Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 27-27)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وصف الضالّين بالفسوق ثمّ بيّن من حال فسوقهم نقض العهد الموثّق ، وقطع ما يجب أن يوصل ، والإفساد في الأرض : وسجّل بذلك عليهم الخسران وحصرهم في مضيقه ، بحيث لا يسلم منه إلاّ من رجع عن فسوقه ، أقول : فعلم بهذا أنّ المراد بإسناد الإضلال إليه تعالى في الآية السابقة ، بيان سنّته تعالى في أصحاب هذه الأعمال من الفسّاق ، وهو أنّهم يضلّون حتّى بما هو سبب من أشدّ أسباب الهداية تأثيراً ، وهو المثل المذكور ؛ بسبب رسوخهم في الفسق ونقضهم للعهد إلخ . وليس المعنى أنّه تعالى خلق الضلال فيهم خلقاً وأجبرهم عليه إجباراً . العهد هنا لفظ مجمل لم يتقدّم الآيات ما يشعر به ، ولم يتلُ فيما تلاها ما يبيّنه . وكذلك ما أمر الله به أن يوصل ، ليس في سابق الآيات ولا في لاحقها ما يفسّره ويبيّن المراد منه ، فما المعنى الذي يتبادر منهما إلى أفهام المخاطبين ، ويصحّ أن يؤخذ من حال أولئك الفاسقين ، الذين أنكروا على الله أن يضرب مثلا يقتدى به من البشر أو من العرب ، أو الذين أنكروا الوحي لمجيء الأمثال القوليّة فيه بما يعدّ حقيراً من المخلوقات في عرف المتكبّرين والمتطرّفين منهم ؟ دلّ ذكر العهد والسكوت عمّا يفسره . وإطلاق ما أمر الله به أن يوصل بدون بيان ما يفصّله ، على أنّ الله تعالى ما وصفهم إلاّ بما هم متّصفون به ، ولا حاجة إلى بيان المجمل بالقول إذا كان الوجود قد تكفّل ببيانه ، والواقع قد فسّره بلسانه ، ويرشد إلى فهم العهد الإلهيّ هنا ، ما قلناه في معنى الفسوق فإنّ الفاسقين هم { ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَٰقِهِ } فإذا كان معنى الفسوق : الخروج عن سنن الله تعالى في خلقه ، التي هداهم إليها بالعقل والمشاعر ، وعن هداية الدين بالنسبة إلى الذين أوتوه خاصّة ، فعهد الله تعالى هو : ما أخذهم به بمنحهم ما يفهمون به هذه السنن المعهودة للناس بالنظر والإعتبار ، والتجربة والإختيار ، أو العقل والحواسّ المرشدة إليها ، وهي عامّة ، والحجّة بها قائمة على كلّ من وهب نعمة العقل ، وبلغ سنّ الرشد سليم الحواسّ ، ونقضه عبارة عن عدم استعمال تلك المواهب استعمالا صحيحاً ، حتّى كأنّهم فقدوها وخرجوا من حكمها ، كما قال تعالى : { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } [ الأعراف : 179 ] وكما قال فيهم أيضاً : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 171 ] . هذا هو القسم الأوّل من العهد الإلهيّ وهو العامّ الشامل ، والأساس للقسم الثاني المكمّل الذي هو الدين . فالعهد : فطريّ خلقيّ ، ودينيّ شرعيّ . فالمشركون نقضوا الأوّل ، وأهل الكتاب الذين لم يقوموا بحقّه نقضوا الأوّل والثاني جميعاً ، وأعني بالناقضين من أنكر المثل من الفريقين . والميثاق : اسم لما يوثق به الشيء ويكون محكماً يعسر نقضه . والله تعالى قد وثّق العهد الفطريّ بجعل العقول بعد الرشد قابلةً لإدراك السنن الإلهية في الخلق . ووثّق العهد الدينيّ بما أيّد به الأنبياء من الآيات البيّنات ، والأحكام المحكمات . وقد وثّق العهد الأوّل بالعهد الثاني أيضاً . فمن أنكر بعثة الرسل ولم يهتد بهديهم فهو ناقض لعهد الله فاسق عن سننه في تقويم البنية البشريّة وإنمائها ، وإبلاغ قواها وملكاتها حدّ الكمال الإنسانيّ الممكن لها . وأمّا قوله : { وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } ففيه من الإجمال نحو ما في نقض العهد ، وليس هو بمعناه على طريق التأكيد ، وإنّما هو وصف مستقلّ جاء متمّماً لما سبقه . وهذا الأمر نوعان : أمر تكوين : وهو ما عليه الخلق من النظام والسنن المحكمة ، وقد سمّى الله تعالى التكوين ( أمراً ) بما عبّر عنه بقوله : ( كن ) . وأمر تشريع : وهو ما أوحاه إلى أنبيائه وأمر الناس بالأخذ به . ومن النوع الأوّل ترتيب النتائج على المقدّمات . ووصل الأدلّة بالمدلولات ، وإفضاء الأسباب إلى المسبّبات ، ومعرفة المنافع والمضارّ بالغايات . فمن أنكر نبوّة النبيّ بعد ما قام الدليل على صدقه ، أو أنكر سلطان الله على عباده بعد ما شهدت له بها آثاره في خلقه . فقد قطع ما أمر الله به أن يوصل بمقتضى التكوين الفطريّ . وكذلك من أنكر شيئاً ممّا علم أنّه جاء به الرسول ؛ لأنّه إن كان من الأصول الإعتقاديّة ففيه القطع بين الدليل والمدلول ، وإن كان من الأحكام العمليّة ففيه القطع بين المبادئ والغايات ؛ لأن كلّ ما أمر الدين به - قطعاً - فهو نافع ، ومنفعته تثبتها التجربة والدليل . وكلّ ما نهى عنه - حتماً - فلا بدّ أن تكون عاقبته مضرّة . فالذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه : هم الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل بغايته . أمّا بالنسبة إلى الإيمان بالله تعالى وبالنبوّة ، فيقطعون ما أمر به بمقتضى التكوين والنظام الفطريّ . وأمّا بالنسبة إلى الأحكام فيقطعون ما أمر به في كتبه أمر تشريع وتكليف . وصلة الأرحام تدخل في كلٍّ من القسمين . إذا كان مشركو العرب قد نقضوا عهد الفطرة ، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل بمقتضاها ؛ بتكذيبهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وإيذائه وهو ذو رحم بهم : فالمكذّبون من أهل الكتابين قد قطعوا صلات الأمرين كما نقضوا العهدين ؛ فإنّ الله تعالى قد بشّرهم في الكتب المنزلة على أنبيائهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم لأنّه ذكر للمبشّر به صفات وأعمالا وأحوالاً تنطبق عليه أتمّ الإنطباق ، فحرّفوا وأوّلوا واجتهدوا في صرفها عنه وهم متعمّدون { وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 146 ] ومنهم من يحمل تلك الصفات والعلامات على غيره . ومنهم ينتظر مبعوثاً آخر يجيء الزمان به . التعبير بالقطع هنا أبلغ من التعبير بالنقض ، ولذلك جاء بعده متمّماً له ؛ كأنّ عهد الله تعالى إلى الناس حبل محكم الطاقات موثق الفتل ، وكأنّ هذا الحبل قد وصل - بحكمة التكوين ، وحكم أمر التشريع - بين جميع المنافع التي تنفع الناس . فلم يكتفِ أولئك الفاسقون المنكرون للمثل الذي ضربه الله لعباده بنقض حبل العهد الإلهيّ . وحلّ طاقاته ونكث فتله حتّى قطعوه قطعاً ، وأفسدوا بذلك نظام الفطرة ونظام الهداية الدينيّة أصلا وفرعاً ؛ ولذلك عقّب هذا الوصف بقوله : { وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأرْضِ } وأيّ إفساد أكبر من إفساد من أهمل هداية العقل وهداية الدين ، وقطع الصلة بين المقدّمات والنتائج ، وبين المطالب والأدلّة والبراهين . من كان هذا شأنه فهو فاسد في نفسه ، ووجوده في الأرض مفسد لأهلها ؛ لأنّ شرّه يتعدّى كالأجرب يعدي السليم . ولذلك ورد في السنّة النهي عن قرناء السوء . والمشاهدة والتجربة مؤيدّة للسنّة ومصدّقة لها . خصوصاً إذا قعدوا في سبيل الله يصدّون عنها ويبغونها عوجاً . فإنّ إفسادهم يكون أشدّ انتشاراً وأشمل خساراً . ولمّا كان إفساد هؤلاء عامّاً للعقائد والأخلاق والأعمال ؛ لأنّ علّته فقد الهدايتين - هداية الفطرة وهداية الدين - سجّل عليهم الخسران وحصره فيهم بقوله : { أُولَـۤئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ } بالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة . أمّا خسرانهم في الدنيا فهو ظاهر لأرباب البصائر الصافية ، والفضائل السامية ، ولكنّه يخفى على الأكثرين . بالنسبة إلى الأغنياء من أولئك الخاسرين ، يرونهم متمتّعين بلذّات الدنيا وشهواتها ، فيحسبون أنّهم مغبوطون سعداء بها ، فيكون هذا الحسبان من آلات الإفساد . ولو سيروا أغوارهم ، وبلوا أخبارهم ؛ لأدركوا أنّ ما هم فيه من ظلمة النفس ، وضيق العطن ، وفساد الأخلاق ، ينغّص عليهم أكثر لذّاتهم ، ويقذف بهم إلى الإفراط الذي يولّد الأمراض الجسديّة والنفسيّة ، ويثير في نفوسهم كوامن الوساوس ، ويجعل عقولهم كالكرة تتقاذفها صوالجة الأوهام ، وأنّ حبّ الراحة يوقعهم في تعب لا نهاية له ، وهو تعب البطالة والكسل ، أو العمل الإضطراريّ . ومن لا يذوق لذّة العمل الإختياريّ لا يذوق لذة الراحة الحقيقيّة ؛ لأنّ الله تعالى لم يضع الراحة في غير العمل ، وإنّما سعادة الدنيا بصحّة الجسم والعقل وأدب النفس الذي يرشد إليه الدين . فمن فقد هذه الأشياء فقد خسر الدنيا والآخرة و { ذٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ } [ الحج : 11 ] .