الكريم . علم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن تعليم الكتاب والحكمة لا يكفي في إصلاح الأمم وإسعادها ، بل لا بدّ أن يقرن التعليم بالتربية على الفضائل والحمل على الأعمال الصالحة بحسن الأسوة والسياسة ، فقالا : { وَيُزَكِّيهِمْ } أي يطهّر نفوسهم من الأخلاق الذميمة ، وينزع منها تلك العادات الرديئة ، ويعوّدها الأعمال الحسنة التي تطبع في النفوس ملكات الخير ، ويبغض إليها الأعمال القبيحة التي تغريها بالشر ، ثم ختما الدعاء بهذا الثناء : { إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ } العزيز : هو القويّ الغالب على أمره فلا ينال بضيم ، ولا يغلب على أمر . والحكيم : هو الذي يضع الأشياء أحسن موضع ، ويتقن العمل ويحسن الصنع . والسر في ذكر هذين الوصفين هنا إزالة ما ربّما يتعلق بالذهن ، أو يسبق إلى الوهم ، من أن هذه الأمور التي دعي بها للعرب منافية لطبائعهم ، بعيدة من أحوالهم ومعايشهم ، فإنّهم جمدوا على بداوتهم ، وألفوا غلظتهم وخشونتهم ، فهم أعداء العلم والحكمة ، خصماء التهذيب والتربية ، لا يخضعون لنظام ، ولا يؤخذون بالأحكام ، ولا استعداد فيهم للمدنيّة والحضارة التي هي أثر تعليم الكتاب والحكمة ، وتزكية أفراد الأمّة ، فكان يتوقع أن يقول قائل : مَنْ يقدر أن يغيّر طباع هذه الأمّة المعروفة بالخشونة والقسوة ، فيجعلها من أهل العلم والمدنيّة والحكمة ؟ لولا أن علم أن المدعو والمسؤول هو العزيز الذي لا مردّ لأمره ، والحكيم الذي لا معقّب لحكمه .