Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 26-26)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الآيات متّصلة بما قبلها لم يختلف النظم ولم يخرج الكلام عن الموضوع الأصليّ وهو الكتاب الذي لا ريب فيه ، وحال الناس في الإيمان به وعدم الإيمان ، ولا فصل في صحّة هذا الوصل بين أن يكون الكلام ردّاً على اليهود الذين أنكروا ضرب الأمثال بالمحقّرات - كالذباب والعنكبوت - كما يروى عن ابن عباس ، أو ردّاً على المنافقين الذين أنكروا الأمثال في الآيات السابقة - بمستوقد النار والصيّب من السماء - زاعمين أنّه لا يليق بالله ضرب الأمثال . أو يكون المراد بالمثل القدوة تقريراً لنبوّة النبيّ صلى الله عليه وسلم . أمّا على الأوّل فيقال : إنّه إنّما نصّ هنا على نفي الإستحياء من ضرب أي مثل ، ولم يذكر ذلك هناك عند تمثيل الأولياء ، الذين اتّخذوهم من دون الله بالذباب والعنكبوت ؛ لأنّ المقام هنا مقام ذكر الإعتراض الموجّه على القرآن ، فيكون هذا مقام ردّ شبه المكابرين عنه . وأمّا على الثاني والثالث فهو أظهر ، على أنّه لا حاجة في فهم الآية إلى ما قالوه في سببها ، فإن لم تكن ردّاً لما قيل فهي ردّ لما قد يقال ، أو يجول في خواطر أهل المكابرة والجدال ، والمجاحدة والمحال . والإستحياء - قال صاحب الكشّاف : إنّه من الحياء ، وهو إنكسار وتغيّر في النفس يلمّ بها إذا نسب إليها ، أو عرض لها فعل تعتقد قبحه ، وفي الحالة الثانية يكون مانعاً من الفعل الذي يعرض ، يقال : فلان يستحي أن يفعل كذا ، أي إنّ نفسه تنكسر فتنقبض عن فعله ، ويقال : إنه إستحيا من عمل كذا ، أي إنّ نفسه انفعلت وتألّمت عندما عرض عليه عمله فرآه شيئا أو نقصاً . ويقال : حيّ بهذا المعنى ، كأنّه أصيب في حياته ، كما يقال : نسيّ إذا أصيب في نساه - وهو عرق يسمّونه عرق النِّسا بفتح النون - وحَشيّ إذا أصيب في حشاه وقالوا : إنّ الحياء ضعف في الحياة بما يصيب موضعها وهو النفس ، فمعنى عدم إستحياء الله تعالى أنّه لا يعرض له ذلك الانكسار والإنفعال ، ولا يعتريه ذلك التأثّر والضعف فيمتنع من ضرب المثل ، بل هو يضرب من الأمثال الهادية والمطابقة لحال الممثل به ، ما يعلم أنّه يجلي الحقائق ويؤثّر في القلوب . ولكنّ صاحب الكشّاف وغيره أرادوا أن يجعلوا الآية دليلا على إتّصاف الله تعالى بالحياء ، فقالوا إنّ النفي خاصّ ، ومثله إذا ورد على شيء يدلّ على أنّ ذلك الشيء قابل للإتّصاف بالمنفيّ ، فمن لا قدرة له على شيء لا ينفي عنه ، لا تقول : إنّ عيني لا تسمع وأذني لا ترى ، وقالوا : إنّ معنى نفي الإستحياء : هو أنّ الله تعالى لا يرى من النقص أن يضرب مثلا بعوضة فما دونها ؛ لأنّه خالق كلّ شيء ، وقد ورد في الحديث نسبة الحياء إلى الله تعالى ، والنافون له يؤوّلون ما ورد بأثره وغايته . أقول : هذا مؤدّى ما قاله الأستاذ في الدرس ، والحديث في وصفه تعالى بالحياء مرويّ عن يعلى بن أميّة وعن سلمان الفارسيّ أخرجهما أحمد وأبو داود والأوّل النسائيّ والثاني الترمذيّ وابن ماجه والحاكم وحسّنوهما . والتحقيق : إنّ الحياء إنفعال النفس وتألّمها من النقص والقبيح بالغريزة الفضلى ، غريزة حبّ الكمال ، فهو كمال لها خلافاً لأولي الوقاحة الذين يعدّونه ضعفاً ونقصاً . وإنّما النقص الإفراط في هذه الصفة بحيث تضعف عن الإقدام على الشيء الحسن النافع إتّقاء لذمِّ من لا يعرف حسنه ، أو لا يعترف به . والمثل في اللغة : الشبه والشبيه ، وضربه عبارة عن إيقاعه وبيانه ، وهو في الكلام أن يذكر لحال من الأحوال ما يناسبها ويشابهها ، ويظهر من حسنها أو قبحها ما كان خفيّاً . ولمّا كان المراد به بيان الأحوال كان قصّةً وحكاية ، واختير له لفظ الضرب ؛ لأنّه يأتي عند إرادة التأثير وهيج الإنفعال ، كأنّ ضارب المثل يقرع به أذن السامع قرعاً ينفذ أثره إلى قلبه ، وينتهي إلى أعماق نفسه ، ولكنّ في الكلام قلباً ، حيث جعل المثل هو المضروب وإنّما هو مضروب به . هذا الذي قاله الأستاذ وهو أبلغ في المعنى من جعل الضرب للمثل كضرب القبّة والخيمة أو ضرب النقود . وإذاً كان الغرض التأثير فالبلاغة تقضي بأن تضرب الأمثال لما يراد تحقيره والتنفير عنه بحال الأشياء التي جرى العرف بتحقيرها ، وإعتادت النفوس النفور منها ، ومثل هذا لا يخفى على بليغ ، ولا على عاقل أيضاً ، ولذلك قال بعضهم : إنّ المنكرين لم يروا في القرآن شيئاً يعاب ، فتمحّلوا بقولهم هذا : @ كضرائر الحسناء قلنَ لوجهها حسداً وبغضاً إنّه لدميم @@ وجروا في ذلك على عادة المتحذلقين المتكيّسين إذ يتحامون ذكر الألفاظ التي مدلولاتها حقيرة في العرف ، وإذا إضطروا لذكرها شفعوها بما يشفع لها ، كقولهم : " أجلّكم الله " وإذا كان شأن المثل ما ذكرنا ، وكان ذكر الأشياء التي ينفر منها من ذكرنا في الأمثال التي يراد منها التنفير ، هو الأبلغ في التأثير الذي هو روح البلاغة وسرّها ، كان قوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } مبيّنا لشأن من شؤون كماله عزّ وجلّ في كتابه العزيز ، وقاضياً على الذين يتحامون ذكر البعوضة وأمثالها بنقص العقل ، وخسران ميزان الفضل ، والمراد بما فوق البعوضة ما علاها وفاقها في مرتبة الصغر ومنها جِنة النسم ( الميكروبات ) التي لا ترى إلاّ بالنظّارات المكبّرة ( ميكرسكوب ) وكانوا يضربون المثل بمخّ النملة ، وفي كلام بلغائهم : " أسمع من قراد ، وأطيش من فراشة ، وأعزّ من مخّ البعوضة . والمعنى أنّ الله تعالى لا يترك ضرب مثل ما من الأمثال حياء منه سواء كان بعوضة ، أو أصغر منها حجماً وأقلّ عند الناس شأناً . ثم ذكر تعالى أنّ الناس في ذلك فريقان : { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } لأنّه ليس نقصاً من حدّ ذاته ؛ وقد جاء في كلامه تعالى فهو ليس نقصاً في جانبه ، وإنّما هو حقّ لأنّه مبيّن للحقّ ومقرّر له ، وسائق إلى الأخذ به ، بما له من التأثير في النفس ؛ وذلك أنّ المعاني الكلّيّة ، تعرض للذهن مجملةً مبهمة ، فيصعب عليه أن يحيط بها وينفذ فيها فيستخرج سرّها ، والمثل هو الذي يفصّل إجمالها ، ويوضّح إبهامها ، فهو ميزان البلاغة وقسطاسها ، ومشكاة الهداية ونبراسها ، ورحم الله تعالى عبد القاهر الجرجانيّ إمام البلاغة والواضع الأوّل لعلمَي المعاني والبيان ، ومؤلّف أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز لتحقيق إعجاز القرآن ، حيث قال في كتابه الأوّل : واعلم أنّ ممّا اتّفق العقلاء عليه أنّ التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني أو برزت هي بإختصار في معرضه ، ونقلت عن صورها الأصليّة إلى صورته ، كساها أبّهة ، وكسبها منقبةً ؛ ورفع من أقدارها ، وشبّ من نارها ، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها ، ودعا القلوب إليها واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفاً ، وقسر الطباع على أن تعطيها محبّة وشغفاً . فإن كان مدحاً كان أبهى وأفخم ، وأنبل في النفوس وأعظم ، وأهزّ للعطف وأسرّ للألف ، وأجلب للفرح ، وأغلب على الممتدح ، وأوجب شفاعة للمادح ؛ وأقضى بغرر المواهب والمنائح ، وأسير على الألسن وأذكر ، وأولى بأن تعلقه القلوب وأجدر . وإن كان ذمّاً كان مسّه أوجع ، وميسمه ألذع ، ووقعه أشدّ ، وحدّه أحدّ ، وإن كان حجاجاً كان برهانه أنور ، وسلطانه أقهر ، وبيانه أبهر . وإن كان افتخاراً كان شأوه أبعد ، وشرفه أجدّ ، ولسانه ألدّ . وإن كان إعتذاراً كان إلى القبول أقرب ، وللقلوب أخلب ، وللسخائم أسلّ ، ولغرب الغضب أفلّ ، وفي عقد العقود أنفث ، وعلى حسن الرجوع أبعث . وإن كان وعظاً كان أشفى للصدر ، وأدعى إلى الفكر ؛ وأبلغ في التنبيه والزجر ، وأجدر بأن يجلي الغياية ، ويبصر الغاية ، ويبريء العليل ، ويشفي الغليل إلخ . { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } فيجادلون في الحقّ بعد ما تبيّن ، ويمارون بالبرهان وقد تعيّن ، فيخرجون من الموضوع ، ويعرضون عن الحجّة ، ويتتبّعون الكلم المفردة ، حتّى إذا ظفروا بكلمة لا يستعذبها ذوق المتظرّفين ، ولا تدور على ألسنة المتكلّفين ، أظهروا العجب منها ، وطفقوا يتساءلون عنها { فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً } ولو أنصفوا لعرفوا ، ولكنّهم ارتابوا في الحقّ فانصرفوا { وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } [ الكهف : 54 ] يذهب به جدله إلى قياس ربّ العالمين ، بمتنطّعي المتأدّبين . وينكر على ربّه المثل والقياس ، ولا ينكره على نفسه وعلى الناس . قال تعالى في جوابهم : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } أي يضلّ بالمثل ، أو بالكلام المضروب فيه المثل ، أولئك الذين يجعلونه شبهة على الإنكار والريب ، ويهدي به الذين يقدّرون الأشياء بغاياتها ، ويحكمون عليها بحسب فائدتها . وأنفع الكلام ما جلّى الحقائق ، وهدى إلى أقصد الطرائق ، وساق النفوس بقوّة التأثير ؛ إلى حسن المصير { وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ ٱلْعَالِمُونَ } [ العنكبوت : 43 ] فهؤلاء العالمون هم المؤمنون الذين يعلمون أنّه الحقّ من ربّهم وهم المهديّون به ، وأمّا الذين قالوا { مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ } إلخ . أي الذين ينكرون المثل لكفرهم فهم الضالّون به ، وقد بيّن شأنهم بقوله : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ } فعرفت علّة ضلالهم وهي الفسوق أي الخروج عن هداية الله تعالى في سننه في خلقه التي هداهم إليها بالعقل والمشاعر ، وبكتابه بالنسبة إلى الذين أوتوه . وليس المراد بالفاسقين ما هو معروف في الإصطلاحات الشرعيّة وهم العصاة بما دون الكفر من المعاصي ، فإنّه لا يصحّ هنا ، وتلك الإصطلاحات حادثة بعد التنزيل : وقد كان التعبير بـ ( يضلّ ) مشعراً بأنّ المثل ، هو منشأ الإضلال والهداية بذاته ، فنفى ذلك بهذه الجملة ليبيّن أنّ منشأ الضلال راسخ فيهم وفي أعمالهم وأحوالهم . ثمّ إنّ الآية تشعر بأنّ المهتدين في الكثرة كالضالّين ، مع إنّ هؤلاء أكثر ، وكأنّ الحكمة في التسوية إفادة : إنّ المؤمنين المهتدين - على قلّتهم - أجلّ فائدة وأكثر نفعاً وأعظم آثاراً من أولئك الكفّار الفاسقين الضالّين على كثرتهم ؛ لأنّ المؤمنين كما قيل : @ قليل إذا عدّوا كثير إذا شدّوا @@ ولذلك جعل الواحد في القتال بعشرة في حال القوةّ والعزيمة ، وباثنين في حال الضعف ، قيل هو ضعف البدن ، وقيل : بل ضعف البصيرة ، ولقد كان من أثر ذلك العدد القليل من المؤمنين الأوّلين أن سادوا جميع العالمين . @ ولم أرَ أمثال الرجال تفاوتاً إلى المجد حتّى عدّ ألف بواحد إنّ الكرام كثير في البلاد وإن قلّوا كما غيرهم قلٌّ وإن كثروا @@ وأمّا وجه تقديم الإضلال على الهداية ؛ فلأنّ سببه ومنشأه من الكفر ، متقدّم في الوجود ، وإنّما جاءت الآيات المبيّنة بالأمثال لإخراجهم ممّا كانوا فيه من ظلمات الباطل إلى نور الحقّ ، فزادت الفاسقين رجساً على رجسهم ؛ لأنّ نور الفطرة قد انطفأ من أنفسهم ، بتماديهم في نقض العهد ، وقطع الوصل والإفساد في الأرض ، كما في الآية التالية لهذه . وقد علم بما ذكرنا أنّ في الآية لفّاً ونشراً غير مرتّب ، فإنّ الضلال ذكر أوّلا ، وهو للفريق الثاني ، والهدى ذكر آخراً ، وهو للفريق الأوّل . هذا وإنّ ما تقدّم تقريره في ضرب المثل وضلال قوم به وهداية آخرين ، هو مبنيّ على أنّ المراد به المثل الكلاميّ كما عليه الجمهور ، أخذاً ممّا ورد في سبب النزول ، وتقدّم عن بعضهم أنّ المراد بالمثل في الآية القدوة الذي يؤتمّ به ويهتدى بهديه ؛ وهذا المعنى للمثل معروف ، وقد نطق به القرآن في قوله تعالى : { فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ } [ الزخرف : 56 ] وقوله : { وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } [ الزخرف : 57 ] وقال فيه : { إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } [ الزخرف : 59 ] فهذه الآية تهدينا إلى فهم قوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا } أنّ المراد به دحض شبهة الذين أنكروا نبوّة النبيّ صلى الله عليه وسلم وصلاحيّته لأن يكون مثلا يقتدى به ، وهي أنّه بشر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، وهم المشركون ، والذين أنكروا أن يكون من العرب وهم اليهود . وقد حكى هذه الشبهة عنهم في آيات كثيرة ، كأنّهم يقولون : إذا كان بشراً مثلنا فكيف يدّعي أنّه رسول من الله يجب اتّباعه ، ومثل كامل ضرب للإقتداء به ؟ { أَءُنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا } [ ص : 8 ] ولأيّ شيء لم يرسل الله ملكاً ؟ ومنهم من قال : { لَوْلاۤ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } [ الفرقان : 7 ] وقد أقام الله الحجة على هؤلاء بقوله : { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا } [ البقرة : 23 ] إلخ ، وأتبعها بوعيد من أعرض عن الإيمان بعد قيام البرهان وهم الكافرون ، وبشارة الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهم المؤمنون ، وبعد تقرير الحجّة وهي تحدّيهم بسورة من مثله - كرّ على شبهتهم بالنقض ، وهي استبعاد أن يكون بشرّ رسولا من عنده . ومحصّله : إنّ الله تعالى خالق كلّ شيء ، فيجعل ما شاء من المنفعة والفائدة فيما شاء ومن شاء من خلقه ، ويضربه مثلا للناس يهتدون به ، وليس هذا نقصاً في جانب الألوهية فيستحي من ضربها مثلا ، بل من الكمال ، والفضل أن يجعل في المخلوقات الضعيفة والمحتقرة في العرف - كالبعوض - فوائد ومنافع ، فكيف يستنكر أن يجعل من الإنسان الكامل الذي كرّمه وخلقه في أحسن تقويم ، مثلاً وإماماً يقتدي به قومه ويهتدون بهديه ؟ وبقيّة الكلام في الآية على هذا الوجه في معنى المثل هو نحو ما تقدّم تقريره ، أو ظاهر منه أتمّ الظهور : [ فإنّ الذين آمنوا يعلمون أنّ هذا الإمام الذي نصبه للناس مهما يكن ضعيفاً قبل أن يقوّيه ببرهانه هو الحقّ الذي ثبت تأييده من ربّهم ، والكافرون يقولون : لمّ لم يبعث إلى الناس من هو خير منه في نظرهم ؟ وماذا يريد بأن يجعل لهم قدوة في أضعفهم وأهونهم ، وهكذا تقول في قوله : يضلّ به كثيراً ] إلخ . وقد عهد من أهل البصيرة الإقتداء بالحيوانات والإستفادة من خصالها وأعمالها ، ويحكى عن بعض كبار الصوفيّة أنّه قال : تعلّمت المراقبة من القطّ ، وعن بعض حكماء المسلمين أنّه قرأ كتاباً نحواً من ثلاثين مرّة فلم يفهمه ، فيئس منه وتركه فرأى خنفسة تتسلّق جداراً وتقع فعدَّ عليها الوقوع فزاد على ثلاثين مرّة ولم تيأس حتّى تمكّنت بعد ذلك من تسلّقه والإنتهاء إلى حيث أرادت ، فقال : لن أرضى أن تكون هذه الخنفساء أثبت منّي وأقوى عزيمة ، فرجع إلى الكتاب فقرأه حتّى فهمه . ويقال إنّ ( تيمور لنك ) كانت تحدّثه نفسه بالملك من أول نشأته ، على ما كان من فقره ومهانته ، فسرق مرّة غنماً ( وكان لصّاً ) ففطن له الراعي فرماه بسهمين أصابا كتفه ورجله فعطّلاهما ، فآوى إلى خربة وجعل يفكّر في مهانته ويوبّخ نفسه على طمعها في الملك ، ولكنّه رأى نملةً تحمل تبنة وتصعد إلى السقف وعندما تبلغه تقع ثمّ تعود وظلّت على ذلك عامّة الليل حتى نجحت في الصباح ، فقال في نفسه والله لا أرضى بأن أكون أضعف عزيمة وأقلّ ثباتاً من هذه النملة ، وأصرَّ على عزمه حتّى صار ملكا وكان من أمره ما كان .