Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 256-257)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المفردات : الرشد بالضمّ والتحريك إصابة وجه الأمر ومحجّة الطريق والهدى إصابة الثاني فهو أخصّ من الرشد ومثله الرشاد ويستعمل في كلّ خير وضدّه الغي . والطاغوت مصدر الطغيان ومبعثه ، وهو مجاوزة الحد في الشيء وهو صيغة مبالغة كالملكوت من الملك أو مصدر . ويصحّ فيه التذكير والتأنيث والإفراد والجمع بحسب المعنى . والعروة من الدلو والكوز المقبض ومن الثوب مدخل الزر ومن الشجر الملتفّ الذي تشتو فيه الإبل فتأكل منه حيث لا كلأ ولا نبات أو هو ما لا يسقط ورقه كالأراك والسدر أو ما له أصل باقٍ في الأرض . أقوال يدلّ مجموعها على أنّ العروة هي ما يمكن الإنتفاع به من الشجر في كلّ فصل لثباته وبقائه وقالوا إذا أمحل الناس عصمت العروة الماشية يعنون ما له أصل باقٍ كالنصي والعرفج وأجناس الخلّة والحمض . والوثقى مؤنث الأوثق ، وهو الأشدّ الأحكم والموثّق من الشجر ما يعول عليه الناس إذا انقطع الكلأ والشجر وأرض وثيقة كثيرة العشب يوثق بها . والإنفصام الإنكسار والإنقطاع ، مطاوع فصمه أي كسره أو قطعه ولم يبنه . ( سبب النزول ) روى أبو داود والنسائي وابن حبّان وابن جرير عن ابن عبّاس قال كانت المرأة تكون مقلاة ( أي لا يعيش لها ولد ) فتجعل على نفسها إن عاش لها أن تهوّده فلمّا أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا لا ندع أبناءنا فأنزل الله { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ } وأخرج ابن جرير من طريق سعيد أو عكرمة عن ابن عبّاس قال نزلت { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ } في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين كان له إبنان نصرانيان وكان هو مسلماً فقال للنبي صلى الله عليه وسلم ألا أستكرههما فإنّهما قد أبيا إلا النصرانية ؟ فأنزل الله الآية . وفي بعض التفاسير أنّه حاول إكراههما فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر ؟ ولإبن جرير عدّة روايات في نذر النساء في الجاهلية تهويد أولادهنّ ليعيشوا وأنّ المسلمين بعد الإسلام أرادوا إكراه من لهم من الأولاد على دين أهل الكتاب على الإسلام فنزلت الآية فكانت فصل ما بينهم . وفي رواية له عن سعيد بن جبير أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال عندما أُنزلت : " قد خير الله أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم وإن اختاروهم فهم منهم " . التفسير : أقول هذا هو حكم الدين الذي يزعم الكثيرون من أعدائه - وفيهم من يظنّ أنّه من أوليائه - أنّه قام بالسيف والقوّة فكان يعرض على الناس والقوّة عن يمينه فمن قبله نجا ومن رفضه حكم السيف فيه حكمه . فهل كان السيف يعمل عمله في إكراه الناس على الإسلام في مكّة أيّام كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي مستخفياً وأيّام كان المشركون يفتنون المسلم بأنواع من العذاب ولا يجدون رادعاً حتّى اضطرّ النبي وأصحابه إلى الهجرة ؟ أم يقولون إن ذلك الإكراه وقع في المدينة بعد أن اعتزّ الإسلام وهذه الآية قد نزلت في غرّة هذا الإعتزاز فإنّ غزوة بني النضير كانت في ربيع الأول من السنة الرابعة وقال البخاري إنّها كانت قبل غزوة أحد التي لا خلاف في أنّها كانت في شوال سنة ثلاث وكان كفار مكّة لا يزالون يقصدون المسلمين بالحرب . نقض بنو النضير عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكادوا له وهمّوا باغتياله مرتين وهم بجواره في ضواحي المدينة فلم يكن له بدّ من إجلائهم عن المدينة فحاصرهم حتّى أجلاهم فخرجوا مغلوبين على أمرهم ولم يأذن لمن استأذنه من أصحابه بإكراه أولادهم المتهودين على الإسلام ومنعهم من الخروج مع اليهود . فذلك أوّل يوم خطر فيه على بال بعض المسلمين الإكراه على الإسلام . وهو اليوم الذي نزل فيه { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ } . قال الأستاذ الإمام : رحمه الله تعالى كان معهوداً عند بعض الملل - لا سيّما النصارى - حمل الناس على الدخول في دينهم بالإكراه . وهذه المسألة ألصق بالسياسة منها بالدين لأنّ الإيمان هو أصل الدين وجوهره عبارة عن إذعان النفس ويستحيل أن يكون الإذعان بالإلزام والإكراه . وإنّما يكون بالبيان والبرهان ولذلك قال تعالى بعد نفي الإكراه { قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ } أي قد ظهر أنّ في هذا الدين الرشد والهدى والفلاح والسير في الجادّة على نور ، وأنّ ما خالفه من الملل والنحل على غي وضلال . { فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ } وهو كلّ ما تكون عبادته والإيمان به سبباً للطغيان والخروج عن الحقّ من مخلوق يعبد ، ورئيس يقلّد ، وهوى يتبع ، { وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ } فلا يعبد إلاّ إيّاه ، ولا يرجو غيره ولا يخشى سواه ، يرجوه ويخشاه لذاته ، وبمنا سنّه من الأسباب والسنن في عباده { فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا } . أقول : أي فقد طلب أو تحرّى باعتقاده وعمله أن يكون ممسكاً بأوثق عرى النجاة ، وأثبت أسباب الحياة ، أو فقد اعتصم بأوثق العرى ، وبالغ في التمسك بها ، وقال الأستاذ الإمام : الاستمساك بالعروة الوثقى هو الاستقامة على طريق الحقّ القويم الذي لا يضلّ سالكه ، كما أنّ المتعلّق بعروة هي أوثق العرى وأحكمها فتلا لا يقع ولا يتفلّت . وقد حذف لفظ التي وذلك معروف عن العرب في مثل هذا الكلام ، وأقول : أفاد كلامه أنّ العروة في الآية مستعارة من عروة الثوب ويناسبه الإنفصام ولعلّ الأقرب أن يراد بها عروة الشجر والنبات فهي التي لا ينقطع مددها بالقحط والجدب ، كأنّه يقول : إنّ المبالغ بالتمسّك بهذا الحقّ والرشد كمن يأوي بنعمه إلى ذلك الشجر والنبات الذي لا ينقطع مدده ولا يفنى علفه . فإذا نزل الجدب والقحط بمن يعتمدون على الشجرة الخبيثة التي اجتثّت من فوق الأرض ما لها من قرار ، كان هو معتصماً بالشجرة الطيّبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّها ، أي إنّ صاحب هذه العروة يجد فيها السعادة الدائمة دون غيره . وممّا خطر لي عند الكتابة الآن : أنّ عروة الإيمان إذا كانت لا تنقطع بالمستمسك بها فهو لا يخشى عليه الهلكة إلاّ إذا كان هو الذي تركها . فإذا كان الإيمان بالله وما يتبعه من الآثار في صفات صاحبه وأعماله من أسباب الثبات والاستقرار في الوجود لأنّه هو الحقّ والخير الموافق لمصالح العالم ، فلا شكّ أنّ شدّة التمسّك به هي العصمة من الهلاك والسبب الأقوى للثبات والاستقرار في الملك والسيادة والسعة في هذه الحياة الدنيا وللبقاء الأبدي في الحياة الأخرى . والتعبير بالاستمساك يدلّ على أنّ من لم يكفر بجميع مناشئ الطغيان ، ويعتصم بالحقّ اليقين من أصول الإيمان ، فهو لا يعد مستمسكاً بالعروة الوثقى وإن انتمى في الظاهر إلى أهلها ، أو إلمّ بها إلمام الممسك بها ، فالعبرة بالإعتصام والاستمساك الحقيقي ، لا بمجرد الأخذ الضعيف الصوري ، والإنتماء القولي والتقليدي ، { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ } لأقوال مدّعي الكفر بالطاغوت والإيمان بالله بألسنتهم ، { عَلِيمٌ } بما تكنّه قلوبهم ممّا يصدق ذلك أو يكذبه فهو يجزيهم وصفهم فمن شهد بقوّة إيمانه جميع الأسباب والسنن الكونية مسخّرة بحكمة الله تعالى مسيّرة بقدرته وأنّه لا تأثير لسواها إلاّ لواضعها والفاعل بها فهو المؤمن حقاً وله جزاء المستمسك بالعروة الوثقى ، ومن كان منطوياً على شيء من نزغات الوثنية ، ناحلاً ما جهل سرّه من عجائب الخلق قوّة غير طبيعية ، يتقرّب إليها أو يتقرّب بها إلى الله زلفى ، فهو غير معتصم بالعروة الوثقى ، وله جزاء الكافرين ، الذين يقولون آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين . وقال الأستاذ الإمام : إنّ هذه الجملة { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } تذكر للترغيب والتهديد أي فهي تفسّر بحسب المقام كما قلنا . فهي جامعة هنا بين الأمرين . ورد بمعنى هذه الآية قوله تعالى : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي ٱلأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ يونس : 99 ] ويؤيّدهما الآيات الكثيرة الناطقة بأنّ الدين هداية اختيارية للناس تعرض عليهم مؤيّدة بالآيات والبيّنات وأنّ الرسل لم يبعثوا جبارين ولا مسيطرين ، وإنّما بعثوا مبشّرين ومنذرين ، ولكن يرد علينا أنّنا قد أمرنا بالقتال وقد تقدّم بيان حكمة ذلك بل أقول : أنّ الآية التي نفسّرها نزلت في غزوة بني النضير إذ أراد بعض الصحابة إجبار أولادهم المتهودين أن يسلموا ولا يكونوا مع بني النضير في جلائهم كما مرّ ، فبيّن الله لهم أنّ الإكراه ممنوع وأنّ العمدة في دعوة الدين بيانه حتّى يتبيّن الرشد من الغي وأنّ الناس مخيّرون بعد ذلك في قبوله وتركه . شرع القتال لتأمين الدعوة ولكفّ شرّ الكافرين عن المؤمنين ، لكيلا يزعزعوا ضعيفهم قبل أن تتمكّن الهداية من قلبه . ويقهروا قويّهم بفتنته عن دينه كما كانوا يفعلون في مكّة جهراً ولذلك قال تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ للَّهِ } [ البقرة : 193 ] أي حتّى يكون الإيمان في قلب المؤمن آمناً من زلزلة المعاندين له بإيذاء صاحبه فيكون دينه خالصاً لله غير مزعزع ولا مضطرب . فالدين لا يكون خالصاً لله إلاّ إذا كفت الفتن عنه وقوي سلطانه حتّى لا يجرؤ على أهله أحد . قال الأستاذ الإمام : وإنّما تكفّ الفتن بأحد أمرين : الأول : إظهار المعاندين الإسلام ولو باللسان لأنّ من فعل ذلك لا يكون من خصومنا ولا يبارزنا بالعداء وبذلك تكون كلمتنا بالنسبة إليه هي العليا ويكون الدين لله ولا يفتن صاحبه فيه ولا يمنع من الدعوة إليه والثاني : وهو أدلّ على عدم الإكراه قبول الجزية وهي شيء من المال يعطوننا إيّاه جزاء حمايتنا لهم بعد خضوعهم لنا بهذا الخضوع نكتفي شرّهم وتكون كلمة الله هي العليا فقوله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ } قاعدة كبرى من قواعد دين الإسلام وركن عظيم من أركان سياسته فهو لا يجيز إكراه أحد على الدخول فيه ولا يسمح لأحد أن يكره أحداً من أهله على الخروج منه . وإنّما نكون متمكّنين من إقامة هذا الركن وحفظ هذه القاعدة إذا كنّا أصحاب قوّة ومنعة نحمي بها ديننا وأنفسنا ممّن يحاول فتنتنا في ديننا إعتداء علينا بما هو آمن أن نعتدي بمثله عليه إذ أمرنا أن ندعو إلى سبيل ربّنا بالحكمة والموعظة الحسنة وأن نجادل المخالفين بالتي هي أحسن معتمدين على أن تبيّن الرشد من الغي بالبرهان : هو الصراط المستقيم إلى الإيمان ، مع حرية الدعوة ، وأمن الفتنة ، فالجهاد من الدين بهذا الإعتبار أي إنّه ليس من جوهره ومقاصده وإنّما هو سياج له وجنّة فهو أمر سياسي لازم له للضرورة . لا إلتفات لما يهذي به العوام ، ومعلّموهم الطغام ، إذ يزعمون إنّ الدين قام بالسيف وأنّ الجهاد مطلوب لذاته ، فالقرآن في جملته وتفصيله حجّة عليهم . وتأمل مع ما ذكرناك به من الآيات قوله تعالى : { ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } فهذا القول يهدي إلى أنّ الإيمان وغيره من ضروب الهداية يكون بتوفيق الله تعالى من شاء وإعداده للنظر في الآيات والخروج من الشبهات بما ينقدح لنظره من نور الدليل لا بالإجبار والإكراه . فالآية بمثابة الدليل على منع الإكراه في الدين والتنبيه لأولئك الآباء الذين أرادوا إكراه أولادهم على ترك اليهودية والدخول في الإسلام على أنّ الولاية على العقول والقلوب هي لله تعالى وحده . فإذا أعدتها سننه وعنايته لقبول الحقّ والرشاد كانت الدعوة المبيّنة كافية لجذبها إلى نور الهداية . وإلاّ فقد تودّع منها لإحاطة الظلمات بها . وقال الأستاذ الإمام : ذهب كثير من المفسّرين في معنى الآية إلى أنّ الله تعالى هو متولّي أمور المؤمنين يوفّقهم إلى الخروج من الظلمات ويمدّهم في الهداية بمحض القدرة كما إنّ الطاغوت يمدّون الكافرين في الغواية ، ويخرجونهم بالإغواء من نور الحقّ إلى ظلمات الضلالة ، وهذا تفسير العوام الذين لا يفهمون أساليب اللغة العالية أو تفسير الأعاجم الذين هم أجدر بعدم الفهم . ومعنى الآية الذي يلتئم مع معنى سابقتها ظاهر أتمّ الظهور وهو أنّ المؤمن لا ولي له ولا سلطان لأحد على إعتقاده إلاّ الله تعالى ومتى كان كذلك فإنّه يهتدي إلى استعمال الهدايات التي وهبها الله له على وجهها وهي الحواس والعقل والدين . فهؤلاء المؤمنون كلما عرضت لهم شبهة لاح لهم بسلطان الولاية الإلهية على قلوبهم شعاع من نور الحق يطرد ظلمتها فيخرجون منها بسهولة { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } [ الأعراف : 201 ] جولان الحواس في رياض الأكوان ، وإدراكها ما فيها من بديع الصنع والإتقان يعطيهم نوراً ، ونظر العقل في فنون المعقولات يعطيهم نوراً ، وما جاء به الدين من الآيات البيّنات يتمّ لهم نورهم . { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ } أي لا سلطان على نفوسهم إلاّ لتلك المعبودات الباطلة السائقة إلى الطغيان فإذا كان الطاغوت من الأحياء الناطقة ورأى أنّ عابديه قد لاح لهم شعاع من نور الحقّ الذي ينبههم إلى فساد ما هم فيه بادر إلى إطفائه بل إلى صرفهم عنه بما يلقيه دونه من حجب الشبهات وأستار زخارف الأقوال التي تقبل منه لأجل الإعتقاد أو بنفس الإعتقاد . وإذا كان الطاغوت من غير الأحياء فإنّ سدنة هيكله وزعماء حزبه لا يقصرون في تنميق هذه الشبهات ، وتزيين تلك الشهوات . أقول : بل هؤلاء الزعماء يعدّون من الطاغوت كما علم من تفسيره . فإنّهم دعاة الطغيان وأولياؤه فإن لم يكونوا ممّن تعتقد فيهم السلطة الغيبية وتولّه العقول في مزاياهم الإلهية فإنّهم ممّن يؤخذ بقولهم في الإعتقاد بتلك السلطة والمزايا وما ينبغي لمظاهرها أو لأربابها من التعظيم الذي هو عين العبادة وإن سمّي توسلاً أو استشفاعاً أو غير ذلك . ثمّ قال الأستاذ : الظلمات هي الضلالات التي تعرض على الإنسان في كلّ طور من أطوار حياته كالكفر والشبهات التي تعرض دون الدين ، فتصدّ عن النظر الصحيح فيه أو تحول دون فهمه والإذعان له ، وكالبدع والأهواء التي تحمل على تأويله وصرفه عن وجهه ، وكالشهوات والحظوظ التي تشغل عنه وتستحوذ على النفس حتى تقذفها في الكفر . أقول : ولهذه الظلمة شعبتان : إحداهما : ما يخرج صاحبها من الإيمان ظاهراً وباطناً لأنّه يرى ذلك وسيلة إلى التمتع بشهواته الحسيّة أو المعنوية كالسلطة والجاه . والثانية : ما يسترسل صاحبها في الفواحش والمنكرات أو الظلم والطغيان حتى لا يبقى لنور الدين مكان من قبله وهؤلاء هم المشار إليهم بمثل قوله تعالى : { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [ المطففين : 14 - 15 ] الآيات . وقال رحمه الله تعالى : لا توجد مرآة يرى فيها عبدة الطاغوت أنفسهم كما هي أجلى من القرآن : أي ولكنّهم لا ينظرون فيه إمّا لأنّهم استحبّوا العمى وألفوه حتّى لم يبق من أمل في شفاء بصائرهم وإمّا لأنّ طاغوتهم يحولون بينهم وبينه كما تقدّم { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } لأنّ النار هي الدار التي تليق بأهل الظلمات الذين لم يبق لنور الحقّ والرشاد مكان في أنفسهم يصلها بدار النور والرضوان . فما يكون عليه الإنسان في الآخرة هو عاقبة ما كانت عليه نفسه في الدنيا . وقد سبق القول بأنّ الخوض في حقيقة تلك الدار التي سميّت بالنار غير جائز وإنّما يعتقد من مجموع النصوص أنّها دار شقاء يعذّب فيها المرء فيها بما تقدّم من عمله السيء . وقد يكون هذا العذاب بالبرد إذ ورد أنّ فيها الزمهرير . وأُزيد الآن : أنّه لا يبعد أن تكون شبيهة بالأرض من حيث أنّ فيها مواضع شديدة الحرّ كالأماكن التي في خطّ الاستواء ومواضع شديدة البرد كالقطبين إلاّ أنّها أبعد من الأرض عن الإعتدال ، فحرّها وبردها أشدّ ومصادرهما غير معروفة لنا . أعاذنا الله منها وممّا يؤدي إليها من اعتقاد وقول وعمل بمنّه وكرمه آمين . هذا وإنّ في الآيتين من هدم التقليد ما لا يخفى على ذي البصيرة ، ولكن الأستاذ الإمام لم يتعرض له في الدرس بالنصّ بل قال كلاماً يستلزم ذلك ويفهم منه . ذلك أنّ الله تعالى جعل تبيّن الرشد وظهوره في كتابه هو الطريق إلى الدين فلو لم يكن بيان الكتاب كافياً في أن يتبيّن للمكلّف ما هو مطالب به لما صحّ قوله : { قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ } ولا تفويض الأمر بعد البيان إلى الناظر ، ولما عد البيان إعذاراً له وإنذاراً ، ولمّا التأم مع هذا قوله : { ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } إلخ فإنّ معنى هذه الآية أنّ أهل الإيمان هم الذين وكّلوا إلى ولاية الله تعالى وحده ، فلم يكن للبشر سلطان على عقائدهم ولا تصرف في هدايتهم أي إنّهم ظلّوا على فطرة الله التي فطر الناس عليها فنظروا في الدين بما غرز في فطرتهم من العقل والتمييز فتبيّن لهم الرشد فاتّبعوه والغي فاجتنبوه والمقلّد لم يتبيّن له شيء من ذلك وإنّما هو تابع لإعتقاد غيره فلا تسلم له ولاية الفطرة السليمة التي تؤيّدها العناية الإلهية العظيمة وأمّا أهل الكفر فلهم أولياء من الطاغوت يتصرفون في إعتقادهم وهم يقبلون تصرفهم ثقة بهم وتعظيماً لشأنهم . وهذا ليس بعذر عند الله تعالى بعد ما بيّن الرشد من الغي ، فتبيّن في نفسه حتّى لا يمكن أن يخفى على من نظر فيه طالباً للحقّ من غير تعصّب للأهواء ، ولا لتقاليد الآباء . ويؤكّد هذه المعاني قوله تعالى : { لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا } فإنّه يفيد أنّ من تبيّن له هذا الرشد فإنّه لا ينفكّ عنه ، والمقلّد عرضة للترك والإنفكاك ، لأنّه لا يعرف قيمة ما هو فيه لذاته . أقول : وممّا يجب بيانه في تفسير هذه الآية أيضاً الفرق بين ولاية الله للمؤمنين وولايتهم له وولاية بعضهم لبعض . فإنّ الجاهلين لا يميّزون بين الولايتين فيجعلون لبعض المؤمنين من الولاية ما هو لله تعالى وحده . وذلك شرك في التوحيد خفي عند الجاهل جلي عند العارف ولا بدّ من تفصيل فيه . هذه الآيات تثبت ولاية الله وحده للمؤمنين وفي معناها آيات تفيد الحصر كقوله تعالى : { أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فَٱللَّهُ هُوَ ٱلْوَلِيُّ } [ الشورى : 9 ] وقوله : { وَهُوَ ٱلْوَلِيُّ ٱلْحَمِيدُ } [ الشورى : 28 ] وثمّة آيات كثيرة تنفي ولاية غيره تعالى كالآيات التي تقدّمت في الكلام على الشفاعة ، وكقوله تعالى في سورة هود بعد أمر النبي ومن معه بالاستقامة { وَلاَ تَرْكَنُوۤاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } [ هود : 113 ] وقوله له : { قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ } [ الأنعام : 14 ] وقوله : { إِنَّ وَلِيِّـيَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى ٱلصَّالِحِينَ } [ الأعراف : 196 ] وكذلك أمر سائر الأنبياء ألا يتّخذوا وليّاً لهم غير الله تعالى ، أي وأن يعلّموا أممهم ذلك . قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام : { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ ٱلْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي ٱلدُّنُيَا وَٱلآخِرَةِ } [ يوسف : 101 ] الآية وقال : { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيّاً } [ النساء : 45 ] فهذه شواهد على ولاية الله وحده للمؤمنين ونهيهم عن إتّخاذ ولي من دونه وورد في ولايتهم له قوله : { أَلاۤ إِنَّ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ يونس : 62 - 63 ] وفي معناها قوله في سورة الأنفال بعد ذكر المشركين { وَمَا كَانُوۤاْ أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ ٱلْمُتَّقُونَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الأنفال : 34 ] . وقال تعالى في ولاية المؤمنين بعضهم لبعض : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوۤاْ أُوْلَـٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [ الأنفال : 72 ] وقال : { وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } [ التوبة : 71 ] . يقابل ولاية الله تعالى للمؤمنين وولايتهم له : ولاية الشيطان والطاغوت للكافرين وولايتهم لهما كما ترى في الآية التي نحن بصدد تفسيرها وقال تعالى : { إِنَّمَا ذٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } [ آل عمران : 175 ] وقال : { فَقَٰتِلُوۤاْ أَوْلِيَاءَ ٱلشَّيْطَٰنِ } [ النساء : 76 ] وقال : { إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُوا ٱلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } [ الأعراف : 30 ] ويقابل ولاية المؤمنين بعضهم لبعض ولاية الكافرين بعضهم لبعض كما قال : { وَٱلَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [ الأنفال : 73 ] وقال : { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [ المائدة : 51 ] . ومن تأمّل هذه الآيات رأى معانيها ظاهرة جليّة أمّا كونه تعالى هو الولي وحده لا ولي سواه فالمراد به أنّه هو المتولّي لأمور العباد في الواقع ونفس الأمر كما تقدّم وذلك بما خلق لهم من المنافع ومن الأعضاء والقوى التي تمكنهم من الإنتفاع بها وبما بيّن لهم من السنن ومهّد لهم من الأسباب وهذه هي الولايات العامّة المطلقة وأمّا ولايته للمؤمنين خاصّة فهي عبارة عن عنايته بهم وإلهامه وتوفيقه إيّاهم لما فيه الخير والصلاح الروحاني والجسماني بما اختاروا لأنفسهم من الإيمان به وبما جاءت به رسله ، وأمّا ولايتهم له تعالى فقد عبّر عنها بالإيمان والتقوى فهم بالإيمان بولايته لهم يتولّونه أي يعتقدون أنّه هو المتولّي لأمورهم وحده كما تقدّم وهم في استفادتهم بقواهم من منافع الكون واتّقائهم لمضاره يلاحظون أنّ هذا من فضله عليهم وتولّيه لأمورهم إذ مكّنهم من ذلك وهيّأ أسبابه لهم وإذا ضعفت قواهم دون مطلب من مطالبهم أو جهلوا طريقه وسببه توجّهوا إليه وحده مع تعاونهم وتناصرهم لا يتوجّهون إلى غيره في استمداد العناية وطلب التوفيق والهداية كما تقدّم آنفا . ثمّ إنّهم مع هذا الإيمان يتّقونه تعالى بترك المعاصي والإثم والظلم والبغي في الأرض وغير ذلك ممّا جعله الله سبب البلاء والشقاء في الدنيا والآخرة وبفعل الطاعات والخيرات التي هي أسباب السعادة في الدارين . فهذا معنى تفسير أوليائه الذين آمنوا وكانوا يتقون . وأمّا ولاية المؤمنين بعضهم لبعض فهي عبارة عن تعاونهم وتناصرهم في الأمور المشتركة مع استقامتهم على الأعمال الصالحة الخاصّة لأنّ الفساد الشخصي لا يتّفق مع القيام بالمصالح العامّة وذلك ظاهر من قوله بعد ذكره هذه الولاية { يَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ } [ التوبة : 71 ] إلخ ومن وصفهم بالمجاهدة في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم كما في الآية الأخرى [ الأنفال : 72 ] فكلّ من كان كذلك فقد وجبت ولايته على جميع المؤمنين ، ولا معنى لكون المؤمن وليّاً للمؤمن إلاّ هذا أي إنّه عون له ونصير في الحقّ الذي يعلو به شأن الإيمان وأهله فمن تجاوز ذلك فاتّخذ له وليّاً أو أولياء يعتقد أنّهم يتولّون شيئاً من أموره فيما وراء هذا التعاون والتناصر بين الناس فقد أشرك إذ اعتدى على ولاية الله الخاصّة به التي لا يشاركه فيها أحد لا بالتوسط عنده ولا الاستقلال دونه . هذا المعنى هو عين ولاية الكافرين للشيطان أو للطاغوت كما قال : { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] ولا يقال إنّ هذا يقتضي أن يسمّى بالطاغوت بعض من اتّخذ وليّاً بهذا المعنى من الأنبياء والصالحين كعيسى عليه السلام فإنّ الذين اعتقدوا هذه الولاية لعيسى وغيره من الصالحين لم يتّبعوهم في ذلك وإنّما اتّبعوا وحي شياطين الإنس والجنّ ووساوسهم فهم طاغوتهم كما قال : { وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَٰدِلُوكُمْ } [ الأنعام : 121 ] الآية وقال : { وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً } [ الأنعام : 112 ] وإنّ بعضهم ليتبرّأ من بعض يوم القيامة كما علم من الآيات الأخرى ومن هذا التقرير تعلم أنّ القرآن حجّة على كلّ من أسند ولاية الله الخاصّة إلى غيره وإن كان ينسب إلى الإسلام . وقد أوغل بعض متّخذي الأولياء في دعاء أوليائهم ومطالبتهم بما لا يطلب إلاّ من الله تعالى حتّى صار في المنتسبين إلى العلم منهم من يقول ويكتب أنّ فلاناً الولي يميت ويحيي ويسعد ويشقي ويفقر ويغني : فعليك أيّها المؤمن بهدى القرآن ولا يغرنّك تأويل أولياء الشيطان .