Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 163-164)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

نطقت الآيات السابقة بأن الذين يكتمون ما أنزله الله من البيّنات والهدى ملعونون ، لا ترجى لهم رحمة الله تعالى ، إلاّ أن يتوبوا ، فإن هم ماتوا على كتمانهم وما يستلزمه كفرهم من الأعمال ، كانوا خالدين في اللعنة لا يخفّف عنهم من عذابها شيء ، إذ لا يقبل منهم افتداء ، ولا تنفعهم شفاعة الشفعاء ، { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } [ غافر : 18 ] لأنّ اللعنة تعمّهم في الآخرة من جميع الملائكة والناس ، بحيث يظهر للعوالم أنّهم لا يستحقّون الرحمة ، حتّى أنّ المرؤسين يتبرّءون من الرؤساء الذين كانوا يتّبعونهم في الضلال ويتّخذون كلامهم ديناً من دون كتاب الله كما سيأتي ، فناسب بعد هذا أن يبيّن الله تعالى أنّ شارع الدين ومحقّ الحقّ هو واحد لا يعبد غيره ، ولا تكتم هدايته ، ولا يجعل كلام البشر معياراً على كلامه ، وهو مفيض الرحمة والإحسان ، إذ الرحمة من صفاته الكاملة اللازمة . ليتذكّر أولئك الضالّون الكاتمون لبيّنات الله ، المؤثّرون عليها آراء رؤسائهم وأئمّتهم ثقة بهم ، واعتماداً على شفاعتهم ، أنّهم لن يغنوا عنهم من الله شيئاً ، ويعلموا وجه خطأهم في كتمان الحقّ ومعاداة أهله عناداً من الرؤساء ، وتقليداً من المرؤسين . فقال : { وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } أي وإلهكم الحقّ الحقيق بالعبادة إله واحد لا إله مستحقّ لها إلاّ هو ، فلا تشركوا به أحداً . والشرك به نوعان : أحدهما يتعلّق بالألوهية والعبادة ، وهو أن يعتقد المرء أنّ في الخلق من يشاركه تعالى أو يعينه في أفعاله ، أو يحمله على بعضها ويصدّه عن بعض بشفاعته عنده ، لأجل قربه منه ، كما يكون من بطانة الملوك المستبدّين ، وحواشيهم وحجّابهم وأعوانهم ، فهو يتوجّه إلى هذا المؤثّر عند الله بزعمه عندما يتوجّه إليه تعالى في الدعاء فيدعوه معه ، وقد يدعوه من دونه عند شدّة الحاجة لكشف ضرّ أو جلب نفع أعيته أسبابهما ، وهذا مخّ العبادة . وثانيهما يتعلّق بالربوبية وهو إسناد الخلق والتدبير إلى غيره معه ، أو أن تؤخذ أحكام الدين في عبادة الله تعالى والتحليل والتحريم عن غيره ، أي غير كتابه ووحيه الذي بلغه عنه رسله ، بحجّة أن من يؤخذ عنهم الدين من غير بيان الوحي أعلم بمراد الله ، فيترك الأخذ من الكتاب لرأيهم وقولهم ، وهو المراد بقوله تعالى : { ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ } [ التوبة : 31 ] كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى . وظاهر : إنّ الواجب على العلماء بالدين أن يبيّنوا للناس ما نزّله الله ولا يكتموه ، لا أن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه ، كما زاد أهل الكتب المنزلة كلّهم ، عبادات وأحكاماً كثيرة زائدة على الوحي أو مخالفة له ، يتأوّلونه لأجلها دون العكس ، وإذا كان الله تعالى واحداً لا إله إلاّ هو ، فلا ينبغي أن يشرك معه غيره ، فهو كذلك { ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ } أي الكامل الرحمة فلا ينبغي أن يعرض العبد عن أسباب رحمته إعتماداً على رحمة سواه ممّن يظنّ أنهم مقرّبون عنده ، فحسب المؤمن من رحمة الله التي وسعت كلّ شيء أن يستغني بالتصدّي لها عن رجاء سواها ، وإلاّ كان من الخائبين . قال الأستاذ الإمام : نبّههم سبحانه وتعالى إلى أنّ المنافع التي يرقبونها من شركهم إنّما هي بيده الكريمة وحده ، كأنّه يقول إذا أنتم تركتم ما أنتم فيه لأجله تعالى ، فهو بتفرّده بالألوهية يكفيكم كلّ ضرر تخافونه ، ويعطيكم برحمته الواسعة كلّ ما ترجونه ، فإنّ بيده ملكوت كلّ شيء ، وكلّ ما تعتمدون عليه من دونه فليس محلا للإعتماد ، بل إعتمادكم عليه من قبيل الشرك ، فيجب أن تطرحوه جانباً ، وتعتقدوا أنّ الإله الذي بيده أزمّة المنافع ، والقادر على دفع المضارّ وإيقاعها ، هو واحد لا سلطان لأحد على إرادته ، ولا مبدّل لكلمته ، ولا أوسع من رحمته ، وإنّما أكّد أمر الوحدة هذا التأكيد تحذيراً من طرق الشرك الخفيّة ، على إنّها أساس الدين وأصله ، وقد فصلنا معاني التوحيد والشرك واسمي الرحمن الرحيم في تفسير الفاتحة . أرأيت هذا الاتصال المحكم بين الآية وما قبلها ؟ إن بعض المفسّرين قد قطع عراه وفصمها ، وجعل الآية جواباً لقوم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم انسب لنا ربّك ، قاله الجلال . ويقول الأستاذ الإمام : إنّ سبب النزول إنّما يحتاج إليه في آيات الأحكام ؛ لأنّ معرفة الوقائع والحوادث التي نزل فيها الحكم تعين على فهمه وفقه حكمته وسرّه ، ومثلها ما فيه إشارة إلى بعض الوقائع كغزوة بدر والنصر فيها ومصيبة المؤمنين في أُحد . وأمّا الآيات المقرّرة للتوحيد - وهو المقصود الأوّل من الدين - فلا حاجة إلى التماس أسباب لنزولها ؛ بل هي لا تتوقّف على إنتظار السؤال ، وإنّما كان يبيّن عند كلّ مناسبة ، وما عساه يكون قد قارن نزولها من حادثة أو سؤال مثل هذا الذي ذكر آنفاً ، فهو إن صحّ رواية لا يزيدنا بياناً في فهم الآية ، ولا يصحّ أن يجعل سبباً لنزولها لا سيّما بعد الذي علم من إتّصالها بما قبلها كما يليق ببلاغة القرآن . ومثل هذا السبب يجعل القرآن مبدّداً متفرّقاً لا ترتبط أجزاؤه ، ولا تتّصل أنحاؤه ، ومثله ما قالوه في سبب الآية التي بعد هذه الآية ، فإنّها جاءت على سنّة القرآن من وصل الدليل بالدعوى ، ولكنهم رووا في سببها روايات منها إنّ آية { وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } نزلت بالمدينة ثمّ سمع بها مشركو مكّة فقالوا ما قالوا ، وعجبوا كيف يسع الخلق إله واحد وطلبوا الدليل على ذلك ، كأنّهم لم يكونوا قد سمعوا عليه دليلا ، وكأنّ هذه الدعوى لم تكن طرأت على أذهانهم ولا طرقت أبواب مسامعهم - على أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أقام فيهم يدعوهم إلى هذا التوحيد عشر سنين ونيفاً ، وسبق لهم التعجّب منه { أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ ص : 5 ] ومعظم ما نزل بمكة آيات وبراهين عليه ، فكيف نسلم أنّ ما نراه في التنزيل المدني من آيتين متّصلتين إحداهما في التوحيد والأخرى في دليله ، قد كان من الفصل بينهما أن نزل الدليل بعد المدلول بزمن طويل وسبب متأخّر ؟ قال الأستاذ الإمام بعد بيان اتّصال الآية بما قبلها وتقرير معناها : ومن هنا يظهر أنّها لا يصحّ أن تكون جواباً للذين قالوا : انسب لنا ربّك ، أو : صف لنا ربّك ؛ لأنّ هذا السؤال إنّما يصدر عمّن لا يعرف شيئاً من صفات هذا الربّ العظيم ، أو ممّن يبغي أن يعرف مقدار علم المسؤول بهذه الصفّات ، ويجب أن يكون جوابه بذكر جميع ما يجب إعتقاده من التنزيه والصفات الثبوتية ، ولم يذكر في الآية إلاّ الوحدة والرحمة ، وترك ذكر العلم والحكمة والإرادة والقدرة ، وهي صفات لا تعقل الألوهية إلاّ بها وسببه ، أنّ أولئك الكفّار لم يكونوا يكتمونها ، ولا يشركون مع الله أحداً فيها ، وإنّما أشركوا في الألوهية بعبادة غير الله تعالى بالدعاء والنذور والقرابين ، ويستلزم هذا عدم اكتفائهم برحمته . وقال شيخنا في تعليله : إنّ الإكتفاء بذكر الوحدة والرحمة على الوجه الذي قرّرناه في تفسير الآية ، ظاهر لا تَطلبُ البلاغة غيره ؛ لأن الوحدة تذكر أولئك الكافرين الكاتمين للحقّ بأنّهم لا يجدون ملجأً غير الله يقيهم عقوبته ولعنته . وذكر الرحمة بعدها يرغبهم في التوبة ويحول دون يأسهم من فضل الله بعد إيئاسهم ممّن اتّخذوهم شفعاء ووسطاء عنده ، فيطابق ذلك قوله تعالى في الآية التي ذكر فيها الكتمان { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ } [ البقرة : 160 ] إلخ . { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } إلخ . هذه آية قرآنية تشرح لنا بعض الآيات الكونية الدالّة على وحدانية الله تعالى ورحمته الواسعة ؛ إثباتاً لما ورد في الآية قبلها من هذين الوصفين له تعالى على طريقة القرآن في قرن المسائل الإعتقادية بدلائلها وبراهينها كما ألمعنا . وهذه الآيات أجناس الأوّل والثاني منها خلق السماوات والأرض ، ففيه آيات بيّنات كثيرة الأنواع يدهش المتأمّلين بعض ظواهرها ، فكيف حال من اطّلع على ما إكتشف العلماء من عجائبها ، الدالّ على أنّ ما لم يعرفوه أعظم ممّا عرفوه منها . تتألف هذه الأجرام السماوية من طوائف يبعد بعضها عن بعض بما يقدر بالملايين وألوف الملايين من سني سرعة النور ، ولكل طائفة منها نظام كامل محكم ولا يبطل نظام بعضها نظام الآخر ، لأن للمجموع نظاماً عامّاً واحداً يدلّ على أنّه صادر عن إله واحد لا شريك له في خلقه وتقديره ، وحكمته وتدبيره ، وأقرب تلك الطوائف إلينا ما يسمّونه النظام الشمسي نسبة إلى شمسنا هذه التي تفيض أنوارها على أرضنا فتكون سبباً للحياة النباتية والحيوانية فيها . والكواكب التابعة لهذه الشمس مختلفة في المقادير والأبعاد ، وقد استقرّ كلّ منها في مداره وحفظت النسبة بينه وبين الآخر بسنّة إلهية منتظمة حكيمة ، يعبّرون عنها بالجاذبية العامّة . ولولا هذا النظام لانفلتت هذه الكواكب السابحة في أفلاكها ، فصدم بعضها بعضاً وهلكت العوالم بذلك ، فهذا النظام آيةٌ على الرحمة الإلهية ، كما أنّه آية على الوحدانية . هذه هي السماوات نشير إلى آياتها عن بعد { وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } [ الذاريات : 20 ] في جرمها ومادّتها وشكلها وعوالمها المختلفة من جماد ونبات وحيوان ، فلكلّ منها نظام عجيب وسنن إلهية مطّردة في تكوينها ، وتوالد ما يتوالد من أحيائها ، وغير ذلك حتّى لو دقّقت النظر في أنواع الجمادات من الصخور المختلفة الأنواع ، والجواهر المتعدّدة الخواص والألوان ، لشاهدت من النظام فيها ومن أنواع المنافع في اختلافها وتنوّعها ما تعلم به علم اليقين ، إنّها ترجع في ذلك إلى إبداع إله حكيم ، رءوف رحيم ، لا شريك له في الخلق والتدبير . وأقول هنا : إنّ الأستاذ الإمام ( كان ) يرى أنّ في الجماد حياة خاصّة به دون الحياة النباتية ، ولا أدري أقاله في تفسير هذه الآية أم لا ، ولكنّني سمعته منه غير مرّة ، فهذان جنسان من آياته تعالى يشملان أنواعاً وأفراداً منها يتعذّر إحصاؤها . الجنس الثالث : قوله : { وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } وهو أن يجئ أحدهما فيذهب الآخر ، ويطول هذا فيقصر ذاك ، وكلّ ذلك بحسبان ، مطرّد في جميع الأقطار والبلدان ، ومثله اختلاف الفصول ، باختلاف مواقع العرض والطول ، وقد ذكر هذه الآية بعد خلق السماوات والأرض ؛ لأن هذا الاختلاف هو أثر مقابلة الأرض للشمس وحركتها بإزائها ، وتفصيل ذلك مشروح في محلّه من العلم الخاصّ بهذه المسائل . وفي المشاهد من اختلاف الليل والنهار والفصول ، وما للناس في ذلك من المنافع والمصالح ، آياتٌ بيّنات على وحدة مبدع هذا النظام المطّرد ورحمته بعباده ، يسهل على كلّ أحد أن يفهمها ، وإن لم يعرف أسباب ذلك الاختلاف وتقديره . وفي القرآن بيان لذلك في مواضع كثيرة كقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } [ الإسراء : 12 ] فهذه الآية تهدي إلى ما في اختلاف الليل والنهار من المنافع العامّة ، وفي معناها آيات أخرى . وقال تعالى : { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } [ الفرقان : 62 ] وهذه هداية إلى المنافع الدينية . وهناك آيات تشير إلى أسباب هذا الاختلاف كقوله تعالى : { يُكَوِّرُ ٱللَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّـهَارَ عَلَى ٱللَّيْلِ } [ الزمر : 5 ] وقوله : { يُغْشِي ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً } [ الأعراف : 54 ] وهاتان الآيتان تدلاّن على إستدارة الأرض ودورانها حول الشمس كما بيّناه في مواضع من " المنار " بالتفصيل ، وفي التفسير بالإجمال . وصفوة القول في هذا المقام : إنّ اختلاف الليل والنهار أثر من آثار النظام الشمسي ، وقلنا : إنّ ذلك النظام يدلّ على وحدة واهبه ومقدّره ، ونقول : إنّ آثاره تدلّ على ذلك أيضاً ، وأمّا دلالتها على رحمته تعالى فظاهرة ممّا تقدّم الاستشهاد به من الآيات آنفاً . الجنس الرابع : قوله : { وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ } الفلك ( بالضمّ ) اسم للسفينة ولجمعها ، كان الظاهر أن تأتي هذه الآية في آخر الآيات ليكون ما للإنسان فيه صنع على حدة وما ليس له فيه صنع على حدة . والنكتة في ذكرها عقيب آية الليل والنهار هي إنّ المسافرين في البرّ والبحر هم أشدّ الناس حاجة إلى تحديد اختلاف الليل والنهار ومراقبته على الوجه الذي ينتفع به ، والمسافرون في البحر أحوج إلى معرفة الأوقات ، وتحديد الجهات ، لأنّ خطر الجهل عليهم أشدّ ، وفائدة المعرفة لهم أعظم ، ولذلك كان من ضروريات ربّاني السفن معرفة علم النجوم ( الهيئة الفلكية ) وعلم الليل والنهار من فروع هذا العلم قال تعالى : { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلنُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَٰتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } [ الأنعام : 97 ] فهذا وجه الترتيب بين ذكر الفلك وما قبله . وأمّا كون الفلك آية فلا يظهر بادي الرأي ، كما يظهر كونها رحمة من قوله : { بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ } أي في أسفارهم وتجاراتهم ، وما يعرف في هذا العصر بالمشاهدة والإختبار أكثر ممّا كان يعرف في العصور السالفة إذ كانت الفلك كلّها شراعية فلم يكن البخار يسير أمثال هذه البواخر والبوارج العظيمة ، التي تحكي مدناً كبيرة ، فيها جميع المرافق التي يتمتّع بها المترفون والملوك في البرّ ، من الأرائك والسرر والحمامات وغير ذلك أو قلاعاً وحصوناً فيها أقتل آلات الحرب . وكلّ ذلك من رحمة الإله الذي خلق هذه الأشياء وهدى إليها الإنسان ، فلا بدّ لفهم كونها آية على وحدانيته من فهم طبيعة الماء وطبيعة قانون الثقل في الأجسام وطبيعة الهواء والريح ، وزد على ذلك معرفة طبيعة البخار والكهرباء التي هي العمدة في سير الفلك الكبرى في زماننا ، فكلّ ذلك يجري على سنن إلهية مطردة منتظمة ، تدلّ على أنّها صادرة عن قوة واحدة هي مصدر الإبداع والنظام ، وهي قوّة الإله الواحد الحكيم ، الرحمن الرحيم . الجنس الخامس : قوله : { وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ } المراد بالسماء هنا جهة العلو أو السحاب ، لا ما قاله المخذولون الذين تجرءوا على الكذب على الله ورسوله فزعموا إنّ بين السماء والأرض بحراً قالوا إنّه موج مكفوف ، وإنّ المطر ينزل منه على قدر الحاجة ، في تفصيل اخترعوه ما أنزل الله به من سلطان ، وتبعهم فيه أسرى النقل ولو خالف الحسّ والبرهان ، ونزول المطر من الأمور المحسوسة التي لا تحتاج إلى نقل ، ولا نظر عقل ، وقد شرح كيفيّة تكوينه ونزوله العلماء الذين تكلّموا في الكائنات ، ووصفوا بالتدقيق الآيات المشاهدات ، ولم يخرج شرحهم الطويل عن الكلمة الوجيزة في بعض الآيات التي ذكر فيها المطر وهي قوله تعالى : { ٱللَّهُ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } [ الروم : 48 ] فحرارة الهواء هي التي تبخّر المياه والرطوبات ، وتثيرها الرياح في الجوّ حتّى تتكاثف ببرودتها ، وتكون كسفاً من السحاب يتحلّل منه الماء ويخرج من خلاله ، وينزل بثقله إلى الأرض ، وكثيراً ما شاهدنا في جبال سورية - كما يشاهد الناس في غيرها - أن ينعقد السحاب في أثناء الجبل وينزل منه المطر والشمس طالعة فوقه حيث لا مطر ، وقد يخترق الناس منطقة المطر إلى ما فوقها . وقد وصف الله تعالى هذا الجنس من آياته بأعظم آثاره فقال : { فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } أي أوجد بسببه الحياة في الأرض الميتة بخلوّها من صفات الأحياء كالنمو والتغذّي والنتاج ، وبثّ : أي نشر وفرّق في أرجائها من جميع أنواع الأحياء التي تدبّ عليها وهي لا تعدّ ولا تحصى ، فبالماء حدثت حياة الأرض بالنبات ، وبه إستعدّت لظهور أنواع الحيوان فيها . وهل المراد لإحياء الأول وما تلاه من تولّد الحيوانات المعبّر عنها بكلّ دابّة ، أو هو ما يشاهد من آحاد الأحياء التي تتولّد دائماً في جميع بقاع الأرض ؟ الظاهر أنّ المراد أولا وبالذات الإحياء الأوّل المشار إليه بقوله تعالى في آية أخرى : { أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [ الأنبياء : 30 ] فهو يذكر جعل كلّ شيء حيّاً بالماء ، في إثر ذكر إنفصال الأرض من السماء ، وذلك إنّ مجموع السماوات والأرض كان رتقاً ، أي مادّة واحدة متّصلا بعض أجزائها ببعض ، على كونه ذرّات غازية كالدّخان كما قال في آية التكوين : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } [ فصلت : 11 ] ولمّا كان ذلك الفتق في الأجرام إنفصل جرم الأرض عن جرم الشمس ، وصارت الأرض قطعة مستقلّة مائرة ملتهبة ، وكانت مادّة الماء - وهي ما يسمّيه علماء التحليل والتركيب ( علم الكيمياء ) بالأكسجين والهدروجين - تتبخّر من الأرض بما فيها من الحرارة فتلاقي في الجوّ برودة تجعلها ماء فينزل على الأرض كما وصفنا آنفاً فيبرد من حرارتها ، وما زال كذلك حتى صارت الأرض كلّها ماء وتكوّنت بعد ذلك اليابسة فيه وخرج النبات والحيوان وكلّ شيء حي من الماء . فهذا هو الإحياء الأوّل . وأمّا الإحياء المستمرّ المشاهد في كلّ بقاع الأرض دائماً ، فهو المشار إليه بمثل قوله تعالى : { وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ الحج : 5 ] وذلك أنّنا نرى كلّ أرض لا ينزل فيها المطر ولا تجري فيها المياه من الأراضي الممطورة لا في ظاهرها ولا في باطنها ، خالية من النبات والحيوان إلاّ أن يدخلها من أرض مجاورة لها ثمّ يعود منها . فحياة الأحياء في الأرض إنّما هي بالماء سواء في ذلك الإحياء الأوّل عند تكوين العوالم الحيّة وإيجاد أصول الأنواع ، والإحياء المتجدّد في أشخاص هذه الأنواع وجزئياتها التي تتولّد وتنمي كلّ يوم . وهذه المياه التي يتغذّى بها النبات والحيوان على سطح هذه اليابسة ، كلّها من المطر ، ولا يستثنى من ذلك أرض مصر ، فيقال : إنّ حياتها بماء النيل دون المطر ، فإنّ مياه الأنهار والعيون التي تنبع من الأرض كلّها من المطر ، فهو يتخلّل الأرض فيجتمع فيندفع ، وقد امتن الله تعالى بذلك علينا وأرشدنا إلى آيته فيه بقوله : { أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } [ الزمر : 21 ] الآية . فالبحيرات التي هي ينابيع النيل من ماء المطر والزيادة التي تكون فيه أيّام الفيضان هي من المطر الذي يمدّ هذه الينابيع ويمدّ النهر نفسه في مجراه من بلاد السودان ، وكثرة الفيضان وقلّته تابعةٌ لكثرة المطر السنوي وقلّته هناك . هذا هو الماء في كونه مطراً ، وفي كونه سبباً للحياة وهو آية في كيفية وجوده وتكوّنه ، فإنّه يجري في ذلك على سنّة إلهية حكيمة تدلّ على الوحدة والرحمة ، ثم إنّه آيةٌ في تأثيره في العوالم الحيّة أيضاً ، فإنّ هذا النبات يسقى بماء واحد هو مصدر حياته ، ثمّ هو مختلف في ألوانه وطعومه وروائحه ، فتجد في الأرض الواحدة نبتة الحنظل مع نبتة البطيخ ، متشابهتين في الصورة متضادّتين في الطعم ، وتجد النخلة وتمرها ما تذوق حلاوة ولذّة ، وتجد في جانبها شجرة الليمون الحامض والنارنج وثمرها ما تعرف حموضة وملوحة ، وتجد بالقرب منهما شجرة الورد لها من الرائحة ما ليس للنخلة وما يخالف في أريجه زهر النارنج ، بل يوجد في الشجر ما له زهر ذكي الرائحة ، فإذا قطعت الغصن الذي فيه هذا الزهر تنبعث منه رائحة خبيثة . فتلك السنن التي يتكوّن بها المطر وينزل جارية بنظام واحد دقيق ، وكذلك طرق تغذّي النبات بالماء هي جاريةٌ بنظام واحد ، فوحدة النظام وعدم الخلل فيه تدلّ على إنّ مصدره واحد ، فهو من هذه الجهة يدلّ على الوحدانية الكاملة ، ومن جهة ما للخلق فيه من المنافع والمرافق يدلّ على الرحمة الإلهية الشاملة . وقلّ مثل هذا فيما بثّ الله تعالى في الأرض من كلّ دابة ، فإنّها آيات على الوحدة ، ودلائل وجودية على عموم الرحمة . الجنس السادس : قوله تعالى : { وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ } ذكر آية الرياح بعد آية المطر للتناسب بينهما وتذكيراً بالسبب ، فإنّ الرياح هي التي تثير السحاب وتسوقه في الجو إلى حيث يتحلّل بخاره فيكون مطراً كما تقدّم آنفاً في آية { ٱللَّهُ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ } [ الروم : 48 ] وتصريف الرياح تدبيرها وتوجيهها على حسب الإرادة ووفق الحكمة والنظام ، فهي تهب في الأغلب من إحدى الجهات الأربع ، وتارةً تأتي نكباء بين بين ، وقد تكون متناوحة ، أي تهبّ من كلّ ناحية ، ومنها العقيم ، ومنها الملقّحة للنبات وللسحاب ، وإذا هبّت حارّة في بعض الأماكن والأوقات فهي تهب عقب ذلك لطيفة الحرارة أو باردة ، وكلّ ذلك يجري على سنّة حكيمة تدلّ على وحدة مصدرها ، ورحمة مدبّرها . الجنس السابع : قوله تعالى : { وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } أي الغيم المذلّل المسحوب في الجواء لإنزال المطر في البلاد المختلفة . ذكر السحاب هنا بعد ذكر تصريف الرياح ؛ لأنّها هي التي تثيره وتجمعه ، وهي التي تسوقه إلى حيث يمطر ، وتفرّق شمله أحياناً فيمتنع المطر ، ولم يذكره عند ذكر الماء مع إنّه سببه المباشر ؛ ليرشدنا إلى أنّه في نفسه آية ، فإنّه يتكوّن بنظام ويعترض بين السماء والأرض بنظام ، فهو في ظاهره آيةٌ تدهش الناظر الجاهل بالسبب لو لم يألف ذلك ويأنس به ، وإنّما يعرفها حقّ معرفتها من وقف على السنن الإلهية في اجتماع الأجسام اللطيفة وافتراقها ، وعلوّها وهبوطها ، وهو ما يعبّر عنه علماء هذا الشأن بالجاذبية ، وهي أنواع : منها جاذبية الثقل والجاذبية العامّة وجاذبية الملاصقة وغيرها ، ومن لا يعرف أسرار هذه الكائنات ، وإنّما ينظر إلى ظواهرها فيراها كما تراها العجماوات فهو لا يفهم معنى كونها آيات ؛ لأنّه أهمل آلة الفهم التي امتاز بها وهي العقل ، ولذلك أخبر الله تعالى عن هذه الأجناس كلها إنّ فيها { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } فإنّهم هم الذين ينظرون في أسبابها ، ويدركون حكمها وأسرارها ، ويميّزون بين منافعها ومضارّها ، ويستدلّون بما فيها من الإتقان والإحكام ، والسنن التي قام بها النظام ، على قدرة مبدعها وحكمته ، وفضله ورحمته ، وعلى استحقاقه للعبادة دون غيره من بريته ، وبقدر ارتقاء العقل في العلم والعرفان ، يكمل التوحيد في الإيمان ، وإنّما يشرك بالله أقلّ الناس عقلاً ، وأكثرهم جهلاً . أليس أكبر خذلان للدين وجناية عليه ، أن لا ينظر المنتسبون إليه في آياته التي يوجّههم كتابه إلى النظر فيها ، ويرشدهم إلى إستخراج العبر منها ؟ أليس من أشدّ المصائب على الملّة أن يهجر رؤساء دين كهذا الدين العلوم التي تشرح حكم الله وآياته في خلقه ، ويعدوها مضعفة للدين أو ماحية له ، خلافاً لكتاب الله الذي يستدلّ لهم بها ويعظم شأن النظر فيها ؟ بلى وإنّهم ليصرّون على تقاليدهم هذه ، وليس عليها حجّة ، وإنّما اتّبعوا فيها سنن قوم ممّن قبلهم ، وكان بعض الحكماء المتأخّرين يقول كلمة في أهل دينه الذين خذلوه : هكذا شأن أهل الأديان كافّة ، كأنهم تعاهدوا جميعاً على أن يكون سيرهم واحداً . وهذا المعنى مأخوذ من قول الله تعالى في الكافرين يتّفقون في كلّ أمّة على الطعن في نبيّها : { أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } [ الذاريات : 53 ] . وقد يزعم بعض هؤلاء الذين يعادون علم الكون باسم الدين : إنّ النظر في ظواهر هذه الأشياء كاف للإستدلال بها ، ومعرفة آيات صانعها وحكمته ورحمته . فمثلهم كمثل من يكتفي من الكتاب برؤية جلده الظاهر وشكله ، من غير معرفة ما أودعه من العلم والحكمة . نعم إنّ هذا الكون هو كتاب الإبداع الإلهي المفصح عن وجود الله وكماله ، وجلاله وجماله ، وإلى هذا الكتاب الإشارة بقوله تعالى : { قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } [ الكهف : 109 ] وبقوله : { أَنَّمَا فِي ٱلأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ ٱللَّهِ } [ لقمان : 27 ] فكلمات الله في التكوين باعتبار آثارها ومصداقها - هي آحاد المخلوقات والمبدعات الإلهية ، فإنّها تنطق بلسان أفصح من لسان المقال ، لكن لا يفهمه الذين هم عن السمع معزولون ، وللعلم معادون ، الواهمون أنّ معرفة الله تقتبس من الجدليات النظرية ، والأقيسة المنطقية ، دون الدلائل الوجودية الحقيقية ، ولو كان زعمهم حقيقة لا وهماً ، لكان الله سبحانه استدلّ في كتابه بالأدلّة النظرية الفكرية ، وذكر الدور والتسلسل وغير ذلك من الإصطلاحات الكلامية ، ولم يستدلّ بالسماء والأرض والليل والنهار والفلك والمطر وتأثيره في الحياة ، وغير ذلك من المخلوقات التي أرشدنا القرآن إلى النظر فيها ، واستخراج الدلائل والعبر منها . ألا إنّ لله كتابين : كتاباً مخلوقاً وهو الكون ، وكتاباً منزلاً وهو القرآن ، وإنّما يرشدنا هذا إلى طرق العلم بذاك ، بما أوتينا من العقل ، فمن أطاع فهو من الفائزين ، ومن أعرض فأولئك هم الخاسرون .