Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 238-239)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
كانت الآيات السابقة أحكاماً ، بعضها في العبادات ، وبعضها في الحدود والمعاملات ، آخرها معاملة الأزواج ، ورأينا من سنّة القرآن أن يختم كلّ حكم أو عدّة أحكام بذكر الله تعالى والأمر بتقواه ، والتذكير بعلمه بحال العبد ، وبما أعدّ له من الجزاء على عمله ، وفي هذا ما فيه من نفخ روح الدين في الأعمال ، وإشرابها حقيقة الإخلاص ، ولكن هذا التذكير القولي بما يبعث على إقامة تلك الأحكام على وجهها ، قد يغفل المرء عن تدبّره ، ويغيب عن الذهن تذكّره ، بإنهماك الناس في معايشهم واشتغالهم بما يكافحون من شدائد الدنيا ، أو ما يلذّ لهم من نعيمها ، ولهذه الضروب من المكافحات ، والفنون من التمتّع باللذّات ، سلطان قاهر على النفس ، وحاكم مسخّر للعقل والحسّ ، يتنكّب بالمرء سبيل الهدى ، حتّى تتفرّق به سبل الهوى ، فمن ثمّ كان المكلّف محتاجاً في تأديب الشهوات الحيوانية ، إلى مذكّر يذكّره بمكانته الروحانية ، التي هي كمال حقيقته الإنسانية ، وهذا المذكّر هو الصلاة ، فهي التي تخلع الإنسان من تلك الشواغل التي لا بدّ له منها ، وتوجّهه إلى ربّه جلّ وعلا ، فتكثر له مراقبته ، حتى تعلو بذلك همّته ، وتزكو نفسه ، فتترفّع عن البغي والعدوان ، وتتنزّه عن دناءة الفسق والعصيان ، ويحبّب إليها العدل والإحسان ، بل ترتقي في معارج الفضل إلى مستوى الإمتنان فتكون جديرة بإقامة تلك الحدود ، وزيادة ما يحبّ الله تعالى من الكرم والجود ؛ ذلك إنّ الصلاة تنهى بإقامتها على وجهها عن الفحشاء والمنكر ، ولذكر الله فيها أعظم من جميع المؤثّرات وأكبر ، فإذا كان الإنسان قد خلق هلوعاً ، إذا مسّه الشرّ جزوعاً ، وإذا مسّه الخير منوعاً ، فقد استثنى الله تعالى من هذا الحكم الكلّي المصلّين ، إذا كانوا على الصلاة الحقيقيّة محافظين . لهذا قال : { حَافِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وٱلصَّلَٰوةِ ٱلْوُسْطَىٰ وَقُومُواْ للَّهِ قَٰنِتِينَ } قال بعض المفسّرين في وجه إختيار لفظ المحافظة على الحفظ : إنّ الصيغة على أصلها تفيد المشاركة في الحفظ ، وهي هنا بين العبد وربّه كأنّه قيل : احفظ الصلاة يحفظك الله الذي أمرك بها ، كقوله : { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ } [ البقرة : 152 ] أو بين المصلّي والصلاة نفسها ، أي احفظوها تحفظكم من الفحشاء والمنكر بتنزيه نفوسكم عنهما ، ومن البلاء والمحن بتقوية نفوسكم عليهما كما قال : { وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَٰوةِ } [ البقرة : 45 ] . وقال الأستاذ الإمام : قال حافظوا على الصلوات ولم يقل احفظوها ؛ لأنّ المفاعلة تدلّ على المنازعة والمقاومة ، ولا يظهر قول بعضهم إنّ المفاعلة للمشاركة ؛ لأنّ الصلاة تحفظه كما يحفظها ، إلاّ لو كانت العبارة حافظوا الصلوات ، ولكنّه قال على الصلوات ، أي اجتهدوا في حفظها والمداومة عليها اهـ . ولا يريد الأستاذ بهذا إنّ الصلاة لا تحفظ ممّا ذكر ، وإنّما يريد أنّ لفظ حافظوا لا يدلّ على هذا المعنى الثابت في نفسه والذي أفهمه في المفاعلة على الشيء ، هو فعله المرّة بعد المرّة ، ومنه حافظ عليه وواظب عليه وداوم عليه ، إلاّ إذا كانت { عَلَى } للتعليل كقاتله على الأمر ، أي لأجله ، فالمقاتلة فيه للمشاركة ولا يصحّ هنا ، وحفظ الصلاة المرّة بعد المرّة على الاستمرار ، عبارة عن الإتيان بها كلّ مرّة كاملة الشرائط والأركان العملية ، كاملة الآداب والمعاني القلبية ، فالشيء الذي يتعاهد بالحفظ دائماً هو الذي لا يلحقه النقص ، وإلاّ لم يكن محفوظاً دائماً . والصلوات هي الخمس المعروفة ببيان من بيّن للناس ما نزل إليهم ، ونقلت عنه بالتواتر العملي ، وأجمع عليها المسلمون من جميع الفرق ، فهم على تفرّقهم في كثير من المسائل متّفقون على أنّ جاحد صلاة من الخمس لا يعدّ مسلماً ، على أنّهم استنبطوا كونها خمساً من ذكر الوسطى في الجمع كما في تفسير الرازي . قال الأستاذ الإمام : وهو من قبيل التماس النكتة ، ومن آيات أخرى كقوله تعالى : { فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ } [ الروم : 17 - 18 ] وسيأتي بيان كلّ شيء في محله إن شاء الله تعالى ، وكانوا يعبّرون عن الصلاة بالتسبيح ، يقولون سبّح الغداة مثلا . أي صلّى الفجر . والصلاة الوسطى هي إحدى الخمس ، والوسطى مؤنّث الأوسط ، ويستعمل بمعنى المتوسّط بين شيئين ، أو أشياء لها طرفان متساويان ، وبمعنى الأفضل ، وبكلّ من المعنيين قال قائلون . ولذلك اختلفوا في : أي الصلوات أفضل وأيّتها المتوسّطة ؟ وللعلماء في ذلك ثمانية عشر قولا أوردها الشوكاني ( في نيل الأوطار ) أصحّها رواية ما ذهب إليه الجمهور من كونها صلاة العصر ؛ لحديث علي عند أحمد ومسلم وأبي داود مرفوعاً : " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر " ورواه أحمد والشيخان عنه بلفظ إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب : " ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتّى غابت الشمس " ولم يذكر العصر ، ولذلك قال بعضهم إنّها الظهر لأنّه شغل يوم الأحزاب عنها وعن العصر جميعاً ، وهي متوسّطة ، وكانت تشقّ عليهم لأنّها تؤدّى في وقت الحرّ والعمل ، وفي رواية عن علي عند عبد الله بن أحمد في مسند أبيه كنّا نعدها الفجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هي صلاة العصر " ووجه ما رواه أولاً توسّطها وقوله تعالى : { أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيلِ وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } [ الإسراء : 78 ] فقد أشار في الآية إلى الصلوات ، وجعل لصلاة الفجر مزيّة خاصّة بها ، وهي كون قرآنها مشهوداً ، وورد في معناه أنّها تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار ، وفي الحديث التصريح بأنّ صلاة العصر تشارك صلاة الفجر بهذه المزيّة ، ولأصحاب الأقوال الأخرى في تعيين الصلاة الوسطى أحاديث لا تصل إلى درجة ما ورد في صلاة العصر ، فقيل هي الفجر ، وقيل هي الظهر كما مرّ ، وقيل هي المغرب ، وقال الأخفش هي صلاة الجمعة ، وقال بعضهم إنّها غير معروفة وإنّ الله تعالى أبهم الصلاة الفضلى التي ثوابها أكثر لنحافظ على كلّ صلاة . قال الأستاذ الإمام : ولولا أنّهم اتّفقوا على إنّها إحدى الخمس ، لكان يتبادر إلى فهمي من قوله : { وٱلصَّلَٰوةِ ٱلْوُسْطَىٰ } إنّ المراد بالصلاة الفعل وبالوسطى الفضلى ، أي حافظوا على أفضل أنواع الصلاة وهي الصلاة التي يحضر فيها القلب وتتوجّه بها النفس إلى الله تعالى ، وتخشع لذكره وتدبّر كلامه ، لا صلاة المرائين ولا الغافلين . ويقوي هذا قوله بعدها : { وَقُومُواْ للَّهِ قَٰنِتِينَ } فهو بيان لمعنى الفضل في الفضلى وتأكيد له ، إذ قالوا : إنّ في القنوت معنى المداومة على الضراعة والخشوع ، أي قوموا ملتزمين لخشية الله تعالى واستشعار هيبته وعظمته ، ولا تكمل الصلاة وتكون حقيقية ينشأ عنها ما ذكر الله تعالى من فائدتها إلاّ بهذا ، وهو يتوقّف على التفرّغ من كلّ فكر وعمل يشغل عن حضور القلب في الصلاة ، وخشوعه لما فيها من ذكر الله بقدر الطاقة . أقول : إنّه ليس عندنا نصّ صريح في الحديث المرفوع ينافي ما ذكره الأستاذ الإمام في الصلاة الوسطى ، فقد قال بعض المحدّثين إنّ لفظ " صلاة العصر " في حديث علي مدرج من تفسير الراوي . قالوا ولولا ذلك لما اختلف الصحابة فيها ، وأيّدوا ذلك ببعض الروايات كرواية مسلم " شغلونا عن الصلاة الوسطى حتّى غربت الشمس . يعني صلاة العصر " وما قاله في القنوت هو لباب الأقوال الكثيرة التي أوصلها ابن العربي إلى عشرة نظمها في قوله : @ ولفظ القنوت أعدد معانيه تجد مزيداً على عشر معاني مرضية دعاء ، خشوع ، والعبادة ، طاعة إقامتها إقرارنا بالعبودية سكوت صلاة والقيام وطوله كذاك دوام الطاعة الرابح النيّة @@ وقد روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن ما عدا ابن ماجه من حديث زيد بن أرقم قال : كنا نتكلّم في الصلاة يكلّم الرجل منّا صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتّى نزلت { وَقُومُواْ للَّهِ قَٰنِتِينَ } فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام . وذلك إنّ القنوت عبارة عن الإنصراف عن شؤون الدنيا إلى مناجاة الله تعالى والتوجّه إليه لدعائه وذكره ، وحديث الناس مناف له ، فيلزم من القنوت تركه ، ويدلّ على ذلك حديث ابن مسعود المتّفق عليه قال : كنّا نسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيردّ علينا ، فلمّا رجعنا من عند النجاشي سلّمنا عليه فلم يردّ ، فقلنا - أي بعد الصلاة - يا رسول الله كنّا نسلّم عليك في الصلاة فتردّ علينا فقال " إنّ في الصلاة شغلا " وقال سعيد بن المسيّب : المراد بالقنوت هنا القنوت المعروف في صلاة الصبح وهو إن صحّ يرجّح إنّها الصلاة الوسطى . المحافظة على الصلوات آية الإيمان الكبرى ، وقد جعل الشرع الصلاة والزكاة شرطاً لصحّة الإسلام وأخوّة الدين وما له من الحقوق ، قال تعالى في أوائل سورة التوبة في الكلام على المشركين المعتدين : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَإِخْوَٰنُكُمْ فِي ٱلدِّينِ } [ التوبة : 11 ] والأحاديث في منطوق الآية ومفهومها كثيرة ، منها حديث ابن عمر عند أحمد والبخاري ومسلم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أمرت أن أقاتل الناس حتّى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم ، إلاّ بحقّ الإسلام وحسابهم على الله عزّ وجلّ " والمراد بالناس هنا المشركون أهل الأوثان ، لا أهل الكتاب الذين تقبل منهم الجزية ومن في حكمهم كالمجوس ، ذلك أنّهم هم الذين كانوا يقاومون دعوة الإسلام ما لا يقاومها سواهم ، وكان استقرار الدين من غير دخول مشركي جزيرة العرب في الإسلام ضرباً من المحال ، والكلام هنا في مكانة الصلاة من الإسلام ، لا في الدعوة وحمايتها . وروى أحمد ومسلم في صحيحه وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة " وروى أحمد وأصحاب السنن الأربعة وابن حبّان والحاكم من حديث بريدة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " العهد الذي بيننا وبينكم الصلاة فمن تركها فقد كفر " صحّحه النسائي والعراقي ، وروى أحمد والطبراني في الكبير والأوسط من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه ذكر الصلاة يوماً فقال : " من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة ، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاة ، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأُبي بن خلف " وفي الآثار ما يشعر بأنّ الصحابة كانوا متّفقين على ذلك ، فقد روى الترمذي والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين عن عبد الله بن شقيق العقيلي قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة . أرأيت هذه الآيات العزيزة ، والأحاديث الناطقة بالعزيمة ، قد نال التأويل منها نيله في الزمن الماضي ، وأعرض جماهير المسلمين عنها في الزمن الحاضر ، حتّى كثر التاركون الغافلون والمارقون ، وقلّ عدد المصلّين الساهين ، وندر المصلّون المحافظون ؟ ذلك إنّ الإسلام عند هؤلاء المسلمين ، الذين يصفون أنفسهم بالمتمدّنين ، قد خرج عن كونه عقيدة دينيّة ، إلى كونه جنسية سياسية ، آية الاستمساك به والمحافظة عليه والدفاع عنه مدح كبراء حكّامه ، وإن كانوا لا يقيمون حدوده ولا ينفّذون أحكامه ، بل رفعوا أنفسهم إلى مرتبة التشريع العامّ ، وإستبدال القوانين الوضعية بما نزّل الله من الأحكام ، فلا غرو أن يُعدّ الذي يلغو بمدح دولته ، أو يذمّ عدو لها من أكبر أنصار الإسلام ، وإن كان لا يعرف حقيقة عقيدته ولا يقيم الصلاة ولا يؤتي الزكاة ، ولا يحفل بغير ذلك ممّا أنزل الله ، ولا يشترط أن يكون مخلصاً في دفاعه يتحرّى به وجه المنفعة العامّة لا تتّبع طرق المال والجاه ، أرأيت هؤلاء المسلمين سياسة ؟ إنّ أحدهم لتتلى عليه تلك الآيات والأحاديث فيصرّ مستكبراً كأن لم يسمعها كأنّ في أذنيه وقراً ، فمنهم من يصدّه عنها عدم إيمانه بها ، وهو الذي قد يصف نفسه أو يصفه أقرانه " بالمتمدّن والمتنوّر " ومنهم من يصدف به عنها الإتّكال على شفاعة الشافعين ، والغرور بالإنتساب إلى الإسلام ، والاعتقاد بأنّ النسبة إليه كافية في نيل سعادة الآخرة وعدم المؤاخذة فيها على شيء ، ولا سيّما الذي يسمّي نفسه " محسوباً على أحد الصالحين " وهذا اعتقاد أكثر العامّة ، ولهم من مشايخ الطرق وغيرهم ما يمدّهم في غيّهم ، ويستدرجهم في غرورهم ، وما أعظم غرور من يأخذ منهم العهد ، ويحافظ على الورد . نعم إنّ للإسلام دولة ، وإن كان هو في نفسه ديناً لا جنسية ، ووظيفة دولته أو حكومته إنّما هي نشر دعوته ، وحفظ عقائده وآدابه ، وإقامة فرائضه وسننه ، وتنفيذ أحكامه في داره ، فمن ينصر حكومة الإسلام ، فإنّما ينصرها بمساعدتها على ذلك بالعمل به في نفسه ، وبحمل غيره من حاكم ومحكوم عليه ؛ لأنّه هو المقوّم والمعزّز للأمّة ، وإنّما الدولة بالأمّة . وإن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة هما أعظم شعائر الإسلام ، فالصلاة هي الركن الركين لصلاح النفوس ، والزكاة هي الركن الركين لصلاح الإجتماع ، فإذا هدما فلا إسلام في الدولة . ماذا كان من أثر ترك الصلاة والتهاون بالدين في المدن والقرى والمزارع ؟ كان من أثره في المدن ، فشو الفواحش والمنكرات ، تجد حانات الخمر ومواخير الفجور والرقص وبيوت القمار ، غاصّة بخاصّة الناس وعامّتهم ، حتى في ليالي رمضان ، ليالي الذكر والقرآن ، وعبد الناس المال ، لا يبالون أجاء من حرام أم من حلال ، وانقبضت الأيدي عن أعمال الخير ، وانبسطت في أفعال الشرّ ، وزال التعاطف والتراحم ، وقلّت الثقة من أفراد الأمّة بعضهم ببعض ، فلا يكاد يثق المسلم إلاّ بالأجنبي ، وغير ذلك من فساد الأخلاق ، وقبح الفعال في الأفراد ، وأكبر من ذلك إنحلال الروابط المليّة ، بل تقطع أكثرها ، حتّى كادت الأمّة تخرج عن كونها أمّة حقيقيّة متكافلة بالمصالح الإجتماعية والتعاون على الأعمال المشتركة التي تحفظ وحدتها ، وطفق بعض هؤلاء " المتمدّنين " الذين قطعوا روابطها بأيديهم ، يفكّرون في جعل الرابطة الوطنية لأهل كلّ قطر ، بدلا من الرابطة الملّية الجامعة لأهل الأقطار الكثيرة ، فلم يفلحوا ولكن أثر كلامهم أردأ التأثير في مصر ، فالأمّة الآن في دور الإنسلاخ عمّا كانت به أمّة بسيرة سلفها الصالحين ، فتنكّبها هؤلاء الذين قال الله فيهم : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَٰتِ فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً } [ مريم : 59 ] وهذا الإنسلاخ هو الغي الذي توعّدهم الله تعالى به في الدنيا . وأمّا أثر ذلك في القرى والمزارع فاستحلال جماهير الفلاحين لإهلاك الحرث والنسل عملا لا قولا ، وذلك باعتداء بعضهم على زرع بعض بالقلع قبل ظهور الثمرة ، وبالسرقة بعدها ، وعلى بهائمه بالقتل بالسمّ أو السلاح ، بل باعتدائهم على أنفسهم بالسلب والنهب والقتل ، حتّى أعيا ذلك الحكومة على إهتمامها بأمرهم ، فبلاد الأرياف المصرية لا أمن فيها على النفس والمال بتأمين الحكومة ؛ لأنّها صارت كالبوادي التي ليس فيها حكّام ، لا يعتمد أحد على غير نفسه وعصبته في حفظ نفسه وحقيقته ، ولو حافظ هؤلاء وأولئك على الصلوات كما أمر الله تعالى لانتهوا عن الفحشاء والمنكر بالوازع النفسي ، فإنّ الصلاة - كما يقول مختار باشا الغازي - كالبوليس ( المحتسب ) الملازم يمنع من عمل السوء . وأنّى يحافظون عليها ومنهم الذي كفر بالله تقليداً . ومنهم الذي آمن تقليداً بما وجد عليه آباءه ، وهو إنّ مرضاة الله تعالى بالنجاة من عذابه والفوز بنعيم الآخرة عنده ، لا تحصل إلاّ بواسطة أحد الأولياء الميّتين ، وإنّما يتوسّطون لمن يحتفل بموالدهم ، أو يسيب لهم السوائب من البقر وغير البقر ، ويقدّم لأضرحتهم الهدايا والنذور ، ومنهم الذي يتعلّم كيفية أقوال الصلاة وأعمالها البدنية يؤدّونها وهم عن الله ساهون ، يراءون الناس ويمنعون الماعون ، وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم : { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ } [ الماعون : 4 ] وإنّما المحافظون على الصلاة هم الذين قال فيهم : { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ * ٱلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ } [ المؤمنون : 1 - 2 ] إلخ الآيات . المحافظ على هذه الصلاة الفضلى ، ينتهي عن الفحشاء والمنكر ، فلا يرضى لنفسه أن يكون حلساً من أحلاس بيوت القمار ومعاهد اللهو والفسق . المحافظ على هذه الصلاة لا يمنع الماعون ، بل يبذل معونته ورفده لمن يراه مستحقّاً لهما . المحافظ على هذه الصلاة لا يخلف ولا يلوي في حقّ غيره عليه ، وإن حقّاً فرضه على نفسه ، أو التزمه برّاً بغيره ، كالاشتراك في الجمعيات الخيرية . المحافظ على هذه الصلاة ، لا يضيع حقوق أهله وعياله ، ولا حقوق أقاربه وجيرانه ، ولا حقوق معامليه وإخوانه . المحافظ على هذه الصلاة يعظّم الحق وأهله ، ويحتقر الباطل وجنده ، فلا يرضى لنفسه ولا لأمّته بالذل والهوان ، ولا يعتزّ بأهل البغي والعدوان . المحافظ على هذه الصلاة لا تجزعه النوائب ، ولا تغلّ غرار عزمه المصائب ، ولا تبطره النعم ، ولا تقطع رجاءه النقم ، ولا تعبث به الخرافات والأوهام ، ولا تطير به رياح الأماني والأحلام ، فهو الإنسان الكامل الذي يؤمن شرّه ، ويرجى في الناس خيره ، ولو أنّ فينا طائفة من المصلّين الخاشعين ، لأقمنا بهم الحجّة على المارقين والمرتابين . ولكن المحافظ على الصلوات والصلاة الوسطى مع القنوت والخشوع ، قد صار أندر من الكبريت الأحمر ، ومن عرفه لا يصدق أنّ للصلاة يداً في آدابه العالية ، واستقامته في السرّ والعلانية ، وكأنّي ببعض القارئين لما تقدّم وقد ملّوا منه ، ورموا الكاتب بالغلو فيه : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ * إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَى ٱلشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ } [ محمد : 24 - 25 ] . ثم قال تعالى : { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } أي فإن خفتم أن تقوموا لله فيها قانتين مجتمعين فيفتنكم الأعداء بهجومهم عليكم ، أو إن خفتم أي خطر أو ضرر من قيامكم قانتين ، فصلّوا كيفما تيسّر لكم راجلين ، أو راكبين ، فالرجال : جمع راجل وهو الماشي ، والركبان جمع راكب . قال الأستاذ الإمام : هذا تأكيد للمحافظة وبيان أنّ الصلاة لا تسقط بحال ؛ لأنّ حال الخوف على النفس أو العرض أو المال هو مظنّة العذر في الترك ، كما يكون السفر عذراً في ترك الصيام ، وكالأعذار الكثيرة لترك صلاة الجمعة ، وإستبدال صلاة الظهر بها ، والسبب في عدم سقوط الصلاة عن المكلّف بحال أنّها عمل قلبي ، وإنّما فرضت فيها تلك الأعمال الظاهرة لأنّها مساعدة على العمل القلبي المقصود بالذات ، وهو تذكّر سلطان الله تعالى المستولي علينا وعلى العالم كلّه ، ومن شأن الإنسان إذا أراد عملاً قلبيا يجتمع فيه الفكر ، ويصح فيه توجّه النفس ، وحضور القلب ، أن يستعين على ذلك ببعض ما يناسبه من قول وعمل . ولا ريب إنّ هذه الهيئة التي اختارها الله تعالى للصلاة ، هي أفضل معيّن على استحضار سلطانه ، وتذكّر كرمه وإحسانه ، فإنّ قولك " الله أكبر " في فاتحة الصلاة وعند الإنتقال فيها من عمل إلى عمل ، يعطيك من الشعور بكون الله أكبر وأعظم من كلّ شيء تشغل به نفسك ، وتوجّه إليه همّك ، ما يغمر روحك ، ويستولي على قلبك وإرادتك . وفي قراءة الفاتحة - من الثناء على الله تعالى وتذكر رحمته وربوبيته ومعاهدته على إختصاصك إيّاه بالعبادة والاستعانة ، ومن دعائه لأن يهديك صراطه الذي استقام عليه من سبقت لهم منه النعمة من عباده الصالحين - ما فيها ممّا تقدّم شرحه في تفسيرها ، وكلّ ما تقرأه من القرآن بعد الفاتحة له في النفس آثار محمودة تختلف باختلاف ما في القرآن من المعارف العالية ، والحكمة البالغة ، والعبر العظيمة ، والهداية القويمة ، وانحناؤك للركوع وللسجود بعد ذلك يقوّي في النفس معنى العبودية ، وتذكّر عظمة الألوهية ونعم الربوبية ، لما في هذين العملين من علامة الخضوع والخروج عن المألوف ، وما شرع فيهما من تسبيح الله ، وتذكّر عظمته وعلوّه جلّ ثناؤه . فإذا تعذّر عليك الإتيان ببعض تلك الأعمال البدنية ، فإنّ ذلك لا يسقط عنك هذه العبادة القلبية ، التي هي روح الصلاة وغيرها ، وهي الإقبال على الله تعالى واستحضار سلطانه ، مع الإشارة إلى تلك الأعمال بقدر الإمكان ، الذي لا يمنع من مدافعة الخوف الطارئ من سبع مفترس ، أو عدو مغتال ، أو لصّ محتال ، وكيف يسقط طلب الصلاة القلبية في حال الخوف وهو يساعد على الخروج منه ، أو تخفيف وقعه ؟ فالآية تعلمنا إنّه يجب أن لا يذهلنا عن الله تعالى شيء من الأشياء ، ولا يشغلنا عنه شاغل ولا خوف في حال من الأحوال ، ولذلك قال : { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } أي فصلّوا مشاة أو راكبين كيفما اتّفق ، وهذا في حالة الملاحمة في القتال ، أو مقاومة العدو ودفع الصائل ، أو الفرار من الأسد ، أي ممارسة ذلك بالفعل ، فإن كان الوقت وقت صلاة ، صلّى المكلّف راجلا أو راكباً لا يمنعه من صلاته الكرّ والفرّ ، ولا الطعن والضرب ، ويأتي من أقوال الصلاة بما يأتي مع الحضور والذكر ، ويومئ بالركوع والسجود بقدر الإستطاعة ، ولا يلتزم التوجّه إلى القبلة . وأمّا صلاة الخوف في غير هذه الحالة كصلاة الجند المعسكر بإزاء العدو جماعة فهي مذكورة في سورة النساء . { فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } أي زال خوفكم واطمأننتم فاذكروا الله ؛ لأنّه علّمكم كيف تعبدونه وتصلّون له في حال الخوف ، فيكون ذلك عوناً لكم على دفعه ، أي تذكروا نعمه عليكم بهذا التعليم واشكروه له ، هذا إذا قيل إنّ الكاف للتعليل ، وإذا قلنا إنّ الكاف للبدلية ، فالمعنى فاذكروه على الطريقة التي علّمكم إيّاها من قبل ، أي فصلّوا على السنّة المعروفة في الأمن بإتمام القيام والاستقبال والركوع والسجود .