Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 153-157)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ذهب الذين ينظرون من القرآن في جمله وآياته مفكّكة منفصلا بعضها عن بعض ، إلتماساً لسبب النزول في كلّ آية ، أو جملة ، أو كلمة ، ولا ينظرون إليه في سياق جمله وكمال نظمه : إلى أنّ الأمر بالإستعانة في قوله تعالى : { يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلٰوةِ } هو للاستعانة على أمر الآخرة والإستعداد لها ، وأنّ المراد بالصبر فيه ، الصبر عن المعاصي وحظوظ النفس - واعتمده البيضاوي وغيره - أو على الطاعات ، وبهذا صرّح الجلال ، وقد أورد قوله الأستاذ الإمام ، وسأل الله تعالى الصبر على احتمال مثل هذا الكلام . والتحقيق أنّه عامّ في كلّ عملٍ نفسي أو بدني ، أو ترك يشقّ على النفس ، كما يدلّ عليه حذف متعلّقه ، والمعنى : إستعينوا على إقامة دينكم والدفاع عنه وعلى سائر ما يشق عليكم من مصائب الحياة ، بالصبر وتوطين النفس على احتمال المكاره ، وبالصلاة التي تكبر بها الثقة بالله عزّ وجلّ ، وتصغر بمناجاته فيها كلّ المشاقّ وأعمّها المصائب المذكورة في الآيات بعده ، ولا سيّما الأعمال العامّة النفع كالجهاد المشار إليه في الآية التالية . وقد بيّن شيخنا أهمّ مواضعه التي يدلّ عليها السياق ، مع بيان التناسب بين الآيات ، ووجه الاتّصال بما مثاله موضّحًا : ذكر الله تعالى افتتان الناس بتحويل القبلة ، وتقدّم شرح ما دلّت عليه الآيات من عظم أمر تلك الفتنة ، وإزالة شبه الفاتنين والمفتونين ، وإقامة الحجج على المشاغبين ، وحكم التحويل وفوائده للمؤمنين - ومنها إتمام النعمة ، والبشارة بالإستيلاء على مكّة - وكون ذلك طريقاً للهداية ، لما في الفتن من التمحيص الذي يتميّز به المؤمن الصادق ، من المسلم المنافق ، فهي تظهر الثابت على الحقّ المطمئن به ، وتفضح المنافق المرائي فيه ، بما تظهر من زلزاله واضطرابه فيما لديه ، أو إنقلابه ناكصاً على عقبيه ، ثمّ شبّه هذه النعمة التامّة بالنعمة الكبرى ، وهي إرسال الرسول فيهم ، يعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم ، وفي ذلك من التثبيت في مقاومة الفتنة ، وتأكيد أمر القبلة ، ما يليق بتلك الحالة . وقفّى ذلك بالأمر بذكره وشكره على هذه النعم ؛ للإيذان بأنّ تحويل القبلة الذي صوّره السفهاء من الناس بصورة النقمة هو في نفسه أجلّ مِنّة وأكبر نعمة . لا جرم أنّ تلك النعم - التي يجب ذكرها وشكرها للمنعم جلّ شأنه - كانت تقرن بضروب من البلاء وأنواع من المصائب ، أكبرها ما يلاقيه أهل الحقّ من مقاومة الباطل وأحزابه ، وأصغرها ما لا يسلم منه أحد في ماله وأهله وأحبابه . أليس من النسب القريب بين الكلام ، ومن كمال الإرشاد في هذا المقام ، أن يَرِدَ بعد الأمر بالشكر ، أمرٌ آخر بالصبر ، وأن يعد الله المؤمنين بالجزاء على هذا كما وعدهم بالجزاء على ذاك ؟ بلى ، إنّ هذه الآيات متّصلة بما قبلها ، متمّمة للإرشاد فيها ، وقد هدى سبحانه بلطفه إلى علاج الداء قبل بيانه ، فأمر بالاستعانة على ما يلاقيه المؤمنون بالصبر والصلاة ، ووعد على ذلك بمعونته الإلهية ، ثم أشعرهم بما يلاقونه في سبيل الحقّ والدعوة إلى الدين والمدافعة عنه وعن أنفسهم . فهو سبحانه وتعالى يأمرهم بالصبر على ذلك كلّه ، لا أنّ الآية في الإنقطاع إلى العبادة والصبر على الطاعة مطلقاً بحيث يكون القاعد عن الجهاد بنفسه وماله ، أو السعي لعياله - اعتكافاً في مسجد أو انزواء في خلوةٍ - عاملاً بها . كان المؤمنون في قلّة من العَدد والعُدد ، وكانت الأمم - كلّها - مناوئة لهم ، فالمشركون أخرجوهم من ديارهم وأموالهم وما فتئوا يغيرون عليهم ، ويصدّون الناس عنهم ، ثمّ كانوا يلاقون في مهاجرهم ما يلاقون من عداوة أهل الكتاب ومكرهم ، ومن مراوغة المنافقين وكيدهم ، فأمرهم الله تعالى أن يستعينوا في مقاومة ذلك كلّه وفي سائر ما يعرض لهم من المصائب بالصبر والصلاة . أمّا الصبر فقد ذكر في القرآن سبعين مرّة ، ولم تذكر فضيلة أخرى فيه بهذا المقدار ، وهذا يدلّ على عظم أمره ، وقد جعل التواصي به في سورة العصر مقروناً بالتواصي بالحقّ ؛ إذ لا بدّ للداعي إلى الحقّ منه . والمراد بالصبر في هذه الآيات كلّها ملكة الثبات والاحتمال التي تهوّن على صاحبها كلّ ما يلاقيه في سبيل تأييد الحق ونصر الفضيلة . فضيلة هي أُمّ الفضائل التي تربّي ملكات الخير في النفس ، فما من فضيلة إلاّ وهي محتاجة إليها ، وإنّما يظهر الصبر في ثبات الإنسان على عمل اختياري يقصد به إثبات حقّ ، أو إزالة باطل ، أو الدعوة إلى عقيدة ، أو تأييد فضيلة ، أو إيجاد وسيلة إلى عمل عظيمٍ ؛ لأنّ أمثال هذه الكليّات التي تتعلّق بالمصالح العامّة هي التي تقابل من الناس بالمقاومة والمحادّة التي يعوّز فيها الصبر ، ويعز معها الثبات على احتمال المكاره ، ومصارعة الشدائد ، فالثابت على العمل في مثل هذه الحال هو الصابر ، وإن كان في أوّل الأمر متكلّفاً ، ومتى رسخت الملكة يسمّى صاحبها صبوراً وصبّاراً ، وليس كلّ متحمّل للمكروه ، من الصابرين الذين أخبر الله في هذه الآية إنّه معهم وبشّرهم في الآية الآتية ، وأثنى عليهم في آيات كثيرة ، بل لا بدّ من العمل للحقّ ، والثبات فيه ، كما قدّمنا ؛ لأن الفضائل لا تتحقّق إلاّ بما يصدر عنها من الأعمال الإختيارية التي هي مناط الجزاء ، بل الصبر نفسه ملكة اكتسابية ولذلك أمر الله تعالى به ، وإنّما يكون الامتثال بتعويد النفس احتمال المكاره والشدائد في سبيل الحقّ . وعلى ذلك جرى النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه عليهم الرضوان ، حتّى فازوا بعاقبة الصبر المحمودة ونصرهم الله تعالى مع قلّتهم وضعفهم على جميع الأمم مع قوّتها وكثرتها ، وإنّما كان ذلك بالصبر ، لأن الله تعالى جعله سبباً للنجاة من الخسر ، كما جاء في سورة العصر . المتحمّل للمكروه مع السآمة والضجر لا يعدّ صابراً ، وهذا هو شأن منتحلي العلم ومدّعي الصلاح في هذا الزمان ، تراهم أضعف الناس قلوباً وأشدّهم اضطراباً إذا عرض لهم شيء على غير ما يهوون ، على أنّ عنوان صلاحهم وإستمساكهم بعروة الدين هو جرس الذكر وحركات الأعضاء في الصلاة ، وما كان للمصلّي ولا للذاكر أن يكون ضعيف القلب عادم الثقة بالله تعالى ، وهو جلّ ثناؤه يبرّيء المصلّين من الجزع الذي هو ضدّ الصبر بقوله : { إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ ٱلْمُصَلِّينَ } [ المعارج : 19 - 22 ] إلخ ، وقد جعل ذكره مع الثبات في البأساء في قرنٍ ، إذ قال : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } [ الأنفال : 45 ] وقد قرن في الآية التي نفسّرها الصلاة بالصبر ، وجعل الأمرين معاً ذريعة الاستعانة على ما يلاقي المؤمنون في طريق الحقّ من الشدائد . ولو كان هؤلاء الأدعياء مصلّين لكانوا من الصابرين ، وإنّما تلك حركات تعودوها فهم يكرّرونها ساهين عنها ، أو يقصدون بها قلوب الناس يبتغون عندها المكانة الرفيعة بالدين ، لما يترتّب على ذلك من المنافع والفوائد الدنيوية التي لا يعقلون سواها . فيجب على كلّ مؤمنٍ أن يعوّد نفسه احتمال المكاره ، ويحاول تحصيل ملكة الصبر عندما تعرّض له أسبابه ، فمن لم يستعن على عمله بالصبر ، لا يتمّ له أمر ، ولا يثبت على عمل ، ولا سيّما الأعمال العظيمة كتربية الأمم والإنتقال بها من حال إلى حال ؛ لذلك ترى كثيرين يشرعون في الأعمال العظيمة فيعوزهم الصبر فيقفون عند الخطوة الثانية . ومن يزعم أنّه عاجز عن تحصيل هذه الملكة ، فهو خائن لنفسه جاهل بما أودع الله فيه من الإستعداد ، فهو بإحتقاره لنفسه محتقر نعمة الله تعالى عليه ، وهو بهذا الإحساس بالعجز قد سجّل على نفسه الحرمان من جميع الفضائل . وجه الحاجة إلى الإستعانة بالصبر على تأييد الحقّ والقيام بأعبائه ظاهر جلي ، وأمّا الحاجة إلى الاستعانة بالصلاة فوجهها محجوب لا يكاد ينكشف إلاّ للمصلّين الذين هم في صلاتهم خاشعون . تلك الصلاة التي أكثر من ذكرها الكتاب العزيز ووصف ذويها بفُضلى الصفات ، وهي التوجّه إلى الله تعالى ومناجاته وحضور القلب معه سبحانه وإستغراقه في الشعور بهيبته وجلاله وكمال سلطانه . تلك الصلاة التي قال فيها جلّ ذكره : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَٰشِعِينَ } [ البقرة : 45 ] وقال فيها : { إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ } [ العنكبوت : 45 ] وليست هي الصورة المعهودة من القيام والركوع والسجود والتلاوة باللسان خاصّة ، التي يسهل على كلّ صبي مميّزٍ أن يتعوّدها ، والتي نشاهد من المعتادين لها الإصرار على الفواحش والمنكرات ، واجتراح الآثام والسيّئات ، وأي قيمةٍ لتلك الحركات الخفيفة في نفسها ، حتّى يصفها ربّ العزّة والجلال بالكبر إلاّ على الخاشعين ؟ إنّما جعلت تلك الحركات والأقوال صورة للصلاة ؛ لتكون وسيلة لتذكير الغافلين ، وتنبيه الذاهلين ، ودافعاً يدفع المصلّي إلى ذلك التوجّه المقصود الذي يملأ القلب بعظمة الله وسلطانه ، حتّى يستسهل في سبيله كلّ صعب ، ويستخف بكلّ كرب ، ويسهل عليه عند ذلك احتمال كلّ بلاء ، ومقاومة كلّ عناء ، فإنّه لا يتصوّر شيئاً يعترض في سبيله ، إلاّ ويرى سيّده ومولاه أكبر منه ، فهو لا يزال يقول : الله أكبر ، حتّى لا يبقى في نفسه شيء كبير ، إلاّ ما كان مرضيّاً لله العلي الكبير ، الذي يلجأ إليه في الحوادث ، ويفزع إليه عند الكوارث . ثمّ قال : { إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } ولم يقل معكم ؛ ليفيد أنّ معونته إنّما تمدّهم إذا صار الصبر وصفاً لازماً لهم ، وقالوا : إنّ المعيّة هنا معيّة المعونة ، فالصابرون موعودون من الله تعالى بالمعونة والظفر ، ومن كان الله معينه وناصره فلا يغلبه شيء . وقال الأستاذ الإمام : إنّ من سنّة الله تعالى أنّ الأعمال العظيمة لا تتمّ ولا ينجح صاحبها ، إلاّ بالثبات والإستمرار ، وهذا إنّما يكون بالصبر ، فمن صبر فهو على سنّة الله والله معه بما جعل هذا الصبر سبباً للظفر ؛ لأنّه يولد الثبات والإستمرار الذي هو شرط النجاح ، ومن لم يصبر فليس الله معه ؛ لأنّه تنكّب سنته ، ولن يثبت فيبلغ غايته . علم الله تعالى ما سيلاقيه المؤمنون في الدعوة إلى دينه وتقريره وإقامته من المقاومات وتثبيط الهمم ، وما يقوله لهم الناس في ذلك ، وما يقول الضعفاء في أنفسهم : كيف تبذل هذه النفوس وتستهدف للقتل بمخالفة الأمم كلّها ؟ وما الغاية من قتل الإنسان نفسه لأجل تعزيز رجل في دعوته ؟ وغير ذلك ممّا كانوا يسمعونه من المنافقين والكافرين ، وربّما أثّر في نفوس بعض الضعفاء فاستبطؤا النصر ، فعلّمهم الله سبحانه وتعالى ما يستعينون به على مجاهدة الخواطر والهواجس ، ومقاومة الشبهات والوساوس ، فأمر أولا بالإستعانة بالصبر والصلاة . ثمّ ذكر أعظم شيء يستعان عليه بذلك ، وهو القتل في سبيل دعوة الحقّ وحمايته ذكره مدرجاً في سياق تقرير حقيقة ودفع شبهة فقال : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتٌ } أي لا تقولوا في شأنهم هم أموات . وقالوا : إنّ اللام في " لمن " للتعليل ، لا للتبليغ ، والمعنى ظاهر والتركيب مألوف { بَلْ } هم { أَحْيَاءٌ } في عالم غير عالمكم { وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } بحياتهم إذ ليست في عالم الحسّ الذي يدرك بالمشاعر . ثمّ لا بدّ أن تكون هذه الحياة ، حياة خاصّة غير التي يعتقدها جميع الملّيين في جميع الموتى من بقاء أرواحهم بعد مفارقة أشباحهم ، ولذلك ذهب بعض الناس إلى أنّ حياة الشهداء تتعلّق بهذه الأجساد وإن فنيت أو احترقت أو أكلتها السباع أو الحيتان . وقالوا : إنّها حياة لا نعرفها . ونحن نقول مثلهم إنّنا لا نعرفها ونزيد إنّنا لا نثبت ما لا نعرف . وقال بعضهم : إنّها حياة يجعل الله بها الروح في جسم آخر يتمتّع به ويرزق ، ورووا في هذا روايات منها الحديث الذي أشار إليه المفسّر ( الجلال ) وهو : " إن أرواح الشهداء عند الله في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة " وقيل : إنّها حياة الذكر الحسن والثناء بعد الموت . وقيل : إنّ المراد بالموت والحياة الضلال والهدى . روي هذا عن الأصم ، أي لا تقولوا إنّ باذل روحه في سبيل الله ضالّ بل هو مهتد . وقيل : إنّها حياة روحانية محضة . وقيل : إنّ المراد أنهم سيحيون في الآخرة وأنّ الموت ليس عدماً محضاً كما يزعم بعض المشركين . فالآية عند هؤلاء على حدّ { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [ الانفطار : 13 - 14 ] أي إنّ مصيرهم إلى ذلك . قال الأستاذ الإمام بعد ذكر الخلاف : وقال بعض العلماء الباحثين في الروح : إنّ الروح إنّما تقوم بجسم لطيف " أثيري " في صورة هذا الجسم المركّب الذي يكون عليه الإنسان في الدنيا ، وبواسطة ذلك الجسم الأثيري تجول الروح في هذا الجسم المادّي ، فإذا مات المرء وخرجت روحه فإنّما تخرج بالجسم الأثيري وتبقى معه ، وهو جسم لا يتغيّر ولا يتبدّل ولا يتحلّل . وأمّا هذا الجسم المحسوس فإنّه يتحلّل ويتبدّل في كلّ بضع سنين . قال : ويقرب هذا القول من مذهب المالكية ، فقد روي عن مالك رحمه الله تعالى أنّه قال : إنّ الروح صورة كالجسد . أي لها صورة وما الصورة إلاّ عرض ، وجوهر هذا العرض هو الذي سمّاه العلماء بالأثير . وإذا كان من خواص الأثير النفوذ في الأجسام اللطيفة والكثيفة - كما يقولون - حتّى إنّه هو الذي ينقل النور من الشمس إلى طبقة الهواء ، فلا مانع أن تتعلّق به الروح المطلقة في الآخرة ، ثم هو يحلّ بها جسماً آخر تنعم به وترزق ، سواء كان جسم طير أو غيره ، وقد قال تعالى في آية أخرى : { أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [ آل عمران : 169 ] وهذا القول يقرّب معنى الآية من العلم . والمعتمد عند الأستاذ الإمام في هذه الحياة ، هو إنّها حياة غيبية تمتاز بها أرواح الشهداء على سائر أرواح الناس ، بها يرزقون وينعمون ، ولكنّنا لا نعرف حقيقتها ولا حقيقة الرزق الذي يكون بها ، ولا نبحث عن ذلك لأنّه من عالم الغيب الذي نؤمن به ونفوّض الأمر فيه إلى الله تعالى . ذكر الله تعالى فضل الشهادة التي استهدف لها المؤمنون في سبيل الدعوة إلى الحقّ والدفاع عنه ، ثمّ ذكر مجموع المصائب التي يبلوهم ويمتحنهم بها وهي لا تنافي ما وعدهم به من نعم الدنيا فقال : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمَوَالِ وَٱلأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَاتِ } أي ولنمتحننكم ببعض ضروب الخوف من الأعداء وغيره من المصائب البشرية المعتادة في المعايش ، وأكّد هذا بصيغة القسم لتوطين الأنفس عليه ، فعلّمهم به أنّ مجرّد الإنتساب إلى الإيمان ، لا يقتضي سعة الرزق وقوّة السلطان ، وانتفاء المخاوف والأحزان ؛ بل يجري ذلك بسنن الله تعالى في الخلق ، كما أنّ من سنن الخلق وقوع المصائب بأسبابها . وإنّما المؤمن الموفّق من يستفيد من مجاري الأقدار ، إذ يتربّى ويتأدّب بمقاومة الشدائد والأخطار ، ومن لم تعلمه الحوادث ، وتهذّبه الكوارث ، فهو جاهل بهدي الدين ، متّبع غير سبيل المؤمنين ، غير معتبر بقوله تعالى بعد ذكر هذا البلاء المبين : { وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ } فإنّه تعالى أراد أن ينبّهنا بهذا إلى أنّ هذه العقيدة هي التي تكتسب بها ملكة الصبر التي يقرن بها الظفر ، ويكون صاحبها أهلا لأن يبشّر باحتمال البلاء والاستفادة بحسن العاقبة في الأمور كلّها . فالبشارة في الآية عامة ولم يذكر المبشّر به إيذاناً بذلك ، وهو إيجاز لا يعهد مثله في غير القرآن الحكيم ، فأنت ترى أنّه لو أريد ذكر ما يبشّرون به لخرج الكلام إلى تطويل لا حاجة إليه ، كبيان عاقبة من يقع في كلّ نوع من أنواع المخاوف فيصابرها وينجح في أعقابها وهي كثيرة ، وهكذا الخوف المشار إليه في الآية - وأعداء الإسلام على ما كانوا عليه من الكثرة والقوة - ظاهر لا يخفى ، على أنّ بعضهم فسّره بالخوف من الله تعالى ، وهو باطل لأنّ هذا من أعظم ثمرات الإيمان ، لا من مصائب الإمتحان ، فهو نعمة تعين على الصبر لا مصيبة يطلب الصبر عليها أو فيها لأجل تهوين خطبها . وأمّا الجوع فقد قالوا إنّه ما يكون من الجدب والقحط . قال الأستاذ الإمام : وليس هذا هو المراد في الآية المسوقة لبيان ما يلاقي المؤمنون في سبيل الإيمان ، ولا وقع للصحابة في ذلك العهد ، وإنّما هو أحدهم يؤمن فيفصل من أهله وعشيرته ويخرج في الغالب صفر اليدين ، ولذلك كان الفقر عامّاً في المسلمين من أوّل عهدهم إلى ما بعد فتح مكّة ، ومن هذا التفسير يفهم المراد من نقص الأموال وهي الأنعام التي كانت معظم ما يتموّله العرب . وأمّا الثمرات فهي على أصلها ، وكان معظمها ثمرات النخيل . وقيل هي الولد ثمر القلب كما يقولون في المجاز المشهور . وقد بلغ من جوع المسلمين أن كانوا يتبلّغون بتمرات يسيرة ولا سيّما في غزوتي الأحزاب وتبوك . وأمّا نقص الأنفس فهو ما كان من القتل والموتان من اجتواء المدينة ، فقد كانت عند هجرتهم إليها بلد وباء وحمى ثمّ حسن مناخها . ثمّ وصف الصابرين المستحقّين للبشارة بقوله : { ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } أي قالوا هذا القول معبّرين به عن حالهم ومقتضى إيمانهم ، وليس المراد بالقول مجرّد النطق بهذه الكلمة على أن يحفظوها حفظاً ، ويلفظوها لفظاً ، وإن كانوا لا يعقلون لها معنى ، وإنّما المراد التلبّس بمعناها والتحقّق في الإيمان بأنّهم من خلق الله وملك الله وإلى الله يرجعون ، فهو الذي بيده ملكوت كلّ شيء ، ولا يفعل إلاّ ما سبقت به الحكمة ، وارتضاه النظام الإلهي المعبّر عنه بالسنّة ، بحيث ينطلق اللسان بالكلمة بدافع الشعور بهذا المعنى ، وتمكّنه من النفس . فأصحاب هذا الإعتقاد والشعور هم الجديرون بالصبر إيماناً وتسليماً ، بحيث لا يملك الجزع نفوسهم ولا تُقعِد المصائب هممهم ، بل تزيدهم ثباتاً ومثابرة فيكونون هم الفائزين . ولا ينافي الصبر والتثّبت ما يكون من حزن الإنسان عند نزول المصيبة ، بل ذلك من الرحمة ورقّة القلب ، ولو فقد الإنسان هذه الرحمة لكان قاسياً لا يرجى خيره ولا يؤمن شرّه ، وإنّما الجزع المذموم هو الذي يحمل صاحبه على ترك الأعمال المشروعة لأجل المصيبة ، والأخذ بعادات وأعمال مذمومة ضارّة ينهى عنها الشرع ، ويستقبحها العقل ، كما نشاهد من جماهير الناس في المصائب والنوائب . وقد ورد في الصحيحين " أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بكى عندما حضر ولده إبراهيم عليه السلام الموت ، وقيل له : أليس قد نهيتنا عن ذلك ؟ فأخبر أنّها الرحمة وقال : " إنّ العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلاّ ما يرضي ربّنا ، وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون " " رواه الشيخان من حديث أنس . وفائدة الإخبار بالبلاء قبل وقوعه توطين النفس عليه ، واستعدادها لتحمّله والاستفادة منه " ما من دهي بالأمر كالمعتدّ " هذا إن لم يقترن بالخبر إرشاد وتعليم ، فكيف إذا اقترنت به هداية العزيز العليم ؟ . ذكر البلاء وبشّر الصابرين عليه ، وذكر الوصف الذي يستحقّون به البشارة ، وختم القول ببيان الجزاء المبشّر به بالإجمال فقال : { أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } أي أولئك الصابرون المحتسبون عليهم من ربّهم الرءوف الرحيم ما يحول دون تبريح المصائب بهم من أنواع صلواته العامّة ورحمته الخاصّة . فأمّا الصلوات فالمراد بها أنواع التكريم والنجاح ، وإعلاء المنزلة عند الله والناس ، وعن ابن عبّاس إنّها المغفرة لذنوبهم . وأمّا الرحمة فهي ما يكون لهم في نفس المصيبة من حسن العزاء ، وبرد الرضى والتسليم للقضاء . فهي رحمة خاصّة يحسد الملحدون عليها المؤمنين ، فإنّ الكافر المحروم من هذه الرحمة في المصيبة تضيق عليه الدنيا بما رحبت ، حتّى إنّه ليبخع نفسه إذا لم يعد له رجاء في الأسباب التي يعرفها ، وينتحر بيده ويكون من الهالكين . { وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ } أي إلى ما ينبغي عمله في أوقات المصائب والشدائد إذ لا يستحوذ الجزع على نفوسهم ، ولا يذهب البلاء بالأمل من قلوبهم ، فيكونون هم الفائزين بخير الدنيا والراحة فيها ، المستعدّين لسعادة الآخرة بعلو النفس وتزكيتها بمكارم الأخلاق وصالح الأعمال ، دون أهل الجزع وضعف الإيمان ، كما تدلّ عليه الجملة الإسمية المعرَّفة الطرفين المؤكّدة بضمير الفصل .