Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 28-29)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الكلام متّصل بما قبله ، ومرتبط به ارتباطاً محكماً ، والخطاب للفاسقين الذين يضلّون بالمثل ، فإنّه وصفهم أوّلاً بنقض العهد الإلهيّ الموثق ، وقطع ما أمر به سبحانه أن يوصل ، سواء كان الأمر أمر تكوين وهو السنن الكونيّة ، أو أمر تشريع وهو الديانة السماويّة ، ثمّ بعد هذا البيان جاء بهذا الاستفهام التعجيبيّ عن صفة كفرهم مقترناً بالبرهان الناصع على أنّه لا وجه له ، ولا شبهة تسوّغ الإقامة عليه ، فقال : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ } أي بأيّ صفة من صفات الكفر بالله تعالى تأخذون ، وعلى أيّة شبهة فيه تعتمدون ، وحالكم في موتتيكم وحياتيكم تأبى عليكم ذلك ولا تدع لكم عذراً فيه ؟ وبيّن هذه الحال بقوله : { وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ } أي والحال أنّكم كنتم قبل هذه النشأة الأولى من حياتكم الدنيا أمواتاً منبثّة أجزاؤكم في الأرض ، بعضها في طبقتها الجامدة ، وبعضها في طبقتها السائلة ، وبعضها في طبقتها الغازيّة ( الهوائيّة ) لا فرق في ذلك بينها وبين أجزاء سائر الحيوان والنبات ، فخلقكم أطواراً من سلالة من طين ، فكنتم بالطور الأخير في أحسن تقويم ، وفضّلكم على غيركم بما وهبكم من العقل والإدراك ، وما سخّر لكم من الكائنات { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } بقبض الروح الحيّ الذي به نظام حياتكم هذه ، فتنحلّ أبدانكم بمفارقته إيّاها وتعود إلى أصلها الميّت وتنبثّ في طبقات الأرض وتدغم في عوالمها ، حتّى ينعدم هذا الوجود الخاصّ بها ، { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } حياة ثانية ، كما أحياكم بعد الموتة الأولى بلا فرق ، إلاّ ما تكون به الحياة الثانية أرقى في مرتبة الوجود وأكمل لمن يزكون أنفسهم في تلك ، وأدنى منها وأسفل فيمن يدسّونها ويفسدون فطرتها { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [ الشمس : 9 - 10 ] { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فينبّئكم بما عملتم ، ويحاسبكم على ما قدّمتم ، ويجازيكم به . وأقول : إنّ تراخي الإرجاع إلى الله تعالى عن حياة البعث ، عبارة عن تأخير الحساب والجزاء وطول زمن الوقوف والإنتظار ، كما ورد في حديث الشفاعة العظمى وغيره . فإذا كان هذا شأنكم معه وهذا فضله عليكم ، وهذا مبدأكم وذلك منتهاكم ، فكيف تكفرون به وتنكرون عليه أن يضرب لكم مثلا تهتدون به ، ويبعث فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياته ويزكّيكم ويعلّمكم الكتاب والحكمة ، ويعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون من قيام مصالحكم في حياتكم الأولى ، وسعادتكم في حياتكم الأخرى ؟ لا يقال : كيف يحتجّ عليهم بالحياة الثانية قبل الإيمان بالوحي ، الذي هو دليلها ومثبتها ؟ لأنّه إحتجاج على مجموع الناس بما عليه الأكثرون منهم ، ولا عبرة بالشذاذ المنكرين للبعث في هذا المقام ؛ لأنّ الإحتجاج بالحياة الأولى بعد الموتة الأولى كاف للتعجّب من كفرهم بالله وإنكارهم عليه أن يضرب مثلا ما لهداية الناس ، زعماً أنّ هذا لا يليق بعظمته ، فإنّ من أوجد هذا الإنسان الكريم ، وجعله في أحسن تقويم ، وركّب صورته من تلك الذرّات الصغيرة ، والنطفة المهينة الحقيرة ، والعلقة الدمويّة أو الدوديّة ، والمضغة اللحميّة ، { لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } [ البقرة : 26 ] . والكلام مسوق لإبطال شبه منكري المثل والقرآن الذي جاء به ، لا لإبطال شبه منكري البعث بلوامع شهبه ، ثمّ أنّ تمثيل إحدى الحياتين بعد الموت بالأخرى داحض لحجّة من يزعم عدم إمكان الثانية ؛ لأنّ ما جاز في أحد المثلين جاز في الآخر ، والكلام في إثبات الوحي الإلهيّ للنبيّ المرسل من البشر ، والإيمان بالبعث تابع له . ثمّ بعد بيان بعض آياته في أنفسهم بذكر المبدأ والمنتهى ، ذكّرهم بآياته في الآفاق فقال : { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } فالكلام على اتّصاله وترتيبه وإنتظام جواهره في سلك أسلوبه ، فليس في قوله { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } ، إلخ انتقال لإثبات البعث كما قال بعض المفسّرين ، غفلة عن هذا الاتّصال المتين ، ولعمري إنّ وجوه الاتّصال بين الآيات ، وما فيها من دقائق المناسبات ، لهي ضرب من ضروب البلاغة ، وفنّ من فنون الإعجاز ، إذا أمكن للبشر الإشراف عليه ، فلا يمكنهم البلوغ إليه . والكلام في البعث في القرآن كثير جدا ، فلا حاجة إلى الإسراع إليه هنا . يصوّر لنا قوله تعالى : { خَلَقَ لَكُمْ } قدرته الكاملة ، ونعمه الشاملة ، وأيّ قدرة أكبر من قدرة الخالق ؟ وأيّ نعمة أكمل من جعل كلّ ما في الأرض مهيّئاً لنا ، ومعدّاً لمنافعنا ؟ وللانتفاع بالأرض طريقان : أحدهما : الإنتفاع بأعيانها في الحياة الجسديّة . وثانيهما : النظر والإعتبار بها في الحياة العقليّة . والأرض : هي ما في الجهة السفلى ، أي ما تحت أرجلنا ، كما أنّ المراد بالسماء : كلّ ما في الجهة العليا ، أي فوق رءوسنا ، وإنّنا ننتفع بكلّ ما في الأرض برّها وبحرها من حيوان ونبات وجماد ، وما لا تصل إليه أيدينا ننتفع فيه بعقولنا بالإستدلال به على قدرة مبدعه وحكمته . والتعبير بـ { فِي } يتناول ما في جوف الأرض من المعادن بالنصّ الصريح . وأقول هنا : إنّ هذه الجملة هي نصّ الدليل القطعيّ على القاعدة المعروفة عند الفقهاء " إنّ الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة " والمراد إباحة الانتفاع بها أكلاً وشرباً ولباساً وتداوياً وركوباً وزينة ، وبهذا التفصيل تدخل الأشياء التي يضرّ استعمالها في بعض الأشياء وينفع في بعض ، كالسموم التي يضرّ أكلها وشربها وينفع التداوي بها . وليس لمخلوق حقّ في تحريم شيء أباحه الربّ لعباده تديّناً به إلاّ بوحيه وإذنه { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ } [ يونس : 59 ] ؟ وما يحظره الطبيب على المريض من طعام حلال في نفسه ، وما يمنّع الحاكم العادل الناس من التصرّف فيه من المباحات لدفع مفسدة أو رعاية مصلحة - فليس من التحريم الدينيّ للشيء ولا يكون دائماً ، وإنّما يتبعان في ذلك كما يأمران به بحقّ وعدل ما دامت علته قائمة . قال تعالى : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ } يقال استوى إلى الشيء إذا قصد إليه قصداً مستوياً خاصّاً به لا يلوي على غيره . وقال الراغب : إذا تعدّى استوى بإلى اقتضى الإنتهاء إلى الشيء إمّا بالذات وإمّا بالتدبير . والمراد أنّ إرادته توجّهت إلى مادّة السماء كما قال في سورة فصّلت : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ } [ فصلت : 11 ] ، إلخ . { فَسَوَّٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ } فأتمّ خلقهنّ من تلك المادّة الدخانيّة ، فجعلهنّ سبع سماوات تامّات منتظمات الخلق . وهذا الترتيب يوافق ما كان معروفاً عند اليهود عن سيّدنا موسى عليه السلام من أنّ الله تعالى خلق الأرض أوّلاً ، ثمّ خلق السماوات والنور . ولا مانع من الأخذ بظاهر الآية ، فإنّ الخلق غير التسوية ، ألا ترى أنّ الإنسان في طور النطفة والعلقة يكون مخلوقاً ، ولكنّه لا يكون بشراً سويّاً في أحسن تقويم ، كما يكون عند إنشائه خلقاً آخر ، وسنبيّن إن شاء الله تعالى عند تفسير قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا } [ الأنبياء : 30 ] أنّ العالم كان شيئاً واحداً ثمّ فصّله الله تعالى بالخلق تفصيلاً ، وقدّره تقديراً ، فلا مانع إذن من أن يكون خلق الأرض وما فيها سابقاً على تسوية السماء سبعاً ، نعم إنّ هذا من أسرار الخلقة التي لا نعرفها ، وربّما يُتوهّم أنّ هذه الآية تناقض أو تخالف قوله تعالى بعد ذكر خلق السماء وأنوارها : { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [ النازعات : 30 ] والجواب عنه من وجهين : أحدهما : إنّ البعديّة ليست بعديّة الزمان ، ولكنّها البعديّة في الذكر وهي معروفة في كلام العرب وغيرهم ، فلا بعد في أن تقول فعلت كذا لفلان وأحسنت عليه بكذا وبعد ذلك ساعدته في عمل كذا ، كما تقول وزيادة على ذلك ساعدته في عمله ، تريد نوعاً آخر من أنواع الإحسان ، من غير ملاحظة التأخّر في الزمان . ثانيهما : إنّ الذي كان بعد خلق السماء هو دحوّ الأرض أي جعلها ممهّدة مدحوّة قابلة للسكنى والإستعمار ، لا مجرّد خلقها وتقدير أقواتها فيها ، وخلق الله وتقديره لم ينقطع من الأرض ولا ينقطع منها ما دامت ، وكذلك يقال في غيرها . وأزيد على ذلك الآن : إنّ الدحو في أصل اللغة : دحرجة الأشياء القابلة للدحرجة كالجوز والكرى والحصا ورميها ، ويسمّون المطر الداحي ؛ لأنّه يدحو الحصى وكذا اللاعب بالجوز ، وفي حديث أبي رافع : كنت ألاعب الحسن والحسين رضوان الله عليهما بالمداحي ، وهي أحجار أمثال القرصة كانوا يحفرون ويدحون فيها بتلك الأحجار ، فإن وقع الحجر فيها غلب صاحبها وإن لم يقع غُلب . ذكره في " اللسان " وقال بعده : الدحو هو رمي اللاعب بالحجر والجوز وغيره . وأقول : إنّ ما ذكره وأعاد القول فيه من لعبة الدحو بالحجارة المستديرة كالقرصة لا يزال مألوفاً عند الصبيان في بلادنا ويسمّونه لعب الأكرة ويحرّفها بعضهم فيقول : الدكرة . وقال الراغب في " مفردات القرآن " قال تعالى : { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [ النازعات : 30 ] أي أزالها عن مقرها كقوله : { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ } [ المزمل : 14 ] وهو من قولهم : دحا المطر الحصى إلخ ، ولكنّ فرقاً بين دحو الأرض ودحرجتها من مكانها عند التكوين ، ورجفها قبيل خرابها عند قيام الساعة ، وقد يكون المراد به - والله أعلم - إنّه دحاها عندما فتقها هي والسماوات من المادّة الدخانيّة التي كانت رتقاً ، وفيه دلالة أو إشارة على الأقلّ إلى أنّها كرة أو كالكرة في الإستدارة ، ولا يبعد أن يكون المراد بدحوها ودحرجتها حركتها بقدرته تعالى في فلكها { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] وهذا لا ينافي ما قيل : من أنّ معناه بسطها أي وسّعها ومدّ فيها ؛ وأنّه سطّحها أي جعل لها سطحاً واسعاً يعيش عليه الناس وغيرهم ، فمن جعل مسألة كروّيتها وسطحها أمرين متعارضين يقول بكلّ منهما قوم يطعنون في الآخرين ، فقد ضيّقوا من اللغة والدين واسعاً بقلّة بضاعتهم فيهما معاً . وحاصل القول : إنّ الله تعالى خلق هذه الأرض وهذه السماوات التي فوقنا بالتدريج وما أشهدنا خلقهنّ ، وإنّما ذكر لنا ما ذكره للإستدلال على قدرته وحكمته وللإمتنان علينا بنعمته ، لا لبيان تاريخ تكوينهما بالترتيب ؛ لأنّ هذا ليس من مقاصد الدين ، فابتداء الخلق غير معروف ولا ترتيبه إلاّ أنّ تسوية السماء سبع سماوات يظهر أنّه كان بعد تكوين الأرض ، ويظهر أنّ السماء كانت موجودة إلاّ أنّها لم تكن سبعاً ، ولذلك ذكر الإستواء إليها وقال : { فَسَوَّٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ } [ البقرة : 29 ] فنؤمن بأنّه فعل ذلك لحكم يعلمها ، وقد عرض علينا ذلك لنتدبّر ونتفكّر ، فمن أراد أن يزداد علماً فليطلبه من البحث في الكون . [ وعليه بدراسة ما كتب الباحثون فيه من قبل ، وما اكتشف المكتشفون من شؤونه ، وليأخذ من ذلك بما قام عليه الدليل الصحيح ، لا بما يتخرّص به المتخرّصون ، ويخترعونه من الأوهام والظنون ] وحسبه أنّ الكتاب أرشده إلى ذلك وأباحه له . هذه الإباحة للنظر والبحث في الكون ، بل هذا الإرشاد إليها بالصيغ التي تبعث الهمم وتشوّق النفوس ، ككون كلّ ما في الأرض مخلوقاً لنا ، محبوساً على منافعنا هو ممّا امتاز به الإسلام في ترقية الإنسان ، فقد خاطبنا القرآن بهذا على حين أنّ أهل الكتاب كانوا متّفقين في تقاليدهم وسيرتهم العمليّة ، على أنّ العقل والدين ضدّان لا يجتمعان ، والعلم والدين خصمان لا يتّفقان ، وأنّ جميع ما يستنتجه العقل خارجاً عن نصّ الكتاب فهو باطل . ولذلك جاء القرآن يلحّ أشدّ الإلحاح بالنظر العقليّ ، والتفكّر والتدبّر والتذكّر ، فلا تقرأ منه قليلاً ، إلاّ وتراه يعرض عليك الأكوان ويأمرك بالنظر فيها واستخراج أسرارها ، وإستجلاء حكم إتّفاقها وإختلافها { قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ يونس : 101 ] { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ ٱلْخَلْقَ } [ العنكبوت : 20 ] { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ } [ الحج : 46 ] { أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } [ الغاشية : 17 ] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جدّاً ، وإكثار القرآن من شيء دليل على تعظيم شأنه ووجوب الإهتمام به . ومن فوائد الحثّ على النظر في الخليقة : للوقوف على أسرارها بقدر الطاقة ، واستخراج علومها لترقية النوع الإنسانيّ الذي خلقت هي لأجله ، مقاومة تلك التقاليد الفاسدة التي كان عليها أهل الكتاب ، فأودت بهم وحرمتهم من الإنتفاع بما أمر الله الناس أن ينتفعوا به . كانت أوروبّا المسيحيّة في غمرة من الجهل ، وظلمات من الفتن ، تسيل الدماء فيها أنهاراً لأجل الدين ، وباسم الدين وللإكراه على الدين ، ثمّ فاض طوفان تعصّبها على المشرق ، ورجعت بعد الحروب الصليبيّة تحمل قبساً من دين الإسلام وعلوم أهله ، فظهر فيهم بعد ذلك قوم قالوا : إنّ لنا الحقّ في أن نتفكّر ، وأن نعلم وأن نستدلّ ، فحاربهم الدين ورجاله حرباً عواناً انتهت بظفر العلم ورجاله بالدين ورجاله . وبعد غسل الدماء المسفوكة قام منذ مائتي سنة إلى اليوم رجال منهم يسمّون هذه المدنيّة القائمة على دعائم العلم : المدنيّة المسيحيّة ، ويقولون بوجوب محق سائر الأديان ومحوها بعد انهزامها من أمام الدين المسيحيّ ؛ لأنّها لا تتفق مع العلم وفي مقدّمتها الدين الإسلاميّ ، وحجّتهم على ذلك حال المسلمين ، نعم إنّ المسلمين أمسوا وراء الأمم كلّها في العلم حتّى سقطوا في جاهليّة أشدّ جهلاً من الجاهليّة الأولى ، فجهلوا الأرض التي هم عليها ، وضعفوا عن استخراج منافعها ، فجاء الأجنبيّ يتخطّفها من بين أيديهم وهم ينظرون ، وكتابهم قائم على صراطه يصيح بهم { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ } [ الجاثية : 13 ] { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [ الأعراف : 32 ] الآية وأمثال ذلك . ولكنّهم { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 171 ] إلاّ من رحم الله ، ولو عقلوا لعادوا ، ولو عادوا لاستفادوا ، وبلغوا ما أرادوا ، وها نحن أولاء نذكّرهم بكلام الله لعلّهم يرجعون ، ولا نيأس من روح الله { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ } [ يوسف : 87 ] . ثمّ ختم الآية سبحانه وتعالى بقوله : { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي فهو المحيط بكيفيّة التكوين وحكمته ، وبما ينفع الناس بيانه ، وإذا كان العاقل يدرك أنّ هذا النظام المحكم لا يكون إلاّ من عليم حكيم ، فكيف يصحّ له أن ينكر عليه أن يرسل من يشاء من خلقه لهداية من شاء من عباده ؟ فهذا الآخر يتّصل بأوّل الآية في تقرير رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وإبطال شبه الذين أنكروا أن يكون من البشر رسولاً ، والذين أنكروا أن يكون من العرب رسول ؛ لأنّ قصارى ذلك كلّه إعتراض الجاهلين ، على من هو بكلّ شيء عليم .