Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 130-134)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الكلام في هذه الآيات متّصل بما سبقه من إبتداء قوله : { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } [ البقرة : 124 ] فقد ذكر أنّه تعالى ابتلى إبراهيم بكلمات فأتمّهن ، وأنّه جعله إماماً للناس وجعل من ذريته أئمّة ، وأنّه عهد إليه ببناء بيته وتطهيره لعبادته ففعل ، وكان يومئذ يدعو بما علم منه ما هي ملّته ، وإن هي إلاّ توحيد الله وإسلام القلب إليه والإخلاص له بالأعمال ، وتعظيم البيت بتطهيره وإقامة المناسك فيه عن بصيرة بأسرارها تجعل المعنى المتصوّر ، كالمحسوس المبصر . ثم قال بعد هذا : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } أي امتهنها واستخفّ بها ، كأنّه تعالى يقول : هذه هي ملّة أبيكم إبراهيم ، الذي تنتسبون إليه وتفخرون به ، فكيف ترغبون عنها ، وتنتحلون لأنفسكم أولياء لا يملكون لكم نفعاً ولا ضرّاً ، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، لا بالذات ولا بالوساطة . قال : { وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَاهُ فِي ٱلدُّنْيَا } بهذه الملّة ، فجعلناه إماماً للناس وجعلنا في ذريّته الكتاب والنبوّة { وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ } لجوار الله بعمله بهذه الملّة ، ودعوته إليها وإرشاده الناس بها . فملّة جعلت لإبراهيم هذه المكانة عند الله تعالى في الدنيا والآخرة ، لا يرغب عنها إلاّ مَنْ سفه نفسه ، وجنى على إدراك عقله فاستحبّ العمى على الهدى ، وإن خسر الآخرة والأولى . ومن مباحث اللفظ في الآية : قول ( الجلال ) في تفسير { سَفِهَ نَفْسَهُ } أي جهل أنها مخلوقة لله . قال الأستاذ الإمام : ولم يقل بهذا أحد من المفسّرين الذين يعتدّ بهم ، والسياق لا يقتضيه ، وسفه يستعمل لازماً ومتعدّياً ، ومعنى المتعدّي استخف وامتهن وأخّره ( الجلال ) وهو الراجح . وفي الكشاف أن { نَفْسَهُ } تميّيز لفاعل { سَفِهَ } ولا يمنع من ذلك الإضافة إلى الضمير ؛ لأنّه تعريف لفظي ، والمعنى : إنّه لا يرغب عن ذلك إلاّ مَنْ سفهت نفسه ، أي حمقت ، وقدّم هذا القول كأنّه رجّحه على ما قبله اهـ . وأقول : سفه بالضم - كضخم - سفاهة صار سفيها ، وسفه بالكسر - كتعب - سفها هو الذي قيل : إنّه يستعمل لازماً ومتعدياً ، وقيل : بل هو لازم دائماً ، وأن أصل سفه نفسه بالرفع ، فنصب على التمييز كسفه نفساً ، فأضيفت النفس إلى ضميره كما تقدّم ، ومثله غبن رأيه . وسيأتي توضيح معناه في تفسير { سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ } [ البقرة : 142 ] . { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ } أي اصطفاه إذ دعاه إلى الإسلام بما أراه من آياته ونصب له من بيّناته ، فأجاب الدعوة و { قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } و ( الجلال ) قدّر كلمة " اذكر " متعلّقاً للظرف " إذ " كما هي عادته في مثله ، وإن وجد في الكلام ما يتعلّق به ، كقوله هنا : " اصطفيناه " وقد نشأ إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوم يعبدون الكواكب ويتّخذون الأصنام ، فأراه الله حجّته ، وأنار بصيرته ، فنفذت أشعتها من العالم الشمسي ، وأدركت أن لجميع العالمين ربّاً واحداً منفرداً بالخلق والتدبير ، وحاجّه قومه فبهرهم ببرهانه ، وأفحمهم ببيانه ، وقد قصّ الله تعالى خبره معهم في سورة الأنعام ، وسيأتي تفسير الآيات إن شاء الله تعالى . { ووصى بها } أي بالملّة أو الخصلة التي ذكرت أخيراً { إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ } بنيه أيضاً ، إذ قال كلّ منهما لولده { يَابَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ } أي اختاره لكم بهدايتكم إليه ، وجعل الوحي فيكم { فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ } أي فحافظوا على الإسلام لله والإخلاص في الإنقياد إليه ، بحيث لا تتركوا ذلك لحظة واحدة لئلاّ تموتوا فيها فتموتوا غير مسلمين ، فإنّ الإنسان لا يضمن حياته بين الشهيق والزفير . ويتضمّن هذا النهي إرشاد مَنْ كان منحرفاً عن الإسلام إلى عدم اليأس ، وأن يبادر بالرجوع إليه والإعتصام بحبله لئلاّ يموت على غيره . وفي هذه الآية انتقال إلى إشراك أهل الكتاب وغيرهم من العالمين مع العرب في التذكير والإرشاد إلى الإسلام ؛ ولذلك ذكرت وصيّة يعقوب ، واختلف الأسلوب ، فقد كان جارياً على طريقة الإيجاز ، فانتقل إلى طريقة الإطناب والإلحاح ، لما تقدّم الإلماع إليه من مراعاة الأولى في خطاب العرب ، والثانية في خطاب أهل الكتاب الذين لا يكتفون بالإشارة والعبارة المختصرة ؛ لجمود أذهانهم واعتيادهم على التأويل والتحريف . وفصل بين العاطف والمعطوف بالمفعول ولم يقل : ووصّى بها إبراهيم ويعقوب بنيهما ، لئلاّ يتوهم أن الوصيّة كانت منهما في وقت واحد أو أنّها خاصّة بأبنائهما معاً ، وهم أولاد يعقوب على نحو ما تقدّم في تفسير { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } [ البقرة : 128 ] . ذكر ملّة إبراهيم ، وحكم الراغب عنها ، ووصيّته بنيه بها ، ووصيّة حفيده يعقوب بنيه بها أيضاً . وذلك يشعر بأن بنيّ إبراهيم كانوا يوصّون بما أوصاهم أبوهم ، فإنّ يعقوب أخذ الوصيّة عن أبيه إسحاق . وذلك من ضروب الإيجاز الدقيقة . ثم أراد أن يقرّر أمر هذه الوصيّة ويؤكّدها ، ويقيم الحجّة بها على أهل الكتاب فقال : { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ٱلْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي } . أقول : هذا إضراب عمّا قبله وانتقال إلى استفهام إنكاري وجّه إلى اليهود عن وصيّة جدهم يعقوب لآبائهم الأسباط ، ويجوز أن يكون معناه : أكنتم غائبين أم كنتم شهداء إذ احتضر يعقوب فسأل بنيه عمّا يعبدون من بعده ، سؤال تقرير ليشهدوه على أنفسهم بالتوحيد الخالص والسؤال بما أعم من السؤال بمن لأن هذا خاص بمن يعقل وما أنزل منزلته بسبب يجيز ذلك ، والسؤال بكلمة " ما " يعم العاقل وغيره ، وتتعيّن " ما " في السؤال عن العاقل إذا أُريد وصفه نحو { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 23 ] ؟ وهذا الإصطلاح للنحاة لا يدلّ على جواز وصف الله تعالى بلفظ " العاقل " شرعاً ؛ لأن أسماءه وصفاته تعالى توقيفيّة . { قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } عرفوا الإله بالإضافة إلى آبائهم ؛ لأنّهم هم الذين انفردوا بعبادة ربّ العالمين خالق السماوات والأرض وحده ، ودعوا الأمم إلى ذلك في وقت فشت فيه عبادة آلهة كثيرين من الكواكب والأصنام والحيوانات وغيرها ، ولذلك قال سحرة موسى عندما آمنوا : { آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ } [ الأعراف : 121 - 122 ] وإسماعيل عمّ يعقوب ذكر مع آبائه للتغليب أو لتشبيه العم بالأب ، كما في حديث " عم الرجل صنوا أبيه " رواه الشيخان . والجمع بين الحقيقة والمجاز جائز يكثر في القرآن وفاقاً للشافعي وابن جرير الطبري وخلافاً لجمهور الأصوليّين { إِلَـٰهاً وَاحِداً } أي نعبده حال كونه إلهاً واحداً ، أو نخصّ بالعبادة إلهاً واحداً لا نشرك معه أحداً بدعاء ، ولا توجه في قضاء حاجة ، ولا غير ذلك من العبادات { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي والحال أنّنا نحن منقادون مذعنون مستسلمون له وحده دون غيره ، كما يدلّ عليه تقديم الظرف " له " وقال الأستاذ الإمام في الآية ما معناه : خلاصة هذه الوصيّة عقيدة الوحدانيّة في العبادة ، وإسلام القلب لله تعالى ، والإخلاص له . وتكرار لفظ ( الإسلام ) في هذه الآيات يراد به تقرير حقيقة الدين ، ذلك أن العرب كانت تدّعي أن لها ديناً خاصّاً بها وأنّه الحق ، وإن اختلفت فيه القبائل والشعوب ، ومنهم مَنْ كان ينتمي إلى إبراهيم على وثنيّتهم ، وكذلك اليهود والنصارى كلّ يدّعي ديناً خاصّاً به وأنّه الحق ، فبيّنت هذه الآيات أن هذه الدعاوى من التعصّب للتقاليد ، وأن دين الله تعالى واحد في حقيقته ، وروحه التوحيد والإستسلام لله تعالى والخضوع والإذعان لهداية الأنبياء . وبهذا كان يوصّي أولئك النبيّون أبناءهم وأممهم . فتبيّن أن دين الله تعالى واحد في كلّ أمّة ، وعلى لسان كلّ نبيّ ، ولذلك قال في آية أخرى : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } [ الشورى : 13 ] فالتفرّق في الدين ما جاء إلاّ من الجهل والتعصّب للأهواء ، والمحافظة على الحظوظ والمنافع المتبادلة بين المرءوسين والرؤساء ، فالقرآن يطالب الجميع بالإتفاق في الدين والإجتماع على أصليه : العقلي ، وهو التوحيد والبراءة من الشرك بأنواعه : والقلبي ، وهو الإسلام والإخلاص لله في جميع الأعمال . وعلم من هذا أن لفظ الإسلام والمسلمين في كلام إبراهيم وإسماعيل ويعقوب يراد به معناه الذي تقدّم ، فمَنْ لم يكن متحققاً بهذا المعنى فليس بمسلم ، أي ليس على دين الله القيّم الذي كان عليه جميع أنبياء الله . وأمّا لفظ الإسلام في عرفنا اليوم : فهو لقب يطلق على طوائف من الناس لهم مميّزات دينيّة وعاديّة تميّزهم عن سائر طوائف الناس الذين يلقّبون بألقاب دينيّة أخرى ، . ولا يشترط في إطلاق هذا اللقب العرفي - عند أهله - أن يكون المسلم خاضعاً مسلماً لدين الله مخلصاً له أعماله ، بل يطلقونه أيضاً على مَنْ ابتدع فيه ما ليس منه ، أو ما ينافيه ، ومَنْ فسق عنه واتّخذ إلهه هواه . ومعنى الإسلام الذي دعا إليه القرآن ، تقوم به الحجّة على المشركين ، ويعترف به اليهود والنصارى ؛ لأنّه روح كلّ دين ، وهو الذي دعا إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم ، والدعوة إلى اللقب لا معنى لها . قال الأستاذ الإمام : بعد تقريره هذا المعنى : وبه يظهر خطأ مَنْ خصّص الرغبة عن ملّة إبراهيم بالميل إلى اليهوديّة أو النصرانيّة . ومن مباحث اللفظ في الآية : أن " أم " تستعمل في الاستفهام إذا كان مبنيّاً على كلام سابق - كما هنا - لما فيها من الإشعار بالإنتقال ففيها معنى الإضراب . { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أقول : الأمّة هنا : الجماعة من الناس ، والمشار إليه : يعقوب وآباؤه وأبناؤه ، وإذا بدأت بالأفضل قلت إبراهيم وأولاده وأحفاده المذكورون في الآية السابقة . { قَدْ خَلَتْ } مضت وذهبت من هذا العالم { لَهَا مَا كَسَبَتْ } من عمل تجزى به ، { وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ } من عمل تجزون به ، ولا يجزى أحد بعمل غيره { وَلاَ تُسْأَلُونَ } يوم الحساب والجزاء { عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } سؤال حساب وجزاء ، ولا يُسئلون عمّا تعملون كذلك ، بل كلّ يُسئل عن عمله ويجازى به دون عمل غيره ، فلا ينتفع أحد بعمل غيره ولا يتضرّر به من حيث هو عمله ، إلاّ أنّه قد ينتفع أو يتضرّر بعمل غيره إذا كان هو سبباً له ؛ لأنّه أرشده إليه وكان قدوة له فيه . الأستاذ الإمام : جاءت هذه الآية الكريمة - بعد الكلام عن وصيّة إبراهيم لبنيه ، وإسماعيل وإسحاق ويعقوب لبنيهم - استدراكاً على ما عساه يقع في أذهان ذراري هؤلاء الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام : من أن هذا السلف الذي له عند الله هذه المكانة ، يشفع لهم فينجون ويسعدون يوم القيامة بمجرّد الإنتساب إليهم . فبيّن الله في هذه الآية : أنّ سنّته في عباده أن لا يجزى أحد إلاّ بكسبه وعمله ، ولا يُسأل إلاّ عن كسبه وعمله . وقد بيّن في سورة النجم أن هذه القضيّة من أصول الدين العامة التي جاء بها الأنبياء من قبل { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ * وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ * أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } [ النجم : 36 - 39 ] إلخ . وبيّن في آيات متعددة في سور متفرقة : أنّ المرسلين لم يرسلوا إلاّ مبشّرين ومنذرين ، فمَنْ آمن بهم وعمل بما يرشدون إليه كان ناجياً - وإن بعد عنهم في النسب - ومَنْ أعرض عن هديهم كان هالكاً - وإن أدلى إليهم بأقرب سبب { قَالَ يٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [ هود : 46 ] وإذا لم تنتفع بهم ذرياتهم الذين لم يقتدوا بهم ، فكيف ينتفع بهم أولئك البعداء الذين ليس بينهم وبينهم صلة إلاّ الأقوال الكاذبة التي يعبّر عنها أهل هذا العصر ( بالمحسوبيّة ) ويقولون في مخاطبة أصحاب القبور عند الإستغاثة بهم " المحسوب كالمنسوب " ؟ وما أحسن قول الإمام الغزالي : إذا كان الجائع يشبع إذا أكل والده دونه ، والظمآن يروى بشرب والده وإن لم يشرب ، فالعاصي ينجو بصلاح والده . والآيات التي تؤيّد هذه الآية كثيرة جدّاً فهي أصل من أصول الدين الإلهي لا يفيد معها تأويل المغرورين ، ولا غرور الجاهلين .