Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 213-213)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول المؤلّف محمّد رشيد رضا كتب تفسير هذه الآية الأستاذ الإمام بإقتراح منّي ، وأنا الذي وضعت الأرقام للسور والآيات في شواهد ما كتبه وهذا نصّه : تطلق الأمّة في كتاب الله تعالى بمعنى الملّة ، أي العقائد وأصول الشريعة ، كما في قوله تعالى : { إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 92 ] بعد ما ذكر من شأن جماعة الأنبياء صلوات الله عليهم وكما قال تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱتَّقُونِ } [ المؤمنون : 51 - 52 ] . رجّح كثير من المفسّرين أنّ المراد من الأمّة في الآيتين الملّة ، أي العقائد وأصول الشرائع ، أي أنّ جميع الأنبياء ورسل الله على ملّة واحدة ودين واحد كما قال : { إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ } [ آل عمران : 19 ] وقال كثير منهم : إنّ الأمّة في هذه الآية بمعنى الجماعة كما هي في قوله تعالى : { وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 181 ] أي جماعة ، وكما في قوله : { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } [ آل عمران : 104 ] ولا تكون بمعنى الجماعة مطلقاً ، وإنّما هي بمعنى الجماعة الذين تربطهم رابطة إجتماع يعتبرون بها واحداً ، وتسوّغ أن يطلق عليهم اسم واحد كاسم الأمّة ، وتكون بمعنى السنين ، كما في قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ } [ هود : 8 ] وفي قوله : { وَٱدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } [ يوسف : 45 ] وبمعنى الإمام الذي يقتدي به كما في قوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ } [ النحل : 120 ] وبمعنى إحدى الأمم المعروفة كما في قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] وهذا المعنى الأخير لا يخرج عن معنى الجماعة على ما ذكرنا ، وإنّما خصّصه العرف تخصيصاً . وقد حمل جمهور من المفسّرين لفظ الأمّة في هذه الآية على الملّة ، ثم اختلفوا فيم كانت الملّة ، فقال جمهورهم إنّها ملّة الهدى والدين القويم ، فيكون معنى الآية في رأيهم { كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً } أي ملّة { وَٰحِدَةً } قيّمة الدين ، صحيحة العقائد ، جارية في أعمالها على أحكام الشرائع { فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } ولمّا وجدوا إنّ المعنى لا يكون قويماً ؛ لأنّه لا معنى لإرسال الرسل إلى الأمم الصالحة المهتدية ليحكموا بينهم فيما يختلفون فيه ، إذ لا يتأتّى الاختلاف الذي يحتاج في رفعه إلى رسالة الرسل مع استقامة العمل والوقوف عند حدود الشرائع ، قالوا : لا بدّ من تقدير في العبارة ، فيكون الكلام كان الناس أمّة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشّرين ومنذرين ، والقرينة على هذه القضيّة المقدّرة قوله فيما بعد : " ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه " وأنت ترى إنّ هذا بمنزلة أن تقول كان زيد عالماً فبعثت إليه من يعلمه ما كان نسيه من معلوماته ، أو كان عاملا فأرسلت إليه من يعظه في العود إلى ما ترك من عمله ، وتقول إنّ كلامي على تقدير كان عالماً فنسي ، أو كان عاملا فترك العمل فبعثت إليه أو أرسلت إليه إلخ . وهو ممّا لا يقبله ذوق عربي ، فإذا كنت لا تراه لائقاً بكلامك فكيف تجده لائقاً بكلام الله أبلغ الكلام ، وأولى قول يملك العقول والأفهام ، وممّا استدلّوا به على صحّة قولهم : إنّ آدم عليه السلام كان نبيّاً ، وكان أولاده على ملّته هادين مهتدين إلى أن وقع التحاسد بين ولديه ، وكان من قتل أحدهما للآخر ما هو معروف ، وأنّ الإنسان يولد على الفطرة السليمة والدين الحقّ ، وإنّما يعرض له ما ينحرف به عن الفطرة من تحكّم الأهواء ، وإغواء الشهوات ، ورين الشبهات ، ونحو ذلك ، فلا ريب يكون للإنسان طور أوّل كان فيه خيّراً عادلا ، واقفاً عند الحقّ فيما يعتقد وما يعمل ، ثمّ يعرض عليه ما يعرض من الميل إلى الشرّ والقبيح من الأعمال ، ولكن هذه الأدلّة لا تغيّر شيئاً ممّا ذكرناه مختّصاً بتأليف الكلام ، على إنّه قد عرض على أولاد آدم من بعده أطوار كثيرة بلغ بهم الجهل في بعضها أن كانوا ملّة واحدة في الكفر وفساد الأعمال ، كما كانت الحال لعهد نوح وعهد إبراهيم من بعده ، والآية لم تحدّد زمن كان الناس أمّة واحدة ، وغاية ما في الأمر أن يكون النبيّون المبعوثون مخصوصين بغير آدم أو نوح - مثلا - إذا حملت الأمّة الواحدة على أمّة الضلال ، وملّة الفساد والاعتلال . ولذلك ذهبت طائفة أخرى وفي مقدّمتهم ابن عبّاس وعطاء والحسن إلى إنّ الأمّة الواحدة أمّة الضلال ، التي لا تهتدي بحقّ ، ولا تقف في أعمالها عند حدّ شريعة ، واحتجّوا على قولهم بهذا التعقّب في الآية ، فإنّه جعل بعثة الرسل تابعة لوحدة الأمّة ، ولا تكون كذلك حتّى تكون تلك الوحدة قاضية بالحاجة إلى إرسالهم ليحكموا بينهم في الاختلاف الذي يقع فيهم بسبب الفساد في العقائد ، والذهاب مع الأهواء الضالّة في الأعمال ، وإعتداء بعضهم على بعض لذلك ، وإنتهاكهم حرمة ما أمر الله برعاية حرمته ، فيجب أن تكون وحدة الأمّة وحدة في الباطل حتّى يرد الحقّ عليه فيزهقه ، وأمّا لو كانت الأمّة واحدة في الهدى واتّباع الحقّ فلا معنى لجعل بعثة الرسل مترتّبة عليها كما هو ظاهر . ودفعوا ما يقال : من إنّ آدم كان نبيّاً وكان من أولاده من بقي على شريعته فكيف يقال : إنّ الناس كانوا أمّة واحدة على الباطل ( دفعوه ) بأنّ الحكم على الغالب ، فقد كان الناس لعهد نوح كفّاراً إلاّ القليل منهم ، ومن المعروف إنّه يقال دار كفر لمن كان أغلب سكّانها كفّاراً ، وإن كان فيها مسلمون ، وقد يجاب بما تقدّم ذكره من تخصيص النبيين بما بعد آدم ونوح من إبراهيم ومن بعده ، ولكن المعنى كما تراه ليس ممّا تطمئن إليه النفس بعد النظر إلى آدم ورسالته ، ومن بقي من أولاده على ملّته . وقال أبو مسلم والقاضي أبو بكر : إنّ وحدة الأمّة كانت فيما هو من مقتضى أصل الفطرة من الأخذ بما يرشد إليه العقل في الاعتقاد والعمل ، فكان الناس يهتدون بعقولهم ، والنظر المحض في الآيات الدالّة على وجود الصانع ، ووجوب شكره ، ثمّ كانوا يميّزون الحسن من القبيح ، والباطل من الصحيح ، بالنظر في المنافع والمضارّ ، أو الإتّفاق مع ما يليق بالله - على حسب ما يرشد إليه العقل - أو ما لا يليق ، ولا ريب أنّ إستسلام الناس إلى عقولهم بدون هداية إلهيّة ، ممّا يدعو إلى الاختلاف ، بل كثيراً ما حالت الأوهام ، دون الوصول إلى المراد من العقائد والأحكام ، فيكون الاختلاف مفهوماً من معنى الوحدة على هذا التأويل وما سبقه ، ولهذا رتّب عليها بعثة الأنبياء ليحكموا بما أنزل الله فيما اختلف فيه الناس . وقد أورد القاضي على نفسه مسألة آدم ورسالته ، وأجاب عنها بأنّه من الجائز أن يكون آدم وأولاده قد بدأ أمرهم على سنّة الفطرة فكانوا من أهل النظر ، ثمّ بعد أن كثر أولاده وظهر إنّ هداية العقل وحده لا تكفي في حفظ سلامة القلوب ولإصلاح الأعمال ، أرسله الله إليهم بهداية إلهية من عنده ، وإنّه من المحتمل ، بل يكاد يكون من المحقّق إنّه طرأ على نسل آدم ما أنساهم شرعه ، فعادوا إلى إستعمال عقولهم وحدها ، فعادت إليهم الوحدة فيما يؤدّي إلى الاختلاف فبعث الله النبيين إلخ . وتوقّف قوم في معنى الأمّة وقالوا : لا حاجة إلى البحث في أنّها كانت أمّة هداية أو أمّة ضلال أو أمّة عقل ، وهو قول غاية في الغرابة لأنّه ذهاب إلى ترك فهم الآية الكريمة ومعنى ترتيب بعثة الأنبياء على وحدة الأمّة ، اللهمّ إلاّ أن يكون القائل قد أراد ما سيأتي لنا ذكره إن شاء الله تعالى . وأغرب من هذا القول ، قول بعض المفسّرين ونقل عن مجاهد : إنّ الناس هم آدم وحده وأنّه كان أمّة يقتدى به ، ولا ندري ماذا يقول أصحاب هذا القول في تفسير بقيّة الآية ؟ نعوذ بالله من الخذلان . ويزعم آخرون إنّ المراد من الآية أهل الكتاب الذين آمنوا بموسى عليه السلام ، ثمّ اختلفوا بغياً بينهم ، فأرسلت إليهم الرسل بكتب تهذبهم كما أرسل داود بزبوره ، وعيسى بإنجيله ؛ ليردّوهم إلى الحقّ فيما اختلفوا فيه ، وهو تخصيص للناس وللنبيّين بما لا دليل عليه البتة كما لا يخفى . قال ابن العادل نقلا عن القرطبي : ولفظة " كان " على هذه الأقوال على بابها من المضي ، ويحتمل أن تكون للثبوت ، والمراد الأخبار عن الناس الذين هم الجنس كلّه ، أنّهم أمّة واحدة في خلوّهم عن الشرائع وجهلهم بالحقائق ، لولا إنّ الله منّ عليهم بالرسل تفضّلا منه ، فلا تختصّ بالمضي فقط ، بل يكون معناها كقوله : { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 96 ] اهـ . وقد قارب الصواب في هذا الاحتمال الثاني ، وهو الذي كان يذهب الذهن إليه لأوّل الأمر لولا ما يشتغل به من النظر في تلك الضروب من التأويل ، فتفرّق به السبل ويكاد يضلّ السبيل . ونحن ذاكرون لك - إن شاء الله - ما يجلي المعنى في الآية ، مقتفين أثر ابن العادل والقرطبي فيما قالاه في معنى كان وأنّها للثبوت لا للمضي ، غير أنّا نقدّم لك ما جاء في كتاب الله من وصف الأمّة بالواحدة ، والمعنى من ذلك الوصف في مواضعه المختلفة ، ليكون في ذلك توضيح لما نقصد ، وسند لنا فيما إليه نعمد ، والله الموفّق . ورد وصف الأمّة بالواحدة في قوله تعالى : { إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُونِ * وَتَقَطَّعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ } [ الأنبياء : 92 - 93 ] جاءت هذه الآية الكريمة { إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ } إلخ بعد ذكر جمع من الأنبياء صلوات الله عليهم ، وذكر ما كان من شأنهم مع قومهم ، والخطاب فيها للأنبياء كما يفسّره قوله تعالى في سورة المؤمنون ، بعد ما ذكر من أحوال الأنبياء والمرسلين وما كان من أقوامهم معهم : { يٰأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [ المؤمنون : 51 - 53 ] وقد جاء لفظ [ أمّة ] بالنصب في الآيتين على الحال ، والخبر قد تمّ في قوله : { إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ } أي هذا الجمع من الأنبياء والمرسلين أمّتكم أي جماعتكم حال إنّها أمّة واحدة ، أي : ليس جمعاً تربطه الروابط البعيدة كما يقال أمّة الهند ، على اختلاف مللها وتفرّق كلمتها ، بل هي أمّة تربطها رابطة قريبة هي رابطة الإهتداء بنور الله والدعوة إلى توحيده ، والقيام على شرعه وحمل الناس على اتّباع أحكامه ، فهي مجتمعة على أمر واحد لا تعدّد فيه هو الحقّ والعدل ، فهي جديرة بأن تكون أمّة واحدة . وإن شئت قلت كما قالوا : إنّ الأمّة بمعنى الملّة في الآيتين ، يراد بذلك إنّ الله يخبر المرسلين بأنّ هذا الذي سبق في الكلام من السير في الناس بهداية الله والمثابرة على ذلك ، وعدم المبالاة بما يكون منهم من تكذيب أو تثريب أو تعذيب ، هذه هي ملّتكم ودينكم وهو أمر واحد لا تعدّد فيه ، يأتي به السابق ، ويتبعه عليه اللاحق ، لا يختلف فيه نبي ، عن نبي ولا يناكر فيه مرسل مرسلاً . هذا المعنى من الوحدة هو الذي جاء في قوله تعالى : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ هود : 118 - 119 ] وفي قوله : { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَٱلظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } [ الشورى : 8 ] أي لو شاء ربّك لخلق الناس على غريزة تميل إلى الحقّ ، وفطرة يسطع فيها نور الهداية ، إليه بدون حجاب من الهوى والشهوة ، أو ظلمة الفكر وستر الغواية ، فكانوا جميعاً على مثال الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم بإحسان ، وكانوا بذلك من أهل السعادة وسكّان دار النعيم ، ولكن قضى ربّك أن يخلق الإنسان إنساناً يكله إلى فكره ، ويدعه إلى سعيه وكسبه ، فلا يزال يتخبّط في الاختلاف ، وسيجرّهم الاختلاف إلى دار الشقاء ، بعد الخزي في دار الفناء ، إلاّ أولئك الذين رحمهم ربّك من هداة العالمين ، وقادة الناس إلى خير الدارين ، ومن وفّقه الله لإستجابة دعوتهم والإهتداء بسنّتهم ، فأدخلهم في رحمته ، بعد ما شمل الظالمين بسخطه ونقمته . ويفهم من هاتين الآيتين الكريمتين إنّ الناس لم يكونوا أمّة واحدة قطّ ، لا بمعنى أنّهم كانوا جميعاً على الخير والهدى ؛ لأنّ الله خلق الإنسان على غريزة تبعد به عن الإتّحاد على الحقّ والإتّفاق على العدل ، ولا بمعنى أنّهم كانوا جميعاً على الضلال كما تراه من صريح النسق الشريف ، فكان الناس ولا يزالون منهم المحسن والمسيء ، والمهتدي والضالّ ، سنّة الله في هذا الخلق . لكنك تجد في سورة يونس نصّاً صريحاً في إنّ الله تعالى شاء أن يكون الناس أمّة واحدة قال تعالى : { وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَٱخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ يونس : 19 ] ولا يمكنك أن تحمل " كان " على معناها من المضي ؛ لأنّ الحصر يبعد ذلك بالمرّة ، فالمراد منه إنّ الناس كانوا ولا يزالون أمّة واحدة ونشأ عن هذه الوحدة نفسها اختلافهم ، وكان الله سبحانه يقضي في الخلاف بإهلاك من ينحرف منهم عن سبيل الفطرة السليمة فلا يبقى من الناس إلاّ من استقام عليها ، ولكن سبقت كلمته ، وثبت في علمه ، وتمّ في مشيئته : أن يكون الناس في أمرهم كاسبين لسعيهم ، مكلّفين بالنظر فيما بين أيديهم من الآيات ، وأن يكون منهم الضالّ والمهتدي ، والعادل والمعتدي ، حتّى يوفي كلا جزاءه في الدار الأخرى . ولهذا بعث فيهم الرسل عليهم الصلاة والسلام ؛ ليكونوا لهم أئمّة في الإيمان ، وأسوة في العمل الصالح . فهل يمكنك مع هذا أن تحمل وحدة الأمّة على وحدة العقيدة والعمل ، كما حملتها على ذلك في الآيات الأخر ؟ ليس ذلك بممكن ؛ لأنّ الناس ليسوا أمّة واحدة بذلك المعنى ، بل هم مختلفون ، فلا ريب إنّه يجب حمل وحدة الأمّة على معنى آخر ، وهو ذلك الذي تختاره في الآية التي نحن بصدد تفسيرها . خلق الله الإنسان أمّة واحدة ، أي مرتبطاً بعضه ببعض في المعاش ، لا يسهل على أفراده أن يعيشوا في هذه الحياة الدنيا إلى الأجل الذي قدّره الله لهم ، إلاّ مجتمعين يعاون بعضهم بعضاً ، ولا يمكن أن يستغني بعضهم عن بعض ، فكلّ واحد منهم يعيش ويحيا بشيء من عمله ، لكن قواه النفسية والبدنية قاصرة عن توفيته جميع ما يحتاج إليه ، فلا بدّ من إنضمام قوى الآخرين إلى قوّته فيستعين بهم في بعض شأنه كما يستعينون به في بعض شأنهم ، وهذا الذي يعبّرون عنه بقولهم [ الإنسان مدني بالطبع ] يريدون بذلك إنّه لم يوهب من القوى ما يكفي للوصول إلى جميع حاجاته ، بل قدّر له أن تكون منزلة أفراده من الجماعة ، منزلة العضو من البدن ، لا يقوم البدن إلاّ بعمل الأعضاء كما لا تؤدّي الأعضاء وظائفها إلاّ بسلامة البدن . فلمّا كان الناس أمّة واحدة ، ولا يمكن أن يكونوا بمقتضى فطرهم إلاّ كذلك ، وهم إنّما يعملون بمقتضى آرائهم ، وينحون في أعمالهم نحو المنافع التي يرونها لازمة لقوام معيشتهم ، ولم يمنحوا من قوّة الإلهام ما يعرف كلاًّ منهم وجه المصلحة في حفظ حقّ غيره ، لتوفير المنفعة بذلك لنفسه ؛ لمّا كانوا كذلك ، كان لا بدّ لهم من الاختلاف ، وكان من رحمة الله بهم أن يرسل إليهم الرسل مبشّرين ومنذرين ، وترتيب بعثة الرسل على وحدة الأمّة في الآية التي نفسّرها ، يكون على هذا المعنى : إنّ الناس أمّة واحدة ، لا بدّ لهم أن يعيشوا تحت نظام واحد يكفل لهم ما يحتاجون إليه مدّة بقائهم في هذه الحياة الدنيا ، ويضمن لهم ما به يسعدون في الحياة الأخرى ، ولا يمكنهم في هذه الوحدة - ومع تلك الوصلة اللازمة بمقتضى الضرورة - أن يتّفقوا على تحديد ذلك النظام مع اختلاف الفطر ، وتفاوت العقول ، وحرمانهم من الإلهام الهادي لكلّ منهم إلى ما يجب عليه لصاحبه ؛ لما كانوا كذلك ، كان من لطف الله ورحمته بهم أن يرسل إليهم الرسل مبشّرين ومنذرين ، يبشّرونهم بالخير والسعادة في الدنيا والآخرة ، إذا لزم كلّ واحد منهم ما حدّد له واكتفى بما له من الحقّ ، ولم يعتد على حقّ غيره ، وينذرونهم بخيبة الأمل وحبوط العمل وعذاب الآخرة إذا اتّبعوا شهواتهم الحاضرة ولم ينظروا في العاقبة . هذه الآية الكريمة جاءت بمنزلة بيان الحكمة فيما سبقها من الأوامر الإلهية والأخبار السماوية . أمر الله الذين آمنوا بنبيّه وكتابه بأن يدخلوا في السلم كافّة ، وهو على أحد الوجوه السلام ، وعلى أحدهما الإسلام ، والسلام : هو الوفاق الذي ليس معه نزاع ، ولا يليق بمن جاءته الهداية من ربّه تبيّن له الطريق الذي يسلكه في معاملة إخوانه ومن يرتبط معه برابطة بعيدة أو قريبة من الناس ، أن ينحو في عمله نحو ما يدعو إلى الخلاف ويثير النزاع ، بل الواجب عليه أن يقف عند ما حدّدته هداية الكتاب الإلهي والسنن النبوي ، والإسلام كذلك يدعو إلى السلام . ثمّ بيّن سبب ما يقع من الاختلاف بين الناس ، ويحرمهم حيطة النظام فقال : { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [ البقرة : 212 ] أي إنّ جاحد الحقّ والمعرض عن هداية الله له التي يسوقها إليه على أيدي رسله ، إنّما ينظر في عمله إلى ما يوفّر عليه لذّاته في هذه الحياة الدنيا ، فهو لا يسعى إلاّ إلى لذّة عاجلة ، ولا ينظر إلى عاقبة آجلة ، ومن كان هذا شأنه ، كان أمره اختلافاً وشقاقاً ورياءً ونفاقاً . ثمّ أراد الله تعالى أن يقيم الدليل على أنّ الإهتداء بهدي الأنبياء ضروري للبشر ، وأنّه لا غنى لهم عنه مهما بلغوا من كمال العقل ، فقال : إنّ الله قضى أن يكون الناس أمّة واحدة يرتبط بعضهم ببعض ، ولا سبيل لعقولهم وحدها إلى الوصول إلى ما يلزم لهم في توفير مصالحهم ودفع المضارّ عنهم ، فبعث الله النبيّين مبشّرين ومنذرين ، وأيّدهم بالدلائل القاطعة على صدقهم ، وعلى أنّ ما يأتون به إنّما هو من عند الله تعالى القادر على إثابتهم وعقوبتهم ، العالم بما يخطر في ضمائرهم ، الذي لا تخفى عليه خافية من سرائرهم . قال تعالى : { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } الإتيان بهذه القضيّة بعد وصف الأنبياء بالمبشّرين المنذرين ، يدلّ على إنّ التبشير والإنذار عمل يسبق إنزال الكتب وهو حقّ ؛ لأنّ الأنبياء أوّل ما يبعثون ينبّهون قومهم إلى ما غفلوا عنه ، ويحذّرونهم عاقبة ما يكونون فيه ، من عادة سيّئة أو خلق قبيح أو عمل غير صالح ، فإذا تهيّأت الأذهان لقبول ما بعد ذلك من تشريع الأحكام وتحديد الحدود ، أنزل الله الكتب لبيان ما يريد حمل الناس عليه ممّا هو صالح لهم على حسب إستعدادهم ، ثمّ في قوله : { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَٰبَ } وعود الضمير على جميع النبيين ، ما يفيد إنّ الله أنزل مع كلّ نبي كتاباً ، معجزاً كان أو غير معجز ، طويلا كان أم قصيراً ، دوّن وحفظ أم لم يدوّن ولم يحفظ ، ليؤدّي من سلف إلى خلف ، وقوله : { لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ } قرأ يزيد بضمّ الياء وفتح الكاف ، والباقون بفتح الياء وضمّ الكاف ، وهي الرواية المشهورة المعروفة . أمّا على رواية يزيد فالمعنى أنّ الله أنزل الكتب مع النبيين بالحقّ ، أي بيان ما يجب أن يعتقد به ممّا هو منطبق على الواقع ، وبيان ما يجب أن يعمل به ممّا هو صالح لا مفسدة فيه ، ليقع الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه من الأمرين ، والحاكم هو المتولّي للفصل بين الناس في الخصومات بالنسبة إلى الأعمال ، والمرشد إلى صحيح العقائد على مقتضى ما جاء في الكتاب النازل بالحقّ ، والمبيّن لما ينطبق على نصوصه من الأعمال التي يحكم فيها الحاكمون . أمّا على القراءة المعروفة ، فالحكم مسند إلى الكتاب نفسه ، فالكتاب ذاته هو الذي يفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه ، وفيه نداء على الحاكمين بالكتاب أن يلزموا حكمه ، وأن لا يعدلوا عنه إلى ما تسوّله الأنفس وتزيّنه الأهواء ، فإنّ الكتاب نفسه هو الحاكم وليس الحاكم في الحقيقة سواه ، ولو ساغ للناس أن يؤوّلوا نصّاً من نصوص الكتب على حسب ما تنزع إليه عقولهم ، بدون رجوع إلى بقيّة النصوص ، وبناء التأويل على ما يؤخذ من جميعها جملة ، لما كان لإنزال الكتب فائدة ، ولمّا كانت الكتب في الحقيقة حاكمة ، بل تتحكّم الأهواء وتذهب النفوس منازع شتّى ، فينضمّ إلى الاختلاف في المنافع اختلاف آخر جديد وهو الاختلاف في ضروب التأويل ، وبناء كلّ واحد حكماً على ما نزع إليه ، فتعود المصلحة مفسدة ، وينقلب الدواء علّة . ولهذا ردّ الله تعالى الحكم إلى الكتاب نفسه ، لا إلى هوى الحاكم به وقال : { فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } لأنّ الاختلاف كان تابعاً لتلك الوحدة التي بيّناها ، فكان كأنّه لازم لها ، وهو كذلك كما يبيّنه تاريخ البشر وما توارثوه عن أسلافهم . وكما يقضي فيما اختلفوا فيه يقضي فيما يختلفون به من بعد ، ونسبة الحكم إلى الكتاب ، هي كنسبة النطق والهدى والتبشير إليه في قوله : { هَـٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقِّ } [ الجاثية : 29 ] وقوله : { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ الإسراء : 9 ] وكنسبة القضاء إليه في قول الشاعر : @ ضربت عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المنزل @@ والسرّ في التجوّز هو ما ذكرت لك ، وقد يعود الضمير على الله ، أي أنزل الله معهم الكتاب بالحقّ ليحكم سبحانه بين الناس فيما اختلفوا فيه ، وهو يشعر كذلك بأنّ الحاكم يجب أن يكون هو الله دون آراء البشر وظنونهم التي لا تردّ إليه جلّ شأنه . { وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَٰتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ } وقد عرفت فيما سبق أنّ الناس بحكم اشتراكهم في الأعمال وضرورة اشتباكهم في المعاملات ، عرضة للاختلاف في الحقّ ؛ لأنّ عقولهم وحدها ليست كافية في الهداية إليه على الوجه الذي يحفظ جامعتهم من الاضطراب ، ويؤدّي بهم إلى السعادة العظمى في المآب ، فلا يصحّ بعد ذلك أن يعود الضمير في " فيه " إلى الحقّ ، فلا يقال وما اختلف في الحقّ إلاّ الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات ، فإنّ الحق يختلف فيه الناس قبل مجيء البيّنات الأولى ، ولا أعجب ممّا ذكره بعض المفسّرين من أنّ النصّ في الآية دليل على أنّ الناس لم يكن منهم اختلاف في الحقّ إلاّ بعد بعثة الأنبياء وإرسال الرسل وإنزال الكتب ، أمّا فيما قبل ذلك فكانوا متّفقين على الحقّ ، فكأنّ رذيلة الاختلاف والتفرّق لم تقع في العالم الإنساني إلاّ ببعثة الرسل ، والقول بمثله من أغرب ما ينسب إلى صاحب دين ما فما بالك به إذا صدر عن مسلم ؟ والحقّ أنّ الضمير في قوله : { وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ } يعود إلى الكتاب ، وهو استدراك على ما عساه يقال : إذا كانّ الناس في جامعتهم مستعدّين للتخالف بمقتضى فطرتهم إذا تركت وحدها ، ولا غنى لهم عن هداية تعليمية تأتيهم من الله تعالى ، ولهذا بعث الأنبياء ليكونوا قوّاداً للفطرة إلى ما هو خير الدنيا والآخرة ، فما بال الناس بعد إنزال الكتب لا يزالون مختلفين ، ولا يرتفع من بينهم ذلك الخلاف الذي كان يخشى منه إفساد جماعتهم وهلاك خاصّتهم ؟ فقد كانوا يختلفون على جلب المنافع والتوسّع في مطالب الشهوات ، ولم تكن لديهم في ذلك آلة يستعملها كلّ منهم في نيل مطلبه من صاحبه سوى القوّة أو الحيلة ، وبعد إنزال الكتب قد انضمّ إلى تلك الآلات آلة أخرى ربّما كانت أقوى من سواها ، وهي آلة الإقناع بالكتاب ، فيتّخذ الواحد منهم كلمة من الكتاب أو أثراً ممّا جاء به وسيلة إلى تسخير غيره لما يريد ، وذلك بقطع الكلمة أو الأثر عن بقيّة ما جاء بالكتاب والآثار الأخرى ، وليّ اللسان به وتأويله بغير ما قصد منه ، وما همّ المؤول أن يعمل بالكتاب ، وإنّما كلّ ما يقصد هو أن يصل إلى مطلب لشهوته ، أو عضد لسطوته ، سواء عليه هدمت أحكام الله أم قامت ، واعوجّت السبيل أم استقامت . ثمّ يأتي ضالّ آخر يريد أن ينال من هذا ما نال هذا من غيره ، فيحرّف ويؤوّل حتّى يجد المخدوعين بقوله ويتّخذهم عوناً على ذلك الخادع الأوّل ، فيقع الخلاف والاضطراب ، وآلة المختلفين في ذلك هي الكتاب ، وقد شوهد ذلك في الأزمان الغابرة بين اليهود وبين من سبقهم وبين النصارى ، ولا يزال الأمر على ما كان عليه عند هاتين الطائفتين إلى اليوم ، وكم حروب وقعت بين المسلمين أنفسهم حتّى قصمت ظهورهم ، ودمّرت ما كان من قواهم ، وما كان آلة المبطلين في تلك المشاغب إلاّ دعوى الدين ، وحمل الناس على الحقّ المبين ، والله يعلم إنّهم لكاذبون فيما يقولون ، وإنّهم لخاطئون فيما يفعلون ، وما كلمة الدين ودعوى تأييد الكتاب إلاّ وسائل لإرضاء الشهوة ، وتمكين الظالم من السطوة . ثمّ هناك داع آخر للخلاف ، وهو اختلاف القوم في فهم ما جاء في الكتاب ، فكلّ يذهب إلى أنّ الواجب أن يعتقد كذا - وربّما كان حسن النيّة فيما يقول - ويعدّ المخالف مخطئاً فيما يزعم ، وقد يعرض لكلّ منهم التعصّب لرأيه ، فيذهب حسن النيّة ولا يبقى ، إلاّ الميل إلى تأييد المذهب ، وتقرير المشرب ، بدون رعاية للدليل ولا نظر إلى البرهان ، فلم يستفد النوع الإنساني من إرسال الرسل ونزول الكتب ، إلاّ حدوث سبب جديد للخلاف لم يكن ، وإلاّ موضوعاً للشقاق كان العالم في سلامة منه ، فما فائدة إرسال الرسل وكيف يمنّ الله على الناس بأمر لم يزدهم إلاّ شقاءً ، ولم يكسب بصائرهم إلاّ عماء ؟ أراد الله جلّ شأنه أن يستدرك على هذا الظنّ ، ويبيّن وجه الخطأ فيه فقال : { وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ } إلخ . وحاصل الاستدراك : إنّ غرائز البشر وحدها ليست كافية في توجيه أعمالهم إلى ما فيه صلاحهم ، فلا بدّ لهم من هداية أخرى تعليمية تتّفق مع القوّة المميّزة لنوعهم ، وهي قوّة الفكر والنظر . تلك الهداية التعليمية هي هداية الرسل منهم ، والكتب التي ينزلها الله عليهم ، مع الأدلة القائمة على عصمة الرسل من الكذب ، وعصمة الكتب من الخطأ ، فعلى الناس أن يستعملوا عقولهم في فهم الأدلّة على الرسالة والعصمة أولا ، وسطوع الأدلّة يحمل المستعدّين منهم على التصديق حتماً ، فإذا عقلوا ما جاءت به الرسل وجب عليهم أن يقوموا عليه ، ولا يعدلوا بعمل من أعمالهم عنه ، ذلك كما وهب لهم السمع والبصر ليهتدوا بهما إلى ما يوفّر لهم الفوائد ، ويدفع عنهم الغوائل ، ويتّقوا بهما الوقوع في المكاره ، وكما وهب لهم العقل ليهتدوا به فيما يتّبع الأعمال من العواقب ، وإنّما عليهم أن ينظروا في فهم الأحكام الإلهية إلى جملتها ومجموع ما تفرّق منها ، لا يقصرون نظرهم على بعض ويغضّون بصرهم عن بعض آخر ، ثمّ عليهم أن يقفوا على حكمة الله في تشريع شريعته ، ووضع ما قرّره من الأحكام فيها ، بحيث لا يحيدون عن تلك الحكمة التي أشارت إليها كتبه ، بل صرّحت بها نصوصها لا يمنة ولا يسرة ، حتّى يتم لهم الإهتداء بها ، فإنّ الغفلة عن حكمة العمل غفلة عن فائدته ، والغفلة عن فائدته إنصراف عن روحه التي لا يقوم إلاّ بها . غير أنّ عامّة الخاطئين لا يمكنهم أن يصلوا إلى كلّ ذلك بأفهامهم على قصرها ، وإنّما ذلك فرض على الخاصّة الذين قدّمهم الرسل للنيابة عنهم ، وهؤلاء هم الذين أُوتوه ، وأعطاهم الله الكتاب على أن يقرّروا ما فيه ، ويراقبوا إنطباق سير العامّة عليه ، ولذلك قال : { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَٰتُ } وفي آيات أخرى أنّ اختلافهم من بعد ما جاءهم العلم . والبيّنات ، هي الدلائل القائمة على عصمة الكتاب من وصمة إثارة الخلاف ، وعلى أنّه ما جاء إلاّ لإسعاد الناس والتوفيق بينهم ، لا لإشقائهم وتمزيق شملهم ، وعلى أنّ الحكمة الإلهية فيه راجعة إلى جميع ما جاء به ، فلا بدّ أن يكون فهم كلّ جزء منه مرتبطاً بفهم بقيّة أجزائه ، وعلى أنّ دعوة الرسول الذي جاء به إنّما كانت إلى جملته ، لا إلى الأنقاض المتفرّقة منه ، وقال إنّ هذا الاختلاف الذي وقع منهم لم يكن إلاّ بغياً بينهم ، وتعدّياً لحدود الشريعة التي أقامها حواجز بين الناس ، والخلاف داعية البغي . إنّ الحبر أو الكاهن أو العالم أو الرئيس ، أو أي واحد ممّن تسمّيه من أهل النظر في الدين ، القائمين عليه - الذين ينوبون عن الرسل في حفظه والدعوة إلى صيانته - الواحد من هؤلاء يرى الرأي ويفهم الفهم ويأخذ الحكم من نصّ يقف عنده ذهنه ، أو أثر يصل إليه ، وربّما لم يكن وصل إليه ما هو أصحّ منه ، وآخر يرى غير ما يرى ، ويزعم وصول أثر غير الذي وصل إلى صاحبه ، فكان اتّباع الكتاب يقضي عليهما بالإجتماع والتمحيص وتخليص النفس من كلّ هوى سوى الميل إلى تقرير الحقّ وتطبيق الواقعة عليه ، ولو لم يتيّسر لهما ذلك وجب على من يأتي بعدهما ما كان يجب عليهما ، حتّى يستمرّ الإتّفاق بين هؤلاء الخاصّة ويسود بهم بين العامّة . لكن قد يشوب طلب الحقّ شيء من الرغبة في عزّة الرئاسة ، أو ميل مع أربابها ، أو خوف منهم ، أو شهوة خفيّة في منفعة أخرى ، فيلج ذلك بصاحب الرأي حتّى يكون شقاق ، ويحدث إفتراق ، ولا ريب أنّ هذا الشوب وإن كان قد يكون غير ملحوظ لصاحبه ، بل دخل على نفسه من حيث لا يشعر ، فهو من البغي على حقّ الله في عباده أوّلا ، والبغي على حقوق العباد الذين جاء الكتاب لتعزيز الوفاق بينهم ثانياً ، وأمّا العامّة من الناس فلا جريمة لهم في هذا ، ولذلك جاء بالحصر في قوله : { وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَٰتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ } فإذا كان الرؤساء قد جنوا هذه الجناية على أنفسهم وعلى الناس بسبب البغي الخاص بهم ، فهل هذا يقدح في هداية الكتاب إلى ما يتّفق الناس عليه من الحقّ ويرتفع به النزاع فيما بينهم ؟ كلاّ فقد رأينا كلّ دين في بدء نشأته يقرّب البعيد ويجمع المتشتّت ويلمّ الشعث ، ويمحق أسباب الخلاف من النفوس ويقرّر بين الآخذين به أخوة لا تدانيها أخوة النسب في شيء . وهل يؤثر الأخ في النسب أخاه بماله على نفسه وهو في أشدّ الحاجة إليه ، كما كان يفعل أولئك الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ؟ وهل يبذل الأخ النسبي روحه دون أخيه ويؤثره بالحياة على نفسه كما آثره بالمال ، كما كان يقع من أولئك الأبطال ؟ هذا شأن الدين وهو باق على أصله ، معروف بحقيقته لأهله تبيّنه للناس رؤساؤه ، ويمشي بنوره فيهم علماؤه ، لا خلاف ولا إعتساف ، ولا طرق ولا مشارب ، ولا منازعات في الدين ولا مشاغب . هذا هو الدين الإلهي الذي قدّر الله أن يكون هداية للبشر فوق الهدايات التي وهبها لهم من الحواس والعقول ، فإذا لم يهتد بها الذين أوتوها وهم علماء الدين ، وبغوا بالتأويل ، وكثرة القال والقيل ، فهل يمسّ ذلك جانبها بعيب ؟ ماذا يقول القائل في أولئك الذين يؤتيهم الله العقل ثمّ لا يستعملونه فيما أوتي لأجله ؟ هل تنقص حالهم هذه من منزلة العقل وتدلّ على أنّ العقل ليس من نعم الله على الإنسان ؟ ماذا يقول القائل في أولئك الذين لهم أبصار وأسماع ولكن يخبط الواحد منهم في سيره فلا يستعمل بصره في معرفة الطريق التي يسير فيها ، أو في وقاية رجليه من الشوك الواقع عليها ، أو التباعد عن حفرة يتردّى فيها ، وربّما كانت نظرة واحدة تقيه من التهلكة لو وجّهها نحوها . وقد يسمع من الأصوات التي تنذره بالخطر القريب منه ثمّ لا يبالي بما يسمع ، حتّى يصيبه ما ليس له مدفع . فهل تحطّ حال هؤلاء الناس من قيمة السمع والبصر ؟ هذه الآية الكريمة ترفع من شأن الدين وتعلو به إلى أرفع مقام من مقامات الهدايات الإلهية ، وتدفع عنه مطاعن أولئك السفهاء الذين تغشى أعينهم حجب الظواهر ، فتقف بهم دون معرفة السرائر ، يناديهم الحقّ فلا يصل إليهم إلاّ صدى صوت الباطل ، ثمّ يرفع النصّ الكريم مقام المؤمنين الصادقين ، ويحلّهم من الكرامة أعلى علّيين ، إذ يقول بعد ما ذكر جناية أهل الخلاف : { فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَٱللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ } الإذن هنا التيسير والتوفيق ، والذين آمنوا هم أهل الإيمان الصادق في كلّ دين ، أو هم المؤمنون بمحمّد صلى الله عليه وسلم وعلى كلّ فالله جلّ شأنه يخبرنا - وهو أصدق القائلين - بأنّ المؤمنين هم الذين يهتدون لما اختلف الناس فيه من الحقّ ، أي يصلون إلى الحقّ الذي تختلف مزاعم الناس فيه ، فيزعم كلّ واحد إنّه عليه ، وهو إمّا بعيد عنه بعد الباطل عن الحقّ ، وإمّا على شيء منه غير إنّه على حكم المصادفة والإتّفاق ، والذي حمله على زعمه ، إنّما هو الهوى والميل إلى الشقاق ، وهو في الحالتين على الباطل ؛ لأنّ موافقة الحقّ على غير بصيرة لا تعدّ هداية إليه . الإيمان الصحيح له نور يسطع في العقول فيهديها في ظلمات الشبه ، ويضيء لها السبيل إلى الحقّ الذي لا يخالطه باطل ، فيسهل عليها أن تميط كلّ أذى يتعثّر فيه السالك ، وقد يسقط به في مهاو من المهالك . الإيمان الصحيح لا يسمح لصاحبه أن يأخذ بأمر قبل أن يتبصّر فيه ، ويمحّص الدليل على إنّه نافع له في دينه أو دنياه ، ولا يدع أمراً حتى يشهد عنده البرهان أو العيان بأنّه ليس ممّا يجب عليه أن يأتيه بحكم إيمانه . الإيمان الصحيح يجعل من نفس صاحبه رقيباً عليها في كلّ خطرة تمرّ بباله ، وكلّ نظرة تقع منه على ما بين يديه من آيات الله في خلقه ، لا يطير الخيال بصاحب الإيمان الصحيح ، إلاّ إلى صور من الحقّ تنزل منه منزلة العبارة من معناها ، فهو إذا اعتقد فإنّما يعتقد ما هو مطابق للواقع ، وإذا تخيّل فإنّما يتخيّل صوراً تمثّل ذلك الواقع وتجليه في أقوى مظاهره ، بهذا يكون تيسير الله له الهداية إلى الحقّ الذي يختلف فيه الناس ، فهو مطمئن ساكن القلب ، وهم في اضطراب وحرب ، تولّوا عن هداية الله فحرموا توفيقه ، وكفروا بنعمة العقل والدين ، فعوقبوا عليها بفشو الشّر ، وفساد الأمر ، والله لا يصلح عمل المفسدين ، ولا فساد أعظم من الاختلاف في الدين { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ الأنعام : 159 ] { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } [ الشورى : 13 ] { فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ ٱللَّهُ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ * صِبْغَةَ ٱللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ } [ البقرة : 137 - 138 ] . هذه آيات الله لا يعرض عنها إلاّ بعيد عن الله ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم . هذا ما اخترنا من التأويل وهناك ما رمى إليه قول أبي مسلم الأصفهاني والقاضي أبي بكر فيما نقلناه عنهما سابقاً ، وهو أنّ الناس كانوا أمّة واحدة على سنّة الفطرة والتمسّك بالشرائع العقلية فيما يعتقدون وما يعملون وما يتركون ، والدليل على ذلك أنّ الفاء توجب التعقيب فيعلم من ذلك أنّ تلك الوحدة كانت متقدّمة على جميع الشرائع الإلهية فلا تكون إلاّ الاستفادة من العقل ، ولا بدّ لبيان ما رمى إليه قول الشيخين من بيان يطمئنّ إليه الجنان : ما جاءنا من أنباء الأمم وما رأيناه من آثارهم وما عرفناه من حال بعضهم اليوم يشهد - شهادة لا يرتاب فيها من أدّيت إليه - إنّ العناية الإلهية سارت بالإنسان في جماعته كما سارت به في أفراده : يخلق الله الفرد من البشر ضعيف القوّة فاقد العلم لا يعرف شيئاً من أمره كما جاء في التنزيل : { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ] ثمّ أبواه أو من يكفله سواهما يقوم عليه يقوّي بنيته ويدفع عنه ما عساه يهدمها ، ويعلّمه كيف يسمع وكيف ينظر وكيف يتّقي ببصره وسمعه ما تخشى عاقبة وقعه ، إلى أن يبلغ من السنّ حدّاً معلوماً يكون فيه الحسّ قد أعدّه لإستعمال قوّة أخرى كانت لا تزال قاصرة فيه وهي قوّة العقل ، ويسهل عليه أن يفكّر فيما مضى وينظر فيما حضر ، ليعرف منها كيف يسلك في عمله لما يستقبل ، فكمال إستعداد العقل للنظر في شؤون الشخص هو منتهى نمو القوى المدركة ، كما أنّ وصول البنية إلى الحدّ المعروف في السنّ المعلومة هو منتهى نموّ البدن ، تلك السنّ هي المعروفة بسنّ الرشد . لم يكن من متناول قوّة الصبي في زمن الصبا الإحاطة بكنه الجمعية البشرية وما وضع الله فيها من الروابط المعنوية والمعاني الروحية التي تقوم بها بنية الإجتماع ، ولم يكن من طوق مداركه أن تخترق هذا الكون المحسوس ؛ لتصل إلى معرفة مكوّنه ، ويشرق عليها نور وجوده الباهر ، وإنّما كان كلّ هم الصبي منصرفاً إلى تغذية جسمه ورياضة قواه البدنية ، ولا يبالي بما وراء ذلك ، وإذا ذكر له شيء من تلك المعاني العالية لم يتمثّلها ذهنه إلاّ في صور من الخيال هي إلى الباطل أقرب منها إلى الحقّ ، كلّ ذلك معروف لكلّ من كان طفلا ثمّ صار صبيّاً ، ثمّ بلغ سنّاً عرف نفسه فيها رجلا عاقلا ، فلا حاجة بنا إلى الإطالة فيه . على هذه السنّة قادت العناية الإلهية جماعة البشر ؛ لأنّ الحكمة قد قضت بأن يحيا الإنسان إلى أجله المحدود في جماعة من نوعه - كما قدّمنا - لا مناص له عن ذلك . هذه الجماعة هي التي تسمّى أمّة كما عرفت ، ويمكنك أن تسمّيها بنية الإجتماع ، وتسمّي كلّ فرد منها عضواً من تلك البنية ، فكما ينشأ الفرد قاصراً في جميع قواه ضعيفاً في جميع أعضائه ، كذلك نشأت الجمعية البشرية على ضرب من السذاجة لا تبلغ بها إلى تناول الشؤون الرفيعة والمعاني العالية والمعارف السامية ، غير أنّ الذي يربّي الفرد ويسوس قواه إلى أن يبلغ رشده ، هو الأبوان أو من يقوم مقامهما ، والذي يكفل الجمعية ويربّي قواها ويشدّ بناها ، إنّما هو الكون وما يمسّها من حوادثه ، والحاجات ووقعها ، والضرورات ولذعها ، وكما يؤدّب الصبي أبواه يؤدّب الجماعة شدّة وقع الحوادث الكونية منها ، وهي في هذا الطور لا همّ لها إلاّ المحافظة على بنيتها الجسمية ، وحاجتها البدنية ، وليس عندها من الزمن ما تتفرّغ فيه لأدنى من ذلك كما هو شأن الطفل في صباه . والآثار التي عثر عليها الباحثون في مبادئ ظهور الصناعة عند البشر وارتقائها ، - من أدنى الأعمال إلى ما يظنّه الناظر أعلاها اليوم - تشهد شهادة كافية بأنّ البشر كانوا في بدء أمرهم من قصور القِوى ، على حالة تشبه حالة الصبيان في الأفراد ، فقد كانوا في بعض أطوارهم لا يهتدون إلى إصطناع المعادن القابلة للطرق كالنحاس والحديد ، وإنّ آلاتهم للدفاع ونحوه كانت من الحجارة ، ثمّ ارتقوا إلى إستعمال النحاس ، ثمّ إرتقوا بعد ذلك إلى إستعمال الحديد ، وعلى هذا النحو كان رقي معارفهم في جميع أبواب الصنعة ، وما عليك إلاّ أن تنظر كيف ابتدأوا وضع حروف الكتابة من الخطّ المسماري ، ثمّ لم يزالوا يرتقون فيه إلى أن وصلوا إلى ما تعرف اليوم ، كلّ ذلك يدلّ على أنّ سنة الله في الجماعة هي بعينها سنّته في الفرد منها ، من التدرّج به من ضعف إلى قوّة ومن قصور إلى كمال . كانوا في طور القصور منغمسين في الحسّ والمحسوس ، فإذا تخلّصوا منه إلى شيء تخلّصوا إلى وهم يثيره الحسّ ، وإنّما هو ظلّ له يظنّ شيئاً وليس بشيء ، إذا عجبوا كيف يموت الميّت ، ولم يهتدوا إلى فهم معنى الموت ، ظنّوا إنّه يغيب عنهم غيبة ، ولكن لا يزال يتعهّدهم بما يؤذيهم ، كأنّ الموت يحدث بينه وبينهم عداوة ، فظنّوا أن أرواح الأموات من جملة العاديات الضارّات ، المعينات النافعات ، ولذلك كانوا يعدّون لها ما يرضيها ، وكانوا يخافون أن يذكروا أسماءها ، وإذا سمعوا رعداً أو رأوا برقاً أو أمطرتهم السماء أو ذعرتهم الأعاصير ، تخيّلوا أشباحاً مثلهم ترسل ذلك كلّه عليهم ، ويذهب بهم الخيال فيها إلى ما شاء من صور وتماثيل . وهكذا كان شأنهم في كثير من الحيوان والنبات والنجوم ، إذا استعظموا منها شيئاً لعظم مضرّته أو لكثرة منفعته ، توهّموا فيها ما شاءوا من قدرة تفوق قدرتهم ، وإرادة تقهر إرادتهم . ولم يزالوا كذلك والتجارب تكشف لهم خطأهم فيما يتوهّمون ، والحوادث تأتيهم بعلم ما لم يكونوا يعلمون ، حتّى عقلوا كثيراً من أصول إجتماعهم وكشفوا شيئاً من عناصر بنيته المعنوية ، ووصلوا إلى منزلة الإستعداد لأن يفهموا باطن ما عقلوا وسرّ ما عرفوا ، ولأن يخلصوا من هذا العالم الجسماني الذي كانوا فيه إلى عالم روحاني كانوا يسيرون في طلبه من حيث لا يشعرون . هنالك تهيّأ لهم أن ينتقلوا من طور قصور الصبا إلى أوّل سنّ الرشد ، فجاءتهم النبوّة تهديهم إلى ما يستقبلونه في ذلك الطور الجديد ، طور يكون واضع النظام لإجتماعهم فيه هو الله جلّ شأنه ، ويكون المحدّد لصلتهم بربّهم تعالت أسماؤه هو الرحيم بهم العليم بمصالحهم ، وهو مع ذلك ممّا لا تحدّده عقولهم ، ولا تسموا إلى إكتناه ذاته معارفهم ، هذه هي الغاية التي لم يكن لهم أن يدركوها وهم في قصور الطور الأوّل قد انتهوا إليها عند دخولهم في الطور الثاني . فهذا هو قول الشيخين : إنّ الأمّة الواحدة ، هي الأمّة الآخذة في اعتقادها وعملها بالعقل ومقتضى الفطرة قبل النبوّات جميعها ؛ لأنّ ظهور النبوّة والإستعداد لقبولها طور من الأطوار البشرية ، لا يصل إليه النوع الإنساني إلاّ بعد التدرّج في طريق طويلة تنتهي غايتها إلى هذا النوع من الكمال الإنساني . الاستعداد لظهور النبوّة وقبول دعوتها ، مرحلة من المراحل التي تسير فيها الجمعية البشرية عندما تبلغ العقول منزلة من القوّة ومقاماً من السلطة ، وتبلغ النفوس من قوّة التصرّف في المنافع والمضارّ ، ما يخشى معه من ضلالها ، أن يوقعها في خبالها ، عندما تعظم مطامع العقول والشهوات وتتّسع مجالاتها وتبعد مطامحها ، هنالك يخشى على الجمعية البشرية من بعض أفرادها أو من كلّ واحد منهم على بقية أركانها ، كما يخشى من قوى الشاب أن تهلكه عندما تبلغ البنية حدّ النمو وتبدو له الشهوات في أجلى صورها ، فكما كان من حكمة الله أن يهب الشابّ قوّة العقل عند بلوغ السنّ التي تعظم فيها الشهوة ، ويقوى فيها الإحساس بالحاجة إلى توفير الرغائب ، حتّى يقوده في تلك الغمار ، كذلك فعل الله بالجمعية البشرية عندما بلغت بمعارف أفرادها ذلك الحدّ الذي ذكرنا : وهبها تلك الهداية الجديدة ، وأيّدها بالدلائل التي بلغ من قوّة العقول أن تدركها ، وأن تصل من مقدّماتها إلى نتائجها ، تلك الآيات البيّنات التي جاء بها الأنبياء على اختلاف أزمانهم وأممهم ، جاءت إلى كلّ أمّة بما يلائم حالتها النفسية ومكانتها العقلية ، فكان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الأمم ، بمنزلة الرأس من البدن . جاءوهم يبيّنون لهم الخير ، ويبشّرونهم بحسن الجزاء لكاسبه ، ويكشفون لهم مسالك السوء ، وينذرونهم بسوء المصير لصاحبه . ولمّا كان الإستعداد يتفاوت في الأمم ، كانت أمّة أولى من أمّة بتقدّم عهد النبوّات فيها ، وكانت تلك الأمّة المتقدّمة جديرة بأن تكون إماماً للأُمّة المتأخّرة ، سنّة الله في الخلق . هذا الطور النوراني الجديد - طور ظهور النبوّة - هو طور خير وسعادة ، طور هداية ورشاد ، وأخوّة بين المهتدين فيه ، وسداد في أعمالهم ، ونزوع إلى تكميل غيرهم بمثل ما كملت به أنفسهم ، وإضاءة ما أظلم من جو غيرهم بمثل ما ضاء به جوّهم ، ولا يزالون كذلك ما قاموا على فهم ما جاء إليهم ، وما قيّدوا عقولهم ونفوسهم بالحدود التي وضعها لهم ، وما وقفوا على سرّ ما حملوا عليه ، ولزموا روح ما دعوا إليه ، وما حدب كلّ واحد منهم على الآخر ليردّه إذا زاغ عن الطريق المعبّدة ، ويقيمه على السنّة المعروفة ، فهذا قوله تعالى : { فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } فقد قطع الإنسان في سيره إلى الكمال مرحلة أولى انتهت إلى ظهور النبوّات ، ثمّ هو يسير في هذه مرحلة أخرى إلى أن يصل إلى منزل آخر ، ولكنه يا للأسف ليس بالمنزل المرتضى . ذلك أنّه إذا طال الأمد على عهد النبوّة ، وبعد الناس عن مبعث نورها ، وينبوع غيرها ، قست القلوب ، وأظلمت الأنفس ، وغلبت الشهوات ، فضعف العلم بسرّ الدعوة ، وأهملت الجمعية تقويم الطريقة ، واستعمل أهل العلم بالدين ، نصوص الدين فيما يضيّع حكمة الدين ، ويذهب بأثره في الناس ، فيقع الاختلاف والاضطراب ، وينقلب سبب السعادة الأولى ، عاملا للشقاء في الأخرى ، وذلك باتّباع خطوات شيطان الرئاسة ، والإنقياد لغوايات السياسة ، فهذا قوله تعالى : { وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَٰتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ } . هذا طور ثالث للجمعية البشرية ، ومرحلة تسير فيها ما شاء الله أن تسير حتّى تذوق وبال أمرها ، وحتّى تبصر عواقب الخلاف بما كان من فوائد الألفة ، وحتى تردّها الضرورات إلى النظر فيما أغمضت عنه ، وإلى الرجوع إلى ما خرجت منه ، فتعود إلى محو ما عرض من العادات ، وتنقية القلوب من فاسد الاعتقادات ، وتطهير النفس من رديء الملكات ، فتشرق لها شمس الحقّ الأول ، وتقوم على الطريق الأمثل ، وتعود الطمأنينة إلى النفوس ، ويتساوى في الحقّ الرئيس والمرءوس ، ويجتمع الناس على التنزيل ، ويتّحدون على صحيح التأويل ، وهذا قوله تعالى : { فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلْحَقِّ بِإِذْنِهِ } . تلك الأطوار التي لا بدّ للبشرية أن تمرّ فيها حتّى تبلغ كمالها ، وتنال تفصيلها وإجمالها ، وتأويل الآية على طريقة الشيخين المذكورين لا يضايق ما اخترناه ، ولا يبعد عمّا قرّرناه ، ومكانة آدم عليه السلام من الرسالة لا تزعج صاحب هذا التأويل ، ولا تلصق به شذوذاً أبعد من شذوذ من قال كان الناس على الحقّ متّفقين ، ثمّ كان الخلاف إثر بعثة النبيّين ، ولا شذوذ من قال إنّ الناس هم آدم كما علمت ، فإنّه يقول إنّ رسالة آدم ، لم تعلم بم كانت وإلى من كانت ، فيجوز أن تكون بأمور تتّفق مع تلك السذاجة الأولى إلى واحد أو أكثر من أبنائه ، ثمّ نسي ما كان من ذلك عند من بلّغه ، وجهل عند من لم يبلّغه ، على أنّ ما سبق في تأويل قوله تعالى : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ } [ البقرة : 30 ] من رأي ابن عبّاس وأناس معه : من أنّ الأرض كان فيها عمّار يعملون فيها ما يعمل بنو آدم ، يسمح لصاحب التأويل أن يقول إنّ آدم عليه السلام مع بنيه كانوا في عمارة الأرض كولد نوح ، وأنّ الأرض كانت معمورة من قبله بأقوام فيهم تلك الصفات البشرية ثمّ انقرضوا وخلفهم آدم ، كما تنقرض أمّة وتخلفها أمّة ، يهلك الله صنفاً وينشئ آخر والنوع واحد ، ولا يزال الهالك يترك أثراً للباقي يحدث فيه فكرة ، ويثير في نفسه عبرة ، ويكون ذلك سلّماً له إلى رقي كان من قبل دونه ، وأنّ مثال هذه الإعتراضات التي تكاد تكون ضروباً من إنكار المشهود لقول قائل إنّه غير موجود ، لا تقف دون العقلاء من أهل الدين خصوصاً علماء الدين الإسلامي ، الذي لم يحدّد تاريخاً خاصّاً يبتدئ منه الوجود الإنساني في هذه الأرض ، فهم أحرار فيما ينظرون ما داموا لم يخالفوا نصّاً قاطعاً من نصوص الكتاب ، ولا سنّة خلا نقلها من الريب والاضطراب . والله أعلم بما أودع كتابه من أسرار وحكمة ، نسأله سبحانه أن يتمّ علينا هذه النعمة ، فهو حسبنا ونعم الوكيل ، وهو يقول الحقّ ويهدي السبيل ( انتهى ما كتبه الأستاذ الإمام ) . وأقول : إنّ المتبادر من الآية عند العرب الأمّيين في عصر التنزيل ، الذين لم يعرفوا شيئاً من تاريخ البشر وأطوارهم يحملونها عليه ، يتّفق مع هذا التفصيل في جملته ، وهو أنّ الناس كانوا بمقتضى الفطرة أمّة واحدة ، أي لوحدة مداركهم وحاجات معيشتهم ، وقلّة رغائبهم وسهولة تعاونهم على مطالبهم ، ولكن عرض لهم الاختلاف بالتفرّق والإنقسام إلى عشائر ، فقبائل ، فشعوب ، تختلف حاجاتها وتتعدّد رغائبها ، ويلجئها ذلك إلى تعاون كلّ عشيرة فقبيلة فشعب فيما تختلف فيه أفرادها أو تختلف هي وغيرها . فاشتدّت حاجتهم إلى تشريع ربّاني ، وهداية إلهية يذعن لها الأفراد والجماعات ، فبعث الله النبييّن فيهم مبشّرين من أطاعهم بالسعادة والثواب ، ومنذرين من عصاهم بالشقاء والعذاب ، وأنزل معهم الكتاب المفصّل لما يحتاجون إليه من التشريع الديني والمدني بالحقّ ؛ ليحكم تعالى فيه - أو ليحكم الكتاب نفسه بمعنى يبيّن الحكم - بين الناس فيما اختلفوا فيه من الحقوق الشخصية وغيرها ، وما اختلف فيه - أي الكتاب - بعد الإنعام به ، إلاّ الذين أوتوه من بعد ما جاءهم البيّنات فيه وفي تنفيذ نبيّهم له بغياً بينهم ، من بعضهم على بعض . ثمّ يظهر فيهم مصلحون يهديهم الله بإيمانهم للمخرج ممّا اختلفوا من الحقّ بإذنه ومشيئته ، كما وقع لأهل الكتاب ، ثمّ للمسلمين الذين حذّرهم الله تعالى أن يكونوا مثلهم بقوله : { وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [ الحديد : 16 ] وهم الآن أحوج إلى هذا الإصلاح من كلّ زمان مضى . هذا المعنى المجمل لا يخالف النصوص في شيء ، وظواهر القرآن توافق نصّ حديث الشفاعة المتّفق عليه في إنّ نوحاً عليه السلام كان أوّل رسول أرسله الله إلى أهل الأرض ، وقد حقّقت مسألة نبوّة آدم في الكلام على عدد الرسل من تفسير سورة الأنعام .