Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 165-167)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذه الآيات مبيّنة لحال الذين لا يعقلون تلك الآيات التي أقامتها الآية السابقة على توحيد الله تعالى ورحمته ، ولذلك جعلوا له أنداداً يلتمسون منهم الخير والرحمة ، ويدفعون ببركتهم البلاء والنقمة ، ويأخذون عنهم الدين والشرعة . قال المفسّرون : إنّ الندّ هو المماثل ، وزاد بعض اللغويين فيه قيداً فقال : إنّه المماثل الذي يعارض مثله ويقاومه . ويفهم من هذا : إنّ متّخذي الأنداد يزعمون أنّهم مماثلون لله تعالى في قدرته وعلمه وسلطانه ، يعارضونه في الخلق ويقاومونه في التدبير ، وهذا غير صحيح ؛ لأنّ القرآن قصّ علينا خبر متّخذي الأنداد في آيات كثيرة صريحة ، في أنّهم لا يعتقدون شيئاً من هذا الذي يفهم أو يتوّهم من عبارة المفسّرين ، بل يعتقدون غالباً أنّ الله تعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير ، وأنّ الأنداد وسطاء بينه وبين عباده يقرّبونهم إليه ويشفعون لهم عنده ، ويقضون حاجاتهم بخوارق العادات أو يقضيها هو لأجلهم . ويحتجّون لهذه العقيدة بأنّ المذنبين المقصّرين لا يستطيعون الوصول إلى الله تعالى بأنفسهم ، فلا بدّ لهم من واسطة بينهم وبينه تعالى ، كما هو المعهود من الرعايا الضعفاء ، مع الملوك والأمراء ، والوثنيون يقيسون الله تعالى على من يعظّمونه من الرؤساء وعظماء الخلق ، ولا سيّما المستبدّين منهم ، الذين استعبدوا الناس استعباداً بل تعبّدوهم فعبدوهم . فالآيات الناطقة بأنّهم إذا سئلوا : من خلق كذا وكذا ؟ يقولون : الله - كثيرة ، وقال فيهم مع ذلك : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [ يونس : 18 ] وقال أيضاً : { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] أي يقولون ما نعبدهم إلخ . والأنداد عند جمهور المفسّرين أعمّ من الأصنام والأوثان ، فيشمل الرؤساء الذين خضع لهم بعض الناس خضوعاً دينياً ، ويدلّ عليه الآيات الآتية : { إِذْ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ } [ البقرة : 166 ] إلخ . فالمراد إذاً من الندّ من يطلب منه ما لا يطلب إلاّ من الله عزّ وجلّ ، أو يؤخذ عنه ما لا يؤخذ إلاّ عن الله تعالى ، وبيان الأوّل على ما قرّرناه مراراً أنّ للأسباب مسبّبات لا تعدوها بحكمة الله في نظام الخلق ، وأنّ لله تعالى أفعالا خاصّة به ، فطلب المسبّبات من أسبابها ليس من اتّخاذ الأنداد في شيء ، وأنّ هناك أموراً تخفى علينا أسبابها ، ويعمى علينا طريق طلاّبها ، فيجب علينا بإرشاد الدين والفطرة أن نلجأ فيها إلى ذي القوّة الغيبية ونطلبها من مسبّب الأسباب ، لعلّه بعنايته ورحمته يهدينا إلى طريقها أو يبدّلنا خيراً منها ، ويجب مع هذا بذل الجهد والطاقة في العمل بما نستطيع من الأسباب ، حتّى لا يبقى في الإمكان شيء مع إعتقادنا بأنّ الأسباب كلّها من فضل الله تعالى علينا ورحمته بنا ، إذ هو الذي جعلها طرقاً للمقاصد ، وهدانا إليها بما وهبنا من العقل والمشاعر . لا يسمح الدين للناس بأن يتركوا الحرث والزرع ويدعوا الله تعالى أن يخرج لهم الحبّ من الأرض بغير عمل منهم أخذاً بظاهر قوله : { ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ } [ الواقعة : 64 ] وإنّما يهديهم إلى القيام بجميع الأعمال الممكنة لإنجاح الزراعة من الحرث والتسميد والبذر والسقي وغير ذلك ، وأن يتّكلوا على الله تعالى بعد ذلك فيما ليس بأيديهم ولم يهدهم لسببه بكسبهم كإنزال الأمطار ، وإفاضة الأنهار ، ودفع الجوائح ، فإن استطاعوا شيئاً من ذلك فعليهم أن يطلبوه بعملهم لا بألسنتهم وقلوبهم ، مع شكر الله تعالى على هدايتهم إليه ، وإقدارهم عليه . كذلك يحظر الدين عليهم أن ينفروا إلى الحرب والمدافعة عن الملّة والبلاد عزلا ، أو حاملي سلاح دون سلاح العدو المعتدي عليهم ، اتّكالا على الله تعالى وإعتماداً على أن النصر بيده ؛ بل يأمرهم بأن يعدوا للأعداء ما استطاعوا من قوّة ويتّكلوا بعد ذلك في الهجوم والإقدام ، على عناية الله تعالى بتثبيت القلوب والأقدام ، وغير ذلك من ضروب التوفيق والإلهام ، فمن قصر في اتّخاذ الأسباب إعتماداً على الله فهو جاهل بالله ، ومن التجأ إلى ما ليس بسبب من دون الله ، فهو مشرك بالله . وهذا الذي يلجأ إليه - من إنسان مكرّم كالأنبياء والصالحين ، أو ملك من الملائكة المقرّبين ، أو ما دون ذلك من مظاهر الخليقة ، أو صنم أو تمثال جعل تذكاراً لشيء من هذه - يسمّى ندّاً لله وشريكاً له ووليّاً من دونه ، وقد نطق القرآن بجميع هذه الأسماء التي سمّاها المشركون ، ولم ينزل الله بها من سلطان . قال الأستاذ الإمام : قسّم المفسّرون الأنداد إلى قسمين : قسم يعمل بالاستقلال ، أي يقضي حاجة من يلجأ إليه بنفسه ، وقسم يشفع عند الله تعالى ويتوسّط لصاحب الحاجة فتقضى . وإنّما كان الشفيع ندّاً ؛ لأنّه يستنزل من يشفع عنده عن رأيه ويحول من إرادته ، وتحويل الإرادة لا بدّ أن يكون مسبوقاً بتغيير العلم بالمصلحة والحكمة إذ الإرادة تابعة للعلم دائماً ، وهذا هو المعروف من معنى الشفاعة عند السلاطين والحكّام وهو محال على الله تعالى . وأقلّ تغيير في علم المشفوع عنده هو أن يعلم أنّ الشفيع يهمّه أمر من يشفع له ويتمنّى لو تقضى حاجته ( وسترى بيان هذا ودليله في تفسير آية الكرسي ) . ولا يُرغب عن الأسباب إلى التعلّق بالأنداد والشفعاء ، إلاّ من كان قليل الثقة بالسبب أو طالباً ما هو أعجل منه ، كالمريض يعالجه الأطباء فيتراءى له أو لأحد أقاربه أن يلجأ إلى من يعتقد تأثيرهم في السلطة الغيبية الخارجة عن الأسباب طلباً للتعجيل بالشفاء ، ومثله سائر أصحاب الحاجات الذين يلجؤن إلى من اتّخذوهم أولياء ليكفوهم عناءً اتّخاذ الأسباب ( وذكر منهم طلاّب خدمة الحكومة ) . وأمّا القسم الآخر من الأنداد ، فهو : من يُتَبع في الدين من غير أن يكون مبيّناً للناس ما جاء عن الله تعالى ورسوله ، فيعمل بقوله وإن لم يعرف دليله ، ويتّخذ رأيه ديناً واجب الإتّباع ، وإن ظهر أنّه مخالف لما جاء عن الله ورسوله ، إعتماداً على أنّه أعلم بالوحي ممّن قلّدوه دينهم ، وأوسع منهم فهماً فيما أنزل الله ، وفي هؤلاء نزل قوله تعالى : { ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ } [ التوبة : 31 ] كما ورد في التفسير المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قد عظمت فتنة متّخذي الأنداد بهم ، حتّى كان حبّهم إيّاهم من نوع حبّهم لله عزّ وجلّ ولذلك قال : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ ٱللَّهِ } أي يجعلون من بعض خلق الله نظراء له فيما هو خاصّ به يحبّونهم كحبّه . ذلك إنّ الحبّ ضروب شتّى تختلف باختلاف أسبابها وعللها ، وكلّها ترجع إلى الأنس بالمحبوب أو الركون والالتجاء إليه عند الحاجة ، فقد يحبّ الإنسان شخصاً لأنّه يأنس به ويرتاح إلى لقائه لمشاكلة بينهما ، ولا مشاكلة بين الله تعالى وبين الناس فيظهر فيهم هذا النوع من الحبّ . ومن أسباب الحبّ إعتقاد المحبّ أنّ في المحبوب قدرة فوق قدرته ، ونفوذاً يعلو نفوذه ، مع ثقته بأنّه يهتمّ لأمره ويعطف عليه ، بحيث يمكنه اللجأ إليه عند الحاجة فيستعين به على ما لا سبيل له إليه بدونه . فهذا الإعتقاد يحدث انجذاباً من المعتقد يصحبه شعور خفي بأنّ له قوّة عالية مستمدّة ممّن يحبّ ، ويعظم هذا النوع من الحبّ بمقدار ما يعتقد في المحبوب من الصفات والمزايا التي بها كان مصدر المنافع وركن اللاجئ ، وكلّ ما للمخلوق من ذلك فهو داخل في دائرة الأسباب والمسبّبات والأعمال الكسبية . وأمّا قوّة الخالق وقدرته وما يعتقده المؤمنون فيه من الرحمة الشاملة ، والصفات الكاملة ، والمشيئة النافذة ، والتصرّف المطلق في تسخير الأسباب والمسبّبات ، والسلطان المطاع في الأرض والسماوات ، فذلك ممّا يجعل حبّه تعالى أعلى من كلّ ما يحبّ للرجاء فيه ، وإنتظار الإستفادة منه ولغير ذلك ، وهذا الحبّ لا ينبغي أن يكون لغير الله تعالى إذ لا يلجأ إلى غيره في كلّ شيء كما يلجأ إليه . ولكن متخذي الأنداد قد أشركوا أندادهم معه في هذا الحبّ ، فحبّهم إيّاهم من نوع حبّهم إيّاه جلّ ثناؤه : لا يخصّونه بنوع من الحبّ إذ لا يرجون منه شيئاً إلاّ وقد جعلوا لأندادهم مثله أو ضرباً من التوسّط الغيبي فيه ، فهم كفّار مشركون بهذا الحبّ الذي لا يصدر من مؤمن موحّد ، ولذلك قال تعالى بعد بيان شركهم هذا : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ } من كلّ ما سواه ؛ لأنّ حبّهم له خاصّ به سبحانه لا يشركون فيه غيره ، فحبّهم ثابت كامل ؛ لأن متعلّقه هو الكمال المطلق الذي يستمدّ منه كلّ كمال ، وأمّا متّخذو الأنداد فإن حبّهم متوزّع متزعزع لا ثبات له ولا استقرار . للمؤمن محبوب واحد يعتقد أنّ منه كلّ شيء ، وبيده ملكوت كلّ شيء ، وله القدرة والسلطان ، على جميع الأكوان ، فما ناله من خير كسبي فهو بتوفيقه وهدايته ، وما جاءه بغير حساب فهو بتسخيره وعنايته ، وما توجّه إليه من أمر فتعذّر عليه ، فهو يكله إليه ، ويعول فيه عليه . وللمشرك أنداد متعدّدون ، وأرباب متفرّقون ، فإذا حزبه أمر ، أو نزل به ضرّ ، لجأ إلى بشر أو صخر ، أو توسّل بحيوان أو قبر ، أو استشفع بزيد وعمرو ، لا يدري أيهم يسمع ويُسمَع ، ويَشفع فيشفّع ، فهو دائماً مبلبل البال ، لا يستقرّ من القلق على حال . هذا هو حبّ المشركين للقسم الأول من الأنداد ، ومن الحبّ نوعٌ سببه الإحسان السابق ، كما أنّ سبب الأوّل الرجاء بالإحسان اللاحق ، ومن الإحسان ما تتمتّع به ساعة أو يوماً أو أيّاماً متاعاً قليلا أو كثيراً ، ومنه ما تكون به سعيداً في حياتك كلّها كالتربية الصحيحة والتعليم النافع ، والإرشاد إلى ما خفي من المنافع ، وكلّ هذا ممّا يكون من الناس بكسبهم . وليس في طاقة البشر أن يحسن بعضهم إلى بعض بإحسان إذا قبله المحسن إليه وعمل به يكون سعيداً في الدنيا والآخرة بحيث تكون سعادته به غير متناهية ، وهذا الإحسان الذي يعجز عنه البشر ، هو هداية الدين التي تعلّم الناس العقائد الصحيحة ، التي ترتقي بها العقول وتخرج بها من ظلمات الوثنية ، والتعاليم التي تتهذّب بها النفوس ، وتتزكّى من الصفات البهيمية وقوانين العبادة التي تغذّي العقائد والأخلاق ، حتّى لا يعتريها كسوفٌ ولا محاق . فالدين وضعٌ إلهي يحسن الله تعالى به إلى البشر على لسان واحد منهم لا كسب له فيه ولا صنع ، ولا يصل إليه بتلقّ ولا تعلّم { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } [ النجم : 4 ] فيجب أن يحبّ صاحب هذا الإحسان سبحانه وتعالى حبّاً لا يشرك به معه أحد ، ولكن متّخذي الأنداد - بالمعنى الثاني في كلامنا - قد أشركوا أندادهم مع الله تعالى في هذا الحبّ إذ جعلوا لهم شركة في هذا الإحسان بسوء التأويل كما تقدّم ، فكما يأخذون بآرائهم على أنّها دينٌ من غير أن يعلموا من أين أخذوها وإن لم يأمروهم بذلك ، بل وإن نهوهم عنه ، يتمسّكون كذلك بتأويلهم لمّا أنزل الله ، كأنّ التأويل أنزل معه ، بدون إستعمال العقل ودلالة اللغة ، وبقيّة نصوص الدين للعلم بصحّته وإنطباقه على الحقّ . وأمّا المؤمنون حقّاً ، فإنّهم يوحّدون الله تعالى ويخصّونه بهذا الحبّ ، كما يوحّدونه بالتشريع ، بمعنى أنّهم لا يأخذون الدين إلاّ عن الوحي ، ولا يفهمونه إلاّ بقرائن ما جاء به الوحي ، وإنّما الأئمّة والعلماء ناقلون للنصوص ومبيّنون لها ، بل قال الله تعالى للنبي نفسه : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [ النحل : 44 ] فهؤلاء المؤمنون يسترشدون بنقلهم وبيانهم ، ولكنّهم لا يقلّدونهم في عقائدهم ولا عبادتهم ، ولا يأخذون بآرائهم في الدين ، الذي هو عبارة عن سير الأرواح من عالم إلى عالم ، بل يجوّزون كلّ عقبة ويدوسون كلّ رئاسة في سبيل الله تعالى ومحبّته وابتغاء رضوانه ، فهم متعلّقون بالله ومخلصون له { أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ الزمر : 3 ] { وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } [ البينة : 5 ] { إِنِ ٱ ؛ لْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ يوسف : 40 ] فالمؤمنون هم المخلصون لله في دينهم الذين لا يأخذون أحكامه إلاّ عن وحيه ، وأمّا متّخذو الأنداد ومحبّوهم بهذا المعنى فهم الذين ورد في بعضهم { وَإِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ } [ النور : 48 ] فهم لا يقبلون حكم الله في كتابه ، ولكن إذا دعوا ليحكم بينهم بآراء رؤسائهم أقبلوا مذعنين . بعد هذا ذكر الله وعيد متّخذي الأنداد على سنة القرآن فقال : { وَلَوْ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِذْ يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ أَنَّ ٱلْقُوَّةَ للَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعَذَابِ } . قرأ ابن عامر ونافع ويعقوب : ( ولو ترى ) بالتاء على إنّ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وجوابه لرأيت أمراً عظيماً وخطباً فظيعاً ، وقرأها الباقون بالياء ، وقرأ يعقوب ( إنّ ) في الموضعين بالكسر على الاستئناف أو على إضمار القول ، أي لو يشاهد الذين ظلموا أنفسهم بتدنيسها بالشرك ، وظلموا الناس بما غشّوهم به من أقوالهم وأفعالهم فحملوهم على أن يتلوا تلوهم ، ويتّخذوا الأنداد مثلهم ، حين يرون العذاب في الآخرة فتتقطع بهم الأسباب ، ولا تغني عنهم الأنداد والأرباب ، أن القوّة لله جميعاً يظهر تصرّفها المطلق في كلّ موجود ، ويتمثّل لهم سلطانها تمثّل المشهود ، فلا تحجبهم عنها أسباب ظاهرة ، ولا تخدعهم عنها قوى تتوهّم كامنة ؛ لعلموا أنّ هذه القوّة التي تدير عالم الآخرة ، هي عين القوّة التي كانت تدير عالم الدنيا ، وأنّها قوّة واحدة لا تأثير لغيرها فيها ، ولا في شيء من العالم بدونها ، وأنّهم كانوا ضالّين في اللجأ إلى سواها ، وإشراك غيرها معها ، وأنّ هذا الضلال هبط بعقولهم وأرواحهم ، وكان منشأ عقابهم وعذابهم ، ولو رأوا مع هذا أنّ الله شديد العذاب ، لرأوا أمراً هائلاً عظيماً ، يندمون معه حيث لا ينفع الندم . وأمثال هذا الوعيد على من يشوب إيمانه بأدنى شائبة من الشرك كثيرة في القرآن ، ثمّ هي تترك كلّها ويترك معها ما يؤيّده من السنّة الصحيحة ، وسيرة السلف الصالحين ، والأئمّة المجتهدين ، ويؤخذ بالشرك الصحيح عملا بأقوال أناس من الميتين ، منهم من لا يُعرف مطلقاً ، وإنّما سمّي وليّاً عملا ببعض الرؤى والأحلام ، أو لإختراع بعض الطغام ، ومنهم من يعرف في الجملة ولكن لا يعرف له تاريخ يوثق به ، ولا رواية يصح الاعتماد عليها . وإنّما قدّم الخلف الطالح كلام هؤلاء على كلام الله ورسوله وكلام أئمّة السلف ؛ لأنّ العامّة إعتقدت صلاحهم وولايتهم ، والعامّة قوّة تخضع لها الخاصّة في أكثر الأزمان . ومن مباحث اللفظ في الآية : إنّ الرؤية فيها علمية على قول الجلال . وقال الأستاذ الإمام : إنّها بصرية ، وإنّما سلّطت على المعقول لإنزاله منزلة المحسوس ، كأنّه قال : لو يتمثّل لهم الأمر ويتشخّص ، لرأوا أمراً هائلاً عظيماً لا يتصوّر نظيره ، وهو مجاز لا ألطف منه ولا أبدع ، ويجوز أن يراد بالعذاب مظاهره ، فتكون مسلّطة على محسوس . وقراءة ( ولو ترى ) أي لو رأيت حال هؤلاء الظالمين يومئذ لرأيت كذا وكذا . وحذف جواب " لو " معهود في كلام العرب ، وفي كلام الناس اليوم ، وذلك عند قيام القرينة على مراد المتكلّم ولو إجمالا . يقولون في شخص تغيّر حاله وانتقل إلى طور أعلى أو أدنى : لو رأيت فلاناً اليوم - ويسكتون - والمراد معلوم والإجمال فيه مقصود ، لتذهب النفس في تصويره كلّ مذهب ، ويخترع له الخيال ما يمكن من الصور ، و ( لو ) على - كلّ حال - هي التي لمجرّد الشرط ، لا يراعى فيها امتناع لامتناع . قال الأستاذ الإمام بعد تفسير اتّخاذ الأنداد ومحبّتهم على نحو ما تقدّم ، وبيان أنّ المراد بالمحبّة ما يجده المحبّ في نفسه من الأنس بالمحبوب والثقة به والإعتماد عليه واللجأ إليه ، على اختلاف أطوار الإنسان في وجدانه وإعتقاده : إنّنا قد اشترطنا في ابتداء قراءة التفسير ، أن نتكلّم عن معنى القرآن من حيث هو دين جاء مكمّلا للأرواح ، وسائقاً لها إلى سعادتها في طورها الدنيوي وطورها الأخروي . ولا يتمّ لنا هذا ، إلاَّ بالاعتبار ، وهو أن ننظر في الحسن الذي يمدحه الله تعالى ويأمر به ، ونرجع إلى أنفسنا لنرى هل نحن متّصفون به ؟ وننظر في القبيح الذي يذمّه وينهى عنه كذلك ، ثمّ نجتهد في تزكية أنفسنا من القبيح وتحليتها بالحسن . وهاهنا يجب علينا أن نبحث وننظر هل اتّخذ المسلمون أنداداً كما اتّخذ الذين من قبلهم أنداداً أم لا ؟ فإنّ هذا أهمّ ما يبحث فيه قارئ القرآن . ثمّ قال ما مثاله : اشتبه على بعض الباحثين السبب في سقوط المسلمين في الجهل العميم - إلاّ أفراداً في بعض شعوبهم لا يكاد يظهر لهم أثر - وبحثوا في تاريخ الإسلام وما حدث فيه ، فكان له الأثر العظيم في الإنقلاب ، وكان من أهمّ المسائل التي عرضت لهم في ذلك : مسألة التصوّف ، وظنّوا أنّ التصوّف من أعظم الأسباب لسقوط المسلمين في الجهل بدينهم ، وبُعدهم عن التوحيد الذي هو أساس عقائدهم ، وليس الأمر عندنا كما ظنّوا ، وليس من غرضنا هنا ذكر تاريخه وبيان أحكامه وطرقه ، وإنّما نذكر الغرض منه بالإجمال ، وما كان له بعد ذلك من الآثار . ظهر التصوّف في القرون الأولى للإسلام ، فكان له شأن كبير ، وكان الغرض منه في أوّل الأمر تهذيب الأخلاق ، وترويض النفس بأعمال الدين ، وجذبها إليه وجعله وجداناً لها ، وتعريفها بأسراره وحكمه بالتدريج . ابتلي الصوفية في أوّل أمرهم بالفقهاء الذين جمدوا على ظواهر الأحكام المتعلقة بالجوارح والتعامل ، فكان هؤلاء ينكرون عليهم معرفة أسرار الدين ويرمونهم بالكفر ، وكانت الدولة والسلطة للفقهاء ؛ لحاجة الأمراء والسلاطين إليهم ، فاضطرّ الصوفية إلى إخفاء أمرهم ، ووضع الرموز والإصطلاحات الخاصّة بهم ، وعدم قبول أحد معهم إلاّ بشروط وإختبار طويل . فقالوا : لا بدّ فيمن يكون منا أن يكون أولا طالباً ، فمريداً ، فسالكاً ؛ وبعد السلوك إمّا أن يصل وإمّا أن ينقطع ، فكانوا يختبرون أخلاق الطالب وأطواره زمناً طويلا ، ليعلموا أنّه صحيح الإرادة صادق العزيمة ، لا يقصد مجرّد الإطّلاع على حالهم ، والوقوف على أسرارهم ، وبعد الثقة يأخذونه بالتدريج رويداً رويداً ، ثمّ إنّهم جعلوا للشيخ ( المسلك ) سلطة خاصّة على مريديه ، حتّى قالوا يجب أن يكون المريد مع الشيخ كالميّت بين يدي الغاسل ؛ لأن الشيخ يعرف أمراضه الروحية وعلاجها ، فإذا أبيح له مناقشته ومطالبته بالدليل تتعسّر معالجته ، أو تتعذّر ، فلا بدّ من التسليم له في كلّ شيء من غير منازعة ، حتى لو أمره بمعصية لكان عليه أن يعتقد أنّها لخيره ، وأنّ فعلها نافع له ومتعيّن عليه ، فكان من قواعدهم التسليم المحض والطاعة العمياء ، وقالوا إنّ الوصول إلى العرفان المطلق لا يكون إلاّ بهذا . ثمّ أحدثوا إظهار قبور من يموت من شيوخهم والعناية بزيارتها ؛ لأجل تذكّر سلوكهم ومجاهدتهم ، وأحوالهم ومشاهدتهم ؛ لأنّ التذكّر من أسباب القدوة والتأسّي ، والتأسّي هو طريق التربية القويم عندهم وعند غيرهم . فظهر من هذا الإجمال أنّ قصدهم في هذه الأمور كان صحيحاً ، وأنهم ما كانوا يريدون إلاّ الخير المحض ؛ لأنّ صحّة القصد وحسن النية أساس طريقهم ، ولكن ماذا كان أثر ذلك في المسلمين ؟ كان منه أنّ مقاصد الصوفية الحسنة قد انقلبت ، ولم يبق من رسومهم الظاهرة ، إلاّ أصوات وحركات يسمّونها ذكراً يتبرّأ منها كلّ صوفي ، وإلاّ تعظيم قبور المشايخ تعظيماً دينياً مع الإعتقاد بأنّ لهم سلطة غيبية تعلو الأسباب التي ارتبطت بها المسبّبات بحكمة الله تعالى ، بها يديرون الكون ويتصرّفون فيه كما يشاءون ، وأنّهم قد تكفّلوا بقضاء حاج مريديهم والمستغيثين بهم أينما كانوا ، وهذا الإعتقاد ، هو عين اتّخاذ الأنداد ، وهو مخالف لكتاب الله وسنّة رسوله وسيرة السلف من الصحابة وأئمّة التابعين والمجتهدين . وزادوا على هذا شيئاً آخر ، هو أظهر منه قبحاً وهدماً للدين ، وهو زعمهم أنّ الشريعة شيء والحقيقة شيء آخر ، فإذا اقترف أحدهم ذنباً فأنكر عليه مُنكِر قالوا في المجرم : إنّه من أهل والحقيقة فلا إعتراض عليه ، وفي المُنكِر إنّه من أهل الشريعة فلا إلتفات إليه . كأنّهم يرون أنّ الله تعالى أنزل للناس دينين ، وأنّه يحاسبهم بوجهين ، ويعاملهم معاملتين - حاش لله - نعم ، جاء في كلام بعض الصوفية ذكر الحقيقة مع الشريعة ، ومرادهم به أنّ في كلام الله ورسوله ما يعلو أفهام العامّة بما يشير إليه من دقائق الحكم والمعارف التي لا يعرفها إلاّ الراسخون في العلم ، فحسب العامّة من هذا الوقوف عند ظاهره ، ومن آتاه الله بسطة في العلم ، ففهم منه شيئاً أعلى ممّا تصل إليه أفهام العامّة ، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ممّن يجدّ ويجتهد للتزيّد من العلم بالله وسننه في خلقه . فهذا ما يسمّونه علم الحقيقة لا سواه ، وليس فيه شيء يخالف الشريعة أو ينافيها ، ومن آتاه الله نصيباً من هذا العلم ، كان أتقى لله من سواه { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ } [ فاطر : 28 ] . هكذا كان القوم : الصوفية الحقيقيّون في طرف ، والفقهاء في طرف آخر ، وبعد ما فسد التصوّف ، وانقلب من حال إلى حال مناقضة لها ، وضعف الفقه فصار مناقشة لفظية في عبارات كتب المتأخّرين ، اتفق المتفقّهة الجامدون ، والمتصوّفة الجاهلون ، وأذعن أولئك إلى هؤلاء واعترفوا لهم بالسرّ والكرامة ، وسلّموا لهم ما يخالف الشرع والعقل ، على أنّه من علم الحقيقة فصرت ترى العالم الذي قرأ الكتاب والسنّة والفقه يأخذ العهد من رجل جاهل أمّي ، ويرى أنّه يوصله إلى الله تعالى . فإن كان كتاب الله وسنّة رسوله ، وما فهم الأئمّة واستنبط الفقهاء منهما - كلّ ذلك - لا يفيد معرفة الله تعالى المعبّر عنها بالوصول إليه ، فلماذا شرّع الله هذا الدين ، والناس أغنياء عنه بأمثال هؤلاء الأمّيين وأشباه الأمّيين ؟ وهل القصور إذاً فيما نزّل الله تعالى ، أم في بيان الرسول له ، وبيان الأئمّة لما جاء عن الله تعالى والرسول ؟ حاش لله ولكتابه ورسوله ، فلا طريق لمعرفته عزّ وجلّ ، والوصول إلى رضوانه غير ما نزّله من البيّنات والهدى ، وإنّما كان غرض الصوفية الصادقين فهم الكتاب والسنّة مع التحقّق بمعارفهما ، والتخلّق والتأدب بآدابهما ، وأخذ النفوس بالعمل بهما ، من غير تقليد لأهل الظاهر ، ولا جمود على الظواهر . ولقد تشوّهت سيرة مدّعي التصوّف في هذا الزمان ، وصارت رسومهم أشبه بالمعاصي والأهواء من رسوم الذين أفسدوا التصوّف من قبلهم ، وأظهرها في هذه البلاد الإحتفالات التي يسمّونها " الموالد " ومن العجيب أن تبع الفقهاء في إستحسانها الأغنياء ، فصاروا يبذلون فيها الأموال العظيمة ، زاعمين أنّهم يتقرّبون بها إلى الله تعالى - ولو طُلب منهم بعض هذا المال لنشر علم أو إزالة منكر أو إعانة منكوب لضنّوا به وبخلوا - ولا يرون ما يكون فيها من المنكرات منافياً للتقرّب إلى الله تعالى ، كأن كرامة الشيخ الذي يحتفلون بمولده تبيح المحظورات ، وتحلّ للناس التعاون على المنكرات . فالموالد أسواق الفسوق ، فيها خيام للعواهر ، وحانات للخمور ، ومراقص يجتمع فيها الرجال لمشاهدة الراقصات المتهتّكات ، الكاسيات العاريات ، ومواضع أخرى لضروب من الفحش في القول والفعل يقصد بها إضحاك الناس . وبعض هذه الموالد يكون في المقابر ، ويرى كبار مشايخ الأزهر يتخطّون هذا كلّه ، لحضور موائد الأغنياء في السرادقات والقباب العظيمة التي يضربونها وينصبون فيها الموائد المرفوعة ، ويوقدون الشموع الكثيرة ، احتفالا باسم صاحب المولد ، ويهنّئ بعضهم بعضاً بهذا العمل الشريف في عرفهم . وذكر الأستاذ الإمام عند شرح مفاسد الموالد هنا : أنّ بعض كبار الشيوخ في الأزهر دعوه مرّة للعشاء عند أحد المحتفلين ، فأبى فقيل له في ذلك فقال : إنني لا أحبّ أن أكثر سواد الفاسقين ، فإنّ هذه الموالد كلّها منكرات ، ووصف ما يمرّ به المدعو قبل أن يصل إلى موضع الطعام ، ثمّ قال لشيخ صديق لصاحب الدعوة : كم ينفق صاحبك في احتفاله بالمولد ؟ قال : أربعمائة جنيه . قال الأستاذ لا شكّ أنّ هذا في سبيل الشيطان ، فلو كلّمت صاحبك في أن يجعل ذلك لجماعة من المجاورين في الأزهر يستعينون به على طلب العلم ، فيكون بذله شرعيّاً ، وهؤلاء المجاورون يذكرونه بخير ويدعون له . فأجاب ذلك الشيخ قائلا : إنّ الكون يلزم أن يكون فيه من هذا وهذا . فقال الأستاذ : هذا الذي أريد ، فإنّ كوننا ليس فيه إلاّ هذه النفقات في الطرق المذمومة ، فأحبّ أن ينفق صاحبك على نشر علم الدين ؛ ليكون بعض الإنفاق عندنا في الخير ، ويبقى للموالد أغنياء كثيرون . فقال الشيخ حينئذٍ : أما قرأت حكاية الشعراني مع الزمّار إذ رأى شيخاً كبيراً ينفخ في مزمار والناس يتفرّجون عليه ، فاعترض عليه في سرّه فما كان من الشيخ إلاّ أن قال : يا عبد الوهاب أتريد أن ينقص ملك ربّك مزماراً ؟ فعلم الشعراني إنّه من أولياء الله تعالى . قال الأستاذ : ثمّ تركني المشايخ بعد سرد الحكاية وذهبوا إلى المولد ، فلينظر الناظرون إلى أين وصل المسلمون ببركة التصوّف واعتقاد أهله ، بغير فهم ولا مراعاة شرع ، اتّخذوا الشيوخ أنداداً ، وصار يقصد بزيارة القبور والأضرحة قضاء الحوائج وشفاء المرضى وسعة الرزق ، بعد أن كانت للعبرة وتذكّر القدوة ، وصارت الحكايات الملفّقة ناسخة فعلا لما ورد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتعاون على الخير ، ونتيجة ذلك كلّه أنّ المسلمين رغبوا عمّا شرّع الله إلى ما توهّموا إنّه يرضي غيره ، ممّن اتّخذوهم أنداداً له وصاروا كالإباحيين في الغالب ، فلا عجب إذا عمّ فيهم الجهل ، واستحوذ عليهم الضعف ، وحرموا ما وعد الله المؤمنين من النصر ، لأنّهم انسلخوا من مجموع ما وصف الله به المؤمنين . ولم يكن في القرن الأول شيء من هذه التقاليد والأعمال التي نحن عليها ، بل ولا في الثاني ، ولا يشهد لهذه البدع كتاب ولا سنّة ، وإنّما سرت إلينا بالتقليد أو العدوى من الأُمم الأخرى ، إذ رأى قومنا عندهم أمثال هذه الاحتفالات ، فظنّوا أنّهم إذا عملوا مثلها ، يكون لدينهم عظمة وشأن في نفوس تلك الأمم . فهذا النوع من اتّخاذ الأنداد كان من أهمّ أسباب تأخّر المسلمين ، وسقوطهم فيما سقطوا فيه . وهناك نوع آخر لم يكن أثره في الفتك بهم بأضعف من أثر الأول ، وهو ترك الإهتداء بالكتاب والسنّة وإستبدال أقوال الناس بهما . فلو دخل في الإسلام رجل عاقل ، أو شعب مرتق ، لحار لا يدري بم يأخذ ؟ ولا على أي المذاهب والكتب في الأصول والفروع يعتمد ، ولصعب علينا إقناعه بأنّ هذا هو الدين القيّم دون سواه ، أو بأنّ هذه المذاهب كلّها على اختلافها شيء واحد . ولو وقفنا عند حدود القرآن ، وما بيّنه من الهدي النبوي ؛ لسهل علينا أن نفهم ما الحنيفية السمحة التي لا حرج فيها ولا عسر ؟ وما الدين الخالص الذي لا عوج فيه ولا خلف ؟ ولكنّنا إذا نظرنا في أقوال الفقهاء وتشعّبها ، وخلافاتهم وعللها ، فإنّنا نحار في ترجيح بعضها على بعض إذ نجد بعضها يحتجّ عليه بحديث صحيح وهو ظاهر الحكمة معقول المعنى ، ولكنّه غير معتمد عندهم ، بل يقولون فيه : المدرك قوي ولكنّه لا يفتى به . ولماذا ؟ لأنّ فلاناً قال - فقول رجل من رجال كثيرين جدّاً نجهل تاريخ أكثرهم ، يكفي لترك السنّة الصحيحة ، وإن ظهر أنّ المصلحة فيما جاءت به السنّة ، وبهذا قطعت الصلة بين ما نحن فيه ، وبين أصل الدين وينبوعه . ونحن لا نطعن في أولئك القائلين أو المرجّحين ، سواء منهم من كان تاريخه معروفاً لنا ومن كان غير معروف ، بل نحسن فيهم الظنّ ونقول : إنّهم قالوا بما وصل إليه علمهم ، ولم يجعلوا أنفسهم شارعين بل باحثين ، وإنّا نسترشد بكلامهم على أنّهم دالّون ومبيّنون ، لا على أنّهم شارعون ، بل نقول إنّه يجب على ذي الدين أن ينظر دائماً إلى كتابه ، حتى لا يختلط ولا يشتبه عليه شيء من أحكامه ، ولا يجوز لأحد أن يرجع في شيء من عقائده وعبادته ، إلاّ إلى الله تعالى ، فإن كانت هناك واسطة ، فهي واسطة الدلالة والتبليغ والتبيين لما نزل الله ، وتطبيقه على ما نزل لأجله من حياة الروح والكمال الإنساني . فيجب علينا أن نعتقد بأنّ الحكم لله تعالى وحده لا يؤخذ الدين عن غيره ، كما يجب علينا أن نعتقد بأن لا فعل لغيره تعالى ، فلا نطلب شيئاً إلاّ منه ، وطلبنا منه ، يكون بالأخذ بالأسباب التي وضعها وهدانا إليها ، فإن جهلنا أو عجزنا فإننا نلجأ إلى قدرته ، ونستمدّ عنايته وحده ، وبهذا نكون موحّدين مخلصين له الدين كما أمرنا في كتابه المبين ، ومن خرج عن هذا كان من متّخذي الأنداد { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ الرعد : 33 ] . وبقي صنف آخر يشبه أن يكون من الأنداد وهم العامّة ، والذين اتّخذوهم أنداداً هم علماء الدنيا ، فإنّهم يحلّون لمرضاتهم ، ويحرّمون ويخالفون النصوص الصريحة بضروب سخيفة من التأويل لموافقة أهوائهم ، فإن لم يفتوهم بخلاف النصّ إلتماساً لخيرهم ، أو هرباً من سخطهم ، كتموا حكم الله من أجل ذلك ، فترى أحدهم إذا سئل : أهذا حقّ أم باطل وحلال أم حرام ؟ يغضّ من صوته بالجواب ، ولا يجهر بالقول مداراة للعوام ، إذا كان الجواب على غير ما هم عليه ، ولا سيّما إذا كان هؤلاء العامّة من الأغنياء وأصحاب السلطة . ونقول : مداراة للعوام . حكاية لقولهم ، إذ يسمّون النفاق والمحاباة في الدين : مداراة ، لما كانت المداراة محمودة ، وكذلك كان الذين يكتمون ما أنزل الله من البيّنات والهدى ممّن قبلهم ، يسمّون كتمانهم بأسماء محمودة ، ولكن الله تعالى لعنهم على ذلك ، وسجّل لهم الكفر والفسوق والعصيان . فهل يختلف حكمه فيرضى لهؤلاء بأن يؤثروا العامّة على ربّهم ، ويجعلونهم أنداداً له يحبّونهم كحبّه أو أشدّ ؟ ترى العالم من هؤلاء ينتسب إلى الشرع ويحترم لأجله ، وهو مع ذلك يتّبع هوى من لا يعرف الشرع ، فهو من الذين إذا أوذوا في الله جعلوا فتنة الناس كعذاب الله ، فلا يتّخذون الله وليّاً ولا نصيراً . فهل يكون المرء مؤمناً إذا كان يترك دينه لأجل الناس ؟ أم شرط الإيمان أن يصبر في سبيله على إيذاء الناس ؟ { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 2 ] إلخ . كلاّ ، إن هؤلاء المتبوعين والتابعين بعضهم فتنة لبعض ، وسيتبرّأ بعضهم من بعض ، كما أخبرنا تعالى في قوله : { إِذْ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ } التبرّؤ : المبالغة في البراءة ، وهي التفصّي ممن يكره قربه وجواره تنزّهاً عنه . و { إِذْ } ظرف متعلق بـ { يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ } في الآية السابقة ، والكلام متصل لاحقه بسابقه في موضوع اتّخاذ الأنداد . وقد نطقت الآية السابقة أنّ عذاب الله تعالى سيحلّ بمتّخذي الأنداد من دونه ، وهو عام في التابع في الإتّخاذ والمتبوع فيه ، وفي أنواع الإتّباع المذموم ، من التشريع بالرأي والهوى ، والتقليد فيه ، وغير ذلك من الضلال . وبيّن في هاتين الآيتين تفصيل حال التابعين والمتبوعين في ذلك ، وأورده بصيغة الماضي ، تمثيلا لحال الفريقين في ذلك اليوم الذي ينكشف فيه الغطاء ، ويرى الناس فيه العذاب بأعينهم ، ويعرفون أسبابه من تأثير العقائد الباطلة ، والأعمال السيّئة في أنفسهم ، كأنّ الأمر قد وقع ، والبلاء قد نزل ، ورأى الرؤساء المضلّون الذين اتَّبعوا ، أنَّ إغواءهم للناس الذين اتَّبعوا رأيهم ، وقلَّدوهم دينهم ، قد ضاعف عذابهم ، وحمّلهم مثل أوزار الذين أضلّوهم فوق أوزارهم ، فتبرؤا منهم ، وتنصّلوا من ضلالتهم { وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ } أي والحال أنّهم قد رأوا العذاب الذي هو جزاؤهم ماثلا لهم يوم الحساب ، فأنّى ينفعهم التبرّؤ { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلأَسْبَابُ } أي الروابط التي كانت بينهم وبين التابعين ، وإنّما كان ينفعهم في الدنيا ، لو أنّهم آثروا به الحقّ على الرياسة ، والجاه والمنافع التي يستفيدها الرئيس باستهواء المرؤوس وإخضاعه له وحمله على اتباعه ، أمّا وقد صدر عن نفوس ترتعد من رؤية العذاب الذي أشرفت عليه بما جنت واقترفت ، بعدما تقطّعت الروابط والصلات بينها وبين المتبوعين واصطلمت ، فلا منفعة للمتبرّئ تُرِكت فيحمد تركها ، ولا هداية للمتبرّأ منه ترجى فيحمد أثرها ، والأسباب : جمع سبب ، وهو في أصل اللغة الحبل الذي يصعد به النخل وأمثاله من الشجر ، ثمّ غلب في كل ما يتوصّل به إلى مقصد من المقاصد المعنوية . لولا أنّ حيل بين المقلِّدين وهداية القرآن ؛ لكان لهم في هذه الآية أشدّ زلزال لجمودهم على أقوال الناس وآرائهم في الدين ، سواء كانوا من الأحياء أم الميتين ، وسواء كان التقليد في العقائد والعبادات ، أم في أحكام الحلال والحرام ، إذ كلّ هذا ممّا يؤخذ عن الله ورسوله ليس لأحد فيه رأي ولا قول ، إلاّ ما كان من الأحكام متعلّقاً بالقضاء ، وما يتنازع فيه الناس ، فلأولي الأمر فيه الإجتهاد بشرطه إقامة للعدل ، وحفظاً للمصالح العامّة والخاصّة . وإنّما العلماء نقلة وأدلاّء ، لا أنداد ولا أنبياء ، فلا عصمة تحوط أحدهم فيعتمد على فهمه ، وقصارى العدالة أن يوثق بنقله ، ويستعان بعلمه ، وما تنازعوا فيه يردّ إلى كتاب الله وسنّة رسوله ، فهناك القول الفصل ، والحكم العدل ، والله يحكم لا معقّب لحكمه ، ولا مردّ لأمره . في مثل هؤلاء المتبوعين والتابعين نزل قوله تعالى : { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّىٰ إِذَا ٱدَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَـٰؤُلاۤءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ ٱلنَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـٰكِن لاَّ تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } [ الأعراف : 38 - 39 ] فكلّ يؤاخذ بعمله ، فإذا حمل الأول الآخر على رأيه ، ودعاه إلى اتّباعه فيه ، أو في رأي غيره الذي يقلّده هو فيه ، فهو من الأئمّة المضلّين ، وعليه إثمه ومثل إثم من أضلّهم من غير أن ينقص من إثمهم شيء ، إذ حرّم الله عليهم إتّخاذ الأنداد من دون الله فاتّخذوهم . وأمّا من يبدي في الدين فهماً ، ويقرّر بحسب ما ظهر له من الدليل حكماً ، يريد أن يفتح به للناس أبواب الفقه ، ويسهّل لهم طريق العلم ، ثمّ هو يأمر الناس بأن يعرضوا قوله على كتاب الله وسنّة رسوله ، وينهاهم أن يأخذوا به إلاّ أن يقتنعوا بدليله ، فهو من أئمّة الهدى ، وأعلام التقى ، وليس يضرّه أن يقلَّد فيه بغير علمه ، ويجعل ندّاً لله من بعد موته ، فإنّه إذا كان مخطئاً وجاء ذلك المقلِّد له على غير بصيرة يوم القيامة ، ينسب ضلاله إليه ، فإنّه يتبرّأ منه بحقّ ويقول ما أمرتك أن تأخذ بقولي على علاّته ولا أعرفك ، فالذين يتّخذون أنداداً يتبرّؤن كلّهم يوم القيامة ممّن اتّخذوهم ، ولكنّهم يكونون على قسمين : قسم عبدهم الناس ، كالمسيح ، وبعض أولي العلم والتقوى من هذه الأمّة ومن الأمم قبلها ، أو قلّدوهم وأخذوا بأقوالهم في الدين من غير دليل شرعي ، كبعض الأئمة المهتدين من غير أن يأمرهم هؤلاء بعبادتهم أو تقليدهم ، بل مع نهيهم إيّاهم عن عبادة غير الله تعالى ، وعن الإعتماد على غير وحيه في الدين - فهذا القسم غير مراد هنا ؛ لأنّ الذين عبدوا أولئك الأخيار أو قلّدوهم في دينهم ، لم يتّبعوهم في الحقيقة ، إذ اتّباعهم هو اتّباع طريقتهم في الدين وما كانوا يشركون بالله أحداً ولا شيئاً ، ولا يقلّدون في دينه أحداً ، وإنّما كانوا يأخذون دينه عن وحيه فقط - وقسم أضلّوا الناس بأحوالهم وأقوالهم ، فاتّبعوهم على غير بصيرة ولا هدى ، فهؤلاء هم الذين يتبرّأ بعضهم من بعض ، ويلعن بعضهم بعضاً ، إذ تتقطّع بهم أسباب الأهواء والمنافع الدنيوية التي تربط هنا بعضهم ببعض . قال تعالى : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا } أي نتمنّى لو أنّ لنا رجعة إلى الدنيا ، لنتبرّأ من اتّباع هؤلاء المضلّين ، ونتنصّل من رياستهم ، أو لنتّبع سبيل الحقّ ونأخذ بالتوحيد الخالص ونهتدي بكتاب الله وسنّة رسوله ، ثمّ نعود إلى هنا " الآخرة " فنتبرّأ من هؤلاء الضالّين كما تبرّؤا منا ، إذ نسعد بعملنا من حيث هم أشقياء بأعمالهم { كَذَلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ } أي إنّ الله تعالى يظهر لهم كيف أنّ أعمالهم ، قد كان لها أسوأ الأثر في نفوسهم ، إذ جعلتها مستذلّة مستعبدة لغير الله تعالى ، فأورثها ذلك من الظلمة والصغار ما كان حسرةً وشقاءً عليها ، فالأعمال هي التي كوّنت هذه الحسرات في النفس ، ولكن لا يظهر ذلك إلاّ في الدار الآخرة التي تسعد فيها كلّ نفس بتزكيتها ، وتشقى بتدسيتها { وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ } إلى الدنيا صحيحي العقيدة ليصلحوا أعمالهم ، فيشفوا غيظهم من رؤسائهم وأندادهم ، ولا إلى الجنة ؛ لأنّ علّة دخولهم في النار هي ذواتهم بما طبعتها عليه خرافات الشرك وحبّ الأنداد . الأستاذ الإمام : يقول المفسّرون في مثل هذه الآيات : إنّ هذا الكلام خاصّ بالكفّار . نعم ، إنّه خاصّ بالكفّار كما قالوا ، ولكن من الخطأ أن يُفهم من هذا الكلام ما يفصل بين المسلمين والقرآن ، إذ يصرفون كلّ وعيد فيه إلى المشركين واليهود والنصارى ، فينصرفون عن الاعتبار المقصود . لهذا ترى المسلمين لا يتّعظون بالقرآن ، ويحسبون إنّ كلمة " لا إله إلاّ الله " يتحرّك بها اللسان - من غير قيام بحقوقها - كافية للنجاة في الآخرة ، على أنّ كثيراً من الكافرين يقولها ، ومنهم من يهزّ جسده عند ذكر الله كما يهزّه جماهيرهم ، فهل هذا كلّ ما أراده الله من إنزال القرآن ، وبعثة محمّد صلى الله عليه وسلم ؟ . ليس هذا الذي يتوهّمه الجاهلون من مراد المفسّرين ، فما بيّن الله تعالى ضروب الشرك وصفات الكافرين وأحوالهم ، إلاّ عبرة لمن يؤمن بكتابه ، حتّى لا يقع فيما وقعوا فيه فيكون من الهالكين ، ولكن رؤساء التقليد حالوا بين المسلمين وبين كتاب ربّهم ، بزعمهم أنّ المستعدّين للإهتداء به قد انقرضوا ، ولا يمكن أن يخلفهم الزمان ، لما يشترط فيهم من الصفات والنعوت التي لا تتيسّر لغيرهم ، كمعرفة كذا وكذا من الفنون الصناعية ، والإحاطة بخلاف العلماء في الأحكام ، والذي يعرفه كلّ واقف على تاريخ الصدر الأوّل من المسلمين : هو أنّ أهل القرنين الأوّل والثاني لم يكونوا يقلّدون أحداً ، أي لم يكونوا يأخذون بآراء الناس وأقوال العلماء ، بل كان العامي منهم على بيّنة من دينه يعرف من أين جاءت كلّ مسألة يعمل بها من مسائله ، إذ كان علماء الصدر الأوّل رضي الله تعالى عنهم يلقّنون الناس الدين ببيان كتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم وكان الجاهل بالشيء يسأل عن حكم الله فيه فيجاب بأنّ الله تعالى قال كذا أو جرت سنّة نبيّه على كذا ، فإن لم يكن عند المسئول فيه هدي من كتاب أو سنّة ، ذكر ما جرى عليه الصالحون ، وما يراه أشبه بما جاء في هذا الهدي ، أو أحال على غيره . ولمّا تصدّى بعض العلماء في القرن الثاني والثالث لإستنباط الأحكام وإستخراج الفروع من أصولها - ومنهم الأئمة الأربعة - كانوا يذكرون الحكم بدليله على هذا النمط ، فهم متّفقون مع الصحابة والتابعين ( عليهم الرضوان ) على أنّه لا يجوز لأحد أن يأخذ بقول أحد في الدين ، ما لم يعرف دليله ويقتنع به . ثمّ جاء من العلماء المقلَّدين في القرون الوسطى من جعل قول المفتي للعامي ، بمنزلة الدليل ، مع قولهم بأنّه لو بلغه الحديث فعمل به كان كذلك أو أولى . ثمّ خلف خلف أعرق منهم في التقليد ، فمنعوا كلّ الناس أخذ أي حكم من الكتاب أو السنّة ، وعدّوا من يحاول فهمهما والعمل بهما زائغاً . وهذا غاية الخذلان وعداوة الدين ، وقد تبعهم الناس في ذلك ، فكانوا لهم أنداداً من دون الله ، وسيتبرّأ بعضهم من بعض كما أخبر الله . قال الأستاذ الإمام في الدرس : إنّه نقل عن الأئمّة الأربعة - رضي الله عنهم - النهي عن الأخذ بقولهم من غير معرفة دليلهم ، والأمر بترك أقوالهم لكتاب الله أو سنّة رسوله إذا ظهرت مخالفة لهما أو لأحدهما اهـ . وقد سبق لنا في المنار إيراد كثير من هذه النصوص عنهم معزوة إلى كتبها ورواتها . ومن ذلك قول الفقيه الحنفي أبي الليث السمرقندي : حدّثنا إبراهيم بن يوسف عن أبي حنيفة إنّه قال : لا يحلّ لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين قلناه . وروي عن عصام بن يوسف إنّه قيل له : إنّك تكثر الخلاف لأبي حنيفة . فقال إنّ أبا حنيفة قد أوتي ما لم نؤت فأدرك فهمه ما لم ندركه ، ونحن لم نؤت من الفهم إلاّ ما أوتينا ، ولا يسعنا أن نفتي بقوله ما لم نفهم من أين قال . وروي عن عصام بن يوسف إنّه قال : كنت في مأتم فاجتمع فيه أربعة من أصحاب أبي حنيفة : زفر بن الهزيل وأبو يوسف وعافية بن يزيد وآخر فكلّهم أجمعوا على أنّه : لا يحلّ لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين قلناه . وفي روضة العلماء : قيل لأبي حنيفة إذا قلت قولا وكتاب الله يخالفه ؟ قال : اتركوا قولي لكتاب الله . فقيل إذا كان خبر الرسول صلى الله عليه وسلم يخالفه ؟ فقال : اتركوا قولي لقول الرسول صلى الله عليه وسلم فقيل إذا كان قول الصحابة يخالفه ؟ قال اتركوا قولي لقول الصحابة وبعد هذا كلّه جاء الكرخي يقول : إنّ الأصل قول أصحابهم ، فإن وافقته نصوص الكتاب والسنّة فذاك ، وإلاّ وجب تأويلها ، وجرى العمل على هذا ، فهل العامل به مقلّد لأبي حنيفة رضي الله عنه أم للكرخي ؟ وروى حافظ المغرب ابن عبد البرّ عن عبد الله بن محمّد بن عبد المؤمن قال : حدّثني أبو عبد الله محمّد بن أحمد القاضي المالكي ، حدّثنا موسى بن إسحاق ، قال : حدّثنا إبراهيم بن المنذر ، قال : أخبرنا ابن عيسى ، قال : سمعت مالك بن أنس يقول : إنّما أنا بشر أخطئ وأصيب ، فانظروا في رأيي ، فكلّ ما وافق الكتاب والسنّة فخذوه ، وكلّ ما لم يوافق الكتاب والسنّة فاتركوه ثمّ حذا المنتسبون إلى هذا الإمام الجليل حذو المنتسبين إلى أبي حنيفة ، فهل هم على مذهبه وطريقته القويمة ؟ . وأمّا الإمام الشافعي ، والإمام أحمد ، فالنصوص عنهما في هذا المعنى أكثر ، وأتباعهما أشدّ عناية بالكتاب والسنّة من غيرهم ولا سيّما الحنابلة ، وقد أوردنا طائفة من ذلك عن الشافعي وأصحابه في المحاورة الثانية عشرة من ( المحاورات بين المصلح والمقلّد ) وطائفة أخرى عن الإمام أحمد وأتباعه ( في المحاورة الثالثة عشرة ) والغرض من هذا الإستشهاد على ما قاله الأستاذ الإمام عن نهي الأئمّة الأربعة عن التقليد . قال الأستاذ : وهناك قول آخر للمتأخّرين مبني على أنّ الأمّة جاهلة لا تعرف من الدين شيئاً ، لا من أصوله ولا من فروعه ، ولا سبيل إلى تكفير هؤلاء المنتسبين إلى الإسلام ، ولا إلى إلزامهم معرفة العقائد الدينية من دلائلها والأحكام الشرعية بأدلّتها وعللها ، فلا مندوحة إذن عن القول بجواز التقليد في الأصول - وهي ما يجب إعتقاده في الله وصفاته وفي الرسالة والرسل ، وفي الإيمان بالغيب ، وهو ما فصّله النصّ القطعي منه - والتقليد في الفروع العملية بالأولى . وهذا القول مخالف لإجماع سلف الأمّة ، وما قاله إلاّ الذين يحبّون إرضاء الناس بإقرارهم على ما هم عليه من الجهل ، وإهمال ما وهبهم الله من العقل ؛ لينطبق عليهم قوله تعالى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } [ الأعراف : 179 ] والمراد أنّ قلوبهم - أي عقولهم - لا تفقه الدلائل على الحقّ ، وأعينهم لا تنظر الآيات نظر إستدلال ، وأسماعهم لا تفهم النصوص فَهمَ تدبّر واعتبار ، فهذه صفات المقلِّدين . والقول الوسط بين القولين هو : إنّه يجب النظر في إثبات العقائد بقدر الإمكان ، ولا يشترط فيه تأليف الأدلّة على قوانين المنطق ، ولا إلتزام طريق المتكلّمين في مثل بناء الدليل على فرض انتفاء المطلوب ، ولا إيراد الشكوك والأجوبة عنها ، بل أفضل الطرق فيه وأمثلها طريق القرآن الحكيم في عرض الكائنات على الأنظار ، وإرشادها إلى وجه الدلالة فيها على وحدانية مبدعها وقدرته وحكمته . هذا هو حكم الله الصريح في المسألة ، فإنّه أمر بالعلم بالتوحيد فقال : { فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ } [ محمد : 19 ] وقال : { إِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً } [ يونس : 36 ] وطالب بالبرهان وجعله آية الصدق : { قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ البقرة : 111 ] وجعل سبيله الذي أمر باتّباعه ، ونهى عن سواه ، الدعوة إلى الدين على بصيرة { قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي } [ يوسف : 108 ] { وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] . وأمّا فرض الأمّة جاهلة ، وإقرارها على ذلك إكتفاء باسم الإسلام ، وما يقلّد به الجاهلون أمثالهم من الأحكام ، فهو من القول على الله بغير علم ولا سلطان ، وقد قرنه تعالى مع الشرك في التحريم بقوله : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ وَٱلْبَغْيَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 33 ] . وأمّا الأحكام ومسائل الحلال والحرام ، فمنها ما لا يسع أحداً التقليد فيه ، وهي ما علم من الدين بالضرورة ، كوجوب الصلاة والزكاة والصيام والحجّ ، وما أجمع عليه من كيفياتها وفروضها ، فإنّ أدلّتها وأعمالها متواترة . وتلقينها مع ما ورد في فوائدها من الآيات والهدي النبوي ، يجعل المسلم على بصيرة فيها وفقه يبعث على العمل ولا أسهل منه . ومنها فروع دقيقة مستنبطة من أحاديث غير متواترة لم يطّلع عليها جميع المسلمين ، وقد مضت سنّة السلف الصالح في مثلها ، بأنّ من بلغه حديث منها بطريق يعتقد به ثبوته عمل به ، ولم يوجبوا على أحد - ولو منقطعاً لتحصيل العلم - أن يبحث عن جميع ما روي من هذه الآحاد ويعمل بها ، كيف والصحابة عليهم الرضوان لم يكتبوا الحديث ، ولم يتصدّوا لجمعه وتلقينه للناس ، بل منهم من نهى عن كتابته ، ومن حدّث فإنّما كان يقول ما يعلم إذا عرض له سبب مع المخاطبين . فمثل هذه الفروع يعذر العامي بجهلها بالأولى ، ويجب عليه التحرّي في قبول ما يبلغه منها ، فلا يقبل رواية كلّ أحد ولا يسلم كلّ ما في الكتب ، لكثرة الموضوعات ، والضعاف فيها ، ولا مشقّة ولا حرج على المسلمين في التزام هذه الطريقة ، إلاّ إذا كانوا يريدون ترك دينهم برمته اكتفاءً ببعض العادات والأعمال ، التي لا يكاد يسهل عليهم تمييز السنّة فيها من البدعة تقليداً لآبائهم ومعاشريهم . فتبيّن ممّا شرحناه أن لا عذر لأحد في التقليد المحض ، وأن حكم الآية يستغرق جميع المقلّدين ، فهم اتّخذوا مقلّديهم أنداداً ، وسيتبرّأ التابع من المتبوع إذ يرون العذاب ، وتتقطّع بهم الأسباب . ومن مباحث اللفظ في الآيتين أنّ التشبيه في قوله تعالى : { كَذَلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ } هو تشبيه حالة بحالة ذكرت في الكلام السابق ، أي كذلك النحو الذي ذكر من إراءتهم العذاب ، سيريهم الله أعمالهم حسرات عليهم ، والذين تنطّعوا في إعرابها من المفسّرين ، صرفتهم قواعد النحو عن ملاحظة الأسلوب العربي في مثل هذا ، على أنّ له نظائر في كلام العامّة في كلّ زمان ، هي ممّا بقي لهم من الأساليب العربية الفصيحة لم تفسدها العجمة ، إذ لا تمجّها أذواق الأعجمين . ومنها قوله تعالى : { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلأَسْبَابُ } قال الأستاذ الإمام : جاءت فيه الباء لمعنى خاصّ ، لا يظهر فيما ذكروه هنا من معانيها ، وإنّما يفهمه العربي من الأسلوب ، فإنّك إذا قلت هنا كما قال الجلال : تقطّعت عنهم الأسباب ، لا ترى في نفسك الأثر الذي تراه عند تلاوة العبارة الأولى التي تمثّل لك التابعين والمتبوعين كعقد انفرط بإنقطاع سلكه فذهبت كلّ حبة منه في ناحية . أقول : وتوضيحه أن هؤلاء المقلّدين قد كانوا مرتبطين في الدنيا ، ومتّصلا بعضهم ببعض بأنواع من المنافع والمصالح ، يستمدّها كلّ من التابع والمتبوع من الآخر ، فشبّهت هذه المنافع التي حملت الرؤساء على قود المرؤسين ، والتابعين على تقليد المتبوعين ، بالأسباب ، وهي في أصل اللغة الحبال ، كأنّه يقول : إنّ كلّ واحد منهم كان مربوطاً مع الآخرين بحبال كثيرة ، فلم يشعروا إلاّ وقد تقطّعت هذه الحبال كلّها ، فأصبح كلّ واحد منبوذاً في ناحية لا يصله بالآخر شيء ، وعلى هذا تكون الباء متعلّقة بمحذوف حال من الفاعل . قال الأستاذ الإمام : ومن هذه الأساليب الخاصّة قوله تعالى : { فَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } [ يونس : 29 ] و { وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ } [ النمل : 8 ] فإذا فسّرت ذلك بالتحليل والإرجاع إلى القواعد العامّة ، فقلت في الأول كفى الله شهيداً أو كفت شهادته ، وفي الثاني : تسبيحاً لله : لم يكن له تأثير الأول وموقعه من النفس ، ومثل هذه الأساليب الخاصّة توجد في كلّ لغة .