Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 159-162)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
كان علماء أهل الكتاب يكتمون بعض ما في كتبهم بعدم ذكر نصوصه للناس عند الحاجة إليه أو السؤال عنه ، كالبشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم وصفاته وكحكم رجم الزاني الذي ورد ذكره في سورة المائدة ، ويكتمون بعضه بتحريف الكلم عن مواضعه بالترجمة أو النطق ، أو حمله على غير معانيه بالتأويل اتّباعاً لأهوائهم ( كما فعلوا بلفظ الفارقليط ) ففضحهم الله تعالى بهذه الآيات التي سجّلت عليهم وعلى أمثالهم اللعنة العامة الدائمة ، قال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلْكِتَابِ } . قال شيخنا : هذه الآية عود إلى أصل السياق ، وهو معاداة النبي ومعاندته من الكفّار عامّة ، ومن اليهود خاصّة ، والكلام في القبلة إنّما كان في معرض جحودهم وعدائهم أيضاً ، وجاء فيه أنّهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإنّ فريقاً منهم يكتمون الحقّ وهم يعلمون ، ولم يذكر هناك وعيد هؤلاء الكاتمين ؛ لأنّ ذكر الكتمان ورد مورد الإحتجاج عليهم ، وتسلية للنبي والمؤمنين على إيذائهم ، ثمّ عاد هنا فذكره ، وهو عبارة عن إنكارهم أخبار أنبيائهم عنه وبشارتهم به صلى الله عليه وسلم ، وجعلهم ذلك حجّة سلبية على إنكار نبوّته ، إذ كانوا يقولون : إنّ الأنبياء يبشّر بعضهم ببعض ولم يبشّروا بأن سيبعث نبي من العرب أبناء إسماعيل ، ولم يجئ بيان في كتبهم عن دينه وكتابه . فالله تعالى يقول : إنّهم يكتمون ما أنزل الله في شأن محمّد صلى الله عليه وسلم من بعد ما بيّنه لهم في الكتاب ، وهو اسم جنس يشمل جميع كتب الأنبياء عندهم . وقد اختلف الناس في صفة هذا الكتمان ، فقال بعضهم : إنّهم كانوا يحذفون أوصافه والبشارات فيه من كتبهم ، وهو غير معقول ، إذ لا يمكن أن يتواطأ أهل الكتاب على ذلك في جميع الأقطار ، ولو فعله الذين كانوا في بلاد العرب ، لظهر اختلاف كتبهم مع كتب إخوانهم في الشام وأوربا مثلا ، ويذهب آخرون إلى أنّ الإنكار كان بالتحريف والتأويل ، وحمل الأوصاف التي وردت فيه والدلائل التي تثبت نبوّته على غيره ، حتى إذا سئلوا : هل لهذا النبي ذكر في كتبكم ؟ قالوا : لا . على أنّ في كتبهم أوصافاً لا تنطبق إلاّ على نبي في بلاد العرب ، وأظهرها ما في التوراة وكتاب أشعيا فإنّه لا يقبل التأويل إلاّ بغاية التمحّل والتعسّف . وكذلك فعلوا بالدلائل على نبوّة المسيح ، فإنّهم أنكروا انطباقها عليه وزعموا أنّها لغيره ، ولا يزالون ينتظرون ذلك الغير . وقد بيّن الله تعالى في هذه الآية أنّهم لم يقتصروا على كتمان الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالتأويل ، بل كتموا ما في الكتاب من الهدى والإرشاد بضروب التأويل أيضاً ، حتّى أفسدوا الدين وانحرفوا بالناس عن صراطه ، وذكر جزاءهم فقال : { أُولَـٰئِكَ } أي الذين كتموا البيّنات والهدى فحرموا النور السابق والنور اللاحق . أو الذين شأنهم هذا الكتمان في الحال والاستقبال { يَلعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ } أمّا لعن الله لهم فهو حرمانهم من رحمته الخاصّة بالمؤمنين في الدنيا والآخرة ، وأمّا لعن اللاعنين فليس معناه أنّه ينبغي أن يطلب لعنهم ، وإنّما معناه أنّهم بفعلتهم هذه موضع لعنة اللاعنين الآتي ذكرهم في الآية الآتية { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ } عن الكتمان { وَأَصْلَحُواْ } عملهم بالأخذ بتلك البيّنات عن النبي ودينه والهدى الذي جاء به { وَبَيَّنُواْ } ما كانوا يكتمونه أو بيّنوا إصلاحهم ، وجاهروا بعملهم الصالح وأظهروه للناس ، فإنّ بعض الناس يعرف الحقّ ويعمل به ، ولكنّه يكتم عمله ويسرّه موافقة للناس فيما هم فيه لئلاّ يعيبوه ، وهذا ضرب من الشرك الخفي وإيثار الخلق على الحقّ ، لذلك اشترط في توبتهم إظهار إصلاحهم والمجاهرة بأعمالهم ليكونوا حجّة على المنكرين ، وقدوة صالحة لضعفاء التائبين . { فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ } أي أرجع وأعود عليهم بالرحمة والرأفة ، بعد الحرمان المعبّر عنه باللعنة . قال الأستاذ : وهذا من ألطف أنواع التأديب الإلهي فإنّه لم يذكر أنّه يقبل توبتهم كما هو الواقع ، بل أسند إلى ذاته العليّة فعل التوبة الذي أسنده إليهم ، وزاد على ذلك من تأنيسهم وترغيبهم أن قال : { وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } يصف نفسه سبحانه بكثرة الرجوع والتوبة ، للإيذان بالتكرار ، كلّما أذنب العبد وتاب ، حتّى لا ييأس من رحمة ربّه ، إذا هو عاد إلى ذنبه . فأي ترغيب في ذلك أبلغ من هذا وأشدّ تأثيرا منه لمن يشعر ويعقل ؟ . ثمّ إنّ العبرة في الآية هي أنّ حكمها عامّ وإن كان سببها خاصّاً ، فكلّ من يكتم آيات الله وهدايته عن الناس فهو مستحقّ لهذه اللعنة . ولمّا كان هذا الوعيد وأشباهه حجّة على الذين لبسوا لباس الدين من المسلمين وانتحلوا الرئاسة لأنفسهم بعلمه ، حاولوا التفصّي منه ، فقال بعضهم : إنّ الكتمان لا يتحقّق إلا إذا سئل العالم عن حكم الله تعالى فكتمه ، وأخذوا من هذا التأويل قاعدة هي : إنّ العلماء لا يجب عليهم نشر ما أنزل الله تعالى ودعوة الناس إليه وبيانه لهم ، وإنّما يجب على العالم أن يجيب إذا سئل عما يعلمه ، وزاد بعضهم إذا لم يكن هناك عالم غيره ، وإلاّ كان له أن يحيل على غيره . وهذه القاعدة مسلّمة عند أكثر المنتسبين إلى العلم اليوم وقبل اليوم بقرون . وقد ردّها أهل العلم الصحيح فقالوا : إنّ القرآن الكريم لم يكتف بالوعيد على الكتمان ، بل أمر ببيان هداه للناس ، وبالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأوعد من يترك هذه الفريضة ، وذكر لهم العبر فيما حكاه عن الذين قصّروا فيها من قبل كقوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } [ آل عمران : 187 ] إلخ ، وقوله : { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ } [ آل عمران : 104 ] - إلى قوله في المتفرّقين عن الحقّ - { وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ آل عمران : 105 ] وقوله : { لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ } [ المائدة : 78 ] إلى قوله في عصيانهم الذي هو سبب لعنتهم { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ } [ المائدة : 79 ] إلخ ، فأخبر تعالى أنّه لعن الأمّة كلّها لتركهم التناهي عن المنكر . نعم ، إنّ هذا فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، ولكن لا يكفي في كل قطر واحد ، كما قال بعض الفقهاء ، بل لا بدّ أن تقوم به أمّة من الناس ؛ كما قال الله تعالى ، لتكون لهم قوّة ولنهيهم وأمرهم تأثير ، وسيأتي تفصيل هذا في تفسير { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ } [ آل عمران : 104 ] إلخ . أقول : ما ورد من تدافع علماء السلف في الفتوى ، فإنما هو في الوقائع العملية الإجتهادية التي تعرض للناس ، لا في الدعوة إلى مقاصد الدين الثابتة بالنصوص وسياجها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وذهب بعض المؤوّلين مذهباً آخر ، هو إنّ هذا الوعيد مخصوص بالكافرين ، وترك المؤمن فريضة من الفرائض كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا يستحقّ به وعيد الكافرين فيلحقه بالكفّار . وهذا كلامٌ قد ألفته الأسماع ، وأخذ بالتسليم واستعمل في الإفحام والإقناع ، فإنّ الذي يسمعه على علاته يرى نفسه ملزماً برمي تاركي الأمر بالمعروف والدعوة إلى الخير والنهي عن المنكر بالكفر ، وذلك مخالف للقواعد التي وضعوها للعقائد فلا يستطيع أن يقول ذلك . ولكنّه إذا عرض على الله في الآخرة ، وعلى كتابه في الدنيا ، يظهر أنّه لا قيمة له . وإذا بحثت فيه ، يظهر لك أنّ الذي يرى حرمات الله تنتهك أمام عينيه ، ودين الله يداس جهاراً بين يديه ، ويرى البدع تمحو السنن ، والضلال يغشى الهدى ، ولا ينبض له عرق ولا ينفعل له وجدان ، ولا يندفع لنصرته بيد ولا بلسان ، هو هذا الذي إذا قيل له إنّ فلاناً يريد أن يصادرك في شيء من رزقك ( كالجراية مثلا ) أو يحاول أن يتقدّم عليك عند الأمراء والحكّام ، تجيش في صدره المراجل ، ويضطرب باله ، ويتألّم قلبه ، وربّما تجافى جنبه عن مضجعه ، وهجر الرقاد عينيه ، ثم إنه يجدّ ويجتهد ويعمل الفكر في استنباط الحيل ، وإحكام التدبير لمدافعة ذلك الخصم أو الإيقاع به ، فهل يكون لدين الله تعالى في نفس مثل هذا قيمته ؟ وهل يصدق أنّ الإيمان قد تمكّن من قلبه ، والبرهان عليه قد حكم عقله ، والإذعان إليه قد ثلج صدره ؟ يسهل على من نظر في بعض كتب العقائد - التي بُنيَت على أساس الجدل - أن يجادل نفسه ويغشّها بما يسلّيها به من الأماني التي يسمّيها إيماناً ، ولكنّه لو حاسبها فناقشها الحساب ، ورجع إلى عقله ووجدانه ؛ لعلم أنه اتّخذ إلهه هواه ، وأنّه يعبد شهوته من دون الله ، وأنّ صفات المؤمنين التي سردها الكتاب سرداً ، وأحصاها عدّاً - وأظهرها بذل المال والنفس في سبيل الله ونشر الدعوة وتأييد الحقّ - كلها بريئة منه ، وأنّ صفات المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، كلها راسخةٌ فيه ، فليحاسب امرؤٌ نفسه قبل أن يحاسب ، وليتب إلى الله قبل حلول الأجل ، لعلّه يتوب عليه وهو التوّاب الرحيم . { إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ ٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } تقدم في الآية السابقة استحقاق اللعن للكافرين بكتمان الحق ، واستثنى منهم الذين يتوبون ثم ذكر في هذه الآية وما بعدها بيان أولئك اللاعنين وشرط استحقاق اللعن الأبدي الذي يلزمه الخلود في دار الهوان ، وهو أن يموتوا على كفرهم ، فأولئك تسجّل عليهم اللعنة ويخلدون فيها لا تنفعهم معها شفاعةٌ ولا وسيلةٌ . قال بعض المفسّرين : إنّ المراد بالناس هنا المؤمنون . كأنّ غيرهم ليسوا من الناس ، وحجّتهم أن حمله على ظاهره وهو العموم لا يصدق على أهل دين أولئك الكفار ومذاهبهم فإنّهم لا يلعنونهم . قال الأستاذ الإمام : وهو احتجاج ضعيف ، فإنّ أهل مذاهبهم إذا كانوا لا يلعنون الأشخاص الذين يعرفونهم منهم ، فهم إذا شرحت لهم أحوالهم في كفرهم وإصرارهم على غيّهم ، وإعراضهم عن سعادتهم ، وحال الداعي إلى الحقّ معهم ، وذكر لهم كيف يشاقّونه ويعاندونه ، فهم يلعنونهم أو يرونهم محلاًّ للعنة ومستحقّين لأشدّ العقوبة ، فإنّ المراد : أنّ هؤلاء الكافرين المصرّين على كفرهم إلى الموت ، هم أهل للعنة وموضوع لها من الله ومن عالم الملائكة الروحانيين ، ومن الناس أجمعين ، فإنّ الكافر من الناس إذا ذكر له الكفر وأهله وعنادهم وإستكبارهم عن الحقّ لعنهم ، ولكنّه قد يخطئ في حمل صفات الكفر على أصحابها . والنكتة في ذكر لعنة الملائكة والناس ، مع أنّ لعنة الله وحده كافية في خزيهم ونكالهم ، هي بيان أنّ جميع من يعلم حالهم من العوالم العلوية والسفلية ، يراهم محلاًّ للعنة الله ومقته ، فلا يرجى أن يرأف بهم رائف ، ولا أن يشفع لهم شافع ؛ لأن اللعنة صبّت عليهم بإستحقاق عند جميع من يعقل ويعلم . ومن حرمه سوء سعيه من رحمة الرؤوف الرحيم فماذا يرجو من سواه ؟ . { خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ } أي ماكثين في هذه اللعنة وما تقتضيه من شدّة العذاب ، لا يخرجون منها ولا يخفّف عنهم من عذابها ، ولا هم ينظرون أي يمهلون من ( الإنظار ) ليتوبوا ويصلحوا ، أو لا ينظر إليهم نظر مغفرة ورحمة ، قالوا إن الخلود في اللعنة عبارة عن الخلود في أثرها وهو النار بقرينة { لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ } ولا أذكر عن الأستاذ الإمام في هذا شيئاً ، ولكن الكلام يصحّ على ظاهره وهو أنّ اللعن بمعنى الطرد ، فيصحّ أن يكون الخلود فيه عبارة عن دوامه هو ، أي هم مطردون من رحمة الله تعالى طرداً دائماً لا يرجى لهم أن يسلموا منه ؛ لأنّ الكفر الذي استحقّوه به هو غاية ما يكتسبه المرء من ظلمات الروح والجناية على الحقّ ، وتدسية النفس ، فمتى مات انقطع عمله وبطل كسبه ، فتعذّر عليه أن يجلي تلك الغمّة ، وينير هاتيك الظلمة ، وحرم من الرجوع إلى الحقّ ، ومن تزكية النفس ، فكأن خلوده في هذه اللعنة قد نشأ عن وصف لازم له ، فهو دائمٌ بدوام ذاته التي هي علّته ، وامتنع أيضاً أن ينظر ويمهل فيه ، أو ينظر الله إليه ويزكّيه ، لأنّه لم يكن من شيء خارج عنه ، فهو الجاني والمعذّب لنفسه ، فأي شيء يرجو من غيره ؟ .