Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 139-141)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذا ضرب آخر من محاجة أهل الكتاب ، جار على نسق سابقه مؤتلف معه ، متصل به غير منقطع ، ولا نازل في واقعة خاصّة للرد على كلمات قالها اليهود كما ذهب إليه ( الجلال ) وغيره ، إذ قالوا : إن اليهود قالوا : يجب أن يكون جميع الناس تابعين لنا في الدين ؛ لأن الأنبياء منّا والشريّعة نزلت علينا ، ولم يعهد في العرب أنبياء ولا شرائع . نعم ، لا ننكر صدور هذا القول من اليهود فإنّهم كانوا يقولون مثله دائماً ، وإنّما نقول إن الآيات متناسقة مع ما قبلها ، متمّمة له ، مزيلة لشبهات كانت فاشية في القوم في كل مكان ، لا خاصّة برد قول لأحد يهود الحجاز . الآيات السابقة بيّنت : أن الملّة الصحيحة ، هي ملّة إبراهيم ، وهي لم تكن يهودية ولا نصرانية ، وإنّما هي صبغة الله التي لا صنع لأحد فيها ، بل هي بريئة من اصطلاحات الناس وتقاليد الرؤساء ، فهي الجديرة بالاتباع ، ولكن التقاليد والأوضاع قد طمستها بعد ما جرى الأنبياء عليها ، وحلّت تلك التقاليد محلّها ، حتّى ذابت هي فيها وخفيت فلم تعد تعرف ؛ ولذلك جاء محمّد صلى الله عليه وسلم ببيانها ، ودعوة الناس إلى الرجوع إليها ، فبيّن تعالى بتلك المحاجّة الحق الذي يجب التعويل عليه ، ثم أخذ في هذه الآيات يزيل الموانع ويبطل الشبهات المعترضة في طريق ذلك الحق ، فأمر نبيّه بما ترى من الحجّة في قوله : { قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ } بدعواكم الإختصاص بالقرب منه وزعمكم أنّكم أبناء الله وأحباؤه ، وأنّه لن يدخل الجنّة إلاّ مَنْ كان هوداً أو نصارى ، ومن أين جائكم هذا القرب والإختصاص بالله دوننا { وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } ورب العالمين ، فنسبة الجميع إليه واحدة : هو الخالق وهم المخلوقون ، وهو الرب وهم المربوبون ، وإنّما يتفاضلون بالأعمال البدنيّة والنفسيّة { وَلَنَآ أَعْمَالُنَا } التي تختص آثارها بنا ، إن خيراً فخير وإن شرّاً فشر { وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } كذلك ، وروح الأعمال كلّها الإخلاص ، فهو وحده الذي يجعلها مقرّبة لصاحبها من الله تعالى ووسيلة لمرضاته { وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } من دونكم ، فإنّكم اتكلتم على أنسابكم وأحسابكم ، واغتررتم بما كان من صلاح آبائكم وأجدادكم ، واتخذتم لكم وسطاء وشفعاء منهم ، تعتمدون على جاههم ، مع انحرافكم عن صراطهم ، وما هو إلاّ التقرّب إلى الله تعالى بإحسان الأعمال ، مع الإخلاص المبني على صدق الإيمان ، وهو ما ندعوكم إليه الآن . فكيف تزعمون أن الإدلاء إلى ذلك السلف الصالح بالنسب ، والتوسل إليهم بالقول هو الذي ينفع عند الله تعالى ، وأن الإستقامة على صراطهم المستقيم والتوسل إلى الله تعالى بما كانوا يتوسّلون إليه به من صالح الأعمال والإخلاص في القلب لا ينفع ولا يفيد ، وما كان سلفكم مرضيّاً عند الله تعالى إلاّ به ؟ هل كان إبراهيم مقرّباً من الله تعالى بأبيه آزر المشرك ، أم كان قربه وفضله بإخلاصه وإسلام قلبه إلى ربّه ؟ فكما جعل الله النبوّة في إبراهيم وجعله إماماً للناس في الإسلام والإخلاص ، جعلها كذلك في محمّد صلى الله عليه وسلم ، فإذا صحّ لكم إنكار نبوّة محمّد لأنه لم يكن في سلفه العرب أنبياء ، فأنكروا نبوّة إبراهيم ، فإنّ العلّة واحدة ، فكيف لا يتّحد المعلول ؟ وحاصل معنى الآية : إبطال معنى شبهة أهل الكتاب : إنّهم أبناء الله وأحبّاؤه ، وأنّه لا ينجو مَنْ كان على غير طريقتهم ، وإن أحسن في عمله وأخلص في قصده ، وأنّهم هم الناجون الفائزون ، وإن أساءوا عملاً ونيّة ؛ لأن أنبياءهم هم الذين ينجونهم ويخلّصونهم بجاههم ، فالفوز عندهم بعمل سلفهم ، لا بصلاح أنفسهم ولا أعمالهم . وهذا الإعتقاد هدم لدين الله الذي بُعث به جميع أنبيائه ودرج عليه من اتّبع سبيلهم ، فإن روح الدين الإلهي وملاكه ، هو التوحيد والإخلاص المعبّر عنه بالإسلام ، وكل عمل أمر به الدين ، فإنّما الغرض منه إصلاح القلب والعقل بسلامة الإعتقاد وحسن القصد ، فإذا زال هذا المعنى وحفظت جميع الأعمال الصوريّة ، فإنّها لا تفيد شيئاً ، بل إنّها تضرّ بدونه ؛ لأنها تشغل الإنسان بما لا يفيد ، وتصدّه عن المفيد . ولا شك أن أهل الكتاب كانوا قد أزهقوا هذا الروح الإلهي من دينهم ، فسواء كان ما حفظوه من التقاليد والأعمال مأثوراً عن أنبيائهم أم غير مأثور ، إنّهم ليسوا على دين الله ، ومَنْ كان على بصيرة منهم عرف أن ما جاء به محمّد صلى الله عليه وسلم هو إحياء لروح الدين الذي كان عليه جميع الأنبياء والمرسلين . وتكميل لشرائعه وآدابه بما يصلح لجميع البشر في كل زمان ومكان . ثم إن مَنْ تأمّل هذا وتأمّل حال المسلمين يظهر له أنّهم قد اتّبعوا سنن من قبلهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع ، وسيرجع مَنْ يريد الله بهم الخير إلى دين الله تعالى بالرجوع إلى كتابه الذي حرّم عليهم تقليد آراء الناس ، فجازوه بأن حرّموا العمل به ، كما رجع الألوف وألوف الألوف من أهل الكتاب إلى ذلك في القرون الأولى من ظهور الإسلام ، وسيرجع غيرهم من سائر البشر إليه فيعم العالمين { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ } [ ص : 88 ] . { أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ } قال الأستاذ الإمام : إن " أم " هنا معادلة لما قبلها ، خلافاً ( للجلال ) ومن على رأيه القائلين : إنّها بمعنى بل . كأنّه قال : أتقولون إنّ هذا الإمتياز لكم علينا والإختصاص بالقرب من الله دوننا ، هو من الله ، والحال أنّه ربّنا وربكم إلخ ؟ أم تقولون : إن إمتياز اليهوديّة أو النصرانيّة التي أنتم عليها ، بأن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا عليها ؟ إن كنتم تقولون هذا فإنّ الله يكذّبكم فيه ؛ وأنتم تعلمون أيضاً أن إسمي اليهوديّة والنصرانيّة حدثا بعد هؤلاء ، بل حدث اسم اليهوديّة بعد موسى ، واسم النصرانيّة بعد عيسى ، كما حدث لليهود تقاليد كثيرة صار مجموعها مميّزاً لهم . وأمّا النصارى ، فجميع تقاليدهم الخاصّة بهم المميّزة للنصرانيّة حادثة ، فإنّ عيسى عليه السلام كان عدو التقاليد ، ولهذا كان النصارى - على كثرة ما أحدثوا - أقرب إلى الإسلام ؛ لأنّهم لم ينسوا جميعاً كيف زلزل روح الله تقاليد اليهود الظاهرة ، ما كان منها في التوراة وما لم يكن ، ولكن الذين ادّعوا اتّباعه زادوا عليهم من بعده في ابتداع التقاليد والرسوم . وزعم بعض المفسّرين : إن هذه الآية نزلت في الردّ على اليهود ، إذ كانوا يقولون : إن إبراهيم كان يهوديّا ، وعلى النصارى إذ كانوا يقولون : إنه كان نصرانيّا . قال الأستاذ الإمام : وهذا غير صحيح . كلاّ ، إن الآية نزلت في إقامة الحجّة عليهم ، بأنّهم يعتقدون أن إبراهيم كان على الحق وأن ملّته هي الملّة الإلهية المرضيّة عند الله تعالى ، وإذا كان الأمر كذلك وكانت هذه التقاليد التي تقلّدوها غير معروفة على عهد إبراهيم ، فما بالهم صاروا ينوطون النجاة بها ويزعمون أن ما عداها كفر وضلال ؟ فهو لا يثبت لهم القول بأن إبراهيم كان يهوديّاً أو نصرانيّاً ، وإنّما يقول : إنّهم لا يقدرون على القول بذلك ، لأنّ البداهة قاضية بكذبهم فيه ، ولذلك قال لنبيه : { قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ ٱللَّهُ } أي إذا كان الله قد ارتضى للناس ملّة إبراهيم باعترافكم وتصديق كتبكم ، وذلك قبل وجود اليهوديّة والنصرانيّة ، فلماذا لا ترضون أنتم تلك الملّة لأنفسكم ؟ أأنتم أعلم بالمرضي عند الله ، أم الله أعلم بما يرضيه وما لا يرضيه ؟ لا شك أن الله يعلم وأنتم لا تعلمون . وقد صرّح ابن جرير الطبري بأنّ قراءة ( أم يقولون ) بالتحتيّة شاذة ، وعلى القول بأنّها سبعيّة يكون في الكلام التفات . وأقول : قراءة التاء هي لابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وهي للخطاب ، وقراءة الياء للباقين فلا عبرة بعدِّ ابن جرير إياها شاذّة . { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ ٱللَّهِ } في هذا الإستفهام وجهان : أحدهما : أنّه متمم لما قبله من إقامة الحجّة بملّة إبراهيم ، يقول : إن عندكم شهادة من الله بأنّ إبراهيم كان على حق ، وكان مرضيّاً عند الله تعالى ، فإذا كتمتم ذلك لأجل الطعن بالإسلام ، فقد كتمتم شهادة الله وكنتم أظلم الظالمين ، وإذا اعترفتم به فإمّا أن تقولوا إنكم أنتم أعلم من الله بما يرضيه ، وإمّا أن تقوم عليكم الحجّة وتحق عليكم الكلمة إن لم تؤمنوا بما تدعون إليه من ملّة إبراهيم ، وأحد الأمرين ثابت ، لا يقبل مراوغة مباهت . والوجه الثاني : وهو أظهر - إن : الشهادة المكتومة هي شهادة الكتاب المبشرة بأن الله يبعث فيهم نبيّاً من بني أخوتهم ، وهم العرب أبناء إسماعيل ، وكانوا ولا يزالون يكتمونها بالإنكار على غير المطّلع على التوراة ، وبالتحريف على المطّلع ، فهو يبيّن هنا - بعد إقامة الحجّة بإبراهيم على أن زعمهم حصر الوحي في بني إسرائيل باطل - أن هناك شهادة صريحة بأن الله سيبعث فيهم نبيّاً من العرب : فكان هذا دليلاً ثالثاً وراء الدليل العقلي المشار إليه بقوله : { وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } والدليل الإلزامي المشار إليه بقوله { أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } إلخ ، فكأنّه يقول : إن هؤلاء إلاّ مجادلون في الحق بعد ما تبيّن ، مباهتون للنبيّ مع العلم بأنّه نبي ، إذ ما كان لهم أن يشتبهوا في أمره بعد شهادة كتابهم له ، فإذا كان ظلمهم أنفسهم قد انتهى بهم إلى آخر حدود الظلم ، وهو كتمان شهادة الله تعالى تعصّباً لجنسيّتهم الدينيّة التي ارتبط بها الرؤساء بالمرؤسين بروابط المنافع الدنيويّة ، من مال وجاه ، فكيف ينتظر منهم أن يصغوا إلى بيان ، أو يخضعوا لبرهان ؟ والإستفهام هنا يتضمّن التوبيخ والتقريع المؤكدين بالوعيد في قوله : { وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } وإنّما الجزاء على الأعمال . ثم ختم المحاجّة بتأكيد أمر العمل وعدم فائدة النسب فقال : { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وإنما تُسئلون عن أعمالكم وتجازون عليها ، فلا ينفعكم ولا يضرّكم سواها ، وهذه قاعدة يثبتها كلّ دين قويم ، وكل عقل سليم ، ولكن قاعدة الوثنيّة القاضية باعتماد الناس في طلب سعادة الآخرة وبعض مصالح الدنيا على كرامات الصالحين ، تغلب مع الجهل كل دين وكل عقل ، ومنبع الجهلك : التقليد المانع من النظر في الأدلّة العقليّة والدينيّة جميعاً ؛ اللّهمّ إلاّ مكابرة الحس والعقل ، وتأويل نصوص الشرع ، تطبيقاً لهما على ما يقول المقلِّدون المتبعون ( بفتح اللام والباء ) وقد أوّل المؤوّلون نصوص أديانهم تقريراً لاتباع رؤسائهم والإعتماد على جاههم في الآخرة ؛ لذلك جاء القرآن يبالغ في تقرير قاعدة ارتباط السعادة بالعمل والكسب ، وتبيينها ونفي الإنتفاع بالأنبياء والصالحين لمن لم يتأسّ بهم في العمل الصالح ، ولذلك أعاد هذه الآية بنصّها في مقام محاجّة أهل الكتاب المفتخرين بسلفهم من الأنبياء العظام ، المعتمدين على شفاعتهم وجاههم وإن قصّروا عن غيرهم في الأعمال . وفائدة الإعادة تأكيد تقرير قاعدة بناء السعادة على العمل دون الآباء والشفعاء ، بحيث لا يطمع في تأويل القول طامع ، والإشعار بمعنى يعطيه السياق هنا ، وهو أن أعمال هؤلاء المجادلين المشاغبين من أهل الكتاب ، مخالفة لأعمال سلفهم من الأنبياء ، فهم في الحقيقة على غير دينهم . وقد سبق القول بأنّ الآية أفادت في وضعها الأوّل : أن إبراهيم وبنيه وحفدته قد مضوا إلى ربهم بسلامة قلوبهم وإخلاصهم في أعمالهم ، وانقطعت النسبة بينهم وبين مَنْ جاء بعدهم ، فتنكّب طريقهم وانحرف عن صراطهم ، وإن أدلى إليهم بالنسب ؛ فكل واحد من السلف والخلف مجزى بعمله ، لا ينفع أحداً منهم عمل غيره من حيث هو عمل ذلك الغير ولا شخصه بالأولى ، وذلك أنّها جاءت عقب بيان ملّة إبراهيم وإيصاء بعضهم بعضاً بها وبيان دروجهم عليها ، ثم جاء بعد ذلك الإحتجاج على القوم بمن يعتقدون فيهم الخير والكمال ، وكونهم لم يكونوا على هذه اليهوديّة ، ولا هذه النصرانيّة اللتين حدّثتا بعدهم ، فجاءت قاعدة الأعمال في هذا الموضع تبيّن أن المتخالفين في الأعمال والمقاصد لا يكونون متّحدين في الدين ولا متساوين في الجزاء ، فأفادت هنا ما لم تفده هناك . وللمسلمين أن يحاسبوا أنفسهم . ويحكموا قاعدة العمل والجزاء بينهم وبين سلفهم ، ولا يغترّوا بالتسمية ، إن كانوا يعقلون . وأزيد على ما تقدّم أن انتفاع الناس بعضهم ببعض في الدنيا ، إنّما يكون بمقتضى سنن الله تعالى في الأسباب والمسببات ، ومن المعلوم شرعاً وعقلاً : أنّ الميّت ينقطع عمله بخروجه من عالم الأسباب إلى البرزخ من عالم الغيب ، وأمّا الآخرة فلا كسب فيها ، وأمرها إلى الله وحده ظاهراً وباطناً ، كما قال تعالى : { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفطار : 19 ]