Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 144-147)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قالوا : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتشوّف لتحويل القبلة من بيت المقدس ويرجوه ، بل قال ( الجلال ) : إنّه كان ينتظره ؛ لأن الكعبة قبلة أبيه إبراهيم ، والتوجّه إليها أدعى إلى إيمان العرب ، أي : وعلى العرب المعوّل في ظهور هذا الدين العامّ ؛ لأنهم كانوا أكمل استعداداً له من جميع الأنام . قال الأستاذ الإمام : ولا بعد في تشوّفه إلى قبلة إبراهيم ، وقد جاء بإحياء ملّته ، وتجديد دعوته ، ولا يعدّ هذا من الرغبة عن أمر الله تعالى إلى هوى نفسه ، كلاّ إن هوى الأنبياء لا يعدو أمر الله تعالى وموافقة رضوانه ، ولو كان لأحدٍ منهم هوًى ورغبة في أمرٍ مباحٍ - مثلاً - وأمره الله تعالى بخلافه ، لانقلبت رغبته فيه إلى الرغبة عنه إلى ما أمر الله تعالى به ورضيه ، بل المقام أدقّ ، والسرّ أخفى : إنّ روح النبي منطوية على الدين في جملته من قبل أن ينزل عليه الوحي بتفصيل مسائله ، فهي تشعر بصفائها وإشراقها بحاجة الأمّة التي بعث فيها شعوراً إجمالياً كليّاً لا يكاد يتجلّى في جزئيات المسائل وآحاد الأحكام ، إلاّ عند شدّة الحاجة إليها ، والإستعداد لتشريعها ، عند ذلك يتوجّه قلب النبي إلى ربّه طالباً بلسان إستعداده بيان ما يشعر به مجملاً ، وإيضاح ما يلوح له مبهماً ، فينزل الروح الأمين على قلبه ، ويخاطبه بلسان قومه عن ربّه ، وهكذا الوحي إمداد في موطن إستعداد ، لا كسب فيه للعباد ، وإذا كان حكم شرع لسببٍ مؤقت ، وزمن في علم الله معيّن ، فإنّ روح النبي تشعر بذلك في الجملة ، فإذا تمّ الميقات ، وأزف وقت الرقي إلى ما هو آت ، وجدت من الشعور بالحاجة إلى النسخ ما يوجهها إلى الشارع العليم ، والديّان الحكيم ، كما كان يتقلّب وجه نبيّنا في السماء تشوّفاً إلى تحويل القبلة ، فذلك قوله تعالى : { قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ } أي إنّنا نرى تقلّب وجهك أيّها الرسول وتردّده المرّة بعد المرّة في السماء ، مصدر الوحي وقبلة الدعاء ، إنتظاراً لما ترجوه من نزول الأمر بتحويل القبلة . فسّر بعضهم تقلّب الوجه بالدعاء ، وحقيقة الدعاء هي شعور القلب بالحاجة إلى عناية الله تعالى فيما يطلب ، وصدق التوجّه إليه فيما يرغب ، ولا يتوقّف على تحريك اللسان بالألفاظ ، فإنّ الله ينظر إلى القلوب وما أسّرت فإن وافقتها الألسنة فهي تبع لها ، وإلاّ كان الدعاء لغواً يبغضه الله تعالى ، فالدعاء الديني لا يتحقّق إلا بإحساس الداعي بالحاجة إلى عناية الله تعالى ، وعن هذا الإحساس يعبّر اللسان بالضراعة والإبتهال ، فهذا التفسير ليس بأجنبي من سابقه . فتقلّب الوجه في السماء عبارة عن التوجّه إلى الله تعالى انتظاراً لمّا كانت تشعر به روح النبي - صلى الله عليه وسلم - وترجوه من نزول الوحي بتحويل القبلة ، ولا تدلّ الآية على أنّه كان يدعو بلسانه طالباً هذا التحويل ، ولا تنفي ذلك . وقال بعض المحققين : من كمال أدبه صلى الله عليه وسلم أنه انتظر ولم يسأل . وهذا التوجّه هو الذي يحبّه الله تعالى ويهدي قلب صاحبه إلى ما يرجوه ويطلبه ؛ لذلك قال عزّ وجلّ : { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } أي : فلنجعلنك متوليّاً قبلة تحبّها وترضاها ، وقرن الوعد بالأمر فقال : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } تولية الوجه المكان أو الشيء ، هي جعله قبالته وأمامه ، والتولّي عنه جعله وراءه . والشطر في الأصل القسم المنفصل من الشيء ، تقول جعله شطرين ، ومنه شطر البيت من الشعر وهو المصراع منه ، وكذا المتّصل كشطري الناقة وأشطرها ، وهي أخلافها : شطران أماميّان وشطران خلفيّان . ويطلق على النحو والجهة وهو المراد هنا . فالواجب استقبال جهة الكعبة في حال البعد عنها وعدم رؤيتها ، ولا يجب استقبال عينها إلاّ على من يراها بعينه ، أو يلمسها بيده أو بدنه . فإن صحّ إطلاق الشطر على عين الشيء في اللغة ، فلا يصحّ أن يراد هنا لما فيه من الحرج الشديد لا سيّما على الأمّة الأميّة . ثمّ أمر بذلك المؤمنين عامة فقال : { وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } أي : وفي أي مكان كنتم فاستقبلوا جهته بوجوهكم في صلاتكم ، وهذا يقتضي أن يصلّي المسلمون في بقاع الأرض إلى جميع الجهات ، لا كالنصارى الذين يلتزمون جهة المشرق ، ويقتضي أن يعرفوا موقع البيت الحرام وجهته حيثما كانوا ، ولذلك وضعوا علم سمت القبلة وتقويم البلدان ( الجغرافية الفلكية والأرضية ) . وقد عهد من أسلوب القرآن أن يكون الأمر الذي - يؤمر به النبي ولا يذكر أنه خاصّ به - أمراً له وللمؤمنين به ، فإذا أريد التخصيص جيء بما يدلّ عليه كقوله تعالى : { وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } [ الإسراء : 79 ] وقوله : { خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ الأحزاب : 50 ] وإنّما أمر الله المؤمنين في هذه الآية بما أمر به النبي فيها نصاً صريحاً ، للتأكيد الذي اقتضته الحال في حادثة القبلة ، فإنها كانت حادثة كبيرة إستتبعت فتنة عظيمة ، فأراد الله أن يعلم المؤمنين بعنايته بها ويقرّرها في أنفسهم ، فأكّد الأمر بها ، وشرّفهم بالخطاب مع خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم لتشتدّ قلوبهم وتطمئنّ نفوسهم ، ويتلقّوا تلك الفتنة التي أثارها المنافقون والكافرون بالحزم والثبات على الأتباع ، ولئلاّ يتوّهم - من سابق الكلام - أنّه خاص به صلى الله عليه وسلم . بعد هذا عاد إلى بيان حال السفهاء مثيري الفتنة في مسألة تحويل القبلة فقال : { وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } أي أنّ تولّي المسجد الحرام هو الحقّ المنزل من الله على نبيّه . وجمهور المفسّرين : على أنّ أكثر أولئك الفاتنين كانوا من أهل الكتاب المقيمين في الحجاز ، ولولا ذلك لم تكن الفتنة عظيمة ؛ لأنّ كلام المشركين في مسائل الوحي والتشريع قلّما يلتفت إليه ، وأمّا أهل الكتاب فقد كانوا معروفين بين العرب بالعلم ، ومن كان كذلك فإنّ عامة الناس تتقبّل كلامه ولو نطق بالمحال ؛ لأنّ الثقة بمظهره ، تصدّ عن تمحيص خبره ، فهو في حاله الظاهرة شبهة إذا أنكر ، وحجّة إذا اعترف ، ولأنّ الجماهير من الناس قد اعتادوا تقليد مثله من غير بحث ولا دليل . وقد جرى أصحاب المظاهر العلمية والدينية على الإنتفاع بغرور الناس بهم ، فصار الغرض لهم من أقوالهم التأثير في نفوس الناس ، فهم يقولون ما لا يعتقدون لأجل ذلك ، ويسندون ما يقولون إلى كتبهم كذباً صريحاً أو تأويلا بعيداً ، كما كان أحبار اليهود يطعنون في النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، ويذكرون للناس أقوالا على أنّها من كتبهم وما هي من كتبهم ، إن يريدون إلاّ خداعاً . وقد كذّب الله هؤلاء الخادعين ، وبيّن أنّهم يقولون غير ما يعتقدون ، كأنّه يقول : إنّ هؤلاء قد قام عندهم الدليل على ما سبقت به بشارة أنبيائهم من صحّة نبوّة الرسول ، ويعلمون أنّ أمر القبلة كغيرها من أمور الدين ، ما جاء به الوحي عن الله تعالى وأنّه الحقّ لا محيص عنه ، لا مكان معيّن بذاته لذاته ، { وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } فهو المطّلع على الظواهر والضمائر ، الحسيب على ما في السرائر ، الرقيب على الأعمال ، فيخبر نبيّه بما شاء أن يخبره وإليه المرجع والمصير وعليه الحساب والجزاء ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ( تعملون ) بالتاء للخطاب . سبق القول بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على هداية أهل الكتاب راجياً بإيمانهم ما لا يرجوه من إيمان المشركين ، فبمقدار حرصه ورجائه كان يحزنه عروض الشبه لهم في الدين ، ويتمنّى لو أعطي من الآيات والدلائل ما يمحو كلّ شبهة لهم ، فلمّا كانت فتنة تحويل القبلة بمخادعتهم الناس ، أخبره الله تعالى بأنهم غير مشتبهين في الحقّ فتزال شبهتهم ، وإنّما هم قوم معاندون جاحدون على علم ، ثمّ أعلمه بأنّ الآيات لا تؤثّر في المعاند ولا ترجع الجاحد عن غيّه . وقد أجمع المسلمون على فرضية استقبال القبلة في الصلاة ، ولكن اختلفوا هل هي شرط لصحّتها أم لا . وفي بعض الأحاديث إنّ النبي صلى الله عليه وسلم صلّى بأصحابه إلى غير القبلة بالإجتهاد ، ثمّ ظهر لهم خطؤهم ولم يعيدوا ، وإنّما يدلّ هذا - إن صحّ - على أنّ خطأ الإجتهاد فيها مغفور . والصحيح ، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم صلّى إلى بيت المقدس بعد الهجرة ستة عشر شهراً ، وأنّ النسخ بنزول هذه الآيات كان في رجبٍ من السنة الثانية ، وحديث البرّاء في صحيح البخاري وغيره : إنّه صلّى إلى بيت المقدس ستّة عشر أو سبعة عشر شهراً بالشكّ ، ورواية 16 عند مسلم وغيره بدون شكّ فهي الصواب . { وَلَئِنْ أَتَيْتَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ } أي : وتالله لئن جئتهم بكلّ آية على نبوّتك وكلّ حجّة على صدقك ، ما تبعوا قبلتك ، فضلاً عن ملّتك ، فلا يحزنك قولهم ولا إعراضهم ، ولا تحسبنّ الآيات والدلائل مقنعة أو صارفة لهم عن عنادهم ، فهم قوم مقلّدون لا نظر لهم ولا استدلال . وكما أيأسه من اتباعهم قبلته أيأسهم من اتباعه قبلتهم فقال : { وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } فإنّك الآن على قبلة إبراهيم الذي يجلّونه جميعاً ، ولا يختلف في حقّية ملّته أحد منهم ، فهي الأجدر بالإجتماع عليها ، وترك الخلاف إليها ، فإذا كان أتباع إبراهيم لا يزحزحهم عن تعصّبهم لما ألّفوا ، وعنادهم فيما اختلفوا ، وإذا كان التقليد يحول بينهم وبين النظر في حقيقة معنى القبلة ، وكون الجهات كلّها لله تعالى ، وأنّ الفائدة فيها الإجتماع دون الإفتراق فأي دليل أم أيّة آية ترجعهم عن قبلتهم ؟ وأي فائدةٍ ترجى من موافقتك إيّاهم عليها ؟ ألم تر كيف اختلفوا هم في القبلة فجعل النصارى لهم قبلة غير قبلة اليهود التي كان عليها عيسى بعد موسى { وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } لأنّ كلاًّ منهم قد جمد بالتقليد على ما هو عليه ، والمقلِّد لا ينظر في آية ولا دليل ، ولا في فائدة ما هو فيه والمقارنة بينه وبين غيره ، فهو أعمى لا يبصر ، أصمّ لا يسمع ، أغلف القلب لا يعقل { وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ } أي : ولئن فُرِض أن تتبّع ما يهوونه من الصلاة إلى قبلتهم أو غير ذلك ، إجتهاداً منك تقصد به إستمالتهم إلى دينك ، من بعد ما جاءك الحقّ اليقين بالنصّ المانع من الإجتهاد ، والعلم الذي لا مجال معه للظنّ ، إنّك إذ تفعل هذا فرضاً ( وما أنت بفاعله ) تكون من جماعة الظالمين ( وحاشاك ) والكلام من باب " إيّاك أعني واسمعي يا جارة " . وبيانه : إنّنا قد أقمنا لك مسألة القبلة على قاعدة العلم الذي عرفت به إنّ نسبة الجهات إلى الله تعالى واحدة ، وأنّ جمود أهل الكتاب على ما هم فيه إنّما جاءهم من التقليد وحرمان أنفسهم من النظر ، وأن طعنهم فيك وفيما جئت به من أمر القبلة وغيره ، ليس إلاّ جحوداً ومعاندة لك ، مع علمهم بأنّك النبي الموعود به في كتبهم يأتي من ولد إسماعيل ؛ فبعد هذا العلم كلّه لا ينبغي لأحد من أتباعك المؤمنين أن يفكّر في أهواء القوم إستمالة لهم ؛ إذ لا محلّ لهذه الاستمالة ، والحقّ قوي بذاته ، وغني بمن ثبت عليه ، ومن عدل عنه - مجاراة لأهل الأهواء لما يرجو من فائدتهم أو اتّقاء مضرّتهم - فهو ظالم لنفسه ، وظالم لمن يسلك بهم هذا السبيل الجائر . الأستاذ الإمام : هذا الخطاب بهذا الوعيد لأعلى الناس مقاماً عند الله تعالى ، هو أشدّ وعيد لغيره ممّن يتّبع الهوى ، ويحاول استرضاء الناس بمجاراتهم على ما هم عليه من الباطل ، فإنّه أفرده بالخطاب مع أنّ المراد به أُمّته ، إذ يستحيل أن يتّبع هو أهواءهم أو أن يجاريهم على شيء نهاه الله تعالى عنه ، ليتنبّه الغافل ويعلم المؤمنون إنّ اتّباع أهواء الناس ولو لغرض صحيح هو من الظلم العظيم الذي يقطع طريق الحقّ ، ويردي الناس في مهاوي الباطل ، كأنّه يقول : إنّ هذا ذنب عظيم لا يتسامح فيه مع أحد حتّى لو فرض وقوعه من أكرم الناس على الله تعالى لسجلّ عليه الظلم ، وجعله من أهله الذين صار وصفاً لازماً لهم { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } [ البقرة : 270 ] فكيف حال من ليس له ما يقارب مكانته عند ربّه عزّ وجلّ ؟ . نقرأ هذا التشديد والوعيد ، ونسمعه من القارئين ، ولا نزدجر عن اتّباع أهواء الناس ومجاراتهم على بدعهم وضلالاتهم ، حتّى إنك ترى الذين يشكون من هذه البدع والأهواء ويعترفون ببعدها عن الدين يجارون أهلها عليها ، ويمازجونهم فيها ، وإذا قيل لهم في ذلك قالوا : ماذا نعمل ؟ ما في اليد حيلة . العامّة عمي . آخر زمان . وأمثال هذه الكلمات هي جيوش الباطل تؤيّده وتمكّنه في الأرض ، حتّى يحلّ بأهله البلاء ويكونوا من الهالكين . وأعجب من هذا الذي ذكره الإمام أنك ترى هؤلاء المعترفين بهذه البدع والأهواء ، ينكرون على منكرها ، ويسفّهون رأيه ويعدّونه عابثاً أو مجنوناً ، إذ يحاول ما لا فائدة فيه عندهم ، فهم يعرفون المنكر وينكرون المعروف ويدّعون مع ذلك أنّهم على شيء من العلم والدين . وأعجب من هذا الأعجب أنّ منهم من يرى أنّ إزالة هذه المنكرات والبدع ، ومقاومة هذه الأهواء والفتن ، جناية على الدين ، ويحتجّ على هذا بأنّ العامة تحسبها من الدين ، فإذا أنكرها العلماء عليهم تزول ثقتهم بالدين كلّه لا بها خاصّة ! ! وبأنّها لا تخلو من خير يقارنها كالذكر الذي يكون في المواسم والإحتفالات التي تسمّى بالموالد وكلّها بدع ومنكرات ، حتّى إنّ الذكر الذي يكون فيها ليس من المعروف في الشرع ! ! والسبب الصحيح في هذا كلّه هو محاولة إرضاء الناس بمجاراتهم على أهوائهم وتأويلها لهم ، ولولا ذلك لما سكت العالمون بكونها بدعاً ومنكرات عليها ، إنّهم إنّما سكتوا بالثمن { ٱشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً } [ التوبة : 9 ] وهم مع ذلك يظهرون التعجّب من جحود أهل الكتاب للنبي والقرآن ، وما كانوا أشدّ منهم جحوداً ، ولا أقوى جموداً . هذا إيماء إلى اتّباع العلماء أهواء العامة بعد ما جاءهم من العلم وما نزل عليهم في الكتاب من الوعيد عليه . ولو شرح شارح اتّباعهم لأهواء السلاطين والأمراء والوجهاء والأغنياء ، وكيف يفتونهم ويؤلّفون الكتب لهم ، ويخترعون الأحكام والحيل الشرعية لأجلهم ، وكيف حرّموا على الأمة العمل بالكتاب والسنّة وألزموها كتبهم ؛ لظهر لقارئ الشرح كيف أضاع هؤلاء الناس دينهم ، فسلّط الله عليهم من لم يكن له عليهم سبيل ، ولبان له وجه التشديد في الآية بتوجيه الوعيد فيها إلى النبي المعصوم المشهود له بالخلق العظيم ، فلا يكبرن عليك أن تحكم على من يسمّون أنفسهم أو يسمّيهم الحكّام كبار العلماء بأنّهم من الظالمين ، إذا اتّبعوا أهواء العامّة أو شهوات الأمراء والسلاطين . { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } ذكر في الآية السابقة إنّ الذين أوتوا الكتاب يعلمون إنّ ما جاء به النبي في أمر القبلة هو الحقّ من ربّهم ، ولكنّهم ينكرون ويمكرون ، وذكر في هذه ما هو الأصل والعلّة في ذلك العلم وذلك الإنكار ، وهو أنهم يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بما في كتبهم من البشارة به ومن نعوته وصفاته التي لا تنطبق على غيره ، وبما ظهر من آياته وآثار هدايته ، كما يعرفون أبناءهم الذين يتولّون تربيتهم وحياطتهم حتّى لا يفوتهم من أمرهم شيء . قال عبد الله بن سلامٍ - وكان من علماء اليهود وأحبارهم : أنا أعلم به منّي بإبني ، فقال له عمر رضي الله عنه : لِمَ ؟ قال : لأنّي لست أشكّ في محمّد أنّه نبي ، فأمّا ولدي فلعلّ والدته خانت . فقد اعترف من هداه الله من أحبارهم كهذا العالم الجليل وتميم الداري من علماء النصارى أنّهم عرفوه صلى الله عليه وسلم معرفة لا يتطرّق إليها الشكّ { وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنّه الحقّ الذي لا مريّة فيه ، فماذا يرجى منهم بعد هذا ؟ وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الضمير في ( يعرفونه ) لمّا ذكر من أمر القبلة ، واستبعدوا عوده إلى الرسول مع تقدّم ذكره في الآيات ، ومع ما يعهد من الإكتفاء بالقرائن في مثل هذا التعبير . وقد أسند هذا الكتمان إلى فريقٍ منهم إذ لم يكونوا كلّهم كذلك ، فإنّ منهم من اعترف بالحقّ وآمن واهتدى به ، ومنهم من كان يجحده عن جهل ولو علم به لجاز أن يقبله ، وهذا من دقّة حكم القرآن على الأمم بالعدل . ثمّ قال عز شأنه : { ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ } الامتراء : الشكّ والتردّد ، وإنّما يعرض لمن لا يعرفون الحقّ ، والمعنى أنّ هذا الذي أنت عليه أيّها الرسول هو الحقّ ، أو إنّ جنس الحقّ في الدين هو الوحي - من عند ربّك المعتني بشأنك ، فلا تلتفت إلى أوهام هؤلاء الجاحدين فإنّها لا تصلح شبهة على الحق الصريح الذي علّمك الله فتمتري به ، والنهي في هذه الآية كالوعيد في الآية السابقة ، وجّه الخطاب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمّته ( من كان منهم غير راسخ في الإيمان ) وخشي عليه الاغترار بمظاهر أولئك المخادعين الذين يغترّ بأمثالهم الأغرار في كلّ زمان ومكان ، ولذلك ارتدّ بفتنة القبلة بعض ضعفاء الإيمان .