Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 240-242)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذه الآيات تتمّة ما في السورة من أحكام الأزواج ، وقد جاء الأمر بالمحافظة على الصلوات في أثناء هذه الأحكام - والصلاة عماد الدين - للعناية بها فمن حافظ على الصلوات كان جديراً بالوقوف عند حدود الله تعالى والعمل بشريعته ولذلك قال : { وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَٰوةِ } [ البقرة : 45 ] وقد بيّنا وجه ذلك ، وقد خطر لي وجه آخر هو الذي يطرد في أسلوب القرآن الخاص ، في مزج مقاصد القرآن بعضها ببعض من عقائد وحكم ومواعظ وأحكام تعبّدية ومدنية وغيرها ، وهو نفي السآمة عن القارئ والسامع من طول النوع الواحد منها ، وتجديد نشاطهما وفهمهما واعتبارهما في الصلاة وغيرها . قوله : { وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً } إلخ فيه قولان : أحدهما : إنّ عدّة الوفاة كانت في أوّل الإسلام سنة كاملة مجاراة لعادات العرب ، ولكن مع تخيير المرأة في الإعتداد في بيت الميت ، فإن اعتدّت فيه وجبت نفقتها من تركته ، وحرّم على الورثة إخراجها ، وإن خرجت هي سقط حقّها في النفقة ، وقالوا إنّه لم يكن للمرأة من ميراث زوجها إلاّ هذا المتاع والنفقة ، فقوله تعالى : { وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ } معناه فليوصوا وصيّة لأزواجهم ، أو فعليهم وصيّة لأزواجهم إذ قرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم ( وصيّة ) بالنصب ، وقرأها ابن كثير ونافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم بالرفع وقوله : { مَّتَاعاً إِلَى ٱلْحَوْلِ } معناه أن يمتّعوا متاعاً أو متّعوهنّ متاعاً ، كأنّه قال : فليوصوا لهنّ وصيّة وليمتّعوهنّ متاعاً إلى آخر الحول ، وقيل إنّ التقدير جعل الله ذلك لهنّ متاعاً . وقوله : { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } معناه غير مخرجات أي يجب ذلك لهن مقيمات في دار الميّت غير مخرجات ، فلا يمنعن السكنى . قال الأستاذ الإمام : الأحسن ما قاله بعضهم من إنّ متاعاً مصدر بمعنى تمتيعاً ، أو معمول للمصدر الذي هو وصيّة ، ومعنى { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } غير مخرجات ، وهو حال من الأزواج ، والنكتة في العدول عنه ، هي أنّ المراد أن يوصي الرجل بعدم إخراج زوجه ، وأن ينفّذ أولياؤه وصيّته فلا يخرجونهنّ من بيوتهنّ ، ولو قال " غير مخرجات " لكان تحتيماً عليهنّ بالبقاء في البيوت ، ولأفاد عدم جواز إخراجهنّ لأحد ، ولو كان وليّاً كأبيها ، وليس هذا بمراد ، فعبارة الآية تفيد المعنى المراد ولا توهّم سواه . هذا ما ذهب إليه الجمهور في معنى الآية ، فهي عندهم توجب أن تكون عدّة الوفاة سنة كاملة ، وأن ينفق على المعتدة من تركة زوجها مقيمة في داره لا يجوز إخراجها منه ، إلاّ أن تخرج باختيارها فتسقط نفقتها . قالوا : ثمّ نسخت بجعل العدّة أربعة أشهر وعشراً كما في تلك الآية التي تقدّمت عليها في الذكر ، وهي متأخّرة عنها في النزول ، وبجعلها وارثة للزوج بنصّ القرآن مع تحريم الوصيّة للوارث في الحديث . أقول : وعليه يكون الإصلاح لتلك العادات الجاهلية في الاعتداد لوفاة الزوج وما يتبعه من الحداد عليه قد حصل بالتدريج ، فأقرّت مدّة العدّة أولا ، ولكن منع أن تكون بتلك الحالة الرديئة التي تقدّم ذكرها ثمّ نسخت بما تقدّم . قال الأستاذ الإمام : وهناك وجه آخر يتصل بقول الجمهور ، وهو أنّ الآية كانت في فرض الوصيّة ، وطلب مع هذا الفرض من ورثة الميّت أن لا يخرجن النساء في مدّة الحول ، وأنّ الخروج الذي يبرأ به أولياء الميّت من الوصية المفروضة التي هي النفقة ، هو الخروج الذي بعد العدّة التي هي أربعة أشهر وعشر ، قال : وهو قول ضعيف . والقول الثاني : إنّ هذه الآية لم يذكر فيها التربّص الذي هو الإعتداد كما ذكر في غيرها من آيات العدّة السابقة ، وإنّما ذكر الوصيّة ، والمراد بها أن يستوصي الرجال بالنساء اللواتي يتوفّى أزواجهنّ خيراً ، بأن لا يخرجوهنّ من بيوت أزواجهنّ ، بعد ما كان من قوّة علاقتهنّ بها ، إلى مدّة سنة كاملة تمرّ فيها عليهنّ الفصول الأربعة التي يتذكرن أزواجهنّ فيها ، وأن يجعل لهنّ في مدّة السنة شيء من المال ينفقنه على أنفسهنّ ، إلاّ إذا خرجن وتعرضن للزواج ، أو تزوجنّ بعد العدّة المفروضة في الآية السابقة ، ولكن لم يعمل أحد من الصحابة ولا من بعدهم بهذا ، ولذلك قال الجمهور إنّه منسوخ ، وذهب بعض الصحابة والتابعين إلى إنّ الأمر بالوصية كان للندب وتهاون الناس به ، كما تهاونوا في كثير من المندوبات - أي كاستئذان الأولاد الذين لم يبلغوا الحلم عند دخول بيوتهم في الأوقات الثلاثة التي هي مظنّة التهاون بالستر ، قبل صلاة الفجر وحين وضع الثياب من الظهيرة في أيّام الحرّ ومن بعد صلاة العشاء - قال وعلى هذا فلا نسخ ؛ لأنّهم مجمعون على إنّه لا يصار إلى النسخ إذا أمكن الجمع بين النصّين . هذا ما جرى عليه الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى في تفسير الآية ، وفي كتب التفسير عزيت مخالفة الجمهور إلى كبيرين من قدماء المفسّرين ، وهما مجاهد ، وأبو مسلم ، أمّا مجاهد فقد روى عنه ابن جرير إنّه يقول : نزل في عدّة المتوفّى عنها زوجها آيتان : قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } [ البقرة : 234 ] الآية وقد تقدّمت ، وهذه الآية . فيجب حمل الآيتين على حالتين فإن اختارت الإقامة في دار زوجها المتوفّى والنفقة من ماله فعدتها سنة ، وإلاّ فعدتها أربعة أشهر وعشر ، فيكون للعدّة على قوله أجل محتّم وهو الأقل وأجل مخيّر فيه وهو الأكثر . وأمّا أبو مسلم فيقول : إنّ معنى الآية من يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً ، وقد وصّوا وصيّة لأزواجهم بنفقة الحول وسكنى الحول ، فإن خرجن قبل ذلك وخالفن وصيّة الأزواج بعد أن يقمن المدّة التي ضربها الله تعالى لهنّ ، فلا حرج فيما فعلن في أنفسهنّ من معروف ، أي نكاح صحيح ؛ لأنّ إقامتهنّ بهذه الوصيّة غير لازمة ، قال والسبب أنّهم كانوا في زمان الجاهلية يوصون بالنفقة والسكنى حولا كاملا ، وكان يجب على المرأة الإعتداد بالحول ، فبيّن الله تعالى في هذه الآية إنّ ذلك غير واجب على هذا التقدير فالنسخ زائل . أورد الإمام الرازي هذا في تفسيره ثمّ قال : " واحتجّ على قوله بوجوه : أحدها : إنّ النسخ خلاف الأصل ، فوجب المصير إلى عدمه بقدر الإمكان . والثاني : أن يكون الناسخ متأخّراً عن المنسوخ في النزول ( أي الأصل أن يكون إلخ ولعلّ لفظ الأصل سقط من الناسخ أو الطابع ) وإذا كان متأخّراً عنه في النزول ، كان الأحسن أن يكون متأخّراً عنه في التلاوة أيضاً ؛ لأنّ هذا الترتيب أحسن ، فأمّا تقدّم الناسخ على المنسوخ في التلاوة ، فهو وإن كان جائزاً في الجملة ، إلاّ أنّه يعدّ من سوء الترتيب وتنزيه كلام الله تعالى عنه واجب بقدر الإمكان ، ولمّا كانت هذه الآية متأخّرة عن تلك في التلاوة ، كان الأولى أن لا يحكم بكونها منسوخة بتلك . الوجه الثالث : هو إنّه ثبت في علم أصول الفقه ، إنّه متى وقع التعارض بين النسخ وبين التخصيص ، كان التخصيص أولى ، وهاهنا إن خصّصنا هاتين الآيتين بالحالتين على ما هو قول مجاهد ندفع النسخ ، فكان المصير إلى قول مجاهد أولى من التزام النسخ من غير دليل ، وأمّا على قول أبي مسلم فالكلام أظهر ؛ لأنّكم تقولون تقدير الآية : فعليهم وصيّة لأزواجهم ، أو تقديرها : فليوصوا وصيّة . فأنتم تضيفون هذا الحكم إلى الله تعالى وأبو مسلم يقول بل تقدير الآية : والذين يتوفّون منكم ولهم وصية لأزواجهم ، أو تقديرها : وقد أوصوا وصيّة لأزواجهم ، فهو يضيف هذا الكلام إلى الزوج ، وإذا كان لا بدّ من الإضمار ، فليس إضماركم أولى من إضماره ، ثمّ على تقدير أن يكون الإضمار ما ذكرتم ، يلزم تطرّق النسخ إلى الآية ، وعند هذا يشهد كلّ عقل سليم بأنّ إضمار أبي مسلم أولى من إضماركم ، وأنّ التزام هذا النسخ التزام له من غير دليل ، مع ما في هذا القول بهذا النسخ من سوء الترتيب الذي يجب تنزيه كلام الله تعالى عنه ، وهذا كلام واضح ، وإذا عرفت هذا فنقول : هذه الآية من أوّلها إلى آخرها تكون جملة واحدة شرطية فالشرط هو قوله : { وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى ٱلْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ } والجزاء هو قوله : { فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيۤ أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ } فهذا تقدير قول أبي مسلم وهو في غاية الصحّة " اهـ . أوردنا كلام الرازي بنصّه على إسهابه وإطنابه ، لما فيه من تفنيد قول الجمهور بالحجج البيّنة التي يقتنع بها أولو الألباب ، وليعلم المقلّدون أنّ في أشهر مفسّري القرون الوسطى من ضعّف ذلك القول ، ورجّح عليه كلا من القولين المخالفين له ، واعلم أنّ ما ذكره من جواز كون الناسخ متأخّراً عن المنسوخ في التلاوة ، هو ما قاله الأصوليون ، وإطلاق القول فيه غريب ما حملهم عليه ، إلاّ تصحيح فهمهم لمثل هاتين الآيتين أو اغترارهم بتفسير الجمهور لهما ، وإذا سهل تسليم قولهم بجواز وجود آيتين في سورتين تنسخ إحداهما الأخرى ، مع وجود الناسخة في السورة المتأخّرة في ترتيب القرآن ، فلا يسهل القول بأنّ آيات متناسقة في سورة واحدة يجعل السابق منها ناسخاً لما بعده ، ويفهم من قوله بوجوب تنزيه كلام الله تعالى عن مثل ذلك ، أنّه لا يجيزه ؛ لأنّ الواجب في التنزيه يدخل في باب العقائد ، فهو أبلغ من الواجب في الأحكام العملية ، فكيف يسمّى تركه جائزاً ؟ وإذا كان غير جائز فهو البرهان القاطع على بطلان قول الجمهور بالنسخ . بعد هذا كله أقول إنّ قول مجاهد في الآية بعيد جدّاً ، وإن فضّله الرازي على قول الجمهور ، ويرجّح قول أبي مسلم أمران : أحدهما في العبارة ، وهو جعل " الذين يتوفّون " فيه على ظاهره والجمهور يجعلونه بمعنى الذين تحضرهم الوفاة ، كأنّ هذه الوصيّة لا تجب عند القائل بوجوبها ، إلاّ على من يشعر بدنو أجله . وثانيهما ما علم من عادة العرب في إلزام المرأة ببيت زوجها المتوفّى سنة كاملة ، فلمّا جعل الإسلام عدّتها أربعة أشهر وعشراً كان من مقتضاه أن يخرجها الورثة من البيت بعد مضي العدّة ، فإذا كانت غير راغبة في الزواج يشقّ عليها ذلك ، فكان من اللائق المتوقّع من الزوج الوفي أن يوصي بعدم إخراجها قبل الحول المعتاد جبراً لقلبها ، وأن لا تكلّف النفقة على نفسها ما دامت في البيت ، وقد بيّن الله تعالى للناس أنّه لا حرج على أولياء الميّت وورثته فيما تفعله المرأة إذا هي خرجت من بينهم ، لأنّ كفالتهم إيّاها تسقط حينئذٍ من غير تقصير منهم في إكرامها ، وإنّما قيّد الفعل بالمعروف ؛ لأنّ منعها عن المنكر واجب عليهم ، فإذا قصّروا فيه كان عليهم جناح عظيم . وهذا الوجه الثاني يتّفق مع التفسير المختار عن الأستاذ الإمام . وهو أنّ الوصية للندب لا للوجوب . والوجه الأول يمكن التقصّي منه بجعل الوصيّة من الله تعالى لا من المتوفّى ، والتقدير على الوجه المختار : والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً وصيّة من الله لأزواجهم ، أو فالله يوصي وصيّة لأزواجهم ، أن يمتّعن متاعاً ، ولا يخرجن من بيوت أزواجهنّ إلى تمام الحول ، فإن خرجن من تلقاء أنفسهنّ فلا جناح عليكم أيّها المخاطبون بالوصيّة فيهن فيما فعلن من المعروف شرعاً وعادة كالتعرّض للخطاب بعد العدّة والتزوّج ، إذ لا ولاية لكم عليهن ، فهنّ حرائر لا يمنعن إلاّ من المنكر الذي يمنع منه كلّ مكلّف ، وجعل الوصيّة من الله تعالى معهود في القرآن كقوله : { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ } [ النساء : 11 ] وقوله : { غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ ٱللَّهِ } [ النساء : 12 ] وهذا هو المتبادر من النظم الكريم ، فهو أظهر من قول أبي مسلم ولا يعارض آية تحديد العدّة ولا آية المواريث ولا حديث " لا وصيّة لوارث " فيتأتّى فيه النسخ ، سواء كانت هذه الوصيّة للندب أو للوجوب ، وما قلنا إنّها للندب ، إلاّ لعدم شيوع العمل بها كآية إستئذان الولدان في سورة النور ، ولا يمكن الجزم بأنّه لم يعمل بها أحد البتة ، إذ لم يطّلع أحد من الخلق على جميع معاملات الناس في بيوتهم ، فتأمّل هذا وما قبله أيّها المستقل الفهم المعافى من جهالة التقليد ، وتذكّر قول المثل السائر ، كم ترك الأوّل للآخر . وقد ختم الآية بقوله : { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } للتذكير بأنّ لله العزّة والغلبة فيما يريد من تحويل الأمم عن عادات ضارّة ، إلى سنن نافعة تقتضيها الحكمة ، كتحويل العرب عن عاداتهم في العدّة والحداد بجعل المرأة أسيرة ذليلة مقهورة مدّة سنة كاملة ، إلى ما هو خير من ذلك وهو إكرامها ما دامت في بيت زوجها بين أهله ، وعدم الحجر على حريتها إذا أرادت الخروج منه ما دامت في حظيرة الشرع وآداب الأمّة المعروفة ، فهذه الحكمة البالغة توافق مصلحة الأفراد والجماعات في كلّ زمان ومكان . ثمّ قال تعالى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } قال الجلال : كرّره ليعمّ الممسوسة أيضاً ، إذ الآية السابقة في غيرها . وقد أنكر عليه الأستاذ الإمام كعادته القول بالتكرار ، قال : كأنّ ما تقدّم خاصّ وما هنا عامّ ، والصواب أنّ كلّ آية من الآيات التي وردت في المطلّقات ، وردت في نوع منهنّ فتقدّم حكم من لم تمسّ ، وقد فرض لها ، وحكم المدخول بها المفروض لها ، وبقي حكم غيرهما ( وفي المذكرة المأخوذة في درسه : وبقي حكم الممسوسة سواء فرض لها أم لا ) فذكره هنا ، ولم يذكر ذلك بالترتيب ، لأنّ القرآن ليس كتاباً فنياً فيكون لكلّ مقصد من مقاصده باب خاص به ، وإنّما هو كتاب هداية ووعظ ينتقل بالإنسان من شأن من شؤونه إلى آخر ، ويعود إلى مباحث المقصد الواحد المرّة بعد المرّة ، مع التفنّن في العبارة ، والتنويع في البيان ، حتّى لا يملّ تاليه وسامعه من المواظبة على الإهتداء ، يوجز أحياناً بما يعجز كلّ أحد عن الإتيان بمثله ، إذا كان المقام يقتضي الإيجاز ، ويطنب في مقام آخر حيث ينبغي الإطناب ، وهو معجز في إطنابه كإيجازه ، لا لغو فيه ولا حشو ، ولكلّ مقام فيه مقال ينطبق على الحكمة ، ويعين على التدبّر والتذكّر . أقول : إنّ المطلّقات أربع : مطلّقة مدخول بها قد فرض لها مهر ، فلها كلّ المفروض وعدتها ثلاثة قروء ، وفيها قوله تعالى : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً } [ البقرة : 229 ] الآية ، وتقدّم تفسيرها وفي معناها قوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ ٱسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً } [ النساء : 20 ] ومطلّقة غير مدخول بها ولا مفروض لها ، فيجب لها المتعة بحسب إيسار المطلّق ولا مهر لها ، وفيها قوله تعالى : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } [ البقرة : 236 ] الآية ، وقد سبق تفسيرها ، ولا عدّة عليها لآية الأحزاب التي ذكرناها في تفسيرها إستشهاداً . ومطلقة مفروض لها غير مدخول بها فلها نصف المهر المفروض وفيها قوله : { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } [ البقرة : 237 ] وتقدّم تفسيرها ولا عدّة عليها أيضاً . ومطلّقة مدخول بها غير مفروض لها ، قالوا ولها مهر مثلها بلا خلاف ، وذكر بعضهم إنّ قوله تعالى في سورة النساء : { فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } [ النساء : 24 ] معناه فأعطوهنّ مهورهنّ بالفرض والتقدير ، إذا كان غير مسمّى ، أي والعمدة في التقدير مساواتها بأمثالها على الأقل ، ولم يأمرنا تعالى بالتمتيع عند ذكر نوع من المطلقات ، إلاّ غير الممسوسات مطلقاً كما في آية الأحزاب ، أو مقيّداً بقوله : { أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } [ البقرة : 236 ] كما تقدّم في الآية المشار إليها آنفاً . ثمّ ختم الله تعالى هذه الأحكام المسرودة هنا بقوله : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ } إلخ فزعم بعضهم إنّ المراد المطلّقات المعهودات اللواتي سبق الأمر بتمتيعهنّ ، واستدلّوا بما رواه ابن جرير عن ابن زيد قال : لمّا نزلت : { وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ } [ البقرة : 236 ] قال رجل إن أحسنت فعلت ، وإن لم أرد ذلك لم أفعل . فأنزل الله هذه الآية . وفسّروا المتّقين بمتّقي الكفر ، وليست هذه الرواية ممّا يحتجّ به ، وقد قدّمنا إنّ ذكر المحسنين هناك لا يدلّ على التخيير . وقال بعضهم إنّ هذا حكم عام ، فتجب المتعة لكلّ مطلّقة ، ولا تكرار على هذا مع الآية الآمرة بتمتيع من لم تمسّ ولم يفرض لها ؛ لأن هذه الآية مسوّقة لحكم هذه المتعة من غير تخصيص ولا تقييد بكونها تختلف باختلاف حال الرجل في الإيسار ، وتلك سيقت لبيان نفي الجناح عمّن طلّق من لم يمسّها ولم يفرض لها ، وجاء في السياق أنّه يجب لها تمتيع حسن بحسب وسع المطلّق ، لما تقدّم بيانه في تفسيرها . فعلى هذا تكون المتعة مشروعة لكلّ مطلّقة ، وروي هذا عن ابن عبّاس وابن عمر وعطاء وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وأبي العالية والحسن البصري والشافعي في أحد قوليه وأحمد وإسحاق واستدلّوا بعموم هذه الآية وبقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } [ الأحزاب : 28 ] وقد كنّ مدخولا بهنّ مفروضاً لهنّ المهر . والقائلون بهذا ، منهم من يقول إنّها واجبة لكلّ مطلّقة ، ومنهم من يقول واجبة لمن لم تمسّ ولم يفرض لها ، مندوبة لغيرها ، وحجّة من قال إنّ التمتيع خاصّ بمن لم تمسّ ولم يفرض لها ، هي أنّه بدل ممّا يجب لغيرها من نصف المهر إن فرض لها ولم تمسّ ، أو المهر المسمّى ، أو مهر المثل إذا كانت ممسوسة ، وحسبنا إنّ الله تعالى جعل تمتيع المطلّقات حقّاً على المتّقين ، وقد فسّروه بالذين يتقون الشرك ، أو هو حقّ على كلّ مؤمن مطلقاً ، إلاّ أن يثبت أنّ ما تستحقّه من المهر يسمّى متاعاً في عرف القرآن فحينئذٍ تكون هذه الآية فذلكة لسائر الآيات ، كأنّه قال لكلّ مطلّقة متاع تمتّع به ، فمنهنّ من متاعها المهر المسمّى ، أو المقدّر ، ومنهنّ من متاعها نصفه ، ومنهنّ من لها متاع غير محدود ؛ لأنّه على حسب الإستطاعة . وأحوط الأقوال وأوسطها قول من جعل المتعة غير المهر وأوجبها لمن لا تستحقّ مهراً وندبها لغيرها . ثمّ ختم الله تعالى هذه الأحكام بقوله : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي مضت سنّته تعالى بأن يبيّن لكم آياته في أحكام دينه مثل هذا النحو من البيان ، وهو أن يذكر الحكم وفائدته ، ويقرنه بذكر الله والموعظة الحسنة التي تعين على العمل به ، ليعدكم بذلك لكمال العقل فتتحرّوا الاستفادة من كلّ عمل ، فعليكم أن تعقلوا ما تخاطبون به ، لتكونوا على بصيرة من دينكم ، عارفين بانطباق أحكامه على مصالحكم بما فيها من تزكية نفوسكم والتأليف بين قلوبكم ، فتكونوا حقيقين بإقامتها والمحافظة عليها . قال الأستاذ الإمام : ليس معنى العقل أن يجعل المعنى في حاشية من حواشي الدماغ ، غير مستقرّ في الذهن ولا مؤثّر في النفس ، بل معناه أن يتدبّر الشيء ويتأمّله ، حتّى تذعن نفسه لما أودع فيه إذعاناً يكون له أثر في العمل ، فمن لم يعقل الكلام بهذا المعنى فهو ميّت ، وإن كان يزعم أنّه حي - ميّت من عالم العقلاء ، حي بالحياة الحيوانية - وقد فهمنا هذه الأحكام ولكن ما عقلناها ، ولو عقلناها لما أهملناها . وأقول : أين هذه الطريقة المثلى في بيان الأحكام من طريقة الكتب المعروفة عندنا بكتب الفقه ، وهي غفل في الغالب من بيان فائدة الأحكام وانطباقها على مصالح البشر في كلّ زمان ، ومزجها بالوعظ والتذكير ؟ وأين أهل التقليد من هدي القرآن ؟ هو يذكر لنا الأحكام بأسلوب يعدنا للعقل ، ويجعلنا من أهل البصيرة ، وينهانا عن التقليد الأعمى ، وهم يأمروننا بأن نخرّ على كلامهم ، وكلام أمثالهم صمّاً وعمياناً ، ومن حاول منّا الإهتداء بالكتاب العزيز وما بيّنه من السنّة المتّبعة ، أقاموا عليه النكير ، ولعلّه لا يسلم من التبديع والتكفير ، يزعمون أنّهم بهذا يحافظون على الدين ، وما أضاع الدين إلاّ هذا ، فإن بقينا على هذه التقاليد لا يبقى على هذا الدين أحد ، فإنّنا نرى الناس يتسلّلون منه لواذاً ، وإذا رجعنا إلى العقل الذي هدانا الله تعالى إليه في هذه الآية وأمثالها ، رجي لنا أن نحيي ديننا فيكون دين العقل هو مرجع الأمم أجمعين ، وهذا ما وعدنا الله تعالى به { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ } [ ص : 88 ] .