Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 211-212)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
تقدّم أنّ في قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً } [ البقرة : 208 ] وجهين : أحدهما إنّ المراد بالذين آمنوا أهل الكتاب ، وثانيهما إنّ المخاطب بها المؤمنون من المسلمين ، وقوله عزّ وجل : { سَلْ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ } ظاهر على كلا الوجهين ، فهو على الأول بيان لحقيقة حالهم ، وأنّ الآيات والنذر لا ترجعهم عن ضلالهم ، فإذا استمرّوا على الجحود والخصام ، وأعرضوا عن الدعوة إلى الدخول في السلام ، فليس ذلك بدعاً منهم ، ولا دليلا على إنّ الإسلام غير بيّن لهم ، فكم جاءهم أنبياؤهم بالآيات البيّنات ، وكم بلاهم الله تعالى بالحسنات والسيّئات ، ولم يغن ذلك عنهم ، ولا صدّهم عن خلافهم ، وشقاقهم ، بل بدّل الذين كفروا منهم قولاً غير الذي قيل لهم ، وبدّلوا نعمة الله كفراً . { وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ } عليه بالآيات الدالّة على الحقّ ، والوحدة الداعية إلى الشكر { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ } بالبيان ، وأبرهت بالبرهان ، بجعلها مثاراً للتفرّق والاختلاف ، وجعل الأمّة الواحدة شيعاً وأحزاباً ومذاهب وفرقاً بسوء التأويل وعصبيات الرياسة والسياسة { فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } لمن تنكّب سنّته ، وخالف شرعته ، وهؤلاء المبدّلون منهم ، فالعقاب الشديد نازل لا محالة بهم ، ولم يقل فإنّ الله يعاقبهم ؛ ليشعرنا بأنّ هذا من سننه العامّة ، فحذّرنا أن نكون من المخالفين المبدّلين ، توهّماً أنّ العقاب خاصّ ببعض الغابرين ، كما يلغو كثير من الجاهلين ، فأنت ترى أنّ هذه الجملة في معنى قوله : { فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ البقرة : 209 ] والتقييد بمجيء البيّنات والآيات ، دليل على أنّ من لم تبلغه الدعوة الصحيحة بالبيّنة والدليل ، لا يخاطب بهذا الوعيد ، فحسبه حرمانه من هداية الأنبياء عليهم السلام ، فكيف يطالب مع ذلك بما لا يعلم ، ويجعل مع من عاند الحقّ من بعد ظهوره له في قرن . وفي هذه من الهداية أيضاً بيان أمر عظيم يغفل عنه العلماء والأذكياء ، وهو أنّ الآيات والبيّنات إنّما تفيد النفوس الخيّرة المستعدّة لقبول الحقّ ، المتوجّهة إلى طلبه ، وأمّا النفوس الخبيثة التي يفضحها الحقّ ويظهر باطلها الذي تحبّ ستره ، والإسترسال فيما هي فيه من اللذّة الحسّية والجاه الباطل ، فإنّ الآيات والبيّنات لا تزيدها ، إلاّ مماراة وجدلا في القول ، وجحوداً وعناداً بالفعل . هذه سنّة الله تعالى في البشر عامّة ، لا في بني إسرائيل خاصّة - كذلك كان وكذلك يكون وسيكون وسوف يكون إلى ما شاء الله . وأمّا تفسير الآية على الوجه الآخر المختار في المخاطبين بالدخول في السلم ، فهو أنّها هادية إلى الاعتبار بسنّة الله تعالى في الأمم الماضية على ما بيّنا آنفاً ، كأنّه يقول يا أيّها المؤمنون بمحمّد ، صلى الله عليه وسلم ، عليكم بالدخول في السلم والإتّفاق ، والاعتصام بالإسلام في جملته ، لا تفرّقوه ولا تتفرّقوا فيه وتكونوا شيعاً ؛ كيلا يصيبكم ما أصاب أولئك الذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البيّنات من قبلكم ، وهؤلاء بنو إسرائيل بين أيديكم وحالهم لا تخفى عليكم فسلوهم حالهم ، وإستنطقوا آثارهم ، واقرؤا تاريخهم ، تروا أنّهم أوتوا نحواً ممّا أوتيتم من البيّنات ، وأمروا كما أمرتم بالإتّحاد والإجتماع ، فتفرّقوا إلى مذاهب وشيع ، وزلّوا عن صراط الله ، فتفرّقت بهم السبل ، فأخذهم الله بعزّته ونفّذ فيهم حكم سنّته ، وزال سلطانهم ، ولفظتهم أوطانهم ، وضربت عليهم الذلّة والمسكنة ، ومزّقوا في الأرض كلّ ممزّق . والآية على كلا الوجهين عبرة للمخاطبين بالقرآن من المؤمنين به ، لا حكاية تاريخية عن بني إسرائيل ، ولكن هل يعتبر بها المنتسبون إلى القرآن ؟ وهل يفهمون منها أنّ ملكهم الذي يتقلّص ظلّه عن رؤوسهم عاماً بعد عام ، وعزّهم الذي تتخطّفه منهم حوادث الأيّام ، ما بدّلهما الله تعالى إلاّ بعد ما بدّلوا نعمته عليهم في قوله : { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } [ آل عمران : 103 ] { ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [ الأنفال : 53 ] كلاّ إنّهم لم يفهموا هذا ولو تغنّوا وترنّموا بهذه الآيات في كلّ مأتم وكلّ موسم ، وإنّ رؤساءهم لا يمقتون أحداً مقتهم لمن يذكّرهم به ، وإنّ أكثر عامتهم تبع لهؤلاء الرؤساء كما كان بنو إسرائيل على عهد نزول القرآن ، وإنّا لنعلم أنّ الساكنين منهم على جميع ما مني به المسلمون من البدع والخرافات والفسوق والعصيان ، يتّفقون مع المدافعين عن الفاسقين والمبتدعين ، على إيذاء الواعظين الناصحين ، باسم المدافعة عن الدين ، والسبب في هذا وأمثاله لم يفرّط فيه الكتاب المبين ، بل هو ما هدانا الله تعالى إليه بقوله : { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا } هذا بيان معلّل لما قبله من الوعيد لمن يبدّل نعمة الله كفراً ، ولا سيّما نعمة آيات الله تعالى في هداية الملّة إلى وحدة الأمّة ، فالكفر فيها هو كفر النعمة ، لا إنكار وجود الله تعالى ولا الشرك به كما زعم الجلال وغيره ، وسببه الافتتان بزينة الحياة الدنيا الزائلة وإيثارها على حياة الآخرة الباقية ، والمقام مقام الأمر بالإتّفاق في الدين ، والأخذ بجميع أحكامه وشرائعه ، والنهي عن التفرّق فيها ، والمسلمون هم المخاطبون بالوعيد على التفرّق واتّباع خطوات الشيطان على رأيه وتفسيره وهو المختار . فبعد أن أمرنا تعالى ونهانا ، وتوعّد من يزلّ عن سبيله منّا بعد ما جاءنا من البيّنات ، ذكّرنا بحال من سبقنا من أهل الكتاب الذين نزل بهم عذاب التفرّق والخلاف في الدنيا ، ولم يمنعه عنهم أنّهم أهل الكتاب وأنّهم منتمون إلى نبي مرسل وعندهم شريعة إلهية ، ذلك أنّهم لم يجتمعوا على الكتاب ، لاختلاف أئمتهم وأحبارهم في التأويل والتأليف ؛ وكان كلّ فريق منهم يعتذر عن تركه العمل بالتوراة بأنّه متبع لبعض الأحبار الذين هم أعلم منه بها . بعد هذا كلّه يسأل سائل : كيف يختلف الناس في دينهم ويتفرّقون شيعاً بعد مجيء البيّنات المانعة من ذلك ؟ فهذه الآية جواب لهذا السؤال ، وحلّ لما فيه من الإشكال ، ملخصه : إنّ حبّ الدنيا والغرور بزينتها ، يصرفان جميع قوى النفس إلى التفاني في طلبها ، وبذلك تنصرف عن النظر الصحيح في آيات الحقّ وبيّناته ، أمّا الرؤساء فإنّهم ينصرفون إلى حبّ الإمتياز والشهرة ، والإستعلاء على الأقران ، ولا يكون ذلك إلاّ بالخلاف ، وإنتصار كلّ رئيس لمذهب ، والذبّ عنه بالجدل والتأويل ، وأمّا المرءوسون ، فإنّ كلّ فريق منهم ينتمي إلى رئيس يعتزّ به ويقلّده دينه ، ولا يستمع قولا لمخالفه ، ويربط كلا منهما بالآخر الاشتراك في المصالح الدنيوية ، فحبّ الدنيا هو علّة العلل ورأس كلّ خطيئة . وقد تقدّم شرح إرتباط الرؤساء بالمرءوسين في تفسير { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَاداً } [ البقرة : 165 ] الآيات . وما ذكرناه هنا قاض بأن يختصّ ( الذين كفروا ) بمن أوتوا كتاباً وجاءتهم بيّنات تجمع كلمتهم وتحقّق وحدتهم ، ففصموا بالخلاف عروتها ، ومزّقوا بالتفرّق نسيج وحدتها ، وذلك كفر بهذه النعمة ، وتبديل لها بالنقمة . ويدلّك على أنّ الكلام لا يزال في مسألة الخلاف والوفاق في الدين الآية التالية لهذه فإنّها مبيّنة لأصل الخلاف في الدين ، منذ بعث الله النبيين . جملة { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } إلخ في معنى قوله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } [ الكهف : 7 ] ابتلاهم فغرّت أقواماً زينتها ، وفتنتهم بهجتها ، فانصرفت همّتهم إلى الاستمتاع بلذّاتها ، وانحصرت أفكارهم في إستنباط الوسائل لشهواتها ، ومسابقة طلاّب المال والجاه عند أربابها ، ومزاحمة الطارقين لأبوابها ، فلم يبق فيها سعة لطلب شيء آخر ، وإن لم يكن معارضاً لهم فيما يرغبون ، وحائلا بينهم وبين ما يشتهون ، فما بالك بطلب الحقّ ، والتطلّع إلى حياة بعد هذه الحياة ، والحقّ ينعى عليهم إسرافهم في أمرهم ، ويطالبهم بحقوق عليهم لغيرهم ، والتطلّع إلى حياة أخرى يزعزع من سكونهم إلى لهوهم ، ويغضّ شيئاً من تعاليهم في زهوهم ، بل يكدّر عليهم بعض صفوهم ، ويقف بهم دون شأوهم . ومن لم يطلب الحقّ من طريقه بإخلاص وإنصاف لا يجده ولا يتّفق مع أهله ، وأنّى للمفتونين بالزينة الإخلاص والإنصاف ؟ أقول : وثمّ أقوام آخرون نظروا إلى زينة الدنيا كما أمر الله ، وهو من وجهين : أحدهما ما فيها من الآيات الدالّة على قدرته تعالى وعلمه وحكمته ورحمته بعباده . وثانيهما كونها نعمة منه تعالى ينتفع بها ، ويشكر الله تعالى عليها ، ويتّبع شرعه فيها بالقصد واجتناب السرف والخيلاء ، وتذكّر الدعاء بحسنة الدنيا وحسنة الآخرة وهو قريب ، ولا تنس قوله تعالى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ } [ الأعراف : 32 ] إلخ . والمراد بالذين كفروا هنا : من لا يؤمنون بالحقوق المشروعة لله وللناس إيمان إذعان وإنقياد ، بل يؤثرون الحياة الدنيا على ما عند الله تعالى من النعيم المقيم ، لا المشركون أو الكافرون في عرف بعض الناس كالذين لا يسمّون مسلمين ، كما أنّ القرآن لا يعني بالمؤمنين الناجين طائفة يسمّون أنفسهم أو يصفونها بالإيمان أو الإسلام ، وإنّما يعني بهم أولئك الموقنين بما عند الله ، الذين يؤثرون الحقّ على كلّ ما يعارضه من شهواتهم ولذّاتهم ، وإذا عثر أحدهم فعمل السوء بجهالة يتوب من قريب . وانظر سائر ما عرّف الله تعالى به المؤمنين والكافرين من النعوت والأوصاف يظهر لك هذا . وأظهر أوصاف الكافر ، أن تكون زينة الدنيا أكبر همّه ، يؤثرها على كلّ شيء ، حتّى أنّ أمر الدين لا يزحزحه عن شيء يقدر عليه من هذه الزينة ومتاعها بلا معارض من الدنيا ، كحاكم يزع ، أو إهانة تتوقّع ؛ لأنّه لا يقين له في الآخرة ، فإن كان منتسباً إلى دين فما دينه إلاّ تقاليد وعادات ، وخواطر تتنازعها الشبهات ، وتتجاذبها الشكوك والتأويلات . ومنهم من يسلم تقليداً بأنّ هنالك آخرة فيها نعيم خاص بأهل ملّته ، وإن كانوا على ما وصف الله الكافرين ، وضدّ ما نعت المؤمنين ، كما كان اليهود في زمن التنزيل وقد أطلق القرآن عليهم اسم الإيمان في مواضع ، منها الآية السابقة قريباً على قول بعض المفسّرين ، وفي غيرها أيضاً كقوله في أهل الكتاب عامّة من آخر سورة الحديد : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } [ الحديد : 28 ] إلخ ، وأطلق عليهم اسم الكفر في مواضع كثيرة ؛ وذلك أنّ للإيمان - كما ذكرنا قبل - إطلاقين ، فيطلق على المؤمن الموقن المذعن للعمل والإتّباع ، ويطلق على من يصدق تقليداً بأنّ للعالم إلهاً أرسل رسلا وينتسب إلى بعضهم ، وإن لم يكن على يقين في إيمانه وبصيرة في دينه ، وحسن اتّباع لنبيّه ، بل هو على خلاف ذلك كما تقدّم ، وهؤلاء قد يكونون في عرف القرآن كافرين وذكر من علامتهم الافتتان بزينة الحياة الدنيا فهم يعدّون الكياسة الإنغماس في نعيمها ، ويرون الفضل في الإستكثار من فضولها { وَيَسْخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } - إيماناً حقيقيّاً يحمل على العمل - يسخرون من فقرائهم ؛ لأنّهم محرومون من زينتهم ، وإن كانوا راضين من الله مغبوطين بما منحهم من الإيمان والرجاء بالآخرة ، ومن أغنيائهم ؛ لأنّهم لا يتنوقّون في النعيم ، بل يرون الكياسة في الإستعداد لما بعد الموت بترقية النفس بالاعتقاد الصحيح المؤيّد بالبيّنات ، والتحلّي بالفضائل وأحاسن الأخلاق ، ويعدّون الفضل في القيام بحقوق الناس وخدمة الأمّة ، والإفاضة من فضل المال على العاجزين والبائسين ، وكلّما أنفقوا في سبيل الله درهماً ، عدّه أولئك المستهزئون مغرماً . قال تعالى ردّاً على هؤلاء الساخرين الذين يرون أنّهم في زينتهم ولذّاتهم ، خير من أهل اليقين في نزاهتهم وتقاتهم : { وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } فإذا استعلى بعضهم على بعض المؤمنين طائفة من الزمن في هذه الحياة القصيرة الفانية ، بما يكون لهم من الأتباع والأنصار والمال والسلطان ، فإنّ المؤمنين المتّقين يكونون أعلى منهم مقاماً يوم القيامة في تلك الحياة العليّة الأبدية . ولم يقل : والذين آمنوا فوقهم ؛ لأنّ هؤلاء المفتونين بزينة الحياة الدنيا يدّعون الإيمان لأنّهم ولدوا ونشأوا بين قوم يدعون بأهل الإيمان وأهل الكتاب . فالله يرشدنا إلى أنّه لا إعتداد بالإيمان في الآخرة إلاّ إذا صحبته التقوى ، وكانت أثراً له في النفس والعمل الصالح { تِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً } [ مريم : 63 ] و { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 133 ] و { لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوۤاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ } [ المائدة : 93 ] والآيات في هذا كثيرة جدّاً ، ولكن الذين يزعمون أنّ النجاة في الآخرة والدرجات العلى فيها تحصل بمجرّد اللقب والجنسية ، أو بعض التقاليد التي لا أثر لها في النفس ، لا يلتفتون إلى مثلها ، وإذا قيل لعظمائهم فيها ، واحتجّ عليهم بها ، طفقوا يحرّفون ويؤولون ، ويدّعون أنّها نزلت في الكافرين وهم مسلمون . أو يقولون هكذا قال شيوخنا وإنّما نحن مقلّدون ، وهؤلاء الداعون إلى الكتاب ضالّون مضلّون ، لأنّهم يدّعون الإجتهاد في الدين ، وقد أقفل علماؤنا بابه منذ مئين من السنين . ذكر تعالى ما يمتاز به المؤمن المتّقي على الكافر بتبديل النعمة وتفريق الكلمة ، وهو العلو في دار الكرامة ، ثمّ أخبرنا أنّ رزق الدنيا ونعيمها ليس خاصّاً فيها بتقي ولا شقي ، بل هو مبذول لكلّ أحد ، وأنّه قد يأتي من حيث لا يظنّ المرء ولا يحتسب فقال : { وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } الحساب التقدير ، أي من غير تقدير له على حسب الإيمان والتقوى والكفر والفجور ، وفيه وجه آخر ، وهو أنّه كناية عن السعة وعدم التقتير والتضييق كقولهم : ينفق فلان بغير حساب . أي ينفق كثيراً ، والمعنى : إنّه بذل العطاء في الدنيا لكلّ أحد بخلق الأرزاق وإقدار الناس على الكسب ، وقيل إنّ المعنى بغير حساب عليه من أحد ، فهو الذي خلق ورزق وهو الذي قدّر فهدى من غير محاسبة أحد ولا مراجعته ، وقد بسط معنى هذا الكلام في آيات أخرى قال تعالى : { مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً * كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً * ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } [ الإسراء : 18 - 21 ] فأنت ترى أنّه لم يشترط السعي لرزق الدنيا ؛ لأنّه قد يأتي بلا سعي كإرث وهبة ووصيّة وكنز ، أو إرتفاع لأثمان ما يملك من عقار وعروض بأسباب عامّة ، واشترط للآخرة السعي مع الإيمان ، كما خصّها هنا بالذين اتّقوا من المؤمنين لأنّ الكلام فيهم . ثمّ ذكر أنّ عطاءه واسع مبذول لكلّ أحد ليس فيه حظر من الله تعالى فللمشمّر تشميره ، وعلى المقصّر تقصيره ، وفي الحساب هنا وجه آخر ، وهو الإحتساب والتقدير من جانب العبد ، فيكون بمعنى قوله تعالى : { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } [ الطلاق : 2 ] . قال الأستاذ الإمام : إنّ الرزق بغير حساب ولا سعي في الدنيا ، إنّما يصحّ بالنسبة إلى الأفراد فإنّك ترى كثيراً من الأبرار وكثيراً من الفجّار أغنياء موسرين متمتّعين بسعة الرزق ، وكثيراً من الفريقين فقراء معسرين ، والمتّقي يكون دائماً أحسن حالا وأكثر احتمالا ومحلا لعناية الله تعالى به ، فلا يؤلمه الفقر كما يؤلم الفاجر ، فهو يجد بالتقوى مخرجاً من كلّ ضيق ، ويجد من عناية الله رزقاً غير محتسب ، وأمّا الأمم فأمرها على غير هذا ، فإنّ الأمّة التي ترونها فقيرة ذليلة معدمة مهينة لا يمكن أن تكون متّقية لأسباب نقم الله وسخطه بالجري على سننه الحكيمة وشريعته العادلة . ولم يكن من سنّة الله تعالى أن يرزق الأمّة العزّة والثروة والقوّة والسلطة من حيث لا تحتسب ولا تقدر ، ولا تعمل ولا تدبّر ، بل يعطيها بعملها ، ويسلبها بزللها ، وقد بيّن الأستاذ هذا المعنى غير مرّة وتقدّم التفسير ، وهو مؤيّد بآيات الكتاب المبيّنة لسنن الله العامّة كقوله تعالى : { وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } [ الأنفال : 25 ] فجعل وقوع الظلم سبباً في وقوع البلاء على الأمّة من ظلم منها ومن لم يظلم . ومن الظلم ترك مقاومة الظلم حتّى يفشو ويكون له السلطان الذي يذهب بكلّ سلطان ، وكقوله : { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } [ الأنفال : 46 ] ولأجل هذه السنّة . أمر بالإستعداد على قدر الطاقة { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ } [ الأنفال : 60 ] ولا قوّة مع الخلاف والنزاع ، والتفرّق والإنقسام ولذلك أمرنا تعالى بالدخول في السلم كافّة ، ومنحنا على ذلك البيّنات الكافية ، وضرب لنا الأمثال ، وتوعدنا بالوعيد بعد الوعيد ، ثم بيّن لنا منشأ الاختلاف في البشر لنكون على بصيرة فقال : { كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ … } .