Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 135-138)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

بيّن في الآيات السابقة حقيقة ملّة إبراهيم في سياق دعوة العرب إلى الإسلام ، ثم أشرك معهم أهل الكتاب ؛ لأنّهم أقرب إلى الإيمان بإبراهيم وأجدر بإجلاله واتباعه ، وانتقل الكلام بهذه المناسبة إلى بيان وحدة الدين الإلهي واتفاق النبيّين في جوهره ، وبيان جهل أهل الكتاب بهذه الوحدة ، وقصر نظرهم على ما يمتاز به كلّ دين من الفروع والجزئيات ، أو التقاليد التي أضافوها على التوراة والإنجيل فبعد بها كل فريق من الآخر أشدّ البعد ، وصار الدين الواحد كفراً وإيماناً ، كل فريق من أهله يحتكر الإيمان لنفسه ويرمي الآخر بالكفر والإلحاد ، وإن كان نبيّهم واحداً وكتابهم واحداً . فقوله تعالى : { وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُواْ } بيان لعقيدة الفريقين في التفرق في الدين والضمير في { وَقَالُواْ } لأهل الكتاب و " أو " للتوزيع أو التنويع ، أي إن اليهود يدعون إلى اليهوديّة التي هم عليها ويحصرون الهداية فيها - والنصارى يدعون إلى النصرانية التي هم عليها ويحصرون الهداية فيها - وهذا الأسلوب معهود في اللغة - ولو صدق أي واحد منهما لمّا كان إبراهيم مهتدياً ؛ لأنّه لم يكن يهوديّاً ولا نصرانيّاً ، وكيف وهم متفقون على كونه إمام الهدى والمهتدين . لذلك قال تعالى ملقّناً لنبيّه البرهان الأقوى في محاجتهم : { قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } أي بل نتبع أو اتبعوا ملّة إبراهيم الذي لا نزاع في هداه ولا في هديه ، فهي الملّة الحنيفيّة القائمة على الجادة بلا إنحراف ولا زيغ ، العريقة في التوحيد والإخلاص بلا وثنيّة ولا شرك . والحنيف في اللغة : المائل . وإنّما أُطلق على إبراهيم ؛ لأنّ الناس في عصره كانوا على طريقة واحدة وهي الكفر ، فخالفهم كلّهم وتنكّب طريقتهم . ولا يسمّى المائل حنيفاً ، إلاّ إذا كان الميل عن الجادة المعبّدة ، وفي " الأساس " : مَنْ مال عن كل دين أعوج . ويطلق على المستقيم ، وبه فسّر الكلمة بعضهم وأورد له شاهداً من اللغة وهو أقرب . ومن التأويلات البعيدة : ما روي من تفسير الحنيف بالحاج ، ووجه القول به : أنّه ممّا حفظ من دين إبراهيم . الأستاذ الإمام : قال بعض المشغلين بالعربيّة من الإفرنج : إن الحنيفيّة هي ما كان عليه العرب من الشرك ، واحتجّوا على ذلك بقول بعض النصارى في زمن الجاهلية " إن فعلت هذا أكون حنيفيّا " وإنّها لفلسفة جاءت من الجهل باللغة ، وقد ناظرت بعض الإفرنج في هذا فلم يجد ما يحتج به إلاّ عبارة ذلك النصراني وهو الآن يجمع كل ما نقل عن العرب من هذه المادّة لينظر كيف كانوا يستعملونها . ولا دليل في كلمة النصراني العربي ، على أن الكلمة تدلّ لغةً على الشرك ، وإنّما مراده بكلمته البراءة من دين العرب مطلقاً ؛ ذلك أن بعض العرب كانوا يسمّون أنفسهم الحنفاء ، وينتسبون إلى إبراهيم ويزعمون أنّهم على دينه ، وكان الناس يسمّونهم الحنفاء أيضاً ، والسبب في التسمية والدعوى : أن سلفهم كانوا على ملّة إبراهيم حقيقة ، ثم طرأت عليهم الوثنيّة فأخذتهم عن عقيدتهم ، وأنستهم أحكام ملّتهم وأعمالها - نسوا بعضها بالمرّة وخرجوا ببعض آخر عن أصله ووصفه كالحج . ونفي الشرك عن إبراهيم في آخر الآية إحتراس من وهم الواهمين ، وتكذيب لدعوى المدّعين . أقول : لا بدع أن ينسى الأمّيون ما كانوا عليه ، فإنّ أهل الكتاب خرجوا بدينهم عن وضعه الأوّل ، فنسوا بعضاً وحرّفوا بعضاً ، وزادوا فيه ونقّصوا منه . فاليهود أضافوا التلمود إلى ما عندهم من التوراة ، وسمّوا مجموع ذلك مع تفاسيره وآراء أحبارهم فيه باليهوديّة . وأمّا النصارى ، فقد ظهر دينهم بشكل لو رآه الحواريون - الذين أخذوا الدين عن المسيح مباشرة - لما عرفوا أي دين هو . وهؤلاء المسلمون على حفظ كتابهم في الصدور والسطور ، يعملون باسم الدين أعمالاً يظنّها الجاهلون بدينهم أعظم أركان الدين ، وما هي من الدين ، وإنّما هي بدع المضلّين . فالإفرنج يكتبون في رحلاتهم أن رقص المولويّة ، من أعظم العبادات الإسلامية ، وأن ما يكون في جامع القلعة في ليالي المولد والمعراج ونصف شعبان من الرقص والعزف بالطبول والدفوف وغيرها ، من أهم الشعائر الإسلاميّة ، وسمّاها بعضهم ( الصلاة الكبرى ) ولولا أن القرآن محفوظ وسنّة الرسول وسيرة السلف الصالح مدوّنتان في الكتب ؛ لنسينا الأصل واكتفينا بهذه البدع ، فإنّ مئات الألوف التي تحج مشاهد أهل البيت والجيلاني بالعراق ، والبدوي وأمثاله بمصر كل عام لا يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويحج البيت منهم ، إلاّ أقلّهم ، ولهم في عبادتهم الباطلة أخشع منهم في عبادتهم المشروعة ، ولكن الله أراد بقاء هذا الدين وحفظه وسيرجع إلى كتابه الراجعون ، ويهتدي به المهتدون ولو كره المقلّدون ، وعند ذلك تنقشع ظلمات هذه البدع التي هم فيها يتخبطون . وقد توهم بعض العلماء أن هذا الجواب { بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } إلخ ، جاء على طريقة الإقناع وليس حجّة حقيقية ، ووجّهوه بقولهم : إن أهل الكتاب يعاندون الحق ويكابرون في معجزة النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمر الله نبيّه بأن يلزمهم بالدلائل الإقناعيّة التي لا يقدرون على مكابرتها والمراء فيها . والحق أن هذا الجواب حجّة حقيقيّة ، وقد أشرنا إلى وجهها الوجيه أوّل الكلام في تفسير الآية . وقد تجرّأ كثير من العلماء على مثل هذا الكلام في كثير من الآيات التي احتج بها القرآن ، حتّى في إثبات الوحدانية ، والسبب في ذلك : افتتانهم بالطريقة النظريّة التي أخذوها عن كتب اليونان ، ولقد اهتدى بحجج القرآن الألوف وألوف الألوف ، وقلّما اهتدى بتلك الأدلّة النظريّة المحضة أحد من الناس ، وإنّما تفيد في دفع شبهاتهم التي يوردونها على العقائد ، ولا فائدة فيها سوى المراء والجدل . وقد مُحيت في عصرنا تلك الشبهات ، ورغب الناس عن هاتيك النظريات ، وقام بناء العلم على أسس الوقائع والحوادث والمجربات . وقال ( الجلال ) : إن الآية نزلت في يهود المدينة ونصارى نجران ، فهم القائلون ما ذُكر . والتحقيق أن الآية في بيان طبيعة أهل الملّتين كما تقدّم ، وقول يهود المدينة ونصارى نجران ما ذُكر - إن صحّ - لا يقتضي التخصيص ؛ فإنّهم ما قالوا إلاّ ما هو لسان حال ملّتهم ، وغيرهم يقول مثل قولهم ، أو يصدّق القائلين باعتقاده وسيرته . أمر الله النبيّ بأن يدعو إلى إتّباع ملّة إبراهيم ، ثم أمر المؤمنين بمثل ذلك فقال : { قُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ } [ البقرة : 136 ] أي لا تكن دعوتكم إلى شيء خاصّ بكم يفصل بينكم وبين سائر أهل الأديان السماويّة ، بل أنظروا إلى جهة الجمع والإتفاق ، وادعوا إلى أصل الدين وروحه الذي لا خلاف فيه ولا نزاع ، وهو التسليم بنبوّة جميع الأنبياء والمرسلين ، مع الإسلام لرب العالمين ، لا نعبد إلاّ الله ، ولا نفرّق بين أحد من رسل الله . والأسباط : أولاد يعقوب والفرق أو الشعوب الإثني عشر المتشعبة منهم . قال تعالى : { وَقَطَّعْنَاهُمُ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً } [ الأعراف : 160 ] وقد ورد أن أولاد يعقوب كانوا أنبياء ، ولم يرد أنّهم كانوا مرسلين . فإنّ صحّ هذا - كما يفهم من إطلاق الأستاذ الإمام في الدرس - فالمراد بالأسباط الإطلاق الأوّل ، وإلاّ كان في الكلام تقدير مضاف ، أي أنبياء الأسباط ، كأنّه قال : وسائر أنبياء بني إسرائيل وهو المختار ، ولم يصحّ في نبوّة غير يوسف من أبناء يعقوب شيء . { وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ } ، قال الأستاذ الإمام : وهاهنا نكتة دقيقة في اختلاف التعبير عن الوحي الذي منحه الله الأنبياء ، إذ عبّر بأنزل تارة ، وبأوتي تارة أُخرى ، وهي أنّ التعبير بأنزل ذكر هنا في جانب الأنبياء الذين ليس لهم كتب تؤثر ، ولا صحف تنقل ، وذلك أن إنزال الوحي على نبي لا يستلزم إعطاءه كتاباً يؤثر عنه ، وهذا ظاهر إذا كان النبيّ غير مرسل ، فإنّ الوحي إليه يكون خاصّا به ، ويكون إرشاده للناس أن يعملوا بشرع رسول آخر إن كان بُعث فيهم رسول ، وإلاّ كان قدوة في الخير ومعدّاً للنفوس لبعثة نبي مرسل . وأمّا النبيّ المرسل فقد يُؤمر بالتبليغ الشفّاهي ولا يعطى كتاباً باقياً ، وقد يكتب ما يوحى إليه في عصره فيضيع من بعده ، فهؤلاء الرسل الكرام الذين عبّر عنهم بقوله : { وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ } لا يؤثر عن أحد منهم كتاب مسند صحيح ولا غير صحيح ، وإنّنا نؤمن بأنّهم كانوا أنبياء ، وأن ما نزل عليهم هو دين الله الحق ، وأنّه موافق في جوهره وأصوله لما أُنزل على مَنْ بعدهم . وما ذكر الله من ملّة إبراهيم بالنصّ ، هو روح ذلك الوحي كلّه . وقد جاء في سورة النجم وسورة الأعلى ذكر صحف لإبراهيم . وقال ( الجلال ) هنا : إنّها عشر . فنؤمن أنّه كان له صحف ولا نزيد على ما ورد شيئاً ، وأمّا إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، فلم يثبت أن لهم صحفاً ولا كتباً ، فنؤمن بما أنزل إليهم بالإجمال ونعتقد أنّه عين ملّة إبراهيم . وجاء التعبير عن وحي الذين كان لهم كتب تؤثر بقوله : { وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ } فهو يشير بالإيتاء إلى أن ما أُوحي إليهم له وجود يمكن الرجوع إليه والنظر فيه ، فإنّ أقوامهم يأثرون عنهم كتباً . وأقول الآن : إن المراد الإيمان بما أنزل الله تعالى وما أعطاه لأولئك النبيّين والمرسلين إجمالا ، وأنّه كان وحياً من الله ، فلا نكذّب أحداً منهم بما ادّعاه ودعا إليه في عصره ، بصرف النظر عمّا طرأ عليه من ضياع بعضه وتحريف بعض ، فإنّ ذلك لا يضرنا ؛ لأن الإيمان التفصيلي والعمل مقصور على ما أُنزل إلينا . فقد روى البخاري من حديث أبي هريرة " أن أهل الكتاب كانوا يقرؤون التوراة بالعبرانيّة ، ويفسّرونها بالعربيّة لأهل الإسلام ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا { آمَنَّا بِٱللَّهِ } الآية ، " وروى ابن أبي حاتم في " تفسيره " عن معقل بن يسار مرفوعاً : " آمنوا بالتوراة والإنجيل والزبور وليسعكم القرآن " وأمّا ما ذكره شيخنا من نكتة إختلاف التعبير ، فيشكل بقوله في أوّل الآية : { وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا } أي معشر المسلمين وهو القرآن وقوله بعد : { وَمَا أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ } ، ولم يعلم أنّه كان لغير داود منهم كتاب منزل . على أن عدم العلم بكتب أُنزلت على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ، لا يدلّ على عدم تلك الكتب . ولعل نكتة اختلاف التعبير أن يشمل ما أُوتي موسى وعيسى تلك الآيات التي أيّدهما بها كما قال : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } [ الإسراء : 101 ] وقال : { وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ } [ البقرة : 87 ] ثم قال : { وَمَا أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ } ليدلّ على أنّ ذلك لم يكن خاصاً بموسى وعيسى ، والله أعلم . وقال بعدما ذكر الفريقين : { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] أي سواء منهم مَنْ له كتاب يؤثر ومَنْ ليس له ذلك ، نؤمن بالجميع إجمالاً ونأخذ التفصيل عن خاتمهم ، الذي بيّن لنا أصل ملّتهم التي كانوا عليها ، وزادنا من الحكم والأحكام ما يناسب هذا الزمان وما بعده من الأزمان ، والعمدة في الدين على إسلام القلب لله تعالى : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي مذعنون منقادون كما يقتضي الإيمان الصحيح ، ولستم كذلك أهل الكتاب ، وإنّما أنتم متّبعون لأهوائكم وتقاليدكم لا تحولون عنها . { فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ } قال صاحب " الكشاف " : إنّ الآية تعريض بأهل الكتاب وتبكيت لهم ، وقال ( الجلال ) : إن لفظ " مثل " زائد . واستنكر الأستاذ الإمام ذلك واستكبره كعادته ، فإنّه يخطّيء كلّ مَنْ يقول : إن في القرآن كلمة زائدة أو حرفاً زائداً ، وقال : إن لمثل هنا معنى لطيفاً ونكتة دقيقة . وذلك أن أهل الكتاب يؤمنون بالله وبما أُنزل على الأنبياء ، ولكن طرأت على إيمانهم بالله نزغات الوثنيّة ، وأضاعوا لباب ما أُنزل على الأنبياء ، وهو الإخلاص والتوحيد وتزكية النفس والتأليف بين الناس ، وتمسّكوا بالقشور ، وهي رسوم العبادات الظاهرة ونقصوا منها وزادوا عليها ما يبعد كلاًّ منهم عن الآخر ويزيد في عداوته وبغضائه له ، ففسقوا عن مقصد الدين من حيث يدّعون العمل بالدين . فلما بيّن الله لنا حقيقة دين الأنبياء وأنّه واحد لا خلاف فيه ولا تفريق ، وأن هؤلاء الذين يدّعون إتباع الأنبياء قد ضلّوا عنه فوقعوا في الخلاف والشقاق : أمرنا سبحانه وتعالى أن ندعوهم إلى الإيمان الصحيح بالله وبما أُنزل على النبيّين والمرسلين ، بأن يؤمنوا بمثل ما نُؤمن نحن به ، لا بما هم عليه من ادّعاء حلول الله في بعض البشر ، وكون رسولهم إلهاً أو ابن الله ، ومن التفرّق والشقاق لأجل الخلاف في بعض الرسوم والتقاليد ، فالذي يؤمنون به في الله ليس مثل الذي نؤمن به ، فنحن نُؤمن بالتنزيه ، وهم يؤمنون بالتشبيه ، وعلى ذلك القياس ، فلو قال : فإنّ آمنوا بالله وبما أُنزل على أولئك النبيّين وما أُوتوه فقد اهتدوا . لكان لهم أن يجادلونا بقولهم : إنّنا نحن المؤمنون بذلك دونكم ، ولفظ " مثل " هو الذي يقطع عرق الجدل . على أن المساواة في الإيمان بين شخصين بحيث يكون إيمان أحدهما كإيمان الآخر في صفته وقوّته وانطباقه على المؤمن به ، وما يكون في نفس كلّ منهما من متعلّق الإيمان ، يكاد يكون محالاً فكيف يتساوى إيمان أمم وشعوب كثيرة مع الخلاف العظيم في طرق التعليم والتربية والفهم والإدراك ؟ ولو كانت القراءة : فإن آمنوا بما آمنتم به . كما روي عن ابن عباس في الشواذ ، لكان الأولى أن يقدّر المثل ، فكيف نقول - وقد ورد لفظ ( مثل ) متواتراً : إنّه زائد ؟ { وَّإِن تَوَلَّوْاْ } أي أعرضوا عمّا تدعوهم إليه من الرجوع إلى أصل دين الأنبياء ولبابه بإيمان كإيمانكم { فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ } أي إن أمرهم محصور في العداوة والمشاقة ، أي الإيذاء والإيقاع في المشقّة ، أو شقّ العصا بتحرّي الخلاف والتعصّب لما يفضّلهم ويبيّنهم منكم { فَسَيَكْفِيكَهُمُ ٱللَّهُ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } أي يكفيك إيذاءهم ومكرهم السيء ويؤيّد دعوتك ، وينصر أمّتك . فهذا الوعد بالكفاية عام للمؤمنين وإن كان الخطاب خاصّاً ، فإنّ أهل الكتاب وغيرهم ما شاقّوا النبيّ لذاته ، وما كان لهم حظ في مقاومة شخصه ، فالإيذاء كان متوجهاً إليه من حيث هو نبيّ يدعو إلى دين غير ما كانوا عليه . وقد أنجز الله وعده للنبيّ والمؤمنين عندما كانوا على ذلك الإيمان وكان الناس يقاومونهم لأجله ، فلمّا انحرفوا من بُعدهم عنه خرجوا عن الوعد ، ولو عاد لعاد الله عليهم بالكفاية والنصر { وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحج : 40 ] . { صِبْغَةَ ٱللَّهِ } أي صبغنا بما ذكر من ملّة إبراهيم صبغة الله ، وفطرته فطرنا عليها ، وهي ما صبغ الله به أنبياءه ورسله والمؤمنين من عباده على سنة الفطرة ، فلا دخل فيها للتقاليد الوضعية ولا لآراء الرؤساء وأهواء الزعماء : وإنّما هو من الله تعالى بلا واسطة متوسّط ولا صنع صانع . والصبغة في أصل اللغة : صيغة للهيئة من صبغ الثوب إذا لوّنه بلون خاص { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبْغَةً } أي لا أحسن من صبغته ، فهي جماع الخير الذي يؤلّف بين الشعوب والقبائل ، ويزكّي النفوس ويطهّر العقول والقلوب . وأمّا ما أضافه أهل الكتاب إلى الدين من آراء أحبارهم ورهبانهم فهو من الصنعة الإنسانيّة ، والصبغة البشريّة ، قد جعل الدين الواحد مذاهب متفرّقة مفرّقة ، والأمّة الواحدة شيعاً متنافرة متمزّقة { وَنَحْنُ لَهُ } وحده { عَابِدونَ } فلا نتّخذ أحبارنا وعلماءنا أرباباً يزيدون في ديننا وينقصون ، ويحلّون لنا بآرائهم ويحرّمون ، ويمحون من نفوسنا صبغة الله الموجبة للتوحيد ، ويثبّتون مكانها صبغة البشر القاضية بالشرك والتنديد . قال الأستاذ الإمام : والآية تشير إلى أنّه لا حاجة في الإسلام إلى تمييز المسلم من غيره بأعمال صناعيّة ، كالمعموديّة عند النصارى مثلاً ، وإنّما المدار فيه على ما صبغ الله به الفطرة السليمة من الإخلاص وحب الخير والإعتدال والقصد في الأمور : { فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ ذَلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الروم : 30 ] .