Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 142-143)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
كان أنبياء بني إسرائيل يصلّون إلى بيت المقدس ، وكانت صخرة المسجد الأقصى المعروفة هي قبلتهم ، وقد صلّى النبي والمسلمون إليها زمناً ، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتشوّف لاستقبال الكعبة ، ويتمنّى لو حوّل الله القبلة إليها ، بل كان يجمع بين استقبالها واستقبال الصخرة في مكّة ، فيصلّي في جهة الجنوب مستقبلا للشمال ، فلمّا هاجر منها إلى المدينة تعذّر هذا الجمع ؛ فتوجّه إلى الله تعالى بجعل الكعبة هي القبلة ، فأمره الله بذلك كما يأتي تفصيله في الآيات الآتية . وقد ابتدأ الكلام في هذه المسألة ببيان ما يقع من إعتراض اليهود وغيرهم على التحويل ، وإخبار الله نبيّه والمؤمنين به قبل وقوعه ، وتلقينهم الحجّة البالغة عليه ، والحكمة السديدة فيه ، ويتضمّن هذا بيان سرّ من أسرار الدين وقاعدة عظيمة من قواعد الإيمان كان أهل الكتاب في غفلة عنها وجهل بها ، فهذه الآيات متّصلة بما قبلها في كونها محاجّة لأهل الكتاب في أمر الدين لإمالتهم عن التقليد الأعمى فيه ، والجمود على ظواهره من غير تفقّه فيه ، ولا نفوذ إلى أسراره وحكمه التي لم تشرع الأحكام إلاّ لأجلها . قال عزّ وجلّ : { سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا } السفه والسفاهة : الاضطراب في الرأي والفكر أو الأخلاق . يقال : سفه حلمه ورأيه ونفسه ، ومنه : زمام سفيه ، أي : مضطرب لمرح الناقة ومنازعتها إيّاه . واضطراب الحلم - العقل - والرأي : جهل وطيش ، واضطراب الأخلاق : فساد فيها لعدم رسوخ ملكة الفضيلة . قال البيضاوي في تفسير السفهاء وأحسن ما شاء : هم الذين خفّت أحلامهم واستمهنوها بالتقليد والإعراض عن النظر . يريد المنكرين لتغيير القبلة من المنافقين واليهود والمشركين . وفائدة تقديم الأخبار : توطين النفس وإعداد الجواب ، اهـ . وولاّه عن الشيء صرفه عنه ، والاستفهام للإنكار والتعجّب . والمعنى : سيقول سفهاء الأحلام السخفاء : أي شيء جرى لهؤلاء المسلمين فحوّلهم وصرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها وهي قبلة النبيين من قبلهم ؟ وهاك تفصيل الجواب : ليست صخرة بيت المقدس بأفضل من سائر الصخور في مادتها وجوهرها ، وليس لها منافع وخواص لا توجد في غيرها ، ولا هيكل سليمان في نفسه من حيث هو حجر وطين أفضل من سائر الأبنية ، وكذلك يقال في الكعبة والبيت الحرام كما تقدّم في تفسير : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ } [ البقرة : 127 ] وإنّما يجعل الله للناس قبلة ، لتكون جامعة لهم في عبادتهم إلى آخر ما تقدّم شرحه في تفسير { وَللَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ } [ البقرة : 115 ] وفي الكلام على الكعبة والحجّ ، ولكن سفهاء الأحلام من أهل الجمود والمقلّدين لهم ، يظنّون أنّ القبلة أصل في الدين من حيث هي الصخرة المعيّنة أو البناء المعيّن ، ولذلك كانت الحجّة التي لقّنها الله لنبيّه في الردّ على السفهاء الجاهلين لهذه الحكمة { قُل للَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ } أي : إنّ الجهات كلّها لله تعالى لا فضل لجهة منها بذاتها على جهة ، وأنّ لله أن يخصّص منها ما شاء فيجعله قبلة لمن يشاء ، وهو الذي { يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وهو صراط الإعتدال في الأفكار والأخلاق والأعمال كما يبيّن في الآية الآتية . فعلم أنّ نسبة الجهات كلّها إلى الله تعالى واحدة وأنّ العبرة في التوجّه إليه سبحانه بالقلوب ، واتّباع وحيه في توجّه الوجوه . قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } وهو تصريح بما فهم من قوله : { وَٱللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ البقرة : 213 ] إلخ ، أي : على هذا النحو من الهداية جعلناكم أمّة وسطاً . قالوا : إنّ الوسط هو العدل والخيار ، وذلك أنّ الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط ، والنقص عنه تفريط وتقصير ، وكلّ من الإفراط والتفريط ميل عن الجادّة القويمة ، فهو شرّ ومذموم ، فالخيار : هو الوسط بين طرفي الأمر ، أي : المتوسّط بينهما . قال الأستاذ الإمام بعد إيراد هذا : ولكن يقال : لِمَ اختير لفظ الوسط على لفظ الخيار ، مع إنّ هذا هو المقصود ، والأول إنّما يدلّ عليه بالإلتزام ؟ والجواب من وجهين : أحدهما : إنّ وجه الإختيار هو التمهيد للتعليل الآتي ، فإنّ الشاهد على الشيء لا بدّ أن يكون عارفاً به ، ومن كان متوسّطاً بين شيئين فإنّه يرى أحدهما من جانب وثانيهما من الجانب الآخر ، وأمّا من كان في أحد الطرفين فلا يعرف حقيقة حال الطرف الآخر ولا حال الوسط أيضاً . وثانيهما : إنّ في لفظ الوسط إشعارٌ بالسببيّة ، فكأنه دليل على نفسه ، أي : أنّ المسلمين خيار وعدول ; لأنّهم وسط ، ليسوا من أرباب الغلو في الدين المفرطين ، ولا من أرباب التعطيل المفرّطين ، فهم كذلك في العقائد والأخلاق والأعمال . ذلك أنّ الناس كانوا قبل ظهور الإسلام على قسمين : قسم تقضي عليه تقاليده بالمادية المحضة فلا هم له إلاّ الحظوظ الجسدية كاليهود والمشركين ، وقسم تحكم عليه تقاليده بالروحانية الخالصة ، وترك الدنيا وما فيها من اللذّات الجسمانية ، كالنصارى والصابئين وطوائف من وثنيي الهند أصحاب الرياضات . وأمّا الأمّة الإسلامية ، فقد جمع الله لها في دينها بين الحقّين ؛ حقّ الروح وحقّ الجسد ، فهي روحانية جسمانية ، وإن شئت قلت : إنّه أعطاها جميع حقوق الإنسانية ، فإنّ الإنسان جسم وروح ، حيوان وملك ، فكأنّه قال : جعلناكم أمّة وسطاً تعرفون الحقّين ، وتبلغون الكمالين { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ } بالحق { عَلَى ٱلنَّاسِ } الجسمانيين بما فرّطوا في جنب الدين ، والروحانيين إذ أفرطوا وكانوا من الغالين ، تشهدون على المفرّطين بالتعطيل القائلين : { مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ } [ الجاثية : 24 ] بأنّهم أخلدوا إلى البهيمية ، وقضوا على إستعدادهم بالحرمان من المزايا الروحانية ، وتشهدون على المفرّطين بالغلو في الدين القائلين : إنّ هذا الوجود حبس للأرواح وعقوبة لها ، فعلينا أن نتخلّص منه بالتخلّي عن جميع اللذّات الجسمانية ، وتعذيب الجسد ، وهضم حقوق النفس وحرمانها من جميع ما أعدّه الله لها في هذه الحياة - تشهدون عليهم بأنّهم خرجوا عن جادّة الإعتدال ، وجنوا على أرواحهم بجنايتهم على أجسادهم وقواها الحيوية ، تشهدون على هؤلاء وهؤلاء ، وتسبقون الأمم كلّها بإعتدالكم وتوسّطكم في الأمور كلّها ، ذلك بأنّ ما هديتم إليه هو الكمال الإنساني الذي ليس بعده كمال ؛ لأنّ صاحبه يعطي كل ذي حقّ حقّه - يؤدّي حقوق ربّه ، وحقوق نفسه ، وحقوق جسمه ، وحقوق ذوي القربى ، وحقوق سائر الناس . { وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } أي : إنّ الرسول صلى الله عليه وسلم هو المثال الأكمل لمرتبة الوسط ، وإنّما تكون هذه الأمّة وسطًا باتّباعها له في سيرته وشريعته ، وهو القاضي بين الناس فيمن اتّبع سنّته ومن إبتدع لنفسه تقاليد أخرى أو حذا حذو المبتدعين ، فكما تشهد هذه الأمّة على الناس - بسيرتها وإرتقائها الجسدي والروحي - بأنّهم قد ضلّوا عن القصد ، يشهد لها الرسول بما وافقت فيه سنّته وما كان لها من الأسوة الحسنة فيه ، بأنّها استقامت على صراط الهداية المستقيم . فكأنّه قال : إنّما يتحقّق لكم وصف الوسط إذا حافظتم على العمل بهدي الرسول واستقمتم على سنّته ، وأمّا إذا إنحرفتم عن هذه الجادّة ، فالرسول بنفسه ودينه وسيرته ، حجّة عليكم بأنّكم لستم من أمّته التي وصفها الله في كتابه بهذه الآية وبقوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } [ آل عمران : 110 ] إلخ ، بل تخرجون بالإبتداع من الوسط وتكونون في أحد الطرفين كما قال الشاعر وقد إستشهد به الزمخشري في تفسير الآية : @ كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت بها الحوادث حتّى أصبحت طرفا @@ الأستاذ الإمام : يقال إنّ هذا خبر عظيم بمنحة جليلة ، ومنّة بنعمة كبيرة ، فلِمَ جيء به معترضاً في أطواء الكلام عن القبلة ، ولم يجيء ابتداءاً أو في سياق تعداد الآلاء والنعم ؟ والجواب : إنّ الله تعالى علم أنّ الفتنة بمسألة القبلة ستكون عظيمة ، وأن سيقول أهل الكتاب إنّ محمّداً ليس على بيّنة من ربّه ؛ لأنّه غيّر قبلته ، ولو كان الله هو الذي أمره بالصلاة إلى بيت المقدس لما نهاه عنه ثانياً وصرفه عن قبلة الأنبياء . ويقول المنافقون : إنّه صلّى أولا إلى بيت المقدس إستمالة لأهل الكتاب ودهاناً لهم ، ثمّ غلب عليه حبّ وطنه وتعظيمه فعاد إلى استقبال الكعبة ، فهو مضطرب في دينه . وأمثال هذه الشبهات - على كونها تدلّ على عدم الإعتدال في أفكار قائليها - تؤثّر في نفوس المسلمين ، فالمطمئن الراسخ في الإيمان يحزن لشكوك الناس وتشكيكهم في الدين ، والضعيف غير المتمكّن ربّما يضطرب ويتزلزل ؛ لذلك بدأ الله بإخبار المسلمين بما سيكون بعد تحويل القبلة من إثارة رياح الشبه والتشكيك ، ولقّنهم الحجّة ، وبيّن لهم ما فيها من الحكمة ، وبيّن لهم منزلتهم من سائر الأمم ، وهي أنّهم أمّة وسط لا تغلو في شيء ، ولا تقف عند الظواهر ، وأنّهم شهداء على الناس وحجّة عليهم بإعتدالهم في الأمور كلّها ، وفهمهم لحقائق الدين وأسراره ، ومن أهمّها إنّ القبلة التي يتوجّه إليها لا شأن لها في ذاتها ، وإنّما العبرة فيها بإجتماع أهل الملّة على جهة واحدة وصفة واحدة عند التوجّه إلى الله تعالى . ولمّا كانت نسبة الجهات إليه سبحانه وتعالى واحدة إذ لا تحصره ولا تحدّده جهة ، كان إلتزام الجهة المعيّنة منها لغير مجرّد الاتّباع لأمر الرسول عن الله تعالى ، ميلا مع الهوى أو تخصيصاً بغير مخصّص ، وكلاهما ممّا لا يرضاه لنفسه العاقل المعتدل في أمره ، نعم ، إنّ له أن يسأل عن حكمة التحوّل والإنتقال لا سيّما بعد ما ثبت بالواقع إنّ الرسول الذي أمر به لم يأمر إلاّ بما ظهرت فائدته ومنفعته للممتثلين له من إصلاح النفوس وحملها على الخير وتوجيهها إلى البرّ ، ممّا دلّ عليه أنّه مؤيّد من الله تعالى . وجملة القول : إنّ إعلام الله رسوله والمؤمنين بما سيكون من الكافرين والمنافقين ، وتلقينه إيّاهم الحجّة ، وإنزالهم منزلة الشهداء والمحكّمين ، ثمّ تبيينه لهم حكمة التحويل - كان مؤيّداً ومسدّداً لهم ونوراً يسعى بين أيديهم في ظلمة تلك الفتنة المدلهمة ، ولعمري إنّ هذه هي البلاغة التي لا غاية وراءها - إعلام بما سيكون من اضطراب السفهاء في أقوالهم ، أشير إليه بالاستفهام مجملا ، ولم يذكر معه وجه الشبهة حتّى لا تسبق إلى النفوس . والغرض : إقامة الموانع من تأثيرها عند ورودها من أربابها ، وإختصار للبرهان ببيان إنّ المشرق والمغرب كسائر الجهات لله تعالى - أي : يخصّص منها ما يشاء فيجعله قبلة لمن يشاء - وبيان لمكانة الأمّة المحمّدية التي أعطيت كل أصل ديني بدليله وحكمته ، وكلّفت العدل والإعتدال في الأمر كلّه ، أي فلا يليق بها أن تبالي بإنتقاد السفهاء المذبذبين بين الإفراط والتفريط . { وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ } أي وما جعلنا القبلة فيما مضى هي الجهة التي كنت عليها إلى اليوم ، ثم أمرناك بالتحوّل عنها إلى الكعبة ، إلاّ ليتبيّن لك وللمؤمنين ، الثابت على إيمانه ممّن لا ثبات له ، فتعلموا المتّبع للرسول من المنقلب على عقبيه ، برجوعه إلى الكفر الذي كان عليه ، أو إلاّ ليكون علمنا الغيبي بحقيقة أمرهما ومآلهما علم شهادة بوقوع متعلّقه وهو الذي يترتّب عليه الجزاء . أي : إنّ الله تعالى يختبر المؤمنين بما يُظهر به صدق الصادقين ، وريب المرتابين ، وعاقبة المنافقين ، ليرتّب عليه الجزاء . وإنّما يثبت من فقه في الشيء ، فعرف سرّه وحكمته ، وأمّا المقلّد الآخذ بالظواهر من غير فقه ولا عرفان ، والمنافق غير المطمئن بالإيمان ، فلا يثبتان في مهاب عواصف الشكوك والشبهات . وقال مفسّرنا الجلال : وما صيّرنا القبلة لك الآن الجهة التي كنت عليها أولا وهي الكعبة إلخ . وهو مبني على قول الأقلّين : إنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلّي أولا إلى الكعبة ، ثمّ أمر بالصلاة إلى بيت المقدس ، فيكون النسخ قد حصل مرّتين ، والأكثرون على أنّ المراد بالقبلة التي كان عليها بيت المقدس . قال بعض المحقّقين : إنّ هذه الجملة من قبيل { وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } [ الإسراء : 60 ] فالرؤيا لم تكن بنفسها فتنة ، وإنّما إفتتن الناس إذ أخبروا بها ولم يفقهوا المراد منها . كذلك القبلة ليس في جعل جهة كذا قبلة فتنة وإختبار للناس ، وإنّما الفتنة فيما ترتّب على ذلك ، من حيث كونه صرفاً عن قبلة إلى غيرها . فالسفهاء والجهّال الذين لا يفقهون ، ينكرون هذا التحويل ويرونه أمراً إدّاً ، والذين هداهم الله إلى فقه ذلك يرونه أمراً حكيماً جدّاً ؛ ولذلك قال تعالى : { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ } فمنحهم الإعتدال في الفكر والإدراك ، في الميل والرغبة ، قاله الأستاذ الإمام . ثم قال : ما مثاله موضّحاً : قوله تعالى : { لِنَعْلَمَ } معهود في القرآن كثيراً ، ومثله { لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ } [ الجنّ : 28 ] وقوله : { لِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُ } [ المائدة : 94 ] والعقل والنقل متّفقان على أنّ علمه تعالى قديم لا يتجدّد ، وللمفسّرين في هذه الألفاظ أقوال ذكر الأستاذ الإمام أظهرها فقال ما مثاله : جرت عادة العرب في لغتها أن تنسب إلى الرئيس والكبير ما يحدث بأمره وتدبيره ، يقولون فتح الأمير البلد وقاتل الجيش . وكثيراً ما يقولون هذا والأمير ليس واحداً من العاملين ، فهو أسلوب معهود إذا أريد إسناد الفعل إلى الجمهور أسندوه إلى المقدّم فيهم . ولمّا كان الله تعالى ولي الذين آمنوا ، وخاطبهم خطاب السيّد ، صحّ بحسب هذا الأسلوب العربي أن يذكر الفعل بصيغة الجمع التي تشمل المتكلّم وغيره ، وإن كان غيره هو المقصود بالفعل . فمعنى { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } : إلاّ ليعلم عبادي المؤمنون بإعلامي إيّاهم . وقد علم المؤمنون في هذه الفتنة من هو الثابت على اتّباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن هو المنافق الذي قلبته ريح الشبهة على عقبيه ، وكان المنافقون مع المؤمنين بحيث لا يماز أحدهم من الآخر لقيامهم جميعاً بأداء الأعمال الظاهرة المطلوبة . وهكذا كان سبحانه وتعالى يمحّص ما في القلوب بما يبتلي به الناس من الفتن { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَاذِبِينَ } [ العنكبوت : 2 - 3 ] وعلى هذا الأسلوب جاء ما روي في الحديث القدسي : " يا عبدي مرضت فلم تعدني ، وجعت فلم تطعمني ، وعطشت فلم تسقني " خرّجوه على أن المراد مرض عبادي الفقراء الذين هم عيال الله فلم تعدهم إلخ . نعم إنّ الرواية غير صحيحة ، ولكن لم يفهم أحد منها أنّها على ظاهرها لقطع العقل بأنّ هذا محال ، ولقوله تعالى : { مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } [ الذاريات : 57 ] وقالت العرب : إنّي جائع في بطن غيري وعريان في ظهر غيري . ويدخل في هذا الأسلوب أيضاً مثل قوله تعالى : { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } [ البقرة : 245 ] أي : يعطي عباده المحتاجين ، والله يكافئه عنهم إذ كانوا عاجزين . وثمّ وجه آخر في تفسير { لِنَعْلَمَ } ، وهو : إنّ المراد بالعلم في مثل هذا ، علم الظهور والوقوع ، وذلك أنّ الله تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها أنّها ستقع ، لا أنّها واقعة ، ويعلمها بعد وقوعها أنّها وقعت ، والجزاء يترتّب على ما وقع بالفعل ، فقوله هنا : " لنعلم " يراد الثاني ، أي : لنعلم علم وقوع ووجود يترتّب عليه الثواب والعقاب ، وليس معناه أنّه تجدّد له علم لم يكن ، وإنّما التجدد في المعلوم لا في نفس العلم ، أي : أنّ المعلوم لم يكن موجوداً ، ثمّ وجد وظهر كله قال : وما جعلنا القبلة جهة بيت المقدس ، إلاّ لنحوّلها ونمتحن المؤمنين بالتحويل ؛ ليظهر ما ثبت في العلم القديم من اتّباع بعض الناس للرسول واستقامتهم على هدايته ، وإنقلاب بعضهم على عقبيه وإظهاره ما أكنّه في نفسه من الريب ، وبذلك يمتاز المهتدون من الضالّين ، وتقوم الحجّة للمؤمنين على الكافرين . ومعنى الإنقلاب على العقبين ، هو : الإنصراف عن الشيء بالرجوع إلى الوراء وهو طريق العقبين ، فالمنقلبون قد خرجوا من عداد المؤمنين وعادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر . ويقال : رجع على عقبيه ، ونكص على عقبيه ، وأبلغها إنقلب على عقبيه ، لما فيها من الإشعار بأنّه رجع عن خير إلى شرّ ، أو من سوء إلى أسوأ . قال الأستاذ الإمام : ومن قبيل إستعمال العلم في متعلّقه وما يصدق عليه قوله تعالى : { قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي } [ الكهف : 109 ] الآية وقوله : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي ٱلأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ ٱللَّهِ } [ لقمان : 27 ] فالمراد من الكلمات هنا : الموجودات كلّها ، عبّر عنها بذلك ؛ لأنّ كلّ موجود منها وجد بكلمة الله { كُن } اهـ . أقول والمختار عندي التعبير عن علمه تعالى بالشيء قبل وجوده بعلم الغيب ، وبعد وجوده بعلم الشهادة كما قلت آنفاً ، وأنّ كلمات الله في الآيتين الأخيرتين كلمات التكوين أنفسها لا متعلّقاتها التي هي الموجودات . فعلم الله قسمان : غيب وشهادة . وكلماته قسمان : تشريع وتكوين . ثمّ قال جلّ شأنه : { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً } أي وإنّ القبلة أو قصّتها في نسخها والتحوّل عنها ، لكبيرة الشأن شديدة الوقع فيما كان من أمر الناس ، أو : ما كانت إلاّ كبيرة يشقّ التحوّل عنها { إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ } أي هداهم إلى المعرفة به والعلم بحكم شرعه ، فعقلوا إنّ التعبّد بها إنّما يكون بطاعة الله بها ، لا بسرّ في ذاتها أو مكانها ، وأنّ حكمتها إجتماع الأمّة عليها ، الذي هو من أسباب اتّحادهم وجمع كلمتهم . { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } . أقول : أي وما كان من شأن الله في حكمته ورحمته أن يضيع إيمانكم الباعث لكم على اتّباع الرسول في الصلاة والقبلة ، فلو كان نسخ القبلة ممّا يضيع الإيمان بنقضه أو نقصه أو فوت ثواب ما كان قبله ، لما نسخها . أكثر المفسّرين ومنهم الجلال : على أنّ المراد بالإيمان هنا الصلاة ، إذ ورد إنّ بعض المؤمنين أحبّوا أن يعرفوا حال صلاتهم قبل التحويل ، أو صلاة من مات ولم يصلّ إلى الكعبة ، فأراد الله أن يبيّن لهم أنّه يتقبّل من الصلاة ما كان أثر الإيمان الخالص ، أي : متى كنتم تصلّون إيماناً وإحتساباً لا رياءً ولا سمعة ، فصلاتكم مقبولة لأنّها أثر الإيمان الراسخ في القلب ، المصلح للنفس ، فتسمية الصلاة - على هذا - إيماناً ، ليس لأنّها أعظم أركان الدين ، بل للإشارة إلى إنّ مزيتها في منشئها الباعث عليها من الإيمان والإخلاص ، ولذلك يقرن الإيمان دائماً بذكر الصلاة والزكاة ، فالصلاة آية الإيمان القلبية الخفيّة ؛ لأنّها لا تكون آية إلاّ بإخلاص القلب ، والزكاة هي الدليل الحسّي الظاهر عليه . وقد يغشّ الجاهل نفسه بالصلاة فيتوهّم أنّه أقامها كما أمر الله إذا أدّى هذه الأعمال الظاهرة التي هي صورتها ، وإن كانت هذه الصورة خالية من روح الإخلاص والتوجّه القلبي إلى الله تعالى ، ولكن الزكاة آية حسّية على الإيمان ، لا يقدر أن يغشّ نفسه بها إنسان ، فليحاسب كل مؤمن بالله وكتابه نفسه . وقال الأستاذ الإمام : إنّ سياق الآية - بل الآيات - يدلّ على أنّ الإيمان هنا مستعمل في معناه ، فإنّه لمّا بيّن أمر الفتنة في تحويل القبلة ، وبيّن إنّ من الناس من ينقلب إلى الكفر ويترك الإيمان ، ومنهم من يثبت على إيمانه عالماً إنّ الإعتماد في مثل مسألة القبلة على اتّباع الرسول ، لأنّ الجهات في نفسها متساوية لا فضل لجهة منها على جهة ، بشّر هؤلاء المؤمنين المتّبعين بأنّهم يجزون على إيمانهم الجزاء الأوفى ، فلا يضيّع الله أجرهم ، ولا يليتهم من ثباتهم على اتّباع الرسول شيئاً . وهذا الذي قاله الإمام ، ظاهر لكلّ من يفهم هذا السياق العجيب ، ومن عجيب شأن رواة أسباب النزول أنّهم يمزّقون الطائفة الملتئمة من الكلام الإلهي ، ويجعلون القرآن عضين متفرّقة بما يفكّكون الآيات ويفصلون بعضها من بعض ، وبما يفصلون بين الجمل الموثقة في الآية الواحدة ، فيجعلون لكلّ جملة سبباً مستقلاً ، كما يجعلون لكلّ آية من الآيات الواردة في مسألة واحدة سبباً مستقلاً . أنظر هذه الآيات تجد إعجازها في بلاغة الأسلوب أن مهّدت للأمر بتحويل القبلة ما يشعر به في ضمن حكاية شبهة المعترضين التي ستقع منهم ، وبتوهين هذه الشبهة بإسنادها إلى السفهاء من الناس وإيرادها مجملة ، ويوصلها بالدليل على فسادها ، وبذكر هداية الصراط المستقيم الذي لا التواء فيه ولا إعوجاج ، ولا تفريط عند سالكيه ولا إفراط ، وبذكر مكانة هذه الأمّة بدينها ، وإعتدالها في جميع أمرها ، وببيان الحكمة في جعل القبلة الأولى قبلة ، ثمّ التحويل عنها ، وبالتلطّف في الإخبار عمّا سيكون من إرتداد بعض من يدّعون الإيمان عن دينهم افتتاناً بالتحويل ، وجهلا بالأمر ، إذ أورد الخبر في سياق بيان الحكمة ، حتّى لا يعظم وقعه على النبي والمؤمنين ، وببيان أنّ المسألة كبيرة على غير المنعم عليهم بالهداية الإلهية التي سبق ذكرها ، وهي الإيمان الكامل بمعرفة دلائل المسائل وحكم الأحكام ، ثمّ بتبشير المؤمنين المهتدين الثابتين على اتّباع الرسول صلى الله عليه وسلم بإثابة الله إيّاهم برأفته ورحمته ، وفضله وإحسانه - وبعد هذا كلّه أمره بالتحوّل أمراً صريحاً كما سيأتي في تفسير بقيّة الآيات . أفيصحّ في مثل هذا السياق الموثق بعض جمله وآياته ببعض أن تفكّ وثقه ويجعل نتفاً نتفاً ، ويقال إنّ كلّ جملة منه نزلت لحادثة حدثت ، أو كلمة قيلت ، وإن أدّى ذلك إلى قلب الوضع ، وجعل الأول آخراً والآخر أولا ، وجعل آيات التمهيد متأخّرة في النزول عن آيات المقصد ؟ أتسمح لنا اللغة والدين ، بأن نجعل القرآن عضين ، لأجل روايات رويت وإن قيل إنّ إسناد بعضها قوي بحسب ما عرف من تاريخ الراوين ؟ { إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } هذه الجملة إستئناف لبيان علّة النفي في التي قبلها ، وإنّ توفية المؤمن المخلص أجره ، هي من آثار رأفته ورحمته سبحانه ، فلا يخشى أن تتخلّف وأن يضيع أجر المؤمنين الصادقين . قال الجلال : والرأفة شدّة الرحمة ، وقدّم الأبلغ للفاصلة ، وأنكر الأستاذ الإمام هذا القول أشدّ الإنكار وينكر مثله في كلّ موضع فيقول : إنّ كلّ كلمة في القرآن موضوعة في موضعها اللائق بها ، فليس فيه كلمة تقدّمت ولا كلمة تأخّرت لأجل الفاصلة ؛ لأنّ القول برعاية الفواصل إثبات للضرورة كما قالوا في كثير من السجع والشعر إنّه قدّم كذا وأخّر كذا لأجل السجع ولأجل القافية . والقرآن ليس بشعر ، ولا التزام فيه للسجع ، وهو من الله الذي لا تعرض له الضرورة ، بل هو على كلّ شيءٍ قدير ، وهو العليم الحكيم الذي يضع كلّ شيء في موضعه . وما قال بعض المفسّرين مثل هذا القول ، إلاّ لتأثّرهم بقوانين فنون البلاغة وغلبتها عليهم في توجيه الكلام ، مع الغفلة في هذه النقطة عن مكانة القرآن في ذاته ، وعدم الإلتفات إلى ما لكلّ كلمة في مكانها من التأثير الخاصّ عند أهل الذوق العربي ا هـ . وأقول إنّ المسألة خلافية ، والتحقيق إنّ الفواصل ملتزمة في القرآن ، لكن بغير أدنى ضرورة ، ولا ما يمكن أن يوصف بأنّه تكلّف بترجيح اللفظ على بلاغة المعنى ، وإنما هو كقوله : { وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعراف : 128 ] وقوله : { وَٱلْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ } [ طه : 132 ] . ثمّ قال : وعندي : إنّ الرأفة أثر من آثار الرحمة والرحمة أعمّ ، فإنّ الرأفة لا تستعمل إلاّ في حقّ من وقع في بلاء والرحمة تشمل دفع الألم والضر وتشمل الإحسان وزيادة الإحسان ، فذكر الرحمة هنا فيه معنى التعليل والسببية وهو من قبيل الدليل بعد الدعوى ، فهو واقع في موقعه كما تحبّ البلاغة وترضى ، كأنّه قال : إنّ الله رءوف بالناس ؛ لأنّه ذو الرحمة الواسعة ، فلا يضيع عمل عامل منهم ، ولا يبتليهم بما يظهر صدق إيمانهم وإخلاصهم في اتّباع رسوله ، ليضيع عليهم هذا الإيمان والإخلاص ، بل ليجزيهم عليه أحسن الجزاء . وإذا كان أثر الرأفة دفع البلاء كما قال الأستاذ الإمام ، فيجوز أن يكون ذكر الرحمة بعدها إيماءً إلى أنّه لا يكتفي تعالى بدفع البلاء عن المؤمنين برأفته ، بل يعاملهم بعد ذلك بالرحمة الواسعة والإحسان الشامل ويزيدهم من فضله . ثمّ إنّ المفسّرين قد بيّنوا أنّ كلا من الرأفة والرحمة في الإنسان ، إنفعال في النفس أثره ما ذكر آنفاً من الإحسان ودفع الضرّ ، والإنفعال محال على الله تعالى ، فتفسّر هذه الألفاظ - إذا وصف بها سبحانه وتعالى - بآثارها وغاياتها التي هي أفعال ، وهذا من تأويل المتكلّمين المخالف لمذهب السلف ، وتقدّم شرح هذا المقام في تفسير سورة الفاتحة ( ج 1 ) وفي مواضع أخرى . قرأ الحرميان وابن عامر وحفص ( لرءوف ) بالمدّ ، والباقون بالقصر .