Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 236-237)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قالوا : المراد بالجناح المنفي هنا هو التبعة من المهر ونحوه ، لا الإثم والوزر ، وأوردوا هذا وجهاً ضعيفاً وجّهوه بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما ينهى عن الطلاق ، فظنّ الناس أنّ فيه جناحاً فنفته الآية ، وهو كما ترى يتبرّأ منه السياق ، وقال الأستاذ الإمام : المراد بنفي الجناح : نفي المنع ، وهو مقيّد بقيدين : عدم المسيس وعدم تسمية مهر . والمسيس اسم مصدر لمسه مسّاً ( من باب تعب ونصر ) إذا لمسه بيده من غير حائل ، هكذا قيّدوه كما في المصباح . ويعبّر عن إصابة كلّ شيء للإنسان من خير وشرّ ونفع وضرّ ، ويكنّى به وبالمماسة والملامسة كالمباشرة ، عن الغشيان المعلوم بين الزوجين . قرأ الجمهور ( ما لم تمسّوهنّ ) بالفعل الثلاثي ، وقرأ حمزة والكسائي ( تماسوهنّ ) بالصيغة الدالّة على المشاركة هنا ، وفي سورة الأحزاب ( 33 ) ؛ لأنّ كلا منهما يشترك فيه بحسب حاله ، فهذه القراءة بيان للواقع ، وتلك بيان لفعل الرجل الذي يجب به ما يجب من المهر والعدّة ، وآية الأحزاب التي فيها القراءتان هي { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } [ الأحزاب : 49 ] وأجمعوا على قراءة واحدة في قوله تعالى من سورة مريم حكاية عنها : { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } [ مريم : 20 ] لأنّه نفي لسبب الولد من قبل الرجال لا معنى للمشاركة فيه ، والمراد بفرض الفريضة : تسمية المهر ، والآية تدلّ على إنّ عقد النكاح يصحّ بغير مهر ، قالوا ويجب حينئذٍ مهر المثل . قال الأستاذ الإمام : والفرض هنا يصدق بما يكون بعد العقد كأن يقول : أمهرتك ألفاً ، مثلا . يقول الله تعالى : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } أي لا يلزمكم شيء من المال تأثمون بتركه في حال طلاقكم للنساء { مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } أي مدّة عدم مسّكم إيّاهنّ وتسمية المهر لهنّ ، فأو هنا بمعنى الواو ، أو المعنى : إلى أن تفرضوا لهنّ ، أو إلاّ أن تفرضوا لهنّ ، أي فحينئذٍ يجب عليكم شيء وهو ما يذكر في الآية التالية لهذه . والمعنى : إذا تحقّق الشرطان أو القيدان ، فلا تدفعوا لهنّ مهراً { وَمَتِّعُوهُنَّ } أي أعطوهنّ شيئاً يتمتّعن به ، ولتكن هذه المتعة على حسب حالكم في الثروة { عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ قَدَرُهُ } الموسع : وصف من أوسع الرجل ، إذا صار ذا سعة ، وهي البسطة والغنى ، والمقتر : من أقتر الرجل ، إذا قلّ ماله وافتقر ، وقتر على عياله ( من باب قعد وضرب ) وأقتر ضيّق عليهم في النفقة ، ولعلّه من القتار بالضمّ ، وهو دخان الشواء والطبيخ وبخاره ورائحته ، والقتر من النفقة الرمقة من العيش ، ويقال أقتر أيضاً إذا قتر عمداً فعاش عيشة الفقير ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص وابن ذكوان " قدره " بفتح الدال والباقون بسكونها وهما لغتان بمعنى ، وقيل القدرة بالتسكين : الطاقة ، وبالتحريك : المقدار ، والمراد لا يختلف ، وهو أنّ المتعة تختلف باختلاف ثروة الرجل وبسطته ، ولذلك لم تحدّد ، بل تركت لإجتهاد المكلّف ؛ لأنّه أعرف بثروة نفسه ، وقد علم أنّ الله فرضها عليه وآكدها بقوله : { مَتَاعاً بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ } فأمّا المعروف ، فهو ما يتعارف الناس بينهم ويليق بهم بحسب اختلاف أصنافهم وأحوال معايشهم وشرفهم ، وأمّا كونه حقاً على المحسنين فمعناه : إنّها واجبة حاقّة ، على إنّها إحسان في التعامل لا عقوبة ، فإنّ الحكمة فيها كما قالوا جبر إيحاش الطلاق . كأنّ المعنى : إن كنتم مؤمنين بالله محسنين في طاعته ، فعليكم أن تجعلوا هذا المتاع لائقاً مؤدّياً إلى الغرض منه . قال الأستاذ الإمام مبيّنا الحكمة في شرع هذه المتعة : إنّ في هذا الطلاق غضاضة وإيهاماً للناس ، أنّ الزوج ما طلّقها ، إلاّ وقد رابه منها شيء ، فإذا هو متّعها متاعاً حسناً ، تزول هذه الغضاضة ، ويكون هذا المتاع الحسن بمنزلة الشهادة بنزاهتها والإعتراف بأنّ الطلاق كان من قبله ، أي لعذر يختصّ به ، لا من قبلها ، أي لا لعلّة فيها ؛ لأنّ الله تعالى أمرنا أن نحافظ على الأعراض بقدر الطاقة . فجعل هذا التمتيع كالمرهم لجرح القلب ، لكي يتسامع به الناس ، فيقال : إنّ فلاناً أعطى فلانة كذا وكذا فهو لم يطلّقها إلاّ لعذر وهو آسف عليها معترف بفضلها لا إنّه رأى عيباً فيها أو رابه شيء من أمرها ، ويقال : إنّ سيّدنا الحسن السبط متّع إحدى زوجاته بعشرة آلاف درهم وقال : " متاع قليل من حبيب مفارق " لهذا وكّل الله تعالى الأمر في ذلك إلى أريحية المؤمنين فلم يحدّده ، بل وصفه بالمعروف ، وذكّر المطلق عند إيجابه بالإحسان هنا ، وبالتقوى في الآية الآتية . وأقول زيادة في إيضاح الحكمة : من المعروف أنّ الإقدام على عقد الزوجية يتقدّمه تعارف وتوادّ بين بيت الرجل وبيت المرأة ، ثمّ تكون الخطبة فالعقد ، فإذا طلّق الرجل قبل الدخول ، فإنّ الناس يظنّون بالمرأة من الظنون ما لا يظنّون بها إذا طلّقت بعد الدخول ؛ لأنّ المعاشرة هي التي تكشف لكلّ واحد عن طباع الآخر ، فيحمل الطلاق على تنافر الطباع ، وعدم المشاكلة في الأخلاق والعادات ، وهذا وجه لجعل بعض العلماء متعة غير المدخول بها واجبة ومتعة غيرها مستحبّة ، وإذا كانت الغضاضة في الطلاق قبل الدخول على ما ذكرنا ، فلا جرم أنّ ذلك التوادّ الذي ظهرت بوادره قبل الخطبة وتمكّن بالعقد ، يتحوّل إلى عداء وتباغض ، إلاّ أن يدفع المطلّق ذلك بالتي هي أحسن ، وهي المتعة اللائقة ، ولا تتحقّق هذه الحكمة إلاّ بجعل مقدار المتعة موكولا إلى إختيار الرجل ، مع العلم بأنّها واجبة على حسب الحال في السعة ، وأنّ الغرض منها كذا ، فلا يتحقّق الامتثال إلاّ بتحرّي إصابته ، وممّا روي عن الحسن السبط أيضاً أنّه متّع بعشرين ألفاً وزقاق من عسل ، وكذلك كانوا يفعلون . هذا هو المتبادر من الآية ، ولكن من الفقهاء من قال إنّ المتعة تستحبّ ولا تجب ؛ لأنّها جعلت حقّاً على المحسنين ، كأنّ القيام بالواجب لا يوصف بالإحسان ، ويكفي في إثبات الوجوب قوله تعالى : { عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ قَدَرُهُ } وقوله : { حَقّاً عَلَى } وإنّما حسن ذكر الإحسان هنا ؛ لأنّ المفروض غير محدود ، والشارع يحبّ بسط الكفّ فيه ، فذكر بالإحسان لأجل ذلك ، وليبيّن أنّ المتعة ليست من قبيل الغرامة ، إذ لو كانت غرامة لا إختيار في قدرها ، كما أنّه لا إختيار في أصلها ؛ لما تحقّقت بها الحكمة التي تقدّم شرحها ، وآية الأحزاب المتقدّمة آمرة بالتمتيع أمراً لم يذكر معه لفظ المحسنين ، على أنّ الله تعالى ذكر الإحسان والمحسنين في مقام الأعمال الواجبة كقوله : { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } [ التوبة : 91 ] والنصح لله ورسوله واجب حتم ، وقوله في هذه السورة أيضاً : { مَا كَانَ لأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ } [ التوبة : 120 ] إلى قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ التوبة : 120 ] وذكر هذا اللفظ كثيراً بعد ذكر الصبر في مواضع اليأس وهو واجب . وبعد ذكر محاولة إبراهيم ذبح ولده وكان واجباً عليه ، لولا ما افتداه الله تعالى . وقال تعالى في سورة الزمر عند ذكر الجزاء : { أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَـرَّةً فَأَكُونَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ الزمر : 58 ] وهل يصحّ أن يقال : إنّ النفس تعذّب على ترك النوافل المستحبّة فتتمنّى الرجعة لتؤدّيها ؟ ومن تتّبع الآيات التي ذكر فيها الإحسان ، يرى أنّ منها ما يراد به الأعمال المفروضة أولاّ بالذات ، ومنها ما يراد به ما زاد عن الفرض من العمل الصالح ، ومنها ما يراد به إحسان العمل وإتقانه مطلقاً ، وممّن صرّح بوجوب المتعة من علماء السلف علي وابن عمر والحسن البصري وسعيد بن جبير وأبو قلابة والزهري وقتادة والضحّاك وغيرهم ، واختلفوا أيضاً في مقدارها وقد علمت المختار فيه ، واختلفوا أيضاً هل تشرّع لغير هذه المطلّقة قبل المسيس والفرض أم لا ؟ وسيأتي ذلك في تفسير { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ } [ البقرة : 241 ] . ثمّ قال تعالى : { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } الآية الماضية في حكم غير الممسوسة إذا لم يفرض لها ، وهذه في حكمها وقد فرض لها المهر ، وهو أنّ لها نصف المهر المفروض . قال الجلال : فنصف ما فرضتم يجب لهنّ ويرجع لكم النصف . قال الأستاذ الإمام وهذا جري على أنّ الذي كان عليه العمل هو سوق المهر كلّه للمرأة عند العقد ، خلافاً لما استحدثه الناس بعد من تأخير ثلث المهر ، أي في الغالب ، وقد يؤخّرون أكثر من الثلث أو أقلّ ، حتى كأنّ ذلك من سنن الدين ، وما هو إلاّ عادة من العادات ، والظاهر أنّ سببها حبّ الظهور بكثرة المهر والفخر به ، مع اجتناب الإرهاق بدفعه كلّه . وقدر غير الجلال : فالواجب نصف ما فرضتم - أو - فادفعوا نصف ما فرضتم ، والمعنى ظاهر على كل تقدير { إِلاَّ أَن يَعْفُونَ } أي النساء المطلّقات عن أخذ النصف كلّه أو بعضه ، وهو حقّ البالغة الرشيدة { أَوْ يَعْفُوَاْ ٱلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ ٱلنِّكَاحِ } قيل هو الولي مطلقاً ، وعليه جماعة من المفسّرين ، أو الولي المجبر وهو الأب أو الجدّ فيعفو له عن النصف الواجب كلّه أو بعضه ، والشيعة لا تبيح له العفو عن كلّه ، وقال كثير منهم : إنّ الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج الذي بيده حلّها ، قال الأستاذ الإمام : عبّر عنه بهذا للتنبيه ، على أنّ الذي ربط المرأة وأمسك العقدة بيده لا يليق به أن يحلّها ويدعها بدون شيء ، بل يستحبّ له العفو والسماح بكلّ ما كان قد أعطى ، وإن كان الواجب المحتّم نصفه ، فذلك تمهيد لقوله : { وَأَن تَعْفُوۤاْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } والخطاب على هذا خاصّ بالرجال ، وفيه وجه آخر أنّه عامّ للنساء والرجال ، أي من عفا فهو المتّقي ، ويروى عن جبير بن مطعم أنّه تزوّج بنتاً لسعد بن أبي وقّاص ثمّ طلّقها قبل الدخول وأعطاها جميع المهر ، فسئل عن هذا فقال : أمّا التزوّج فلأنّه عرضها عليّ ، فما رأيت أن أردّه ، وأمّا العفو فأنا أحقّ بالفضل . هكذا قال من روى القصّة بالمعنى ، وفي التفسير الكبير إنّ جبيراً قال : أنا أحقّ بالعفو ، وإذا كان هذا لفظه ، فهو دليل على أنّ الخطاب عام على سبيل التغليب ، ويرجّحه اختلاف الأحوال ، ففي بعض الأحوال تكون المصلحة في عفو الرجل عن النصف الآخر ، وفي بعضها تكون في عفو المرأة عن النصف الواجب لها ؛ ذلك لأنّ الطلاق قد يكون من قبله بلا علّة منها ، وقد يكون بالعكس ، والذي تراه في عامّة كتب التفسير أنّ المراد بالتقوى هنا ، تقوى الله تعالى المطلوبة في كلّ شيء ، وذلك أنّ العفو أكثر ثواباً وأجراً ، وقال الأستاذ الإمام : إنّ التقوى في هذا المقام ، اتّقاء الريبة ، وما يترتّب على الطلاق من التباغض وآثار التباغض ، ولا يخفى ما في السماح بالمال ، من التأثير في تغيير الحال ، ولذلك قال بعد ذلك : { وَلاَ تَنسَوُاْ ٱلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } فسّروا الفضل بالتفضّل والإحسان ، وجعلوه للترغيب في العفو . وقال الأستاذ الإمام : المراد به المودّة والصلة ، أي ينبغي لمن تزوّج من بيت ، ثمّ طلّق : أن لا ينسى مودّة أهل ذلك البيت وصلتهم ، قال : فأين هذا ممّا نحن عليه اليوم من التباغض والضرار ؟ . على هذا السياق جرى في تفسير الآية ، وهو ممّا لا يقف الذهن فيه إلاّ من كان مطّلعاً على وجوه الخلاف في الذي بيده عقدة النكاح ، يقول القائلون : بأنه الولي ، إنّه هو الذي يتولّى العقد شرعاً وعرفاً وقد يتولّى العفو عن نصف المهر بالنيابة عن مولّيته ، إذا هي طلّقت ، ولا سيّما إذا كانت غير مدخول بها ، ولا حديث بينها وبين الزوج ولا معاملة ، وإن تبرّع الزوج بالنصف الآخر من المهر لا يسمّى عفواً ، وإنّما يسمّى هبة ، وإنّه كان من مقتضى السياق أن يقال : لو أريد الزوج ، إلاّ أن يعفون أو تعفوا أنتم ، وإنّ عقدة النكاح لم تبق في يد الزوج بعد الطلاق ، ويقول الذاهبون إلى أنّه الزوج : إنّ الولي بيده عقد النكاح لا عقدته التي هي أثر العقد ، وأنّه ليس للولي أن يسمح بشيء من مال موليته ؛ لأنّها هي المالكة المتصرّفة من دونه ، وأنت ترى الجواب من كلّ جانب عمّا أورده الآخر سهلا والخطب أسهل ، فالمعنى المراد : إنّ الواجب نصف المهر ، إلاّ أن يسمح الرجل به كلّه ، وسمّي سماحه بالنصف الآخر عفواً ؛ لأنّ المعهود أنّهم كانوا يسوقون جميع المهر عند العقد كما تقدّم ، أو تعفو المرأة بنفسها أو بواسطة وليّها عمّا يجب لها فلا تأخذ منه شيئاً ، فأي الفريقين عفا فعفوه أقرب إلى التقوى ، والقائلون بأنّ الذي بيده عقد النكاح هو الزوج أكثر كما تشعر به العبارة السابقة ، ويروى فيه حديث مرفوع عند ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي . وقد ختمت الآية بقوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } جرياً على السنّة الإلهية بالتذكير والتحذير بعد تقرير الأحكام ، لتكون مقرونة بالموعظة التي تغذّي الإيمان وتبعث على الامتثال . وفي التذكير بإطّلاع الله تعالى وإحاطة بصره بما يعامل به الأزواج بعضهم بعضاً ، ترغيب في المحاسنة والفضل ، وترهيب لأهل المخاشنة والجهل . قال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى بعد تفسير هذه الآيات ما معناه : من تدبّر هذه الآيات وفهم هذه الأحكام يتجلّى له نسبة مسلمي هذا العصر إلى القرآن ، ومبلغ حظّهم من الإسلام . قال : وأخصّ المصريين بالذكر ، فإن الروابط الطبيعية في النكاح والصهر وسائر أنواع القرابة ، صارت في مصر أرثّ وأضعف منها في سائر البلاد ، فمن نظر في أحوالهم وتبيّن ما يجري بين الأزواج من المخاصمات والمنازعات والمضارّات ، وما يكيد بعضهم لبعض ، يخيّل إليه أنّهم ليسوا من أهل القرآن ، بل يجدهم كأنّهم لا شريعة لهم ولا دين ، بل آلهتهم أهواؤهم ، وشريعتهم شهواتهم ، وأن حال المماكسة بين التجّار في السلع هي أحفظ وأضبط من حال الزواج ، وأقوى في الصلة من روابط الأزواج . وسرد في الدرس وقائع تؤيّد ما ذكره ، ( منها ) : أنّ رجلا هجر زوجته - وهي إبنة عمّه وله منها بنت - بغير ذنب غير الطمع في المال ، فكان كلّما كلّموه في شأنها قال : لتشتر عصمتها منّي . ومنها : ما هو أدهى من ذلك وأمّر ، كالذين يتركون نساءهم بغير نفقات ، حتى قد يضطروهنّ إلى بيع أعراضهنّ ، وكالمطلّقات المعتدات بالقروء يزعمن أنّ حيضهنّ حبس فتمرّ السنون ولا تنقضي عدتهنّ بزعمهنّ ، وما الغرض إلاّ إلزام المطلّق النفقة طول هذه المدّة انتقاماً منه ، وكالذين يذرون أزواجهم كالمعلّقات لا يمسكونهنّ بمعروف ولا يسرّحونهنّ بإحسان ، أو يفتدين منهم بالمال ، فأين الله وأين كتاب الله وشرعه من هؤلاء وأين هم منه ؟ إنّهم ليسوا من كتاب الله في شيء ، ولكن المسرفين أهواءهم يتّبعون .