Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 23-24)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلنا : إنّ الكلام من أوّل السورة في القرآن وتفصيل أحوال الناس في الإيمان به وعدمه ، وهذه الآية دليل على عدم الخروج عن هذا الموضوع في كلّ ما تقدّم ، فالآيات متّصلٌ بعضها ببعض ، كحبّات من الجوهر نظمت في سلك واحد ، فإنّه بعد ما ذكر المتّقين الذين يهتدون بالقرآن وعلاماتهم ، وبيّن خصائصهم وصفاتهم ، وذكر الجاحدين المعاندين ، وما هم عليه من العمى عن جليّة الحقّ المبين ، وما رزئوا به من الصمم المعنويّ حتّى لا يسمعون الحجج والبراهين ، وما أصيبوا به من البكم بالنسبة لقول الحقّ أو سؤال المرشدين ، ثمّ ذكر المذبذبين بين ذلك فلا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، وذكر فرقهم وأصنافهم ، وبيّن خلائقهم وأوصافهم ، وضرب لهم الأمثال ، ونضلهم في ميدان الجدال ، بسهام الحجج النافذة ، وسيوف البراهين القاطعة - بعد هذا كلّه - تحدّاهم بالكتاب الذي يدعو إليه ويناضل عنه ويكافح دونه { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة : 2 ] . فقال : { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } ، أي يا أيّها الناس عليكم بعد أن تنسلّوا من مضايق الوساوس ، وتتسلّلوا من مآزق الهواجس ، وتنزعوا ما طوّقكم به التقليد من القلائد ، وتكسروا مقاطر ما ورثتم من العوائد ، أن تهرعوا إلى الحقّ فتطلبوه ببرهانه ، وأن تبادروا إلى ما دعيتم إليه فتأخذوه بربّانه ، فإنّ خفي عليكم الحقّ بذاته ، فهذه آية من أظهر آياته ، وهي عجزكم عن الإتيان بسورة من مثل سور القرآن من رجل أمّيّ مثل الذي جاءكم به ، وهو عبدنا ورسولنا محمّد صلى الله عليه وسلم ، وإن عجزتم عن الإتيان بسورة من مثله تساوي سورة في هدايتها ، وتضارعها في أسلوبها وبلاغتها ، وأنتم فرسان البلاغة ، وعصركم أرقى عصور الفصاحة ، وقد اشتهر كثيرون منكم بالسبق في هذا الميدان ، ولم يكن محمّد صلى الله عليه وسلم ممّن يسابقكم من قبل في هذا الرهان ؛ لأنّه لم يؤتَ هذا الإستعداد بنفسه ، ولم يتمرّن عليه أو يتكلّفه لمباراة أهله : فاعلموا أنّ ما جاء به بعد أربعين سنة فأعجزكم بعد سبقكم لم يكن إلاّ بوحي إلهيّ ، وإمداد سماويّ ، لم يسمُ عقله إلى علمه ، ولا بيانه إلى أسلوبه ونظمه . وعبّر عن كون الريب بـإن للإيذان بأنّ من شأن هذا التنزيل أن لا يرتاب فيه ؛ لأنّ الحقّ فيه ظاهر بذاته ، يتلألأ نوره في كلّ آية من آياته ، ولكن : @ إذا لم تكن للمرء عينٌ صحيحة فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر @@ والتنزيل : من مادّة النزول : كالإنزال وتقدّم تفسيره إلاّ أنّ صيغة " التفعيل " الدّالة على التدريج أو التكثير ، تفيد أنّ القرآن نزل نجوماً متفرّقة وهو الواقع ، وصيغة أنزل لا تنافيه . وقوله تعالى : { مِّن مِّثْلِهِ } فيه وجهان : أحدهما : إنّ الضمير في " مثله " للقرآن المعبّر عنه بقوله : { مِّمَّا نَزَّلْنَا } . والثاني : إنّه لعبدنا . قال شيخنا : وهو أرجح بدليل " من " الداخلة على " مثله " الدّالة على النشوء ، أي فإن كان أحد ممّن يماثل الرسول بالأمّيّة يقدر على الإتيان بسورة فليفعل قال تعالى : { وَٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم } الذين يشهدون لكم أنّكم أتيتم بسورة من مثله ، وهؤلاء الشهداء هم غير الله تعالى بالضرورة أي ادعوا كلّ من تعتمدون عليه ليشهد لكم { مِّن دُونِ ٱللَّهِ } أو ادعوا كلّ أحد غير الله تعالى ليؤيّد دعواكم ، كما أيّد الله تعالى دعوة عبده محمّد صلى الله عليه وسلم ، وأنظروا هل يغنيكم دعاؤكم شيئاً { إِنْ كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ } في دعواكم [ أنّ عندكم فيه ريباً ، وإنّما يصدق المرتاب في ريبه إذا خفيت الحجّة ، وغلبت الشبهة ، وكان جادّاً في النظر ، فهو يقول : إن كنتم صدقتم في أنّكم مرتابون فلديكم ما يمحّص الحق فجدّوا في الفكر ، ولا تتوانوا في النظر ، وتدبّروا هذا الكتاب وها هو ذا معروض عليكم ، وائتوا بسورة واحدة من مثل هذا النبيّ الأمّيّ ، فإذا أمكن لكم ذلك فلخاطر الريب أن يمرّ بنفوسكم ، وإلاّ فما وجه إعراضكم عن عودته ، وإبطائكم عن تلبيته ؟ ] . أقول : هذا محصّل سياق الأستاذ في الدرس وقد قرأه بعد كتابتنا له وكتب العبارة الأخيرة لإيضاحه بخطّه بعد طبع التفسير في المنار . وترجيحه كون الضمير في مثله للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصّ بهذه الآية وهو لا ينافي العجز عن الإتيان بسورة مثل سور القرآن من غير الأمّيّين ، ورجّح الجمهور الأوّل لموافقة الآيات الأخرى في هذا التحدّي . وأول ما نزل في هذا المعنى : قوله تعالى في سورة الإسراء : { قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [ الإسراء : 88 ] ثمّ نزّل بعدها آية يونس : { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ يونس : 38 ] ثمّ آية هود : { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَٰتٍ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ هود : 13 ] وهذه السور الثلاث نزلت بمكّة متتابعات - كما رواه العلماء بهذا الشأن - ولكن في رواية عن ابن عباس أنّ سورة يونس مدنيّة . والرواية الأخرى هي الموافقة لقول الجمهور ولأسلوبها فإنّه أسلوب السور المكّيّة . وقال بعض علماء الكلام : إنّ الله تعالى تحدّى الناس أوّلاً بالقرآن في جملته في آية الإسراء ، ثمّ تحدّاهم بعشر سور مثله في آية هود ، ثمّ تحدّاهم بسورة واحدة مثله في آية يونس - وكلّ ذلك بمكّة ، ثمّ بسورة من مثله في آية البقرة بالمدينة . وهذا ترتيب معقول لو ساعد عليه تاريخ النزول ، والظاهر أنّ التحدّي في سورتي يونس وهود خاصّ ببعض أنواع الإعجاز ، وهي ما يتعلّق بالأخبار ، كقصص الرسل مع أقوامهم ، وهو من أخبار الغيب الماضية التي لم يكن لمن أنزل عليه القرآن علم بها ولا قومه ، كما قال تعالى عقب قصّة نوح من سورة هود : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـٰذَا } [ هود : 49 ] وكما قال في سورة القصص عقب قصّة موسى : { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلأَمْرَ } [ القصص : 44 ] إلى آخر الآية 46 ، وكما قال في سورة آل عمران عقب قصّة مريم : { ذٰلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ } [ آل عمران : 44 ] الآية . ولعلّ وجه التحدّي بعشر سور مفتريات دون سورة واحدة ، هو إرادة نوع خاصّ من أنواع الإعجاز ، وهو : الإتيان بالخبر الواحد بأساليب متعدّدة متساوية في البلاغة ، وإزالة شبهة تخطر بالبال ، بل بعض الناس أوردها على الإعجاز بالبلاغة والأسلوب وهي أنّ الجملة أو السورة المشتملة على القصّة يمكن التعبير عنها في اللغة بعبارات مختلفة تؤدّي المعنى ، ولا بدّ أن تكون عبارة منها ينتهي إليها حسن البيان مع السلامة من كلّ عيب لفظيّ أو معنويّ يخلّ بالفهم أو التأثير المطلوب ، فمن سبق إلى هذه العبارة أعجز غيره عن الإتيان بمثلها ؛ لأنّ تأليف الكلام في اللغة لا يحتمل ذلك . ومن الأمثال التي وضّحوا بها هذه الشبهة قوله تعالى : { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ } [ غافر : 28 ] قالوا : إنّ هذه الجملة تحتمل بالتقديم والتأخير بضعة تراكيب ، أفصحها وأبلغها وأسلمها من الضعف والإبهام ، تركيب الآية . ولكنّ القرآن عبّر عن بعض المعاني وبعض القصص بعبارات مختلفة الأسلوب والنظم من مختصر ومطوّل ، والتحدّي بمثله لا يظهر في قصّة مخترعة مفتراة ، بل لا بدّ من التعدّد الذي يظهر فيه التعبير عن المعنى الواحد والقصّة الواحدة بأساليب مختلفة ، وتراكيب متعدّدة كما نرى في سوره فتحدّاهم بعشر سور مثله في هدايتها وبلاغتها وأسلوبها ، واشتمالها على الحكم والعبر والأسوة الحسنة المعينة على التربية والتهذيب ، كما هو شأن القرآن في قصصه . كأنّه يقول : أدع لكم ما في سور القصص من الإخبار عن الغيب ، وأتحدّاكم - أنتم وسائر الذين تستطيعون الإستعانة بهم - على الإتيان بعشر سور مثل سور القرآن في قصصها ، مع السماح لكم بجعلها قصصاً مفتراة من حيث موضوعها ، فإن جئتم به مثل سوره القصصيّة ، في سائر مزاياها اللفظيّة والمعنويّة ، فأنا أعترف لكم بدحض حجّتي عليكم . وأمّا إكتفاؤه في سورة يونس بعدها بالتحدّي بسورة واحدة في مقام الردّ على قولهم : " افتراه " فلأنّه لم يقيّده بكونها مفتراة ، لا من باب التخفيف عليهم بالواحدة بعد عجزهم عن العشر : فيدخل فيه خبر الغيب والتزام الصدق . فعلم من هذا التفصيل : إنّ التحدّي بإعجاز القرآن لذاته في جملته ، والتحدّي ببعض أنواع إعجازه في عشر سور مثله ، وبسورة مثله - كلاهما ثابت في السور المكّيّة قبل نزول آية البقرة وسورتها بعد الهجرة في المدينة المنورة ، ولمّا كان كفّار المدينة الذين يوجّه إليهم الإحتجاج أوّلاً ، وبالذات هم اليهود ، وهم يعدّون أخبار الرسل في القرآن غير دالّة على علم الغيب ؛ تحدّاهم بسورة من مثل النبيّ صلى الله عليه وسلم في أمّيّته ؛ ليشمل ذلك وغيره ، مع بقاء التحدّي المطلق بسورة واحدة مثله على إطلاقه ، غير مقيّد بكونه من مثل محمّد صلى الله عليه وسلم وسيأتي بحث وجوه هذا الإعجاز قريباً . ثمّ قال تعالى : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ } إلخ ، أي فإن لم تأتوا بسورة من مثله ، وتجتثّوا دليله من أصله ، وما أنتم بفاعلين ؛ لأنّ هذا ليس في طاقة المخلوقين ، فاتّقوا النار التي أعدّت لأمثالكم من الكافرين ، الذين يجحدون الحقّ بعد البرهان المبين ، وقوله تعالى : { وَلَن تَفْعَلُواْ } جملة معترضة بين الشرط وجوابه ، وهي مقصودة هنا في ذاتها لما فيها من تقوية الدليل ، وتقرير عجزهم بما يثير حميّتهم ويغريهم بتكلّف المعارضة ، ولا يمكن أن يصدر مثل هذا النفي الاستقباليّ المؤكّد أو المؤبّد من عاقل كالنّبيّ صلى الله عليه وسلم في أمر ممكن عقلا ، لولا أن أنطقه الله الذي خصّه بالوحي ، وهو الذي يعلم غيب السماوات والأرض ، بأنّه غير ممكن لأحد . وعبّر عن نفي وقوع الفعل منهم بأن ، التي يعبّر بها عمّا يشكّ في شرطه ، أو يجزم المتكلّم بعد وقوعه ، ومقتضى القاعدة أن يكون الشرط هنا بإذا ؛ لأنّ المحقّق أنّهم لن يفعلوا كما صرّحت به الآية مع القطع بأنّ الله تعالى منزّه عن الشكّ ، ولكنّ القواعد التي تذكر في علم البلاغة قد ينظر فيها إلى حال المخاطب ، لا حال المتكلّم ، والمعوّل عليه هو ما يقصد المتكلّم أن يبلغه من نفس المخاطب ويودعه في ذهنه ، فهاهنا يخاطب الله المرتابين ، والذين هم في جحودهم وعنادهم كالواثقين الموقنين ، خطاباً يؤذن أوله بأنّ عدم الإتيان بما تحدّاهم به مشكوك فيه ، ولازمه أنّ المعارضة جائزة منهم ، وداخلة في حدود إمكانهم ، خاطبهم بهذا مراعاة لظاهر حالهم التي تومئ إلى القدرة على المعارضة ، وتشير إلى إمكان الإتيان بالسورة ثمّ كرّ على هذا الإيذان - بل الإيهام - بالنقض بلا تلبّث ولا تريّث ، وأبطل مراعاة الظاهر ، بل حوّلها إلى تهكّم ، بالنفي المؤكّد الذي ذهب بذلك الذماء ، واستبدل اليأس بالرجاء ، كأنّه يقول : إنّ إعراضكم عن الإيمان ، بعد سماع هذا القرآن ، الذي أفاض العلوم على أمّيّ لم يتربّ في معاهد العلم ، وأظهر معجزات البلاغة على من لم يكن يعرف منه التبريز بها في نثر ولا نظم ، يدلّ على أنّكم تدّعون استطاعة الإتيان بسورة من مثله ، وما أنتم بمستطيعين ، ولو استعنتم عليه بجميع العالمين . { قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [ الإسراء : 88 ] . كان يتحدّاهم بمثل هذه الآيات الصادعة التي تثير النخوة ، وتهيج الغيرة مع علوّ كعبهم في البلاغة ، ورسوخ عرقهم في أساليبها وفنونها ، في عصر ارتقت فيه دولة الكلام ، ارتقاءً لم تعرف مثله الأيّام ، حتّى كانوا يتبارون فيه ويتنافسون ، ويباهون ويفاخرون ، ويعقدون لذلك المجامع ويقيمون الأسواق ، ثمّ يطيرون بأخبارها في الآفاق . ومع هذا لم يتصدّ أحد منهم للمعارضة ، ولم ينهض بليغ من مصاقعهم إلى المناهضة . أقول : بل تواتر عنهم ما كان " من الإعراض عن المعارضة بأسلات ألسنتهم ، والفزع إلى المقارعة بأسنّة أسلهم " وسفك دمائهم بأسيافهم ، وتخريب بيوتهم بأيديهم ، أفلم يكن الأجدر بمدارة قريش وفحولها ، وغرر بني معدّ وحجولها ، أن يجتمعوا على تأليف سورة ببلاغتهم التي كانوا يتبارون فيها بسوق عكاظ وغيرها من مجامع مفاخراتهم ، ويؤثروا هذا على سوق الخميس بعد الخميس من صناديدهم إلى يثرب لقتال محمّد صلى الله عليه وسلم ومن آمن به " رضي الله عنه " في بدر وأحد ووراء الخندق ، لو كان ذلك مستطاعاً لهم ؟ ومثل هذا يقال في اليهود الذين كانوا بجواره في المدينة ، فأمّنهم على دينهم وأموالهم وأعراضهم ، فأبوا إلاّ إعانة مشركي قومه عليه حتّى أضطرّوه إلى قتالهم ، وإخراج بقيّة السيف من ديارهم . فلا شكّ أنّ الله تعالى قد رفع هذا الكلام إلى درجة لا يرتقي البشر إليها ، وهو تعالى جدّه العالم بمبلغ استطاعتهم ، والمالك لأعنّة قدرتهم . قال المتكلّمون في بلاغة القرآن : إنّنا نجده لم يلتزم شيئاً ممّا كانوا يلتزمون بسجعهم وإرسالهم ، ورجزهم وأشعارهم ، بل جاء على النمط الفطريّ ، والأسلوب العاديّ ، الذي يتسنّى لكلّ إنسان أن يحذو مثاله ، ولكنّهم عجزوا فلم يأتوا ولن يأتي غيرهم بسورة من مثله ، ثمّ نلاحظ أيضاً : أنّ القرآن بهذا الأسلوب قد تحدّى به كلّ من بلغه من العرب ، على تفرّق ديارهم ، وتنائي أقطارهم ، وأرسل الرسول إلى الأطراف يدعو الناس إلى الإيمان به ، فعمّت الدعوة وبلغت مبلغها ، ولم ينبرِ أحد للمعارضة - كما قلنا . ألا يدلّ هذا على نهاية العجز وعمومه ، وإحساس كلّ بليغ بالضعف في نفسه عن الانبراء لمباراته ، والتسامي لمحاكاته ، وعلى أنّ الله تعالى جعله فوق القدر ، خارقاً لما يعتاد من كسب البشر ؟ بلى ، وإنّ لهذا الإعجاز وجهين : أحدهما : كونه معجزاً بذاته ؛ لأنّه في مرتبة لا يمكن لبشر أن يرتقي إليها . وثانيهما : أنّه جاء على لسان أمّيّ ، لبث أربعين سنة لم يوصف بالبلاغة ولم يؤثر عنه شيء من العلم . وقد ذكروا وجوهاً أُخرى للإعجاز ينطوي عليها القرآن : منها قوله هنا : { وَلَن تَفْعَلُواْ } بناء على أنّ المخبر هو الله تعالى . عالم الغيب وما يكون في المستقبل . ومن فائدة هذا القول في عهد نزوله وقبل ظهور تأويله : أنّ قرعه لسمع من لا يؤمن بالغيب ، يقتضي أشدّ التحريض على المعارضة التي يظهر بها العجز ويقوم البرهان بالإعجاز المقتضي للإيمان ، لولا مكابرة المستكبرين لوجدانهم ، وجحود ألسنتهم لما استيقنته قلوبهم . { وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ } [ النمل : 14 ] وأمّا من يؤمن بالغيب ويعقد الخوارق ، فما عليه إلاّ أن ينتهي إلى عجزه ، ويبادر إلى الإيمان به وبرسالة من أنزل عليه ؛ للعلم القطعيّ بأنّه لا يمكن لعاقل أن يجزم بذلك ، إلاّ إذا كان مطّلعاً على الغيب ، فهو خبر عن الله عزّ وجل . قال تعالى مخاطباً للفريقين بعد تسجيل العجز عليهم : { فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ } وهي موطن عذاب الآخرة ، نؤمن بها ؛ لأنّها من عالم الغيب الذي أخبر الله تعالى به ، ولا نبحث عن حقيقتها . ولا نقول إنّها شبيهة بنار الدنيا ، ولا إنها غير شبيهة بها . وإنّما نثبت لها جميع الأوصاف التي وصفها الله تعالى بها كقوله : { ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ } المراد بالحجارة الأصنام كما في قوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] ولا يسبقنّ إلى الفهم أنّها لا توجد إلاّ بوجود الناس والحجارة ، إذ يصحّ أن يكونوا وقودها بعد وجودها . والوقود بالفتح ما توقد به النار ، وبالضمّ مصدر وقد . وسمع المصدر بالفتح أيضاً . وقال بعضهم في تفسير " وقودها " : إنّ الناس بأعمالهم وعبادة بعضهم بعضاً ، وإنحرافهم عن صراط الحقّ المستقيم . والحجارة بعبادة الناس لها : سببان في إيجاد النار وإعدادها لهم . فبذلك كانوا كالوقود الذي تضرم به النار . وفي الكلام تقديم السبب ، وهو الناس والحجارة على المسبّب ، وهو قوله تعالى : { أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ } وبهذا التفسير يظهر الحصر في جملة { وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ } فإنّها اسميّة معرّفة الطرفين . وخصّ الحجارة بالذكر لأنّها أظهر المعبودات عند العرب . والمراد بالكافرين : الذين لا يجيبون دعوة الأنبياء عليهم السلام ، والذين ينحرفون عن أصولها بعد الأخذ بها لبدع يبتدعونها وتقاليد يحدثونها وتأويلات يلفّقونها . فهؤلاء هم الذين أعدّت وهيئت النار لهم ؛ لأنّهم الذين يستحقّون الخلود فيها ، ومْن وَرَدها وروداً ، وانتهى إلى موطن آخر ، فذلك الموطن هو الذي أعدّ له . وليس بعد الدنيا موطن إلاّ الجنّة ، جعلنا الله من أهلها بالتوفيق للتقوى ، أو النار نعوذ بالله منها وممّا يقرّب إليها من قول وعمل . فصل في تحقيق وجوه الإعجاز ، بمنتهى الاختصار والإيجاز إعجاز القرآن : قد ثبت بالفعل ، وتواتر فيه النقل ، وحسبك منه وجود ما لا يحصى من المصاحف في جميع الأقطار التي يسكنها المسلمون ، وكذا في غيرها ، ووجود الألوف من حفّاظه في مشارق الأرض ومغاربها ، وهي تحكي لنا هذه الآيات في التحدّي بإعجازه ، ولو وجد له معارض أتى بسورة مثله لتوفّرت الدواعي على نقلها بالتواتر أيضاً ، بل لكانت فتنةً ارتدّ بها المسلمون على أدبارهم . ولمّا كان إعجازه لمزايا فيه تعلو قدرة المخلوق علماً وحكماً وبياناً للعلم والحكمة ، حار العلماء في تحديد وجه الإعجاز بعد ثبوته بالعلم اليقينيّ ، الذي بلغ حدّ الضرورة في ظهوره ، حتى قال بعض علماء المعتزلة : إنّ إعجازه بالصرفة ، يعنون : إنّ الله تعالى صرف قدرة بلغاء العرب الخلّص في عصر التنزيل عن التوجه لمعارضته فلم يهتدوا إليها سبيلا ، ثمّ تسلسل ذلك في غيرهم واستمرّ إلى عصرنا هذا . وهذا رأي كسول أحبّ أن يريح نفسه من عناء البحث وإجالة قدح الفكر في هذا الأمر ، وللباحثين فيه أقوال ، كتبت فيها فصول وألّفت فيها رسائل وكتب . وقد عقدت هذا الفصل عند طبع هذا الجزء من التفسير لبيانها وإيضاحها ، لما علمت من شدّة حاجة المسلمين أنفسهم إليها ، دع أمر دعوة غيرهم أو الإحتجاج عليهم بها . إعجاز القرآن بأسلوبه ونظمه الوجه الأوّل : إشتماله على النظم الغريب ، والوزن العجيب ، والأسلوب المخالف لما استنبطه البلغاء من كلام العرب في مطالعه وفواصله ومقاطعه . هذه عبارتهم ، وأوردوا عليها شبهتين ، وأجابوا عنهما ، وحصروا نظم الكلام ، منثوره مرسلا وسجعاً ، ومنظومه قصيداً ورجزاً ، في أربعة أنواع ، لا يمكن عدّ نظم القرآن وأسلوبه واحداً منها ، كما يدلّ عليه كلام الوليد بن المغيرة - من أكبر بلغاء قريش الذين عاندوا النبيّ صلى الله عليه وسلم وعادوه إستكباراً ، وجاحدوه إستعلاءً وإستنكاراً . أخرج الحاكم ، وصحّحه والبيهقيّ في دلائل النبوّة عن ابن عبّاس قال : " إنّ الوليد بن المغيرة جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن ؛ فكأنّه رقّ له ، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال : يا عمّ ، إنّ قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوكه ، فإنّك أتيت محمّداً لتعرض لما قِبله ، قال : قد علمت قريش أنّي من أكثرها مالاً ، قال : فقل فيه قولا يبلغ قومك أنّك منكر له ، قال : وماذا أقول ؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر منّي ، لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجنّ ، والله ما يشبه هذا الذي يقول شيئاً من هذا ، ووالله إنّ لقوله الذي يقول لحلاوةً ، وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله ، وإنّه ليعلو وما يعلى ، وإنّه ليحطم ما تحته . قال : والله ما يرضى قومك حتّى تقول فيه . قال : فدعني أفكّر ، فلمّا فكر قال : هذا سحر يؤثر ، يأثره عن غيره . " وكان هذا سبب نزول قوله تعالى : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } [ المدثر : 11 ] الآيات . ولعمري إنّ مسألة النظم والأسلوب لإحدى الكبر ، وأعجب العجائب لمن فكّر وأبصر ، ولم يوفّها أحد حقّها ، على كثرة ما أبدؤا وأعادوا فيها ، وما هو بنظم واحد ولا بأسلوب واحد ، وإنّما هو مائة أو أكثر : القرآن مائة وأربع عشرة سورة متفاوتة في الطول والقصر ، من السبع الطوال التي تزيد السورة فيه على المائة وعلى المائتين من الآيات - إلى السور المئين - إلى الوسطى من المفصّل إلى ما دونها من العشرات ، فالآحاد كالثلاث الآيات فما فوقها ، وكلّ سورة منها تقرأ بالترتيل المشبه للتلحين ، المعين على الفهم المفيد للتأثير ، على اختلافها في الفواصل ، وتفاوت آياتها في الطول والقصر ، فمنها المؤلّف من كلمة واحدة ، ومن كلمتين ، ومن ثلاث ، ومنها المؤلّف من سطر أو سطرين أو بضعة أسطر ، ومنها المتّفق في أكثر الفواصل أو كلّها ، ومنها المختلف في السورة الواحدة منها . وهي على ما فيها - متشابه وغير متشابه في النظم - متشابهة كلّها في مزج المعاني العالية بعضها ببعض ، من صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى ، وآياته في الأنفس والآفاق ، والحكم والمواعظ والأمثال ، وبيان البعث والمآل ، ودار الأبرار ودار الفجّار ، والإعتبار بقصص الرسل والأقوام وأحكام العبادات والمعاملات والحلال والحرام . يقول قائل : إنّ أساليب جميع الفصحاء والبلغاء متفاوتة كذلك ، لا يشبه أسلوب منها أسلوباً ، ولا يستويان منظوماً ولا منثوراً ، فمجرّد اختلاف الأسلوب والنظم لا يصحّ أن يعدّ معجزاً . ونقول : من قال هذا فقد أبعد النجعة ، وأوغلّ في مهامه الغفلة ، فمهما تختلف منظومات الشعراء فلن تعدو بحور الشعور المنقولة عن المتقدّمين ، والتوشيحات والأرجال المعروفة عند المولّدين ، ومهما تختلف خطب الخطباء والمترسّلين من الكتّاب ، والمؤلفين في العلوم والشرائع والآداب ؛ فلن تعدو أنواع الكلام الأربعة التي بدأنا القول بها ، ولا يشبه شيء من هذه ، ولا تلك ، نظم سورة من سور القرآن ولا أكثرها ، ولكلّ منهم نظم وأسلوب خاصّ . فإن شئت أن تشعر سمعك وذوقك بالفرق بين نظم الكلام البشريّ ونظم الكلام الإلهيّ ، فائتِ بقارئ حسن الصوت يسمعك بعض أشعار المفلّقين ، وخطب المصاقع المفوَّهين ، المتقدّمين والمتأخرين ، بكلّ ما يستطيع من نغم وتحسين . ثم ليتل عليك بعد ذلك بعض سور القرآن المختلفة النظم والأسلوب ، كسورة النجم وسورة القمر وسورة الرحمن وسورة الواقعة وسورة الحديد - مثلا - ثمّ حكّم ذوقك ووجدانك في الفرق بينها في أنفسها ، ثمّ في الفرق بين كلّ منها وبين كلام البشر في كل أسلوب من أساليب بلغائهم ، وتأثير كلّ من الكلامين في نفسك . بعد اختلاف وقعه في سمعك . بل تأمّل المعنى الواحد من المعاني المكرّرة في القرآن . لأجل تقريرها في الأنفس ونقشها في الأذهان ، كالإعتبار بأحوال أشهر الرسل مع أقوامهم من مختصر ومطوّل . وافطن لإختلاف النظم والأساليب فيها . فمن المختصر ما في سور الذاريات والنجم والقمر والفجر : ومن المطول ما في سورة الأعراف والشعراء وطه . لعلّك إن تدبّرت هذا تشعر بالبون الشاسع بين كلام المخلوقين وكلام الخالق ، وتحكم بهذا الضرب من الإعجاز حكماً ضروريّاً وجدانيّاً لا تستطيع أن تدفعه عن نفسك وإن عجزت عن بيانه بقولك . ومن اللطائف البديعة التي يخالف بها نظم القرآن نظم كلام العرب من شعر ونثر : إنّك ترى السور ذات النظم الخاصّ والفواصل المقفّاة ، تأتي في بعضها فواصل غير مقفّاة ، فتزيدها حسناً وجمالاً وتأثيراً في القلب : وتأتي ، في بعض آخر - آيات مخالفة لسائر آيها في فواصلها وزناً وقافية ، فترفع قدرها وتكسوها جلالةً وتكسبها روعةً وعظمة ، وتجدّد من نشاط القارئ وترهف من سمع المستمع . وكان ينبغي للخطباء والمترسّلين أن يحاكوا هذا النوع من محاسنه ، وإن كانوا يعجزون عن معارضة السورة في جملتها ، أو الصعود إلى أفق بلاغتها . ومن أعجب هذه السور أوائل سور المفصّل ، بل المفصّل كلّه . قال شيخنا الأستاذ الإمام : كان المعقول أن يحدث القرآن في هذه اللغة من البلاغة في البيان فوق ما أحدثه بدرجات . إعجاز القرآن ببلاغته الوجه الثاني : بلاغته التي تقاصرت عنها بلاغة سائر البلغاء قبله وفي عصر تنزيله وفيما بعده . ولم يختلف أحد من أهل البيان في هذا ، وإنّما أورد بعض المخالفين بعض الشبه على كون بلاغة كلّ سورة من قصار سوره بلغت حدّ الإعجاز فيه ، والقائلون به لا يحصرون إعجاز كلّ سورة فيه ، ويتحقّق التحدّي عندهم بإعجاز بعض السور القصيرة بغيره ، كأخبار الغيب في سورة الكوثر التي هي أقصر سورة ، على أنّ مسيلمة تصدّى لمعارضتها بمحاكاة فواصلها ، فجاء بخزي كان حجّةً على عجزه وصحّة إعجازها . ومن الناس من لا يفقه سرّ هذه البلاغة ويماري فيما كتب علماء المعاني والبيان من قواعدها ، زاعمين أنّه يمكن حمل كلّ كلام عليها ، وأنّ الإحالة على الذوق فيها إحالة على مجهول ، لا تقوم به حجّة ولا يثبت به مدلول ؛ لأنّ الذوق المعنويّ كالحسّيّ ، خاصّ بصاحبه " من ذاق عرف " وسبب هذا جهلهم اللغة العربيّة الفصحى نفسها . فقد مرّت القرون في أثر القرون على ترك الناس لمدارسة الكلام البليغ منها واستظهاره واستعماله ، واقتصار مدارس الأمصار على قراءة كتب النحو والصرف والمعاني والبيان والبديع ، وهي أدنى ما وضع في فنونها فصاحةً وبياناً ، وأشدّها عجمةً وتعقيداً ، وهي الكتب التي اقتصر مؤلّفوها على سرد القواعد بعبارة فنّيّة دقيقة بعيدة عن فصاحة أهل اللغة وعن بيان المتقدّمين الواضعين لهذه الفنون ومن بعدهم إلى القرن الخامس ، كالخليل وسيبويه وأبي عليّ وابن جنّى وعبد القاهر الجرجانيّ ، حتّى صار أوسع الناس علماً بهذه الفنون أجهل قرّاء هذه اللغة بها ، وأعجزهم عن فهم الكلام البليغ منها ، بله الإتيان بمثله . فمن لم يقرأ من كتب البلاغة إلاّ مثل السمرقنديّة وشرحَي جوهر الفنون وعقود الجمان فشرحَي التلخيص للسعد التفتازاني وحواشيهما ، لا يرجى أن يذوق للبلاغة طعماً ، أو يقيم للبيان وزناً ، فأنّى يهتدي إلى الإعجاز بهما سبيلا ، أو ينصب عليه دليلا ؟ وإنّما يرجى هذا الذوق لمن يقرأ أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز للإمام عبد القاهر ، فإنّهما هما الكتابان اللذان يحيلانك في قوانين البلاغة على وجدانك ، وما تجد من أثر الكلام في قلبك وجنانك ، فترى أن علمَي البيان شعبة من علم النفس ، وأنّ قواعدهما يشهد لها الشعور والحس ، ولكنّ لا بدّ - مع ذلك - من قراءة الكثير من منظوم الكلام البليغ ومنثوره ، واستظهار بعضه مع فهمه ، كما قرّر حكيمنا ابن خلدون في الكلام على علم البيان من مقدّمته . فهذا هو الأصل في تحصيل ملكة البلاغة فهماً وأداءً ، والقوانين الموضوعة لها مستنبطة من الكلام البليغ وليس هو مستنبطاً منها ، وقد عكست القضيّة منذ القرون الوسطى حتّى ساغ لمستقلّ الفكر أن يقول في الكتب التي أشرنا إليها وهي التي تقرأ في مدرسة الجامع الأزهر وأمثالها : إنّ قواعدها تقليديّة لا يمكن أن يعلم بها تفاضل الكلام ، إذ يمكن حمل كلّ كلام عليها : ولذلك كان أكثر الناس مزاولةً لها أضعفهم بياناً ، وأشدّهم عيّاً وفهاهة . فمعرفة مكانة القرآن من البلاغة لا يحكمها من الجهة الفنّيّة والذوقيّة ، إلاّ من أوتي حظّاً عظيماً من مختار كلام البلغاء المنظوم والمنثور ، من مرسل ومسجوع ، حتّى صار ملكةً له وذوقاً ، واستعان على فهم فلسفته بمثل كتابي عبد القاهر والصناعتين لأبي هلال العسكريّ والخصائص لابن جنّيّ ، وأساس البلاغة للزمخشريّ ، ومغني اللبيب لإبن هشام . هذه مقدّمات البلاغة ونتيجتها الملكة ، ولها غاية يمكن العلم بها من التاريخ ، وهي ما كان للقرآن من التأثير في الأمّة العربيّة ، ثمّ فيمن حذقها من الأعاجم أيضاً . الحدّ الصحيح للبلاغة في الكلام : هي أن يبلغ به المتكلّم ما يريد من نفس السامع بإصابة موضع الإقناع من العقل ، والوجدان من النفس ( وقد يعبّر عنهما بالقلب ) ولم يعرف في تاريخ البشر أنّ كلاماً قارب القرآن في قوّة تأثيره في العقول والقلوب ، فهو الذي قلب طباع الأمّة العربيّة وحوّلها عن عقائدها وتقاليدها ، وصرفها عن عاداتها وعداواتها ، وصدف بها عن أثرتها وثاراتها ، وبدّلها بأمّيّتها حكمةً وعلماً ، وبجاهليّتها أدباً رائعاً وحلماً ، وألّف من قبائلها المتفرّقة أمّة واحدة سادت العالم بعقائدها وفضائلها وعدلها وحضارتها ، وعلومها وفنونها . اهتدى إلى هذا النوع من إعجازه بعض حكماء أوربّة ، مستنبطاً له من هذه الغاية التاريخيّة ، وبيّنه في الردّ على من زعم من دعاة النصرانيّة أنّ محمّداً صلى الله عليه وسلم لم يؤت مثل ما أوتي موسى وعيسى من الآيات المعجزة ، فقال ما معناه : إنّ محمّداً كان يتلو القرآن مولهاً مدلهاً ، خاشعاً متصدّعاً ، فيفعل في جذب القلوب إلى الإيمان به ، فوق ما كانت تفعل جميع آيات الأنبياء من قبله . وقد رأينا وروينا عن بعض أدباء هذه اللغة من غير المسلمين : إنّهم يذهبون في بعض ليالي رمضان إلى بعض بيوت معارفهم من المسلمين ليسمعوا القرآن ويمتّعوا ذوقهم العربيّ وشعورهم الروحانيّ الأدبيّ بسماع آياته المعجزة . وقد شهد له أهل العلم والإنصاف منهم بهذا الإعجاز في النظم والأسلوب ، والبلاغة يغوص تأثيرها في أعماق القلوب ، ولكنّهم لم يفقهوا دلالة ذلك على أنّه من عند الله عزّ وجل ، وسنبيّنه في آخر هذا البحث . ولو شئت أن أورد الشواهد على هذا الوجه ، لخرجت عن الإختصار الذي التزمته في هذا الفصل ، وإنّك لتجد من التنبيه على عجائبها في كلّ جزء من هذا التفسير ، ما لا تجده في غيره ، حتّى الدقّة في معاني مفرداته ، وتحديد الحقائق في جمله ، ومزج المعاني الكثيرة في أسلوبه ، ولطف التناسب بين آياته وبين سوره . ومن أعجبها ضروب إيجازه التي انفرد بها ، وكثرة تكراره للمعنى الواحد بعبارات لا يملّها قارئ ولا سامع ، وقد نبّهنا في هذا التفسير على الكثير منها . ومن العجب غفلة أكثر طلاّب البلاغة عنها . إعجاز القرآن بما فيه من علم الغيب الوجه الثالث : اشتماله على الإخبار بالغيب من ماض ، كقصص الرسل مع أقوامهم ، وقد تقدّم بعض الكلام فيه ، ومن حاضر في عصر تنزيله ، كقوله تعالى : { غُلِبَتِ ٱلرُّومُ * فِيۤ أَدْنَى ٱلأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ ٱللَّهِ } [ الروم : 2 - 5 ] الآية . وفيها خبران عن الغيب ظهر صدقهما بعد بضع سنين من نزول الآية ، وكان الصدّيق رضي الله عنه راهن بعض المشركين على صدق الخبر فربح الرهان ، وكقوله تعالى : { سَيَقُولُ ٱلْمُخَلَّفُونَ إِذَا ٱنطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ } [ الفتح : 15 ] الآية ، وقوله : { قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } [ الفتح : 16 ] وقوله : { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ } [ الفتح : 27 ] وهذه الثلاثة في سورة الفتح وفيها غيرها أيضاً . وفي سورة التوبة أمثالها من الإخبار عمّا في قلوب المنافقين ، وعمّا سيقولون في بعض المسائل ، ومن أظهر هذه الأخبار : وعده تعالى بحفظ القرآن من النسيان والتغيير ، والتبديل في قوله : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] ووعده بحفظ الرسول في قوله : { وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } [ المائدة : 67 ] دع ما تكرّر في عدّة سور من وعد الله لرسوله وللمؤمنين ، ومن وعيده للكافرين ، كقوله تعالى : { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً } [ النور : 55 ] وكان الأستاذ الإمام يقول : إنّ الله تعالى لمّا ينجز لنا وعده هذا كلّه بل بعضه ، ولا بدّ من إتمامه بسيادة الإسلام في العالم كلّه حتّى أوربّة المعادية له . وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى : { قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } [ الأنعام : 65 ] الآية أنّه قال : " إنّها نبأ غيبيّ عمّن يأتي بعد " بل ورد هذا المعنى في حديث مرفوع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أيضاً . وتجد بيان ذلك في تفسيرها من سورة الأنعام ، ومنه ظهور مصداقها في حرب الأمم الكبرى الأخيرة . فهذه الأخبار الكثيرة بالغيب دليل واضح على نبوّة نبيّنا وكون القرآن من عند الله تعالى ، إذ لا يعلم الغيب غيره سبحانه ولا يمكن معارضتها بما يصحّ بالمصادفة ، أو القرائن أحياناً من أقوال الكهّان والعرّافين والمنجّمين ، فإنّ كذب هؤلاء أكثر من صدقهم ، إن صحّ تسمية ما يتّفق لهم صدقاً منهم ، ولكنّ الناس لا يحصون عليهم أقوالهم ، ولا يبحثون عن حيلهم وتلبيساتهم فيها ، وإنما يذكرون بعض ذلك إذا اقتضته الحال ، كتشنيع أبي تمام على المنجّمين في زعمهم أنّ عموريّة لا تفتح إلاّ عند نضج التين والعنب ، في قصيدته المشهورة التي مطلعها : @ السيف أصدق إنباءً من الكتب @@ ويقول فيها : @ سبعون ألفاً كآساد الشرى نضجت جلودهم قبل نضج التين والعنب @@ وقد قتل في عصرنا وزير من وزراء مصر فوجد الناس في تقويم ( نتيجة ) تلك السنة لأحد المنجّمين نبأً عن قتله ، ومن شأن هذا التقويم أن يكون طبع قبيل دخول السنة التي قتل فيها ، وقد بحث بعض المدقّقين في ذلك فتبيّن له أنّ صاحب هذا التقويم قد طبع الورقة التي ذكر فيها هذا النبأ بعد وقوع القتل ، ووضعها فيه موضع ورقة أُخرى أخرجها منه فأحرقها ، ولكن كان قد بيع بعض النسخ من التقويم فوجد المدقّق المشار إليه بعضها . على أنّ دأب هؤلاء المنجّمين أن يعبّروا عمّا يتوقعون من أنباء المستقبل بآرائهم ، وبقرائن الأحوال وأخبار الصحف الدوريّة ، برموز وكنايات وإشارات يفسّرون بها الوقائع بأهوائهم ، فإن لم يجدوها تحتمل شيئاً منها كتموها ، وتعذّر على غيرهم تكذيبهم فيها . وأمّا ما يعرفه الفلكيّون بالحساب كالخسوف والكسوف ومطالع الكواكب ومغاربها ، فليس من التنجيم ولا من علم الغيب في شيء . إعجاز القرآن بسلامته من الاختلاف الوجه الرابع : سلامته على طوله من التعارض والتناقض والاختلاف ، خلافاً لجميع كلام البشر وهو المراد بقوله تعالى : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } [ النساء : 82 ] وإنّنا نجد كبار العلماء في كلّ عصر يصنّفون الكتاب فيسوّدون ، ثمّ يصحّحون ويبيّضون ، ثمّ يطبعون وينشرون ، ثمّ يظهر لهم ولغيرهم كثير من التعارض والإختلاف والأغلاط اللفظيّة والمعنويّة ولا سيّما إذا طال الزمان ، وهذا أمر مشهور في جميع الأمم . فإن قيل : إنّ غير المؤمنين بالقرآن قد استخرجوا منه بعض الإختلاف والتعارض ، فاضطرّ علماء المسلمين إلى الجواب عنها بما يزعمون أنّه دفع الإيراد ، وأظهر بطلان الإنتقاد ، وإنّ المسلم يقبل ذلك منهم تقليداً ، وإن لم يكن في نفسه سديداً . قلت : إذا كانت عين الرضى متّهمة فعين السخط أولى بالتهمة ، وإنّنا إذا لم نلتفت إلى كلام أعداء القرآن ، الذين يخترعون التهم أو يزيّنونها بخلابة القول : ولا إلى المقلّدين من المسلمين ، وعرضنا ما ذكر من ظواهر الإختلاف على فريق المستدلّين المستقلّين من الفريقين ، نرى أنّه ليس في القرآن تعارض حقيقيّ معنويّ يعدّ مطعناً صحيحاً فيه ، ويرى الناظر في تفسيرنا هذا ، وفي مجلّتنا ( المنار ) بيان كلّ ما علمناه من ذلك مع الجواب المعقول عنه ، ولكنّ هذا النوع من الإعجاز إنّما يظهر في جملة القرآن في السور الطويلة منه لا في كلّ سورة ، فإنّ سلامة السورة القصيرة من ذلك لا يعدّ أمراً معجزاً يتحدّى به . إعجاز القرآن بالعلوم الدينية والتشريع الوجه الخامس : اشتماله على العلوم الإلهية ، وأصول العقائد الدينية ، وأحكام العبادات ، وقوانين الفضائل والآداب ، وقواعد التشريع السياسيّ والمدنيّ والإجتماعيّ ، الموافقة لكلّ زمان ومكان ؛ وبذلك يفضل كلّ ما سبقه من الكتب السماويّة ، ومن الشرائع الوضعيّة ، ومن الآداب الفلسفيّة ، كما يشهد بذلك أهل العلم المنصفون من جميع الأمم الشرقيّة والغربيّة ، من آمن منهم بكونه من عند الله تعالى أنزله على رسوله الأمّيّ ، ومن لم يؤمن بذلك ، حتّى كبراء السياسيّن من خصوم الدول الإسلامية كلورد كرومر عميد الدولة البريطانيّة بمصر ، فإنّه شهد في تقريره السنويّ الأخير عن مصر ، بنجاح الإسلام الباهر في التشريع الدينيّ دون التشريع الاجتماعيّ والسياسيّ ، وعلّل الأخير بأنّ ما وضع منذ أكثر من ألف سنة لا يمكن أن يوافق مصالح جميع الناس الآن وفي كلّ آن ، فكتبتُ إليه يومئذ كتاباً سألته فيه هل يعني بأحكام الشريعة ، الكتاب والسنّة ، أم الفقه الذي وضعه العلماء ومزجوا فيه آراءهم بما يأخذونه عنهما وخالف فيه بعضهم بعضا ؟ وأنّه إن كان يعني الكتاب والسنة فأنا مستعدّ لإظهار خطئه له فكتب إليّ كتاباً قال فيه " إنّني عنيت بما كتبت مجموع القوانين الإسلامية التي تسمّونها الفقه ؛ لأنّها هي التي تجري عليها الأحكام ، ولم أعن الدين الإسلاميّ نفسه " إلخ . ولا شكّ أنّ هذا الوجه من أظهر وجوه الإعجاز ، فإنّ علوم العقائد الإلهية والغيبيّة والآداب والتشريع الدينيّ والمدنيّ والسياسيّ هي أعلى العلوم ، وقلّما ينبغ فيها من الذين ينقطعون لدراستها السنين الطوال ، إلاّ الأفراد القليلون ، فكيف يستطيع رجل أمّيّ لم يقرأ ولم يكتب ولا نشأ في بلد علم وتشريع ، أن يأتي بمثل ما في القرآن منها تحقيقاً وكمالاً ، ويؤيّده بالحجج والبراهين بعد أن قضى ثلثي عمره لا يعرف شيئاً منها ، ولم ينطق بقاعدة ولا أصل من أصولها ، ولا حكم بفرع من فروعها ، إلاّ أن يكون ذلك وحياً من الله تعالى ؟ إعجاز القرآن بعجز الزمان عن إبطال شيء منه الوجه السادس : أنّ القرآن يشتمل على بيان كثير من آيات الله تعالى في جميع أنواع المخلوقات ، من الجماد والنبات والحيوان والإنسان ، ويصف خلق السماوات وشمسها وقمرها ودراريها ونجومها ، والأرض والهواء والسحاب والماء من بحار وأنهار وعيون وينابيع . وفيه تفصيل لكثير من أخبار الأمم ، وبيان لطريق التشريع السويّ الأمم ، وقد حفظ ذلك كلّه فيه بكلمه وحروفه منذ ثلاثة عشر قرناً ونيّف ، ثمّ عجزت هذه القرون ، التي ارتقت فيها جميع العلوم والفنون ، أن تنقض بناء آية من آياته ، أو تبطل حكماً من أحكامه ، أو تكذّب خبراً من أخباره ، وهي التي جعلت فلسفة اليونان دكّاً ، ونسخت شرائع الأمم نسخاً ، وتركت سائر علوم الأوائل قاعاً صفصفاً ، ووضعت لأخبار التاريخ قواعد فلسفيّة ، ورجعت في تحقيقها إلى ما عثر عليه المنقّبون من الآثار العاديّة ، وحكّمت فيها أصول العمران ، وما يسمّونه سنن الإجتماع ، بحيث لم يبق لعلماء الأوائل كتاباً غير مدعثر الأعضاد ، ساقط العماد . وهذا النوع من أنواع الإعجاز ، غير ما تقدّم من سلامته من التعارض والإختلاف ، فتلك في الماضي ، وهذه في الحاضر والمستقبل ، ذاك الاختلاف يقع من الناس بقلّة العرفان ، وبضعف البيان ، أو بما يطرأ على صاحبه من الذهول والنسيان ، يريد بيان شيء فيخونه قلمه ولسانه ، ويعوزه أن يحيط بأطرافه ، وأن يجليه تمام التجلّي لقارئ كلامه أو سامعه ، ثمّ يقول فيه قولا آخر على علم فتواتيه العبارة فيؤدّي المراد ، فيختلف ما أبدأ مع ما أعاد ، أو يقول القول ثمّ ينساه ، فيأتي بما يخالفه في معناه ، أو يتكلّم بما لا يعلم ، فيهرف بما لا يعرف ، وذلك عيب في الكلام وضعف في المتكلّم هو من شأن البشر . إنّ ما يأخذه الناس من المسائل العلميّة والفلسفيّة بالتسليم في زمانهم ، ثمّ يظهر ما يبطل تلك المسلّمات ، وينقض ما بنيت عليه من النظريّات ، لا يعدّ عيباً في قائله ، ولا ضعفاً في بيانه ، وإن كان موضوعه بيان تلك المسائل نفسها ؛ لأنّه ممّا لا يسلم منه البشر ، وأمّا من يتكلّم في بعض مسائل الموجودات لبيان العبرة فيها ، أو الحثّ على الإستفادة منها ، لا لبيان حقيقتها في نفسها ، أو صفاتها الفنّيّة عند أهل فنّها ، فهو لا يكلّف أن يبيّن تلك الحقيقة أو تلك الصفات - التي لا تتعلّق بغرضه من الكلام - بالإصطلاحات العلميّة والفنّيّة ، وقد ينتقد منه هذا إذا كان ممّا يصرف السامع عن مراده منه ، أو يوجب نقصاً في استفادته منه ، كما هو شأن الذين يعظون دهماء الناس من جميع الطبقات ، ويضربون لهم الأمثال بآيات الله تعالى ونعمه فيما سخّر لهم من المخلوقات ، فإذا كان هذا النوع من الكلام الذي لا يعاب فيه مخالفته للمسائل الفنّيّة - وقد يعاب فيه تكلّف موافقتها - جاء مع ذلك إمّا موافقاً ، وإمّا غير مخالف لمعارف أهل العصر الذي خوطب أهله به ، ثمّ تبيّن أنّ بعض هذه المعارف كانت جهلا ، وظهر أنّه هو موافق لما تجدّد من العلم الحقّ والتشريع العدل ، أو غير مخالف له ، فلا شكّ في أنّ هذه تعدّ له مزيّة خارقة للمعتاد في البشر . وقد ثبت هذا للقرآن وحده ، فهو كتاب مشتمل على كثير من أمور العالم الكونيّة والإجتماعيّة مرّت العصور وتقلّبت أحوال البشر في العلوم والأعمال ولم يظهر فيه خطأ قطعيّ في شيء منها ؛ لهذا صحّ أن تجعل سلامته من هذا الخطأ ضرباً من ضروب إعجازه للبشر ، وإن لم يكن هذا ممّا تحدّى به الرسول صلى الله عليه وسلم من عجز البشر عن مثله ؛ لأنّه لم يكن ليظهر إلاّ من بعده ، فادّخر ليكون حجّة على أهله . فإن قيل : إنّ الطاعنين في الإسلام من الملاحدة ودعاة النصرانيّة ، يزعمون أنّ العلوم والفنون العصريّة ، من طبيعيّة وفلكيّة وتاريخيّة ، قد نقضت بعض آيات القرآن في موضوعها ، وأنّ التشريع العصريّ أقرب إلى مصالح البشر من تشريعه . قلت : إنّنا قد اطّلعنا على أقوالهم في ذلك ، فألفينا أنّ بعضها جاء من سوء فهمهم أو فهم بعض المفسّرين ، ومن جمود الفقهاء المقلّدين ، وبعضها من التحريف والتضليل . وقد رددنا نحن وغيرنا ما وقفنا عليه منها . وإنّما العبرة بالنقض الذي لا يمكن لأحد أن يماري فيه مراءً ظاهراً مقبولا ، ولو وجد شيء من هذا في القرآن لاضطرب العالم له اضطراباً عظيماً ، كما أنّ العبرة في التشريع بما جمع بين المصلحة العامّة والفضيلة والرحمة ، والتشريع الإسلامي يفضل التشريع الأوروبّيّ المادي بهذا ويسبقه إلى السؤال ، وقد سبقه إلى العدل والمساواة . فإن قيل : إنّ كهنة أهل الكتاب يدّعون مثلكم أنّ كتبهم المقدّسة سالمة من التعارض والتناقض ومخالفة حقائق الوجود الثابتة ، ويتكلّفون مثلكم لردّ ما يورده عليهم علماء الكون والمؤرّخون مخالفاً لتلك الكتب . قلت : إنّ هذا النوع من مخالفة كلام الخالق لكلام الخلق ، يجب أن يكون مشتركاً بين القرآن وغيره من الكتب الإلهيّة كالتوراة والإنجيل ، لو بقيت كما أنزلت من غير تحريف ولا تبديل ، ومن المعلوم من التاريخ بالقطع عندنا وعندهم أنّ التوراة التي كتبها موسى عليه السلام ووضعها في التابوت ( صندوق العهد ) وأخذ الميثاق على بني إسرائيل بحفظها ، كما هو منصوص في آخر سفر ( تثنية الاشتراع ) قد فقدت من الوجود عندما أغار البابليّون على اليهود وأحرقوا هيكل بيت المقدس ، والتوراة الموجودة الآن ، يرجع أصلها إلى ما كتبه عزرا الكاهن ، بأمر ( أرتحشستا ) ملك فارس ، الذي أذن لبني إسرائيل بالعودة إلى أورشليم ، وأذن له أن يكتب لهم كتاباً من شريعة الربّ وشريعة الملك ، ولذلك تكثر فيها الألفاظ البابليّة كثرةً فاحشة ، وقد بيّنّا تحقيق ذلك في تفسير أوّل سورة آل عمران وبعض آيات من سورة النساء والمائدة . كما بيّنّا أنّ إنجيل المسيح عليه السلام ، لم يدوّن في عصره ، ولم ينقل عنه وعن الحواريّين ، كما نقل القرآن تواتراً بالحفظ والكتابة ، ولا كنقل الحديث بالأسانيد المتّصلة . وإنّما ظهرت هذه الأناجيل التي هي قصص مختصرة له ، واشتهرت بعد ثلاثة قرون ، كما ظهر عشرات غيرها فأعتمد أربعة منها رؤساء الكنيسة التي أسّسها قسطنطين ملك الروم الذي تنصّراً سياسيّاً وأدخل النصرانيّة في دور جديد ممزوج بالوثنيّة ورفضوا الباقي ، كما بيّنّاه مفصّلاً في الآيات التي أشرنا إليها آنفاً في الكلام على التوراة . إعجاز القرآن بتحقيق مسائل كانت مجهولة للبشر الوجه السابع : اشتمال القرآن على تحقيق كثير من المسائل العلميّة والتاريخيّة التي لم تكن معروفة في عصر نزوله ، ثمّ عرفت بعد ذلك بما انكشف للباحثين والمحقّقين من طبيعة الكون وتاريخ البشر وسنن الله في الخلق ، وهذه مرتبة فوق ما ذكرناه في الوجه السادس من عدم نقض تقدّم العلوم لشيء ممّا فيه ، ولا تدخل في المراد من أخبار الغيب المبيّنة في الوجه الخامس ، وإن كان لبعضها اتّصال بقصص الرسل عليهم السلام . ونحن ننبّه على كلّ ما علمناه من هذا النوع في محلّه من تفسيرنا هذا ، ونشير هنا إلى بعضه : فمن ذلك قوله تعالى : { وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } [ الحجر : 22 ] كانوا يقولون فيه إنّه تشبيه لتأثير الرياح الباردة في السحاب بما يكون سبباً لنزول المطر بتلقيح ذكور الحيوان لإناثه ، ولما اهتدى علماء أوربّة إلى هذا وزعموا إنّه ممّا لم يُسبقوا إليه من العلم ، صرّح بعض المطّلعين على القرآن منهم بسبق العرب إليه . قال مستر ( أجنيري ) المستشرق الذي كان أستاذ اللغة العربيّة في مدرسة أكسفورد في القرن الماضي : إنّ أصحاب الإبل قد عرفوا أنّ الريح تلقّح الأشجار والثمار قبل أن يعلمها أهل أوربّة بثلاثة عشر قرناً . اهـ . نعم ، إنّ أهل النخيل من العرب ، كانوا يعرفون التلقيح إذ كانوا ينقلون بأيديهم اللقاح من طلع ذكور النخل إلى إناثها ، ولكنّهم لم يكونوا يعلمون أنّ الرياح تفعل ذلك ، ولم يفهم المفسّرون هذا من الآية ، بل حملوها على المجاز . ومنه قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } [ الأنبياء : 30 ] أي أكذّب الذين كفروا بآياتنا ولم يعلموا أنّ السماوات والأرض كانتا مادّة واحدة ففتقناهما وخلقنا منها هذه الأجرام السماويّة التي تظلّهم ، وهذه الأرض التي تقلّهم ، وهذه المادّة هي المبيّنة في قوله تعالى : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] إلخ . وهذا شيء لم يكن يعرفه العرب ولا غيرهم من أهل الأرض . وكذلك خلق كلّ الأشياء من الماء وهو أصرح في الآية ممّا قبله ومنه قوله تعالى : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } [ الذاريات : 49 ] وقوله : { وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ } [ الرعد : 3 ] وهذه السنّة الإلهية في النبات أصل لسنّة التلقيح المذكورة آنفاً ، فإنّ المراد بها أنّ الريح تنقل مادّة اللقاح من الذكر إلى الأنثى كما تقدّم ، وفي هذا المعنى عدة آيات ، أعمّها وأغربها وأعجبها قوله تعالى : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [ يس : 36 ] . ومنه قوله تعالى : { وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ } [ الحجر : 19 ] إنّ هذه الآية هي أكبر مثال للعجب بهذا التعبير ( موزون ) فإنّ علماء الكون الأخصّائيّين في علوم الكيمياء والنبات قد أثبتوا أنّ العناصر التي يتكوّن منها النبات مؤلّفة من مقادير معينة في كلّ نوع من أنواعه ، بدقّة غريبة لا يمكن ضبطها إلاّ بأدقّ الموازين المقدّرة من أعشار الغرام والملّيغرام : وكذلك نسبة بعضها إلى بعض في كلّ نبات ، أعني أنّ هذا التعبير بلفظ " كلّ " المضاف إلى لفظ " شيء " الذي هو أعمّ الألفاظ العربيّة الموصوف بالموزون : تحقيق لمسائل علميّة فنيّة لم يكن شيء منها يخطر ببال بشر قبل هذا العصر ، ولا يمكن بيان معناها بالتفصيل إلاّ بتصنيف كتاب مستقلّ . ومنه قوله تعالى : { يُكَوِّرُ ٱللَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّـهَارَ عَلَى ٱللَّيْلِ } [ الزمر : 5 ] تقول العرب : كار العمامة على رأسه إذا أدارها ولفّها ، وكوّرها بالتشديد صيغة مبالغة وتكثير ، فالتكوير في اللغة : إدارة الشيء على الجسم المستدير كالرأس ، فتكوير الليل على النهار نصّ صريح في كرويّة الأرض وفي بيان حقيقة الليل والنهار على الوجه المعروف في الجغرافية الطبيعيّة عند أهلها . ومثله قوله تعالى : { يُغْشِي ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً } [ الأعراف : 54 ] . ومنه قوله تعالى : { وَٱلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا } [ يس : 38 ] - إلى قوله - { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] فهو موافق لما ثبت في الهيئة الفلكيّة ، مخالفاً لما كان يقوله المتقدّمون . ومنه الآيات المتعدّدة الواردة في خراب العالم عند قيام الساعة ، وكون ذلك يحصل بقارعة تقرع الأرض قرعاً ، وتصخّها فترجّها رجّاً ، وتبسّ جبالها بسّاً فتكون هباءً منبثّاً ، وحينئذٍ تتناثر الكواكب ، لبطلان ما بينها من سنّة التجاذب . والآيات في هذا وفيما قبله تدلّ دلالة صريحة على بطلان ما كان يقوله علماء اليونان ، ومقلّدتهم من علماء العرب في الأفلاك والكواكب والنجوم ، وعلى إثبات ما تقرّر في الهيئة الفلكيّة العصريّة في ذلك وفي نظام الجاذبيّة العامّة : ويجد القارئ تفصيل هذا في عدّة مواضع من هذا التفسير . فهذا النوع من المعارف التي جاءت في سياق بيان آيات الله وحكمه ، كانت مجهولة للعرب أو لجميع البشر في الغالب . حتّى إنّ المسلمين أنفسهم كانوا يتأوّلونها ويخرجونها عن ظواهرها ؛ لتوافق المعروف عندهم في كلّ عصر من ظواهر وتقاليد ، أو من نظريّات العلوم والفنون الباطلة . فإظهار ترقّي العلم لحقيقتها المبيّنة فيه ، ممّا يدلّ على أنّها موحىً بها من الله تعالى . هذه أمثلة من مسائل العلوم الكونيّة والفنون الطبيعيّة التي خطرت بالبال عند الكتابة من غير تفكّر ولا مراجعة ، إلاّ لأعداد الآيات والسور ، ولا بدّ من تعزيزها ببعض الأمثلة الخاصّة بالتاريخ ، وليس التاريخ من حيث هو تاريخ حدّ من العلوم التي تطلب من الكتاب الإلهيّ ، ولم يذكر فيه شيء منه بقصد سرد حوادث التاريخ ، وإنّما جاء ما جاء فيه من ذكر أمم الرسل للعظة والإعتبار ، وبيان سنن الله تعالى في الأمم والأقوام ، وتثبيت قلب خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم . كما أنّ ذكر السماوات والأرض وما بينهما ، وما في الأرض من المواليد الثلاثة لم يذكر شيء منه لبيان حقائق الموجودات في أنفسها ، وإنّما ذكرت في سياق آيات الله تعالى الدالّة على علمه وقدرته وحكمته ورحمته وفضله على عباده ، إلخ . وقد تضمّن كل من هذا وذاك بدقّة التعبير وإعجاز البيان ، آياتٌ أُخرى تظهر آناً بعد آن ، دالّة على أنواع من إعجاز القرآن ، وكونه وحياً من الرحمن ، فكتابه تعالى مظهر لقوله : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [ الرحمن : 29 ] . أكتفي من هذا النوع الذي له علاقة بالتاريخ ، بمسألة عظيمة الشأن تشتمل على شواهد كثيرة منه ، وهي حكم القرآن الحقّ على التوراة والإنجيل اللذين كان يدين الله تعالى بهما أعظم شعوب الأرض مكانةً في العالم ، وأوسعهم علماً وحضارة ، ولا يزال الكثيرون منهم يقدسّونهما ، مع بيان بعضهم لما نقض العلم منها ، وكذا سائر الكتب التي يعبّرون عن مجموعها بالعهدين القديم والجديد . ما هذا الحكم الذي صدر من عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم ، على لسان عبده ورسوله النبيّ الأمّيّ ، الذي لم يقرأ في حياته سفراً ، ولم يكتب سطراً ، ولم يحط بشيء من أخبار التاريخ خبراً ؟ ملخّص هذا الحكم . إنّ أهل الكتاب من اليهود والنصارى قد أوتوا نصيباً منه ، ونسوا نصيباً وحظّاً منه ، فلم يحفظوه كلّه ، ولم يضيّعوه كلّه ، وأنّهم حرّفوا ما أوتوه عن مواضعه تحريفاً لفظيّاً ومعنويّاً كما يفيده الإطلاق ، وأنّهم غلوا في دينهم فزادوا فيه ما لم يأذن به الله . واتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ، يحلّون لهم ويحرّمون عليهم ما لم يشرّعه الله ، وأنّهم قصّروا في إقامته من جهة أخرى ، فعملوا بما يوافق أهواءهم منه وتركوا ما يخالفها ، كمن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض ، وأنّ اليهود قالوا على مريم بهتاناً مبيناً ، والنصارى غلوا فيها غلوّاً عظيماً ، فقالوا : إنّ الله هو المسيح ابن مريم وقالوا ؛ ثالث ثلاثة { وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } [ المائدة : 73 ] ، إلخ . ما نطقت به الآيات التي يجد القارئ في تفسيرنا هذا تفصيلها ، مع تفسيرها الحقّ المؤيّد بالتاريخ الصحيح الذي حقّقه علماء أوربّة وغيرهم بعد الإسلام ، المصدّق للقرآن الحكيم في حكمه الذي كان مجهولا - بتفصيله - عند جميع الناس وقد قام في هذه السنين بعض كبار رجال الدين في بلاد الإنكليز ، يكتبون في الجرائد ما قرّروه في جمعيّات الكنائس : من أنّ الإنجيل لا يثبت ألوهيّة المسيح . وقد نشرنا بعض ما أطّلعنا عليه في الجرائد الإنكليزية من هذه التحقيقات وسننشر غيره في مجلّتنا الإسلامية ( المنار ) . وقد ثبت عندنا : إنّ مستقلّي الفكر من أهل أوربّة : بين مؤمن بما جاء به القرآن من حقيقة أمر المسيح ، وهو أنّه بشر ممتاز بروح قدسيّة من الله ، ونبيّ له - ولكنّ أكثرهم لا يعلمون أنّه مما جاء به القرآن - وبين كافر به - وأمّا عقيدة الكنيسة بربوبيّته وألوهيّته فهي محصورة في رجالها وعامّة المقلّدين لهم ، وقد أخبرني قسّيس كبير من الكاثوليك حرّمته الكنيسة وأخرجته من طغمة كهنتها : إنّ كبار علمائها موحّدين كالمسلمين ، ولولا خشية ارتداد العوامّ لصرّحوا بالتوحيد وبنفي التثليث ، كبعض قسوس البروتستنت . ولا يزال الموحّدون يكثرون في أوربّة والولايات المتّحدة الأميركانيّة عامّاً بعد عام ، ويقربون من الإيمان بالقرآن ( الله أكبر الله أكبر ، إنّهم سوف يفعلون ) . فمن أين جاءت هذه الحقائق لمحمّد بن عبد الله الأمّيّ بعد ثلاث وأربعين سنة عاش معظمها في عزلة عن العالم وعلومه ، رعى في أوائلها الغنم في جبال مكّة وشعابها ، وانجر في أثنائها سنين قليلة قلّما كان يعاشر فيها أحداً ، وهي التي ظلّ المسلمون يجهلون مراد القرآن منها بالتحقيق والتفصيل ، حتّى بعد فتحهم للعالم واطّلاعهم على علومه وتواريخه ، إلى أن وصل علم التاريخ وغيره إلى الدرجة المعروفة . كان بعض أهل الكتاب والملاحدة من غيرهم يرون أنّ أكبر الشبهات على ما في القرآن من قصص الرسل وأقوامهم ، حسبانها مقتبسةً من هذه الكتب المقدّسة عند القوم ومما كانوا عليه من التقاليد والمذاهب ، بإحتمال أنّه صلى الله عليه وسلم سمعها من بعضهم في أثناء سفره بالتجارة إلى الشام . وكانوا يعدّون ما خالف تلك الكتب من آيات القرآن خطأً سببه عدم جودة الحفظ أو خطأ ممّن سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك منهم ، أو تعمّداً منهم لغشّه ، كما غشّ بعض اليهود - الذين ادّعوا الإسلام خداعاً - بعض الصحابة والتابعين بأخبار كثيرة أدخلوها في تفسير القرآن وكتب الوعظ والرقائق . وكان من الأدلّة على دحض هذه الشبهة : إنّه لا يعقل أن يكون محمّد صلى الله عليه وسلم تلقّى كلّ هذه القصص عن بعض أهل الكتاب في رحلته إلى الشام مع عمّه أبي طالب وهو ابن تسع سنين أو 12 سنة ، ولا في رحلته مع ميسرة مولى خديجة رضي الله عنها وهو وإنْ كان في هذه الرحلة شابّاً له 25 سنة ، إلاّ أنّه لم ينفرد دون ميسرة وسائر تجّار قريش لدراسة ولا غيرها ، بل لم يلبثوا إلاّ أيّاماً في بلدة ( بصرى ) باعوا واشتروا وعادوا ، ولا يعقل أن يكون سمع فيها أخبار جميع الرسل سرّاً أو جهراً ، وحفظها من هذه الكتب حفظاً ، ثمّ لخّصها بعد عشرين سنة تقريباً في هذه السور - ولم يجد أهل مكّة عليه شبهةً في هذا الباب إلاّ وقوفه أحياناً على قين ( حدّاد صانع للسيوف ) روميّ كان بمكّة ، فقالوا : إنّه هو الذي يعلّمه ، وهو لم يكن يحسن العربيّة وفيه نزل : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } [ النحل : 103 ] وقد تقدّم في مسألة اشتمال القرآن على أخبار الغيب الماضية من هذا البحث تصريح الآيات بأنّه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم ما قصّته السور منها ولا قومه ، ولم يمكن لأحد من خصومه المشركين أن يكذّب أو يماري في ذلك . هذا وإنّ ما لخّصناه هنا من حكم القرآن عليها يثبت أنّه حكم عليّ نزل من فوق السماوات العلى ، حكم العليم الحكيم الحكم العدل المهيمن ، وأنّ تحقيق المحقّقين من مؤرّخي الأمم وتحقيق العقلاء من البشر قد أثبت ما أثبته هذا الحكم ، وقد نفى ما نفاه ، أليس هذا أنصع برهان على كونه حكم الله ، لا حكم عبده محمّد بن عبد الله ؟ بلى والله ، ثمّ بلى والله ، ثمّ بلى والله ، لا يماري في ذلك إلاّ متعصّب أضلّه الله . ومن قرأ التوراة والإنجيل ثمّ قرأ ما في القرآن من أخبار الرسل يرى أمراً آخر ، يرى أنّ القرآن بيّن صفوة ما فيهما من صحّة عقيدة ، ومن أدب وفضيلة ، ومن عبرة وموعظة ، ومن أسوة بالأخيار حسنة . وسكت عن كلّ ما فيهما ممّا ينافي ذلك ويخلّ به ، أو يجعل أفضل البشر قدوة سيّئة ، وصرّح بنقض ما طرأ على أهل الكتاب من نزغات الشرك والوثنيّة . فإن فرضنا - تنزّلا - أنّ هذا من صنع محمّد بن عبد الله الأمّيّ ، أفلا يكون برهاناً على أنّه هو في شخصه أرقى من جميع الأنبياء والمرسلين علماً وعقلا وهداية وإرشاداً ؟ بلى ، ولكن كيف يعقل حينئذٍ أن يكونوا أنبياء مرسلين ، وموحىً إليهم من الله ، أو ملهمين ؟ الحقّ أن نفي نبوّته صلى الله عليه وسلم يقتضي نفي النبوّة وإبطال الرسالة من أصلها ؛ لأنّها هي التي تعقل لذاتها ، وإنّما يظهر ثبوت غيرها بالتبع لثبوتها . وإنّنا رأينا بعض الكافرين بالوحي ، من الباحثين المستقلّي الفكر ، يفضّلون محمّداً صلى الله عليه وسلم على جميع الخلق ، ومنهم الدكتور شبلي شميل السوريّ المشهور ، فقد صرّح بذلك قولاً وكتابة ، وأثبته نظماً ونثراً . وقد آن أن نبيّن وجه دلالة القرآن على نبوّته صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ، ومن آمن به وشاركهم في الإهتداء بهديه من بعده إلى يوم القيامة . وجه دلالة القرآن على نبوّة محمّد صلى الله عليه وسلم تمهيد : الإيمان بالنبوّة والرسالة ، ينبني على الإيمان بالربوبيّة والإلهية . فلا يخاطب بإثباتها والدليل عليها ، إلاّ من يؤمن بالله تعالى وصفاته ، من العلم والحكمة والمشيئة والقدرة وتدبير أمر العالم . وأكثر البشر يؤمنون بوجود الخالق المدبّر صاحب السلطان الغيبيّ ؛ لأنّه ممّا أودع في الفطرة البشريّة ، ولا يعقل هذا النظام المشاهد في العالم بدونه ، كما هو مقرّر في مواضعه ، ولكنّ الكثيرين يخطئون في فهم صفاته والكلام في تدبيره وتقديره ، لإختلاف أنظارهم وتقاليدهم في ذلك . والذين حرموا هذا الإيمان قسمان : همج من سكان الغابات الوحشيّة ، وأصحاب شبهات طارئة . ومثل الأوّل مثل الخداج الذي يولد ناقصاً . ومثل الثاني مثل من يصاب ببعض مشاعره أو أعضائه . ومراكز الإدراك في المخّ يصاب بعضها بالمرض أو الضعف دون بعض . فلا يغترّنّ أحد من المتّقين بكفر بعض المتقنين لبعض العلوم والفنون ، الذين شغلتهم الصنعة عن الصانع . كما شغل حبّ ليلى مجنون بني عامر عن شخصها ، حتّى قيل : إنّها زارته فلم يحفل بها . وأكثر الذين يؤمنون بالله تعالى ، يؤمنون بالرسل الذين خصّهم الله بنوع من العلم والهدى بغير تعلّم ولا كسب ، وأيّدهم بآيات منه دانت لها عقول المستعدّين للهداية ، وخضعت قلوبهم فآمنوا واهتدوا . وكانت حالهم البشريّة بعد الإيمان والهدى ، خيراً ممّا كانوا عليه هم وآباؤهم قبل ذلك صلاحاً . وقد بعث الله تعالى رسلاً إلى جميع الأمم ، دعوها إلى أصول الدين الثلاثة المبيّنة في قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 62 ] . فالرسل عليهم السلام كانوا متّفقين في الدعوة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح . وإنّما كانوا يختلفون في تفصيل الأعمال الصالحة والشرائع المصلحة بحسب اختلاف إستعداد أممهم . وقد طرأت على أتباعهم من بعدهم بدع وثنيّة وخرافيّة ، وضاعت أكثر تعاليمهم من الأمم القديمة ، وإنّما بقيت بقيّة صالحة منها عند المتأخّرين من اليهود والنصارى فيها من الشوائب ما أشرنا إليه آنفاً . وكذلك بقيت في جميع الأديان القديمة ، آثار تاريخيّة تدلّ على توحيد الله تعالى ، كما يراه في تاريخ قدماء المصريّين والفرس واليونان ، ووثنيّ الهند واليابان والصين . وممّا حفظ من أخبار أنبياء بني إسرائيل : إنّ الله تعالى أيّدهم بالإخبار عن بعض المغيّبات ، وأيّد المرسلين منهم ، كموسى وعيسى - عليهم السلام أجمعين - بآيات أُخرى من خوارق العادات ، فقامت بها حجّتهم على الناس ، فآمن بها المستعدّون ، وكابرها المعاندون المتكبّرون ، وأعرض عنها المقلّدون الجامدون . المقصد : قد اختلف علماء الكلام في وجه دلالة المعجزة على نبوّة من ظهرت على يديه ، ورسالته - أي على كون ما يدعو إليه من العقائد والفضائل والأعمال الصالحة وحياً من ربّ العالمين - فقال بعضهم : إنّها دلالة عقليّة ، ورجّح الأكثرون : إنّها وضعيّة ، بمعنى أنّ تأييد الله تعالى إيّاه بعد التحدّي بها في معنى قوله تعالى : " صدق عبدي فيما يبلّغ عنّي " ومن المعلوم الذي لا مراء فيه : إنّ الذين آمنوا بالرسل في عصرهم وبعد عصرهم من العقلاء والأذكياء ، وجدوا في أنفسهم اعتقاداً إضطراريّاً ، بأنّ ظهور ما لا يقدر عليه غير الله تعالى على أيديهم ، عقب ادعائهم ما ادّعوه وطلبهم من الله تعالى أن يصدّقهم ، ويعطيهم آية ، تدلّ على تصديقه إيّاهم فيه : دليل على أنّه هو الذي فعله لأجل تصديقهم ، فسمِّ الدلالة عقليّة ، أو سمّها وضعيّة ، أو اجمع بين التسميتين ، إن شئت . وقال العلماء : إنّ الله تعالى كان يعطي كلّ رسول من الآيات ما يناسب حال قومه وأهل عصره . فلمّا كان قوم فرعون أهل علوم رياضيّة وطبيعيّة ، وأولي سحر وصناعة ، آتى رسوله موسى آيات كان العلماء والسحرة أعلم الناس بأنّها من عند الله ، لا من كسب موسى ولا من صناعته . ولمّا كان الرومانيّون - أولى السلطان في قوم عيسى والسيادة في بلادهم - أهل علم واسع بالطبّ ، آتاه من الآيات إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الميّت ؛ ولمّا كانت العرب قد إرتقت في لغتها فصاحة وبلاغة إلى درجة لم تتّفق لغيرها ؛ لأنّ أذكياءها قد رجّهوا جميع قواهم العقليّة والخياليّة إلى إتقانها ؛ جعل الله تعالى آية محمّد الكبرى إليهم كتاباً معجزاً لهم ولسائر الخلق في نظمه وأسلوبه وفصاحته وبلاغته ، فقامت عليهم الحجّة به ، بأقوى ممّا قامت آيات موسى وعيسى على قومهما . وفي هذا القول من التقصير في حجّة القرآن ما علمت . والحقّ الذي يقال في هذا المقام : إنّ ما أيّد الله تعالى به رسله من الآيات الكونيّة كان مناسباً لحال زمان كلٍّ منهم وأهله ، وقامت الحجّة على من شاهد تلك الآيات في عهده ، ثمّ على من صدّق المخبرين من بعده . وقد علم الله تعالى أنّ سلسلة النقل ستنقطع ، وأنّ ثقة بعض المتأخّرين به ، ولا سيّما بعد انقطاع سلسلته ستضعف ، وأنّ دلالتها على الرسالة ستنكر ؛ فجعل الآية الكبرى على إثبات رسالة خاتم النبيّين علميّة دائمة لا تنقطع ، وهي هذا الكتاب المعجز للخلق بما فيه من أنواع الإعجاز السبعة التي ذكرناها ، وبيّنّا أنّ كلّ واحد منها آية بيّنة لمن ألقى السمع وهو شهيد ، وكان مستقلاًّ مطلقاً من أسر النظريّات المادّيّة وقيود التقليد . إذ لا يتصوّر عاقل يؤمن برب العالمين ، أن يصدر هذا الكتاب المشتمل على هذا القدر السنيع من المعاني ، في هذا الأسلوب البديع والنظم المنيع من المباني ، من رجل أمّيّ ولا متعلّم أيضاً ، إلاّ أن يكون وحياً اختصّه به الربّ عزّ وجلّ ، ناهيك به وقد جزم بعجز الإنس والجنّ عن أن يأتوا بمثله ، ثمّ تحدّاهم بأن يأتوا بسورة من مثله ، فهذا التحدّي حجّة مستقلّة على نبوّة محمّد صلى الله عليه وسلم بصرف النظر عن المتحدّى به ما هو . وكلّ نوع من تلك الأنواع السبعة الثابتة للقرآن حجّة مستقلّة في نفسها ، وحجّة أنهض وأقوى باعتبار أمّيّة من جاء بها ، فإن أمكن تمحّل المراء والجدل في بعض الوجوه التي ذكرنا لإعجازه ، فهل يمكن ذلك في جملتها أو في كلّ منها ؟ كلاّ . سبق لنا أن ضربنا مثلاً لنبوّته صلى الله عليه وسلم : رجلا ادّعى في بلاد كثرت فيها الأمراض أنّه طبيب ، وأنّ دليله على ذلك أنّه ألّف كتاباً في علم الطبّ يداوي المرضى بما دوّنه فيه فيبرؤن ، فاطّلع عليه الأطبّاء البارعون فشهدوا بأنّه خير الكتب في هذا العلم وما يتعلّق به من عمل ، ثمّ عرض عليه ما لا يحصى عدداً من المرضى وقبلوا ما وصفه لهم من الأدوية فبرؤا من عللهم وصاروا أحسن الناس صحّة ، فهل يمكن المراء في صحّة هذه الدعوى مع هذين البرهانين العلميّ والعمليّ ؟ كلاّ . وإنّ العلم بطبّ الأرواح ، أعلى وأعزّ منالاً من العلم بطبّ الأجساد ، وأنّ معالجة أمراض الأخلاق وأدواء الإجتماع ، أعسر من مداواة أعضاء الأفراد ، ومن المعلوم بالضرورة أنّ القرآن مشتمل على العقائد الصحيحة ، والآداب العالية ، وأصول التشريع الاجتماعيّ والمدنيّ ، وأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم عالج به أمّة عريقة في الشقاق وحميّة الجاهليّة ، غريقة في الجهل والأمّيّة ، ورذائل الوثنيّة ، فشفيت واتّحدت ، وتعلّمت الكتاب والحكمة . وسادت الأمم ، من بدو وحضر ، مع إنّه كان أمّيّا لم يتعلّم شيئاً من العلوم ، ولم يتمرّس بسياسة الشعوب . @ كفاك بالعلم في الأمّيّ معجزة في الجاهليّة والتأديب في اليتم @@ لو استدلّ ذلك الطبيب الجسدانيّ على صحّة دعواه بعمل غير مألوف للناس ، ولكن لا علاقة له بالطبّ ، لأمكن المراء في صحّة دعواه . كذلك شأن هذا النبيّ في ادّعائه أنّه مرسل من الله لهداية البشر ، فإنّ كتابه العلميّ المؤيّد بنجاح العمل به أدلّ على كونه وحياً أوحاه الله إليه ، من جعل عصاه حيّة ، أو إحيائه ميّتاً ؛ لأنّ هذين على غرابتهما ليسا من موضوع الإرشاد والتعليم ، كما أنّهما ليسا من موضوع الطبّ ، فهما إن دلاّ على صدق الرسول فدلالتهما ليست في أنفسهما ، والإتيان بعمل خارق للمألوف في العادة من سنن الكون ، هو دون الإتيان بالعلوم العالية الإلهية والتشريعيّة من غير تعليم ، فكيف بالإتيان بأنباء الغيب الماضي والمستقبل ؟ فكيف بصلاح حال من عملوا بهذه العلوم ديناً ودنيا ؟ فالقرآن إذاً برهان على أنّ ما فيه - الطبّ الروحانيّ الإجتماعيّ - وحي من الربّ المدبّر الحكيم ، لا يماري فيه إلاّ معاند مكابر ، أو مقلّد جاهل . أمّا المكابرون الذين يجحدون الحقّ وهم يعلمون ، فأمثال رؤساء المشركين ورؤساء اليهود في زمن البعثة المحمّديّة الذين ثقل على طباعهم ترك رياستهم ، وصيرورتهم أتباعاً مساوين لفقراء المسلمين ومواليهم ، ولا يخلو هذا العصر من أناس منهم . وأمّا المقلّدون فعوامّ أهل الأديان والمذاهب في كلّ عصر ، الذين لا ينظرون في دليل ولو كان حسيّاً . وكذلك المفتونون ببعض شبهات المادّيين من الفلاسفة وعلماء الطبيعة الذين قلّدوهم في الكفر بالله تعالى ، كما قال الشاعر في أمثالهم : @ عمي القلوب عموا عن كلّ فائدة لأنّهم كفروا بالله تقليداً @@ فهؤلاء المنكرون لوجود الخالق ، لا كلام لنا معهم في مسألة النبوّة والوحي ، إلاّ بعد أن نتكلّم معهم أوّلا في إثبات وجود الخالق وصفات ربوبيّته ، ولكنّ أكثر منكري النبوّة يؤمنون بوجود الله تعالى ، وإنّما يستبعدون معنى الوحي ، وليس ببعيد في نظر العقل . الوحي في اللغة : إعلام في خفاء . ووحي الله تعالى إلى أنبيائه علم يخصّهم به من غير كسب منهم ولا تعلّم من غيرهم ، بل هو شيء يجدونه في أنفسهم من غير تفكّر ولا استنباط ، مقترناً بعلم وجدانيّ ضروريّ ، بأنّ الذي ألقاه في قلوبهم هو الربّ القادر على كلّ شيء ، وقد يتمثّل لهم ملك فيلقّنهم ذلك العلم ، وقد يكون بغير وساطة ملك . قال تعالى : { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ } [ الشعراء : 192 - 194 ] فأيّ إستحالة أو بُعد في هذا عند من يؤمن بربّ العالمين ، وعلمه وحكمته وقدرته في المخلوقين ؟ وعرّفه شيخنا في رسالة التوحيد : " بأنّه عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين من قبل الله تعالى بواسطة أو بغير واسطة ، والأوّل بصوت يتمثّل لسمعه أو بغير صوت . قال : ويفرّق بينه وبين الإلهام بأنّ الإلهام وجدان تستيقنه النفس ، وتنساق إلى ما يطلب على غير شعور منها من أين أتى ، وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور " . ثمّ بيّن إمكان هذا ووقوعه ، وأسباب شكّ بعض الناس فيه وتفنيد شبهاتهم عليه بما يراجع في الرسالة نفسها . وأمّا تمثّل الملك فكانوا يكتفون في إثباته بقولهم : إنّه ممكن في نفسه وقد أخبر به الصادق فوجب تصديقه . ونقول اليوم : إنّ العلوم الكونيّة لم تبق شيئاً من أخبار عالم الغيب غريباً ، إلاّ وقربته إلى العقل ، بل وإلى الحسّ تقريباً ، بل ظهر من الإختراعات المادّيّة المشاهدة في هذا العصر ، ما كان يعدّ عند الجماهير محالاً في نظر العقل ، لا غريباً فقط . فإذا كان الإنسان الكيميائيّ يحلّل الأجسام الكثيفة حتّى تصير غازات لا ترى من شدّة لطفها ، ويكثّف العناصر اللطيفة فتكون كالجامدة بطبعها ، فكيف يستغرب تكثيف الملك لنفسه ، وهو من الأرواح ذات المرَّة والقوة العظيمة يأخذه من موادّ العالم المنبثّة فيه هيكلا على صورة الإنسان مثلا ؟ دع مخترعات الكهرباء العجيبة التي لا يوجد شيء ممّا أخبر به الرسل من عالم الغيب إلاّ وفيها نظير له يقرّبه من الحسّ ، لا من العقل وحده ، وهل الكهرباء إلاّ قوّة مسخّرة للملائكة ؟ ودع ما يثبته الألوف من علماء الأمم كلّها من تمثّل بعض أرواح البشر لبعض الناس في صور كصور الأجساد ، وهو يوافق المأثور عندنا عن الإمام مالك من أئمّة الفقهاء في صفة الروح ، ووقائعه عند الصوفيّة كثيرة . ومن ينكر ما يحكى من وقوع هذا ، لا ينكر إمكانه في نفسه ولا الرجاء في ثبوته في يوم ما ، بحيث يشاهده جميع الناس . خلاصة ما تقدّم : أنّ دلالة القرآن على نبوّة محمّد صلى الله عليه وسلم لها وجهان : أحدهما : ما قيل في دلالة الآيات الكونيّة لبعض الأنبياء السابقين ، كناقة صالح ، وعصا موسى ، وإحياء عيسى للميّت ، وهو أنّ كلاًّ منها أمر جاء على غير المعتاد من مقدور البشر ، واستدلّ به صاحبه على نبوّته ورسالته ، فكان تصديقاً من الله تعالى له ، وتكذيباً وخذلاناً منه تعالى لمن كذّبه . وهذا الوجه من الدلالة خارج عن موضوع النبوّة والرسالة ؛ ولذلك اختلف فيه علماء النظر كما تقدّم آنفاً . الوجه الثاني : وهو يجتمع مع الأوّل . مأخوذ من معنى النبوّة والرسالة . وهو أنّها هداية عليا للبشر . لا تغنيهم عنها هدايات الحواسّ الظاهرة والباطنة ولا هداية العقل ، فإنّ هذه هدايات شخصيّة فرديّة ، وتلك هداية لنوع الإنسان في جملته ، وقد إكتفينا في هذا الاستطراد بتمثيلها بطبّ الأبدان ؛ ليفهمها كلّ قارئ وسامع ، وإنّما يفهمها الفهم التامّ ( من طريقه العلمي ) : من يقف على ما اشتمل عليه القرآن من آيات الهداية ، وكونه أعلى وأكمل من كلّ ما نقل عن الأنبياء السابقين - على ما في نقله من التواتر القطعيّ وما في نقلها من الضعف - ( ومن طريقه العملي ) من عرف تاريخ الإسلام ، وما كان من تأثير القرآن في هداية العرب ثمّ هداية غيرهم من الأمم ، وعرف تأثير هداية الأنبياء السابقين في أممهم - على ما بين النقلين من التفاوت أيضاً . ولا يمتري أحد من العقلاء في كون العلم الذي موضوعه هداية الأمم والشعوب ، ونقلها من حال دنيويّة إلى حال أعلى وأكمل منها : هو من العلوم العالية التي يقلّ في الناس من يحذقها ويكون إماماً مبرّزاً فيها ، وأنّ عمل من يتدارسونه في الكتب ، به أعسر مسلكاً ، وأوعر طريقاً ، وأنّ فلاح العاملين به ، المتمرّسين بوسائله ، قلّماً يتّفق ، إلاّ لأفراد أتيح لهم من الأسباب ونفوذ الحكومات ما لم يتح لغيرهم . فما بالك بالجمع بين هذا وبين العلم والعمل في سبيل الهداية الروحيّة ، والإستعداد لسعادة الآخرة والنجاح التامّ معاً ، على ما فيهما من عدم سبق الإستعداد لهما بعلم ولا عمل ؟ وجملة القول : إنّ موضوع الرسالة : تعليم وإرشاد إلهيّ يملك الوجدان ، وتذعن له النفس بالإيمان ، فيكون هداية تزّع صاحبها عن الباطل والشرّ ، وتوجّهه إلى الحق والخير ، وإنّ القرآن قد بلغ مرتبة الكمال فيها ، فاهتدت به الأمم والشعوب ، فمن كان يؤمن بها على علم بحقيقتها - لا تقليداً لآبائه وقومه فيها - لا يسعه أن يؤمن بالتوراة أو الإنجيل أو الفيدا ، أو غيرهنّ من الكتب المنسوبة إلى المرسلين الأوّلين ولا يؤمن بالقرآن ، وهو أكملها في موضوعها ، وأصحّها نسباً إلى من جاء به . @ الله أكبر إنّ دين محمّد وكتابه أقوى وأقوم قيلا لا تذكروا الكتب السوالف عنده طلع الصباح فأطفأ القنديلا @@ ومن كان يؤمن بالله تعالى وأنّه هو الربّ الخالق للعالم بأكمل نظام ، المدبّر لأمور العباد بالحكمة والأحكام ، وأنّه هو الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى ، وتأمّل في تاريخ النبيّ صلى الله عليه وسلم المنقول نقلا مستفيضاً ومتواتراً ، فلا يسعه أن يزعم أنّ بعثة محمّد الأمّيّ العربيّ ، وإتيانه بهذا القرآن ، المشتمل على ما أشرنا إليه من ضروب الإعجاز ، قد كان من أمور التعاليم البشريّة الكسبيّة وما حدث به من الهداية التي قلبت تاريخ البشر كان من الأمور العاديّة ، بل لا يسعه إذا أنصف إلاّ أن يؤمن بأن هذه الحادثة الإنقلابيّة في دين الأمم ودنياها ، قد كانت بعناية خاصّة من الربّ الحكيم العليم ، المدبّر الرحيم ، وأنّه هو الذي أفاض هذا القرآن الحكيم على قلب ذلك الرجل الأمّيّ بعد أربعين سنة ، قضاها في قومه لم يؤثر عنه شيء من مثل علومه ، ولا ممّا يقرب من أسلوبه وبلاغته . هذا وإنّ لتحقيق هذه الدلالة العلميّة على النبوّة والرسالة مقدمّات علميّة وفلسفيّة مستنبطة من حاجة البشر - في كمالهم النوعيّ في الدنيا ، وفي استعدادهم للحياة الأبديّة - إلى هداية الرسالة . وقد عقد شيخنا الأستاذ الإمام لهذا البحث فصلا طويلا في " رسالة التوحيد " سلك فيه مسلكين : أحدهما : مبنيّ على عقيدة خلود النفس البشريّة وكونها لا تزول من الوجود بالموت المعهود ، وهي عقيدة اتّفقت عليها كلمة البشر من الملّيّين موحّديهم ووثنيّيهم والفلاسفة ، إلاّ قليلاً من المادّيّين الجدليّين الذين لا يعتدّون إلاّ بمدركات الحسّ . وثانيهما : مأخوذ من طبيعة الإنسان في حياته الإجتماعيّة . بيّن الأستاذ في الأوّل : إنّ الإنسان محتاج - بمقتضى تلك العقيدة والشعور النوعيّ العامّ بالبقاء والإنتقال من طور إلى آخر في الحياة - إلى هداية يستعدّ بها للحياة الآخرة الباقية ، وهي من عالم الغيب الذي لا يدرك من أمره شيئاً ، فيستقلّ عقله في العلم بما يجب عليه من الإستعداد له ؛ فلا بدّ أن تكون هذه الهداية من عند الله تعالى الذي خلقه للبقاء الذي يعقله في الجملة ، لا للزوال والعدم المحض الذي لا يعقل ولا يتصوّر ولا يتخيّل ، وإنّما عاقبة الموت إنحلال هذه الصور الجسديّة ، وتفرّق هذه المركّبات المادّيّة . فالله هو العليم بما يصلح به حاله في تلك الحياة ، وتأبى حكمته ورحمته وجوده وإتقانه لكلّ شيء خلقه ، وتنزّهه عن الباطل والعبث ، أن يحرمه هذه الهداية . وبيّن في الثاني : إنّ هذه الحياة الإجتماعيّة الإنسانيّة ، لا يستقيم فيها التعاون بين الأفراد ولا بين الجماعات ، إلاّ بالأخذ بتعاليم إعتقاديّة وأدبيّة وعمليّة لا تختلف فيها الأهواء والشهوات ؛ لأنّ الوارع فيها نفسيّ وجدانيّ ، لصدورها عن الربّ الحكيم العليم ، بوحي أوحاه إلى من اختصّه بهذا الفضل العظيم ، ولولا أن طال هذا الإستطراد في تفسير الآية ، لأوردت هذا الفصل برمّته هنا فهو في المسألة ، الحجّة البالغة والحكمة وفصل الخطاب . إلاّ أنّني أقول : إنّ أعلم الحكماء الغربيّين في هذا العصر ، قد بيّنوا في مباحثهم في طبائع البشر : إنّ الإنسان إذا ترك إلى مداركه الحسّيّة ونظريّاته العقليّة ، وتسلّل من وجدان الدين والإلهام الإلهيّ بالحياة الأخرى ، يكون أشقى من جميع أنواع الحيوان الأعجم ، ويكون جُلّ شقائه من نظريّاته العقليّة . فهو إذا فكّر في هذه الحياة القصيرة التي تساورها الآلام الشخصيّة - من جسديّة ونفسيّة - والآلام المنزليّة - ( العائليّة ) والقوميّة والوطنيّة والدوليّة - يراها عبئاً ثقيلاً ، ويرى من السخف أو الجنون أن يحمل شيئاً منها - مختاراً - لأجل زوجة أو ولد أو وطن أو أمّة ، ويرى أنّ الطريقة المثلى في الحياة أن لا يتعرّض لألم من هذه الآلام ، فلا يتزوّج ولا يعمل أدنى عمل ، ولا يتكلّف أدنى تعب لأجل غيره ، وأن يطلب لذّاته الجسدية من أقرب الطرق إليها ، وينتظر الموت للإستراحة من هذه الحياة ، فإن أبطأ عليه ونزلت به آلام يشقّ عليها احتمالها - من مرض أو فقر مدقع أو ذلّ مخز - فليبخع نفسه ويتعجّل الموت إنتحاراً . كلّ فضائل الإنسان من الصبر على المكاره ، والجهاد في سبيل الزوجة والولد والأمّة والوطن ، وإسداء المعروف وسائر أعمال البرّ ، لا يبعث النفس عليها إلاّ الإيمان بالله وبالجزاء على الأعمال في حياة خير من الحياة الدنيا ، كما قرّره البرنس بسمارك - عظيم أوربّة في عصره - في بيان الباعث للجنديّ على بذل نفسه في الحرب ، وأنّه وجدان الدين . وفي قوله عن نفسه : إنّه لولا الإيمان لما خدم الأمّة الألمانيّة في ظلّ عاهلها . وهو يكره الملوك ؛ لأنّه جمهوريّ بالطبع - ولئن انتصرت الأفكار المادّيّة على الهداية الدينيّة إنتصاراً تامّاً كاملا ، ليتحولنّ جميع ما اهتدى إليه البشر - من أسرار الكون والفنون والصناعات - إلى ذرائع الفتك والتدمير ، وبئس المثوى والمصير ، وهو ما جزم هربرت سبنسر شيخ فلاسفة أوربّة الإجتماعيّين بأن سيكون عاقبة إنتشار الأفكار المادّيّة في أوربّة - صرّح به لشيخنا عند إلتقائه به في انجلترا . فجملة القول : إنّ الدين هو الهداية العليا للإنسان التي أفيضت على بعض خواصّه وهم الرسل من أفق أعلى من عقله وحواسّه ، فكانت أستاذاً مرشداً له فيهما لكيلا يستعملهما فيما يضرّه في سيرته الشخصيّة والاجتماعيّة ، وهادياً له إلى السعادة الأخرويّة ، وأنّ القرآن أكمل الكتب الإلهية التي أوحاها الله إلى رسله ليبلغوها خلقه ، أكملها هداية وإرشاداً ، وأصحّها تاريخاً وإسناداً ؛ ولذلك كان خاتمةً لها ، وكان آيةً دائمة ومعجزة ثابتة بأسلوب عبارته وبما اشتمل عليه ، ممّا مرّت الإشارة إليه . ولكنّ ما طرأ على دول خلافته العربيّة من الضعف والإنحلال صدّ الناس عنه ، وسيرجعون إلى إحياء لغته ، وتعميم دعوته فينقذ الله به العالم من مصائبه المادّيّة التي أوشكت أن تؤدّي به { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ } [ ص : 88 ] . خاتمة البحث فيمن عارضوا القرآن نختم هذا البحث بكلمة فيمن حاولوا معارضة القرآن ، وقد كان من دأب علماء المسلمين إحصاء كلّ ما يبلغهم في الدين والعلم والأدب وتدوينه وعزوه إلى أهله ، حتّى إنّ دعاة النصرانيّة يقرأون كتب علمائنا ، وينقلون منها كلّ طعن في الإسلام ويؤيدونه ، ويكتمون ردّ علماء المسلمين عليه ، أو يذكرون منه ما يرونه ضعيفاً ويوردونه مورد الهزو والسخريّة ، لتنفير ضعفاء العلم أو العقل من المسلمين عنه . وقد أجمع رواة الآثار والتاريخ على أنّ فحول البلغاء من مشركي العرب لم تسمُ نفس أحد منهم إلى معارضة القرآن ، مع شدّة حرصهم على صدّ الناس عن الإسلام ، وعن الرسول صلى الله عليه وسلم - كما تقدّم - اللّهم إلاّ أنّ بعضهم نقل عن مسيلمة الكذّاب أنّه عارض سورة الكوثر - وهي أقصر سورة منه - ليثبت لدى غوغائه أنّه يوحى إليه كمحمّد صلى الله عليه وسلم فقال ، كما في التفسير الكبير للفخر الرازيّ وغيره : " إنّا أعطيناك الجماهر ، فصلّ لربّك وهاجر ، إنّ مبغضك رجل كافر " . وقد تعلّق بهذا بعض دعاة النصرانيّة في رسالة له في الطعن على إعجاز القرآن ولكنّه أوردها بألفاظ أخرى ، وزعم أنّها فصيحة متناسبة المعنى ، بعد أن طعن في سورة الكوثر ، وزعم أنّه سأل علماء المسلمين عن بلاغتها وإعجازها فلم يستطع أحد أن يجيبه ( وهو هو الذي نقلنا عنه معارضة سورة الفاتحة ) وهذه عبارته أو روايته : " إنّا أعطيناك الجواهر ، فصلّ لربّك وجاهر ، ولا تعتمد قول ساحر " . ولا شكّ أنّ هذا التغيير جاء من جاهل باللغة العربيّة الفصيحة ، ولا سيّما لغة ذلك العصر ، وهو مع ذلك سخيف العقل ، فمن سخف عقله إتيانه بكلمة الجواهر هنا وترتيب الأمر بالصلاة على إعطائها ، وفرض هذا وحياً لمسيلمة المدّعي للنبوّة ، مع إنّه لا يوجد نقل بأنّ الله أعطاه جواهر معروفة تذكر بلام التعريف ، ولا غير معيّنة ، فتذكر بلام الجنس ، ثمّ إنّه لا مناسبة للأمر بالمجاهرة بالصلاة هنا ، وهي : المشاركة في جهر الشيء أو الجهر بالقول . وأمّا الفقرة الأخيرة فليست ممّا يقوله عربيّ قحّ ، لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى ، إذ لم يكن عند العرب أقوال للسحرة تعتمد أو لا تعتمد ، إن صحّ أن يقال هذا ، وإنّما السحرة أناس مفسدون محتالون فعّالون لا قوّالون . ولو فرضنا أنّ هذه الألفاظ التي غيّرها من السورة صحيحة ومناسبة للمقام ومقتضى الحال ، لما صحّ أن يكون بها معارضا ، لها بل مقلّداً وناقلا ، فهو ضرب من الإقتباس مع التصرّف ، كمن يغيّر قافية أبيات من الشعر بمعناها أو بمعنىً آخر ، كقول الشاعر : @ ما لمن تمّت محاسنه أن يعادي طرف من رمقا لك أن تبدي لنا حسناً ولنا أن نعمل الحدقا قدحت عيناك زند هوىً في سواد القلب فاحترقا @@ غيّرت قوافيها لفظاً لا معنى بالبداهة فقلت : @ ما لمن تمّت محاسنه أن يعادي طرف من مقلا لك أن تبدي لنا حسناً ولنا أن نعمل المقلا قدحت عيناك زند هوى في سواد القلب فاشتعلا @@ " مَقَل " نظر بمقلته . ثمّ غيّرتها أيضاً بكلمات : نظر ؛ أو بصرا - النظرا - فاستعرا - فهل أكون بهذا معارضاً للأصل ، وفي طبقة صاحبه من غزل الشعر ؟ إعجاز سورة الكوثر وأمّا السورة : فهي في أفق أعلى ممّا قال مسيلمة الكذّاب : وممّا عزاه إليه المبشّر الجاهل المخادع ، حتّى لو فرض أنّه قال ما قال من تلقاء نفسه . " الكوثر " في السورة : لا يوجد في اللغة ما يحكيه أو يحلّ محلّه فيها ، إذ معناه الكثير البالغ منتهى حدود الكثرة في الخير حسّيّا كان ، كالمال والرجال والذريّة والأتباع ، أو معنويّاً ، كالعلم والهدى والصلاح والإصلاح ، ويشمل الكثير من خيري الدنيا والآخرة . وهو يطلق على السخيّ الجواد أيضاً . وأمّا موقعه في أوّل السورة وموقع كلمة " الأبتر " في آخرها ، اللذان اقتضتهما البلاغة ، وتأبى أن يحلّ غيرهما محلّهما ، فهو أنّ رؤساء المشركين المستكبرين كانوا يحقّرون أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم لفقره وضعف عصبيته ، ويتربّصون به الموت أو غيره من الدوائر ، زاعمين أنّ ما له من قوّة التأثير في الأنفس بتلاوة القرآن يزول بزوال شخصه كما قال تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُتَرَبِّصِينَ } [ الطور : 30 - 31 ] وكانوا يقولون عند ما رأوا أبناءه يموتون : بتر محمّد ؛ أو صار أبتر ، أي انقطع ذكره بإنقطاع ولده وعصبته ، وكانوا يعدّون الفقر وإنقطاع العقب ، مطعناً في دينه ودليلا على توديع الله له ، وعدم عنايته به ، تبعاً لاستدلالهم بالغنى وكثرة الولد على رضاء الله تعالى وعنايته ، كما حكى عنهم سبحانه بقوله : { وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [ سبأ : 35 ] وقد أبطل الله تعالى بهذه السورة شبهتهم ، ودحض حجّتهم ، وجعل فألهم شؤماً عليهم ، بما بيّن من عاقبة أمرهم وأمره ، قال ما تفسيره بالإيجاز . { إِنَّآ } بما لنا من القدرة على كلّ شيء { أَعْطَيْنَاكَ } أيّها الرسول من خيري الدنيا والآخرة { ٱلْكَوْثَرَ } الذي لا تحدّ كثرته ولا تحصر ، من الدين الحق ، وهداية الخلق ، وما لا يحصى من الأتباع ، وما لا يحصر من الغنائم والنصر على الأعداء ، وما لا ينقطع من الذريّة التي تنسب إليك فتذكر بذكرهم ، ويصلّي ويسلّم عليك وعليهم ، ثمّ من الشفاعة العظمى يوم الفزع الأكبر ، والحوض الذي يرده المؤمنون في المحشر ، فلفظ " الكوثر " يشمل كلّ هذا وغيره ، وإنّما يكون كلّ نوع منه في وقته ، وكان الإخبار به في أول الإسلام من البشارة ونبأ الغيب ، وذكر بلفظ الماضي لتحقّق وقوعه كقوله : { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } [ النحل : 1 ] أو على معنى الإنشاء . فأين هذا اللفظ في نفسه ، وفي موافقته لمقتضى الحال من كلمة " الجماهر " التي استبدلها به مسيلمة الكذّاب ، وهي بالضمّ الشيء الضخم - أو كلمة " الجواهر " التي ذكرها المبشّر المرتاب السبّاب ، وهي كذب لا مناسبة له ؟ ووصل تعالى هذه البشارة العظمى بالأمر بشكرها فقال : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ } ومتولّي أمرك الذي منّ عليك بهذه النعم ، وحده مخلصاً له الدين ، { وَٱنْحَرْ } ذبائح نسكك له وحده ، فهو كقوله تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الأنعام : 162 ] وهذا يدلّ على أنّه سيكون له الغلب على المشركين ، الذي يتمّ بفتح مكّة وبحجّه ونسكه مع أتباعه - وقد كان - ونحر صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع مائة ناقة ، فهذه بشارة خاصّة بعد تلك البشارة العامّة ، وكلاهما من أنباء الغيب . ثمّ قفّى على ذلك ببشارة ثالثة ، هي تمام الردّ على أولئك الطغاة المغرورين بأموالهم وأولادهم ، أوردها مفصولة غير موصولة بالعطف على ما قبلها ؛ لأنّها جواب عن سؤال تقديره : وماذا تكون عاقبة شانئيه ومبغضيه الذين رموه بلقب الأبتر وتربّصوا به الدوائر ، لما يرجون من إنقطاع ذكره واضمحلال دعوته ؟ فأجاب : { إِنَّ شَانِئَكَ } أي مبغضك وعائبك بالفقر وفقد العقب { هُوَ ٱلأَبْتَرُ } من دونك - وهذا إخبار آخر بالغيب قد صحّ وتحقّق بعد كرّ السنين . ولفظ " شانئ " مفرد مضاف ، فمعناه عامّ ، فهو يشمل العاص بن وائل ، وعقبة بن أبي معيط وأمثالهم ممّن نقل عنهم ذلك القول فيه صلى الله عليه وسلم لفظاً ، أو موافقة لإخوانهم المجرمين ، فقد بتروا كلهم وهلكوا ، ثمّ نسوا كأنّهم ما وجدوا ، وزال ما كانوا يرجون من بقاء الذكر بالعظمة والرياسة وكثرة الولد والعصبيّة ، فلم يعد أحد منهم يذكر بخير ، ولا ينسب له عقب . فأنت ترى : إنّ هذه السورة على إيجازها في منتهى الفصاحة والبلاغة ، قد جمعت من المعاني الكثيرة الصحيحة ومن أنباء الغيب التي فسّرها الزمان ما تعدّ به معجزة بيّنة الإعجاز ، وفيها من المعاني واللطائف غير ما ذكرنا ، فيراجع تفسيرها في مفاتح الغيب وغيره من المطوّلات . أنبياء العجم الكاذبون هذا ، وإنّه قد ظهر في القرنين الماضي والحاضر دجّالون من إيران فالهند ، ادّعى بعضهم أنّه المهديّ ، وبعضهم أنّه نبيّ يوحى إليه ، وشارع جديد فإله معبود ، وبعضهم أنّه المسيح المنتظر . وقد ألّف كلّ منهم رسائل وكتباً عربيّة ادّعى أنّها وحي من الله وأنّها معجزة للأنام . على إعترافهم بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وأنّ القرآن كتاب الله عزّ وجل . وقد ضلّ بكلّ منهم أناس من الأعاجم الذين لا يفهمون العربيّة فهماً صحيحاً ؛ ثمّ تألّفت لهم أحزاب وعصبيّات بمساعدة الأجانب المستعمرين الطامعين في القضاء على الإسلام والمسلمين وصار لهم ثروة يستميلون بها الناس . وقد رددنا عليهم في المنار ، وردّ عليهم غيرنا من العلماء بما ظهر به جهلهم وكذبهم ؛ وسخافتهم فيما اغترّوا به من وحي الشياطين لهم . وقد كان لأعرضهم دعوى كتاب سمّاه الكتاب الأقدس حاول فيه محاكاة القرآن في فواصل آياته وفي أنباء الغيب - ولكنّ أتباعه الأذكياء لم يجدوا بدّاً من إخفاء هذا الكتاب ، وجمع ما كان تفرّق من نسخه المطبوعة في الأقطار ، وما يدري إلاّ الله ماذا يفعلون فيه - بعد أن يثقوا بأنّهم استردّوا سائر نسخه - من تصحيح وتنقيح ، وإبرازه في يوم من الأيام في ثوب جديد ، وهذا العمل يؤكّد إنفراد القرآن بالإعجاز ، وكونه هو حجّة الله الباقية إلى آخر الزمان .