Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 168-170)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ذكر الجلال أنّ الآية الأولى نزلت فيمن حرّم السوائب ونحوها ، ولكنّه لم يذكر ذلك في أسباب النزول ، وقد كان هذا في طوائف من العرب كمدلج وبني صعصعة . وقال الأستاذ الإمام : لو صحّ أنّ الآية نزلت في ذلك ، لما كان مقتضياً فصل الآية ممّا قبلها وجعلها كلاماً مستأنفاً ؛ لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، على أنّ الظاهر من السياق أنّ الكلام متّصل بما قبله أتمّ الإتّصال ، فإنّ الآيات الأولى بيّنت حال متّخذي الأنداد وما سيلاقون من عذاب الله تعالى ، وقد قلنا في تفسيرها : إنّ الأنداد قسمان : قسم يتّخذ شارعاً يؤخذ برأيه في التحليل والتحريم من غير أن يكون بلاغاً عن الله ورسوله ، بل يجعل قوله وفعله حجّة بذاته لا يسأل من أين أخذه ، وهل هو فيه على هدي من ربّه أم لا ؟ وقسم يعتمد عليه ويدّعى في دفع المضارّ وجلب المنافع من طريق السلطة الغيبية لا من طريق الأسباب ، حتّى إنّهم ليعتمدون على إغاثة هؤلاء الأنداد للناس بعد موتهم وخروجهم من عالم الأسباب ، ثمّ بيّنت أنّ الناس يتبع بعضهم بعضاً في ذلك ، وأن سيتبرّأ الذين اتّبعوا من الذين اتّبعوا عند رؤية العذاب وتقطّع الأسباب بينهم ، وقلنا في تفسيرها : إنّ الأسباب هي المنافع التي يجنيها الرؤساء من المرؤسين والمصالح الدنيوية التي تصل بعضهم ببعض . وفي هذه الآيات يبيّن تعالى أنّ تلك الأسباب محرّمة ؛ لأنّها ترجع إلى أكل الخبائث واتّباع خطوات الشيطان ، ونهى عنها ، وبيّن سبب جمودهم على الباطل والضلال وهو الثقة بما كان عليه الآباء من غير عقل ولا هدى . فالكلام متمّم لما قبله قطعاً . قال تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي ٱلأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً } الحلال هو غير الحرام الذي نصّ عليه في قوله تعالى : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ } [ الأنعام : 145 ] فما عدا هذا فكلّه مباح ، بشرط أن يكون طيّباً ، أي غير خبيث . وفسّر الجلال الطيّب بالحلال على إنّه تأكيد أو بالمستلَذّ ، والأوّل لا محلّ له والتأسيس مقدّم على التأكيد ، والثاني لا يظهر تقييد الإباحة العامّة لما في الأرض به ، ورجّح الأستاذ الإمام أنّ الطيّب ما لا يتعلّق به حقّ الغير ، وهو الظاهر ؛ لأنّ المراد بحصر المحرّم فيما ذكر المحرّم لذاته الذي لا يحلّ إلاّ للمضطرّ ، وبقي المحرّم لعارض ، فتعيّن بيانه ، وهو ما يتعلّق به حقّ الغير ، ويؤخذ بغير وجه صحيح ، كما يكون في أكل الرؤساء من المرؤسين بلا مقابل إلاّ أنّهم رؤساؤهم المسيطرون عليهم ، وكذلك أكل المرؤسين بجاه الرؤساء ، فإنّ كلا منهما يمدّ الآخر ليستمدّ منه في غير الوجوه المشروعة التي يتساوى فيها جميع الناس ، ويخرج بذلك الربا والرشوة والسحت والغصب والغشّ والسرقة ، فكلّ ذلك خبيث ، وكذا ما عرض له الخبث بتغيّره كالطعام المنتن ، وبهذا التفسير يتحرّر ما أباحه الدين وتلتئم الآية مع ما قبلها ، وأتبع الأمر النهي فقال : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } قرأ الأئمّة خطوات بضمّتين : جمع خطوة بالضمّ ، وهي ما بين القدمين ؛ وبفتحتين جمع خطوة ، وهي المرّة من خطا يخطو في مشيه ، والمعنى : لا تتّبعوا سيرته في الإغواء ، ووسوسته في الأمر بالسوء والفحشاء . وهو ما يبيّنه في الآية التالية ، وعلّل النهي بكونه عدوّاً للناس بيّن العداوة . والعلم بعداوته لنا لا يتوقّف على معرفة ذاته ، وإنّما يعرف الشيطان بهذا الأثر الذي ينسب إليه وهو وحي الشرّ ، وخواطر الباطل والسوء في النفس ، فهو منشأ هذا الوحي والخواطر الرديئة ، قال تعالى : { شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً } [ الأنعام : 112 ] ولا أبين وأظهر من عداوة داعية الشرّ والضلال ، فعلى الإنسان أن يلتفت إلى خواطره ويضع لها ميزاناً ، فإذا مالت نفسه إلى بذل المال لمصلحة عامّة ، أو عرض له سبب معاونة عامل على خير ، أو صدقة على بائس فقير ، فعارضه خاطر التوفير والإقتصاد ، فليعلم أنّه من وحي الشيطان ، ولا ينخدع لما يسوّله له من إرجاء هذا العطاء لأجل وضعه في موضع أنفع ، أو بذله لفقير أحوج ، وإذا همّ بدفاع عن حقّ أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر فخطر له ما يثبّط عزمه أو يمسك لسانه ، فليعلم أنّه من وسواس الشيطان . وأظهر وحي الشياطين ما يجرئ على التحريم والتحليل لأجل المنافع التي تلبس على المتجرّئ عليها بالمصلحة وسياسة الناس ، كأنّه قال : لا تتّبعوا وحي الباطل والشرّ ، وخواطرهما تلمّ بكم وتطوف بنفوسكم ، فإنّها من إغواء الشيطان عدوّكم ، ثمّ بين ذلك بما يفيد إثبات العداوة من تعليل النهي فقال : { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِٱلسُّوۤءِ وَٱلْفَحْشَآءِ } دون غيرهما من الحقّ والخير ، فأمّا السوء فهو كلّ ما يسوءك وقوعه أو عاقبته ، فمن الشرور ما يقدم عليه المرء مندفعاً بتزيين الشيطان له ، حتّى إذا فعل الشرّ فاجأه السوء وعاجله الضرر . ومن الأعمال ما لا يظهر السوء في بدايته ، ولكنّه يتّصل بنهايته ، كمن يصدّه عن طلب العلم أنّ بعض المتعلّمين أضاع وقته وبذل كثيراً من ماله ثمّ لم يستفد من التعلّم شيئاً ، فهذا قياس شيطاني يصرف بعض الناس عن طلب العلم بأنفسهم ، وبعض الآباء عن تعليم أولادهم ، فتكون عاقبتهم السوءى ذات ناحيتين : سلبية ، وهي الحرمان من فوائد العلم ، وإيجابية ، وهي مصائب الجهل ، وكلّ منهما ديني ودنيوي ، فلا بدّ من البصيرة والتأمّل في تمييز بعض الخواطر من بعض ، فإن الشيطانية منها ربّما لا تظهر بادي الرأي . وأمّا الفحشاء فكلّ ما يفحش قبحه في أعين الناس من المعاصي والآثام ، ولا يختصّ بنحو الزنا كما قال بعضهم ، والفحشاء في الغالب أقبح وأشدّ من السوء ، وأسوأ السوء مبدأ وعاقبة ، ترك الأسباب الطبيعية التي قضت حكمة الباري بربط المسبّبات بها ، إعتماداً على أشخاص من الموتى أو الأحياء يظنّ بل يتوهم أنّ لهم نصيباً من السلطة الغيبية والتصرّف في الأكوان بدون اتّخاذ الأسباب ، ومثله اتّخاذ رؤساء في الدين يؤخذ بقولهم ويعتمد على فعلهم ، من غير أن يكون بياناً وتبليغاً لما جاء عن الله ورسوله ، فإنّ في هذين النوعين من السوء ، إهمالا لنعمة العقل وكفراً بالمنعم بها ، وإعراضاً عن سنن الله تعالى وجهلاً بإطرادها ، وصاحبه كمن يطلب من السراب الماء ، أو ينعق بما لا يسمع غير الدعاء والنداء ، وهذا شأن متّخذي الأنداد { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ الرعد : 33 ] وأمّا الرؤساء الذين يحملون العامّة على هذا التقليد في الأمرين ، فقد بيّن تعالى اتّباعهم لوحي الشيطان بقوله : { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي ويأمركم أن تقولوا على الله في دينه - الذي دان به عباده - ما لا تعلمون علم اليقين إنّ الله شرّعه لهم من عقائد وأوراد وأعمال تعبّدية ، وشعائر دينية ، أو تحليل ما الأصل فيه التحريم ، وتحريم ما الأصل فيه الإباحة ، ولا يثبت شيء من ذلك بالرأي والإجتهاد من قياس وإستحسان ، لأنّهما ظنّ لا علم ، فالقول على الله بغير علم إعتداء على حقّ الربوبية بالتشريع ، وهو شرك صريح ، وهذا أقبح ما يأمر به الشيطان ، فإنّه الأصل في إفساد العقائد ، وتحريف الشرائع ، وإستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير . أليس من القول على الله بغير علم ، زعم هؤلاء الرؤساء أنّ لله وسطاء بينه وبين خلقه لا يفعل سبحانه شيئاً بدون وساطتهم ، فحوّلوا بذلك قلوب عباده عنه وعن سنّته في خلقه ، ووجّهوها إلى قبور لا تعدّ ولا تحصى ، وإلى عبيد ضعفاء لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً ، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً ؟ وقد يسمّون هذا توسّلا إليه ، أي يتقرّبون إليه بالشرك به ، ودعاء غيره من دونه أو معه ، وهو يقول : { فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً } [ الجن : 18 ] ويقول : { بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ } [ الأنعام : 41 ] أي دون غيره . أليس من القول على الله بغير علم ما اختلقوه من الحيل لهدم ركن الزكاة ، وهو من أعظم أركان الإسلام . أليس من القول على الله بغير علم ما زادوه في العبادة وأحكام الحلال والحرام ، عمّا ورد في الكتاب والسنّة المبيّنة له ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول عن الله تعالى : " وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها " قال الأستاذ الإمام هنا : كلّ من يزيد في الدين عقيدة أو حكماً من غير إستناد إلى كتاب الله أو كلام المعصوم ، فهو من الذين يقولون على الله ما لا يعلمون . ومثّل لذلك بالزائرات للقبور وما يأتينه هناك من البدع والمنكرات باسم الدين ، وبتشييع الجنائز بقراءة البردة ونحوها بالنغمة المعروفة ، وبحمل المباخر الفضّية والأعلام أمامها ، وبالإجتماع لقراءة الدلائل ونحوها من الأوراد بالصياح الخاصّ ، وقال : إنّ كلّ هذا جاء من استحسان ما عند الطوائف الأخر ، وليس في الإسلام صيحةٌ غير صيحة الآذان ، وقد قال تعالى في الصلاة : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } [ الإسراء : 110 ] وأمّا التلبية فلم يشرّع فيها رفع الصوت والصياح الشديد ، وإنّما يكون العجيج من كثرة الناس واختلاف أصواتهم ، وإن لم يرفعوا عقيرتهم جهد المستطاع ، كما يفعل مقلّدة التصوّف . قال : وإنّ كثيراً من البدع في العقائد والأحكام قد دخلت على المسلمين بتساهل رؤساء الدين ، وتوهّمهم أنّها تقوّي أصل العقيدة وتخضع العامّة لسلطان الدين - أو لسلطانهم المستند إلى الدين - ولقد دخلت كنيسة ( بيت لحم ) فسمعت هناك أصواتاً خيّل إليّ أنّها أصوات طائفة من أهل الطريق يقرؤن حزب البرّ مثلا ، ثمّ علمت أنّهم قسيسون . فهذه البدع قد سرت إلينا منهم كما سرت إليهم من الوثنيين ، استحسنّا منهم ما استحسنوه من أولئك ، توهّماً أنّه يفيد الدين أبّهة وفخامة ، ويزيد الناس به استمساكاً ، فكان أنّ ترك الناس مهمّات الدين اكتفاءً بهذه البدع ، فإنّ أكثر الصائحين في الأضرحة وقباب الأولياء وفي الطرق والأسواق بالأوراد والأحزاب ، لا يقيمون الصلاة ، ومن عساه يصلّي منهم فإنّه لا يحرص على الجماعة بعض حرصه على الإجتماع للصياح بقراءة الحزب في ليلة الولي فلان ، ولقد أنس الناس بهذه البدع ، واستوحشوا من شعائر الدين والسنن ، حتّى ظهر فيهم تأويل قوله عزّ وجلّ : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ } أي وإذا قيل لمتّبعي خطوات الشيطان ، الذين يقولون على الله بغير علم ولا برهان ، { ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } [ الأعراف : 3 ] ، قالوا : لا ، نحن لا نعرف ما أنزل الله ، بل نتّبع ما ألفينا - أي وجدنا - عليه آباءنا ، وهو ما تقلّدناه من سادتنا وكبرائنا ، وشيوخ علمائنا . لم يخاطب هؤلاء ببطلان ما هم عليه وتشنيعه خطاباً لهم ، بل حكى عنهم حكاية بيّن فساد مذهبهم فيها ، كأنّه أنزلهم منزلة من لا يفهم الخطاب ، ولا يعقل الحجج والدلائل ، كما بيّن ذلك بالتمثيل الآتي . ولو كان للمقلّدين قلوب يفقهون بها ، لكانت هذه الحكاية كافية بأسلوبها لتنفيرهم من التقليد ، فإنّهم في كلّ ملّة وجيل يرغبون عن اتّباع ما أنزل الله استئناساً بما ألفوه ممّا ألفوا آباءهم عليه ، وحسبك بهذا شناعة ، إذ العاقل لا يؤثر على ما أنزل الله تقليد أحد من الناس ، وإن كبر عقله وحسن سيره ، إذ ما من عاقل إلاّ وهو عرضةٌ للخطأ في فكره ، وما من مهتد إلاّ ويحتمل أن يضلّ في بعض سيره ، فلا ثقة في الدين إلاّ بما أنزل الله ، ولا معصوم إلاّ من عصم الله ، فكيف يرغب العاقل عمّا أنزل الله إلى اتّباع الآباء ، مع دعواه الإيمان بالتنزيل ، على إنّه لو لم يكن مؤمناً بالوحي لوجب أن ينفّره عن التقليد قوله تعالى : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } فإنّ هذا حجّة عقلية لا تنقض . أقول : الهمزة للإنكار والتعجّب ، وهي داخلة على فعل حذف للعلم به من القرينة ، ولو : للغاية لا تحتاج إلى جواب وجزاء . والتقدير أيتّبعون ما ألفوا عليه آباءهم في كلّ حال ، وفي كلّ شيء ، ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً من عقائد الدين ، إذ يسلكون طريق العقل بالإستدلال على أنّ ما هم عليه من العقائد والعبادات حقّ ، ولا يهتدون في أحكامه وأعماله بوحي من الله ، جاءهم به رسول من عند الله ؟ أي حتّى في تجرّدهم من دليلي العقل والنقل ، هذا ما أفهمه . وقال البيضاوي : أي لو كان آباؤهم جهلة لا يفكّرون في أمر الدين ، ولا يهتدون إلى الحقّ ، لأتّبعوهم . وهو دليلٌ على المنع من التقليد لمن قدر على النظر أو الإجتهاد ، وأمّا اتّباع الغير في الدين إذا علم بدليل ما إنّه محقّ كالأنبياء والمجتهدين في الأحكام ، فهو في الحقيقة ليس بتقليد ، بل اتّباع لما أنزل الله اهـ . ونقله عنه الألوسي بغير عزو ، ووصله بآية { فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ] وفيه : إنّه لم يفرّق في التقليد بين القطعي المعلوم من الدين بالضرورة ، وهو لا يجوز التقليد فيه البتة ، بل لا محلّ له ، وبين الأمور الإجتهادية كأحكام القضاء وسياسة الأمّة ، وهذا هو الذي يشترط فيه القدرة على النظر والإستدلال ، ولم يفرّق بين اتّباع النبي المعصوم فيما يبلغه عن الله تعالى لمن قامت عنده الحجّة على نبوّته فهو لا يكون إلاّ محقّاً ، وبين المجتهد الذي لا يمكن العلم بأنّه محق إلاّ بالوقوف على دليله وفهمه ، وقوله تعالى : { فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ } [ النحل : 43 ] في طلب السؤال عن أمر قطعي معلوم بالضرورة ، وهو كون الرسل رجالا يوحى إليهم ، لا عن رأي إجتهادي . وقال الجلال وغيره : لا يعقلون شيئاً من أمر الدين . وتعقّبه الأستاذ الإمام بقوله : عقل الشيء : معرفته بدلائله ، وفهمه بأسبابه ونتائجه ، وأقرب الناس إلى معرفة الحقّ : الباحثون الذين ينظرون في الدلائل بقصد صحيح ولو في غير الحقّ ؛ لأنّ الباحث المستدلّ إذا أخطأ يوماً في طريق الإستدلال ، أو في موضوع البحث ، فقد يصيب في يوم آخر ، لأنّ عقله يتعوّد الفكر الصحيح ، واستفادة المطالب من الدلائل ، وأبعد الناس عن معرفة الحقّ المقلِّدون ، الذين لا يبحثون ولا يستدلّون ، لأنّهم قطعوا على أنفسهم طريق العلم ، وسجّلوا على عقولهم الحرمان من الفهم ، فهم لا يوصفون بإصابة ؛ لأن المصيب هو من يعرف أن هذا هو الحقّ ، والمقلِّد إنّما يعرف أنّ فلاناً يقول إنّ هذا هو الحقّ ، فهو عارف بالقول فقط ، ولذلك ضرب لهم المثل في الآية الآتية بعد ما سجّل عليهم الضلالة بعدم إستعمال عقولهم . فإن قيل : إنّ الآية إنّما تمنع اتّباع غير من يعقل الحقّ ، ويهتدي إلى حسن العمل والصواب في الحكم ، ولكنّها لا تمنع من تقليد العاقل المهتدي . نقول : ومن أين يعرف المقلَّد إنّ متبوعه يعقل ويهتدي إذا هو لم يقف على دليله ؟ فإن هو اتّبعه في طريقة الإستدلال حتّى وصل إلى ما وصل على بصيرة فإنّ الآية لا تنعي عليه هذا ، إذ هو استفادة للعلم محمودة لا تقليد في المعلوم أو المظنون لغيره . قال الأستاذ الإمام : رأيت لبعض السلف أنه قال : لو إنّ شخصاً رأى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وسمع قوله ، واقتدى به من غير نظر في نبوّته يؤدّي إلى الوصول إلى إعتقاد صحّتها بالدليل لعدّ مقلِّداً ، ولم يكن على بصيرة كما أمر الله المؤمن أن يكون . وأقول : إنّ هذا مأخوذ من قوله تعالى : { قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي } [ يوسف : 108 ] وقد فسّروا البصيرة بالحجّة الواضحة ، ولا يشترط في صحّة الإيمان بنبوّته صلى الله عليه وسلم النظر الإستدلالي المعروف عند المتكلّمين ، بل يكفي فيها اطمئنان النفس لصدقه بمعرفة حاله وحسن ما دعا إليه ، ولكن مرتبة الدعوة إلى الله وإثبات دينه بالحجّة لا يرتقي إليها كل مؤمن به صلى الله عليه وسلم . هذا وإنّ في قوله تعالى : { لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً } بحثاً ، فقد يشكل هذا العموم فيه على بعض الأفهام ، وقد بيّن له الأستاذ الإمام ثلاثة أوجه : أحدها : إنّ معناه لا يستعملون عقولهم في شيء مما يجب العلم به ، بل يكتفون فيه كلّه بالتسليم من غير نظر ولا بحث وهو ما مرّ . وثانيها : أنّه جار على طريقة البلغاء في المبالغة بجعل الغالب أمراً كلّياً عاماً . يقولون في الضالّ في عامة شؤونه : إنّه لا يعقل شيئاً ولا يهتدي إلى الصواب . ويقولون في البليد إنّه لا يفهم شيئاً ، وهذا لا ينافي أن يعقل الأوّل بعض الأشياء ، ويفهم الثاني بعض المسائل . وثالثها : إنّه ليس الغرض من العبارة نفي العقل عن آبائهم بالفعل ، وإنّما المراد منها : أيتّبعون آباءهم لذواتهم كيفما كان حالهم ، حتّى لو كانوا لا يعقلون ولا يهتدون ؟ كأنه يقول : إنّ اتّباع الشخص لذاته منكر لا ينبغي ، وهذا قول مألوف ، فمن يقول : أنا أتّبع فلاناً في كلّ ما يعمل ، يقال له أتتبعه ولو كان لا يعمل خيراً ؟ أي إنّ من شأن من يتّبع آخر لذاته لا لكونه محسناً ومصيباً ، أن يتّبعه في كلّ شيء وإن كان كل عمله باطلاً ؛ لأنه لا يفرّق بين الحقّ والباطل والخير والشرّ ، إلاّ من ينظر ويميّز ، وهذا لا يتّبع أحداً لذاته كيفما كان حاله .