Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 30-30)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
تمهيد للقصّة ومذهب السلف والخلف في المتشابهات إنّ أمر الخلقة وكيفيّة التكوين ، من الشؤون الإلهية التي يعزّ الوقوف عليها كما هي ، وقد قصّ الله علينا في هذه الآيات خبر النشأة الإنسانيّة على نحو ما يؤثر عن أهل الكتاب من قبلنا ، ومثّل لنا المعاني في صور محسوسة ، وأبرز لنا الحكم والأسرار بأسلوب المناظرة والحوار ، كما هي سنّته في مخاطبة الخلق ، وبيان الحقّ . وقد ذهب الأستاذ إلى أنّ هذه الآيات من المتشابهات التي لا يمكن حملها على ظاهرها ؛ لأنّها بحسب قانون التخاطب إمّا استشارة وذلك محال على الله تعالى ، وإمّا إخبار منه سبحانه للملائكة واعتراض منهم ومحاجّة وجدال ، وذلك لا يليق بالله تعالى أيضاً ولا بملائكته ، ولا يجامع ما جاء به الدين من وصف الملائكة ككونهم { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] وقد أورد الأستاذ مقدّمة تمهيديّة لفهم القصّة فقال ما مثاله : أجمعت الأمّة الإسلاميّة على أنّ الله تعالى منزّه عن مشابهة المخلوقات ، وقد قام البرهان العقليّ والبرهان النقليّ على هذه العقيدة ، فكانت هي الأصل المحكم في الاعتقاد الذي يجب أن يردّ إليه غيره ، وهو التنزيه ، فإذا جاء في نصوص الكتاب أو السنّة شيء ينافي ظاهره التنزيه ، فللمسلمين فيه طريقتان : إحداهما : طريقة السلف : وهي التنزيه الذي أيّد العقل فيه النقل ، كقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] وقوله عز وجل : { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } [ الصافات : 180 ] وتفويض الأمر إلى الله تعالى في فهم حقيقة ذلك ، مع العلم بأنّ الله يعلمنا بمضمون كلامه ما نستفيد به في أخلاقنا وأعمالنا وأحوالنا ، ويأتينا في ذلك بما يقرب المعاني من عقولنا ويصورها لمخيّلاتنا . والثانية : طريقة الخلف ، وهي : التأويل . يقولون : إنّ قواعد الدين الإسلاميّ وضعت على أساس العقل ، فلا يخرج شيء منها عن المعقول ، فإذا جزم العقل بشيء وورد في النقل خلافه ، يكون الحكم العقليّ القاطع قرينة على أنّ النقل لا يراد به ظاهره ، ولا بدّ له من معنىً موافق يحمل عليه ، فينبغي طلبه بالتأويل . ( قال الأستاذ ) : وأنا على طريقة السلف في وجوب التسليم والتفويض فيما يتعلّق بالله تعالى وصفاته وعالم الغيب ، وأنّنا نسير في فهم الآيات على كلا الطريقتين ؛ لأنّه لا بدّ للكلام من فائدة يحمل عليها ؛ لأنّ الله عزّ وجل لم يخاطبنا بما لا نستفيد منه معنىً . وأقول : أنا - مؤلّف هذا التفسير : إنّني ولله الحمد على طريقة السلف وهديهم ، عليها أحيا وعليها أموت إن شاء الله تعالى ، وإنّما أذكر من كلام شيخنا ومن كلام غيره ومن تلقاء نفسي ، بعض التأويلات لما ثبت عندي بإختباري الناس أنّ ما انتشر في الأمّة من نظريّات الفلاسفة ومذاهب المبتدعة المتقدّمين والمتأخّرين ، جعل قبول مذهب السلف وإعتقاده يتوقّف في الغالب على تلقّيه من الصغر بالبيان الصحيح وتخطئة ما يخالفه ، أو طول ممارسة الردّ عليهم . ولا نعرف في كتب علماء السنّة أنفع في الجمع بين النقل والعقل من كتب شيخي الإسلام ابن تيميّة وابن القيّم رحمهما الله تعالى ، وإنّني أقول عن نفسي : إنّني لم يطمئنّ قلبي بمذهب السلف تفصيلاً إلاّ بممارسة هذه الكتب . فنحن قد سمعنا بآذاننا شبهات على بعض الآيات والأحاديث لم يسهل علينا دفعها وإقناع أصحابها بصدق كلام الله وكلام رسوله ، إلاّ بضرب من التأويل ، وأمثال تقرّبها من عقولهم ومعلوماتهم أحسن التقريب ، وقد غلط كثير من علماء الكلام والمفسّرين في بيان مذهب السلف وفي معاني التفويض والتأويل ، وتجد تفصيل ذلك لنا في أوائل تفسير سورة آل عمران ، كما أخطأ من قالوا إنّ الدليل العقليّ هو الأصل فيردّ إليه الدليل السمعيّ ، ويجب تأويله لأجل موافقته مطلقاً . والحقّ كما قال شيخ الإسلام ابن تيميّة : إنّ كلاًّ من الدليلين إمّا قطعيّ وإمّا غير قطعيّ ، فالقطعيّان لا يمكن أن يتعارضا حتى نرجّح أحدهما على الآخر ، وإذا تعارض ظنّيّ من كلٍّ منهما مع قطعيّ وجب ترجيح القطعيّ مطلقاً ، وإذا تعارض ظنّيّ مع ظني من كلٍّ منها رجّحنا المنقول على المعقول ؛ لأنّ ما ندركه بغلبة الظنّ من كلام الله ورسوله أولى بالإتّباع ممّا ندركه بغلبة الظنّ من نظريّاتنا العقليّة التي يكثر فيها الخطأ جدّاً ، فظواهر الآيات في خلق آدم مثلاً مقدّم في الإعتقاد على النظريّات المخالفة لها من أقوال الباحثين في أسرار الخلق وتعليل أطواره ونظامه ما دامت ظنّيّة لم تبلغ درجة القطع . وينبغي أن تعلم أيّها القارئ المؤمن ، أنّ من الخير لك أن تطمئنّ قلباً بمذهب السلف ولا تحفل بغيره ، فإن لم يطمئنّ قلبك إلاّ بتأويل يرضاه أسلوب اللغة العربيّة فلا حرج عليك ، فإنّ الله لا يكلّف نفساً إلاّ وسعها ، وأئمّة علماء السلف قد تأوّلوا بعد الظواهر كما فعل الإمام أحمد وغيره في آيات المعيّة ، وآخرون في غيرها . والذي عليك قبل كلّ شيء أن توقن بأنّ كلام الله كلّه حقّ ، وألاّ تؤوّل شيئاً منه بسوء القصد ، وكذا ما صحّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أمر الدين بغير شبهة . والتفسير الموافق للغة العرب لا يسمّى تأويلاً ، وإنّما يجب معه تنزيه الخالق ، وعدم تشبيه عالم الغيب بعالم الشهادة من كلّ وجه . إذا تقرّر هذا فهاك تفسير هذا السياق بما قرّره شيخنا في الأزهر قال ما مثاله : أمّا الملائكة فيقول السلف فيهم : إنّهم خلق أخبرنا الله تعالى بوجودهم وببعض عملهم فيجب علينا الإيمان بهم ، ولا يتوقف ذلك على معرفة حقيقتهم ، فنفوّض علمها إلى الله تعالى ، فإذا ورد أنّ لهم أجنحةً نؤمن بذلك ، ولكنّنا نقول : إنّها ليست أجنحة من الريش ونحوه ، كأجنحة الطيور ؛ إذ لو كانت كذلك لرأيناها ، وإذا ورد أنّهم موكّلون بالعوالم الجسمانيّة كالنبات والبحار ، فإنّنا نستدلّ بذلك على أنّ في الكون عالماً آخر ألطف من هذا العالم المحسوس ، وأنّ له علاقة بنظامه وأحكامه ، والعقل لا يحكم باستحالة هذا ، بل يحكم بإمكانه لذاته ، ويحكم بصدق الوحي الذي أخبر به . قال الأستاذ : وقد بحث أناس في جوهر الملائكة وحاولوا معرفتهم ولكن من وقفهم الله تعالى على هذا السرّ قليلون ، والدين إنّما شرّع للناس كافّة ، فكان الصواب الإكتفاء بالإيمان بعالم الغيب من غير بحث عن حقيقته ؛ لأنّ تكليف الناس هذا البحث أو العلم يكاد يكون من تكليف ما لا يطاق ، ومن خصّه الله تعالى بزيادة في العلم فذلك فضله يؤتيه من يشاء ، فقد ورد في الصحيح عن أمير المؤمنين عليّ كرّم الله وجهه في هذا العلم اللدنّي الخاصّ وقد سئل : " هل خصّكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من العلم ؟ فقال لا والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة إلاّ أن يؤتي الله عبداً فهماً في القرآن إلخ " وأمّا ذلك الحوار في الآيات فهو شأن من شؤون الله تعالى مع ملائكته ، صوّره لنا في هذه القصّة بالقول والمراجعة والسؤال والجواب ، ونحن لا نعرف حقيقة ذلك القول ولكنّنا نعلم أنّه ليس كما يكون منّا ، وأنّ هناك معانيّ قصدت إفادتها بهذه العبارات وهي عبارة عن شأن من شؤونه تعالى قبل خلق آدم ، وأنّه كان يعدّ له الكون ، وشأن مع الملائكة يتعلّق بخلق نوع الإنسان ، وشأن آخر في بيان كرامة هذا النوع وفضله . وأمّا الفائدة فيما وراء البحث في حقيقة الملائكة وكيفيّة الخطاب بينهم وبين الله تعالى فهي من وجوه : أحدها : إنّ الله تعالى في عظمته وجلاله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعه ، وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه ، ولا سيّما عند الحيرة . والسؤال يكون بالمقال ، ويكون بالحال والتوجّه إلى الله تعالى في استفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت سنّته تعالى بأن يفيض منها ( كالبحث العمليّ والإستدلال العقليّ والإلهام الإلهيّ ) وربّما كان للملائكة طريق آخر لإستفاضة العلم غير معروفة لأحد من البشر فيمكننا أن نحمل سؤال الملائكة على ذلك . ثانيها : إذا كان من أسرار الله تعالى وحكمه ما يخفى على الملائكة ، فنحن أولى بأن يخفى علينا ، فلا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها ؛ لأنّه لم يؤتَ من العلم إلاّ قليلا . ثالثها : إنّ الله تعالى هدى الملائكة في حيرتهم ، وأجابهم عن سؤالهم لإقامة الدليل ، بعد الإرشاد إلى الخضوع والتسليم ، وذلك أنّه بعد أن أخبرهم بأنّه يعلم ما لا يعلمون ، علّم آدم الأسماء ، ثمّ عرضهم على الملائكة كما سيأتي بيانه . رابعها : تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب الناس ؛ ومحاجّتهم في النبوّة بغير برهان على إنكار ما أنكروا وبطلان ما جحدوا ، فإذا كان الملأ الأعلى قد مثّلوا على أنّهم يختصمون ، ويطلبون البيان والبرهان فيما لا يعلمون ، فأجدر بالناس أن يكونوا معذورين ، وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقرّبين ، أي فعليك أيّها الرسول أن تصبر على هؤلاء المكذّبين ، وترشد المسترشدين ، وتأتي أهل الدعوة بسلطان مبين . وهذا الوجه هو الذي يبيّن اتّصال هذه الآيات بما قبلها ، وكون الكلام لا يزال في موضوع الكتاب وكونه لا ريب فيه ، وفي الرسول وكونه يبلّغ وحي الله تعالى ويهدي به عباده ، وفي اختلاف الناس فيهما . ومن خواصّ القرآن الحكيم الإنتقال من مسألة إلى أخرى مباينة لها أو قريبة منها مع كون الجميع في سياق موضوع واحد . وأمّا الخلف فمنهم من تكلّم في حقيقة الملائكة ووضع لهم تعريفاً ، ومنهم من أمسك عن ذلك وقد اتّفقوا على أنّهم يدركون ويعلمون . والقصّة على مذهبهم وردت مورد التمثيل ، لتقرّب من أفهام الخلق ما تفيدهم معرفته من حال النشأة الآدميّة ، وما لها من المكانة والخصوصيّة : أخبر الله الملائكة بأنّه جاعل في الأرض خليفة ، ففهموا من ذلك أنّ الله يودع في فطرة هذا النوع ، الذي يجعله خليفة أن يكون ذا إرادة مطلقة واختيار في عمله غير محدود ، وأنّ الترجيح بين ما يتعارض من الأعمال التي تعنّ له تكون بحسب علمه ، وأنّ العلم إذا لم يكن محيطاً بوجوه المصالح والمنافع فقد يوجّه الإرادة إلى خلاف المصلحة والحكمة وذلك هو الفساد ، وهو متعيّن لازم الوقوع ؛ لأنّ العلم المحيط لا يكون إلاّ لله تعالى ، فعجبوا كيف يخلق الله هذا النوع من الخلق وسألوا الله تعالى بلسان المقال إن كانوا ينطقون ، أو بلسان الحال والتوجيه إليه لاستفاضة المعرفة بذلك وطلب البيان والحكمة ، وعبّر الله عن ذلك بالقول ؛ لأنّه هو المعهود بالإستعلام والإستفهام عند البشر الذين أُنزل القرآن لهدايتهم ، كما نسب القول إلى السماوات والأرض في قوله { قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] . فأوّل ما ألقي إليهم من الإلهام أو غيره من طرق الإعلام : هو وجوب الخضوع والتسليم ، لمن هو بكلّ شيء عليم ؛ لأنّ ما يضيق عنه علم أحد ويحار في كيفيّته يتّسع له علم من هو أعلم منه ، ومن شأن الإنسان أن يسلّم لمن يعتقد أنّه فوقه في العلم ما يتصدّى له مهما يكن بعيد الوقوع في إعتقاده ، ومثّل الأستاذ لذلك بمشايخ الصوفيّة مع مريديهم . ومن ذلك إعتقاد جماهير الناس في بلاد الحضارة والصناعات في هذا العصر ، إمكان أمور وأعمال لم يكن أحد يتصوّر إمكانها من قبل إلاّ بعض كبار علماء النظر ، فإذا قيل إنّهم يحاولون عمل كذا فإنّهم يصدّقونهم ، وإن لم يعقلوا كيف يعملونه . فإنّ الذين يصنعون سلكاً لنقل الأخبار بالكهرباء إلى الأماكن البعيدة في دقيقة أو دقائق قليلة ، يصدّقون بأنّهم يوصلون تلك الأخبار من غير سلك ، وقد كان ، ويصدّقون بإمكان إيجاد آلة تجمع بين نقل الصوت ورؤية المتكلّم وهو ما يحاولون الآن ، وإذا قال لنا أهل هذه الصناعة إنّ ذلك ممكن الحصول ، صدّقناهم فيما يقولون من غير تردّد ، وليس تصديقنا تقليداً ولا تسليماً أعمى كما يقال ، بل هو تصديق عن دليل ركنه قياس ما يكون على ما قد كان ، بعد العلم بوحدة الوسائل . والملائكة أعلم منّا بشأن الله في أفعاله ، وأنّه العليم الحكيم ، فهم وإن فاجأهم العجب من خلق الخليفة ، يردّهم إلى اليقين أدنى التنبيه ، ولذلك كان قوله تعالى : { إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } جواباً مقنعاً أيّ إقناع . على أنّ هذا النوع من التسليم للعالم القادر ، ربّما لا يذهب بالحيرة ولا يزيل الإضطراب من نفس المتعجّب ، وإنّما تسكن النفس ببروز ذلك الأمر الذي كانت تعجب من بروزه إلى عالم الوجود ، ووقوفها على أسراره وحكمه بالفعل ؛ ولذلك تفضّل الله تعالى على الملائكة بإكمال علمهم ، بحكمته في خلق هذا الخليفة الإنسانيّ وسرّه عند طلوع فجره . فعلّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضهم على الملائكة كما سيأتي ، فعلموا أنّ في فطرة هذا الخليفة وإستعداده علم ما لم يعلموا ، وتبيّن لهم وجه إستحقاقه لمقام الخلافة في الأرض ، وأنّ ّكل ما يتوقّع من الفساد وسفك الدماء لا يذهب بحكمة الإستخلاف وفائدته ومقامه ، وناهيك بمقام العلم وفائدته ، وسرّ العالم وحكمته . فعلمنا أنّ السلف والخلف متّفقون على تنزيه الله تعالى عمّا لا يليق به من شؤون المخلوقين ، وعصمة ملائكته عمّا لا يليق بهم من الإعتراض أو الإنكار . فلا فرق في هذه النتيجة بين تفويض وتسليم ، وتأويل وتفهيم ، والله بكلّ شيء عليم ، وهاك تفسير الآيات بالتفصيل : قد علمت ممّا تقدّم أنّ الآيات متّصلة بما قبلها من الكلام في الكتاب ومن جاء به ومن دعي إليه ، فهي تجلي حجّة الرسول ودعوته من حيث إنّ الملائكة إذا كانوا محتاجين إلى العلم ويستفيدونه بالتعلّم من الله تعالى بالطريقة التي تناسب حالهم ؛ فالبشر أولى بالحاجة إلى ذلك منهم ؛ لأنّ طبيعة البشر جُبلت على أن يكتسبوا كلّ شيء اكتساباً . وهي من جهة أخرى تسلية له صلى الله عليه وسلم ببيان أنّ البشر أولى من الملائكة بإنكار ما لم يحيطوا بعلمه حتّى يعلموا ، وأنّهم جبلوا على أن يتوبوا ويرجعوا بعد أن يخطئوا ويذنبوا ، وأنّ الإفساد في الأرض وجحود الحقّ ومناصبة الداعي إليه ليس بدعاً من قومه ، وإنّما هو جبلّة أهل الفكر وطبيعة البشر . ثمّ إنّ للمفسّرين في ( الخليفة ) مذهبين : ذهب بعضهم : إلى أنّ هذا اللفظ يشعر بأنّه كان في الأرض صنف أو أكثر من نوع الحيوان الناطق ، وأنّه انقرض ، وأنّ هذا الصنف الذي أخبر الله الملائكة بأنّ سيجعله خليفة في الأرض سيحلّ محلّه ويخلفه ، كما قال تعالى بعد ذكر إهلاك القرون : { ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي ٱلأَرْضِ } [ يونس : 14 ] وقالوا : إنّ ذلك الصنف البائد قد أفسد في الأرض وسفك الدماء ، وأنّ الملائكة استنبطوا سؤالهم بالقياس عليه ؛ لأنّ الخليفة لا بدّ أن يناسب من يخلفه ويكون من قبيله كما يتبادر إلى الفهم ، ولكن لمّا لم يكن دليل على أنّه يكون مثله من كلّ وجه وليس ذلك من مقتضى الخلافة ، أجاب الله الملائكة بأنّه يعلم ما لا يعلمون ممّا يمتاز به هذا الخليفة على من قبله ، وما له سبحانه في ذلك من الحكمة البالغة ، قال الأستاذ : وإذا صحّ هذا القول فليس آدم أوّل الصنف العاقل من الحيوان على هذه الأرض ، وإنّما كان أوّل طائفة جديدة من الحيوان الناطق تماثل الطائفة أو الطوائف البائدة منه في الذات والمادّة ، وتخالفها في بعض الأخلاق والسجايا . هذا أحسن ما يجلي فيه هذا المذهب ، وأكثر ما قالوه فيه قد سرى إلى المسلمين من أساطير الفرس وخرافاتهم ، ومنه أنّه كان في الأرض قبل آدم خلق يسمّون بالحنّ والبنّ ، أو الطمّ والزمّ ، والأكثرون على أنّ الخلق الذين كانوا في الأرض قبل آدم خلق يسمون بالجن والبن ، أو الطم والزم ، والأكثرون على أن الحق الذين كانوا في الأرض قبل آدم مباشرة كانوا يسمّون الجنّ ، والقائلون منهم بالحنّ ( بالمهملة ) والبنّ ، قالوا : إنّهم كانوا قبل الجنّ ، وقالوا : إنّ هؤلاء عاثوا في الأرض فساداً ، فأبادهم الله " كما تقدم آنفاً " وقالوا : إن الله تعالى أرسل إليهم إبليس في جند من الملائكة فحارب الجنّ فدمّرهم وفرّقهم في الجزائر والبحار . وليس لهم في الإسلام سند يحتجّ به على هذه القصص ، ولكنّ تقاليد الأمم الموروثة في هذه المسألة تنبئ بأمر ذي بال ، وهي متّفقة فيه بالإجمال ، ألا وهو ما قلناه من أنّ آدم ليس أوّل الأحياء العاقلة التي سكنت الأرض . هذا هو المذهب الأوّل في تفسير الخليفة ، وذهب الآخرون إلى أنّ المراد : إنّي جاعل في الأرض خليفة عنّي ؛ ولهذا شاع أنّ الإنسان خليفة الله في أرضه . وقال تعالى : { يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ } [ ص : 26 ] والظاهر والله أعلم أنّ المراد بالخليفة آدم ومجموع ذرّيته . ولكن ما معنى هذه الخلافة ، وما المراد من هذا الإستخلاف ، هل هو استخلاف بعض الإنسان على بعض ؛ أم استخلاف البعض على غيره ؟ جرت سنّة الله في خلقه بأن تعَلّم أحكامُهُ للناس وتنفّذ فيهم على ألسنة أناس منهم يصطفيهم ليكونوا خلفاء عنه في ذلك ، وكما أنّ الإنسان أظهر أحكام الله وسننه الوضعيّة ( أي الشرعيّة لأنّ الشرع وضع إلهيّ ) كذلك أظهر حكمه وسننه الخلقيّة الطبيعيّة ، فيصحّ أن يكون معنى الخلافة عامّاً في كلّ ما ميّز الله به الإنسان على سائر المخلوقات . نطق الوحي ودلّ العيان والإختبار على أنّ الله تعالى خلق العالم أنواعاً مختلفة ، وخص كل نوع غير نوع الإنسان بشيء محدود معيّن لا يتعدّاه ، فأمّا ما لا نعرفه إلاّ من طريق الوحي كالملائكة فقد ورد فيها من الآيات والأحاديث ما يدلّ على أنّ وظائفه محدودة . قال تعالى : { يُسَبِّحُونَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ } [ الأنبياء : 20 ] { وَإِنَّا لَنَحْنُ ٱلصَّآفُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ ٱلْمُسَبِّحُونَ } [ الصافات : 165 - 166 ] { وَٱلصَّافَّاتِ صَفَّا * فَٱلزَّاجِرَاتِ زَجْراً } [ الصافات : 1 - 2 ] { وَٱلنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَٱلنَّاشِطَاتِ نَشْطاً * وَٱلسَّابِحَاتِ سَبْحاً * فَٱلسَّابِقَاتِ سَبْقاً * فَٱلْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً } [ النازعات : 1 - 5 ] على قول من قال : إنّ المراد بها الملائكة ، إلى غير ذلك ممّا يدلّ على أنّهم طوائف لكلّ طائفة وظيفة محدودة ، وورد في الأحاديث أنّ منهم الساجد دائماً ، والراكع دائما إلى يوم القيامة . وأمّا ما نعرفه بالنظر والإختبار فهو حال المعدن والجماد ولا علم له ولا عمل . وحال النبات وإنّما تأثير حياته في نفسه ، فلو فرض أنّ له علماً وإرادة فهما لا أثر لهما في جعل عمل النبات مبيّنا لحكم الله وسننه في الخلق ، ولا وسيلة لبيان أحكامه وتنفيذها ، فكلّ حيّ من الأحياء المحسوسة والغيبيّة فإنّ له إستعداداً محدوداً ، وعلماً إلهاميّاً محدوداً ، وعملا محدوداً ، وما كان كذلك لا يصلح أن يكون خليفة عن الذي لا حدّ لعلمه وإرادته ، ولا حصر لأحكامه وسننه ، ولا نهاية لأعماله وتصرّفه . وأمّا الإنسان فقد خلقه الله ضعيفاً . كما قال في كتابه { وَخُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً } [ النساء : 28 ] وخلقه جاهلا كما قال تعالى : { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً } [ النحل : 78 ] ولكنّه على ضعفه وجهله عبرة لمن يعتبر ، وموضع لعجب المتعجّب ؛ لأنّه مع ضعفه يتصرّف في الأقوياء ، ومع جهله في نشأته يعلم جميع الأسماء ، يولد الحيوان عالماً بالإلهام ما ينفعه وما يضرّه ، وتكمل له قواه في زمن قليل ، ويولد الإنسان وليس له من الإلهام إلاّ الصراخ بالبكاء ، ثمّ يحسّ ويشعر بالتدريج البطيء بالنسبة إلى غيره من الحيوان ، ويعطى قوّةً أخرى تتصرّف بشعوره وإحساسه تصرّفاً يكون له به السلطان على هذه الكائنات ، فيسخّرها ويذلّلها بعد ذلك كما تشاء تلك القوّة الغريبة ، وهي التي يسمّونها العقل ولا يعقلون سرّها ، ولا يدركون حقيقتها وكنهها ، فهي التي تغني الإنسان عن كلّ ما وهب للحيوان في أصل الفطرة من الكساء الذي يقيه البرد والحرّ ، والأعضاء التي يتناول بها غذاءه ، والتي يدافع بها عن نفسه ويسطو بها على عدوّه ، وغير ذلك من المواهب التي يعطاها الحيوان بلا كسب حتى كان له بها من الإختراعات العجيبة ما كان ، وسيكون له من ذلك ما لا يصل إليه التقدير والحسبان . فالإنسان بهذه القوّة غير محدود الإستعداد ولا محدود الرغائب ولا محدود العلم ولا محدود العمل ، فهو على ضعف أفراده يتصرّف بمجموعه في الكون تصرّفاً لا حدّ له بإذن الله وتصريفه ، وكما أعطاه الله تعالى هذه المواهب والأحكام الطبيعيّة ليظهر بها أسرار خليقته ، وملّكه الأرض وسخّر له عوالمها : أعطاه أحكاماً وشرائع حدّ فيها لأعماله وأخلاقه حدّاً ، يحول دون بغي أفراده وطوائفه بعضهم على بعض ، فهي تساعده على بلوغ كماله ؛ لأنّها مرشد ومربٍّ للعقل الذي كان له كلّ تلك المزايا ؛ فلهذا كلّه جعله خليفته في الأرض وهو أخلق المخلوقات بهذه الخلافة . ظهرت آثار الإنسان في هذه الخلافة على الأرض ونحن نشاهد عجائب صنعه في المعدن والنبات ، وفي البرّ والبحر والهواء ، فهو يتفنّن ويبتدع ، ويكتشف ويخترع ويجدّ ويعمل ، حتّى غيّر شكل الأرض فجعل الحزن سهلا ، والماحل خصباً ، والخراب عمراناً ، والبراري بحاراً أو خلجاناً ، وولّد بالتلقيح أزواجاً من النبات لم تكن كالليمون المسمّى " يوسف أفندي " فإنّ الله تعالى خلقه بيد الإنسان وأنشأه بكسبه ، وقد تصرّف في أبناء جنسه من أنواع الحيوان كما يشاء بضروب التربية والتغذية والتوليد ، حتّى ظهر التغيّر في خلقتها وخلائقها وأصنافها ، فصار منها الكبير والصغير ، ومنها الأهليّ والوحشيّ ، وهو ينتفع بكلّ نوع منها ويسخّره لخدمته كما سخّر القوى الطبيعية وسائر المخلوقات . أليس من حكمة الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثمّ هدى . أن جعل الإنسان بهذه المواهب خليفته في الأرض ، يقيم سننه ، ويظهر عجائب صنعه ، وأسرار خليقته ، وبدائع حكمه ، ومنافع أحكامه ، وهل وجدت آية على كمال الله تعالى وسعة علمه أظهر من هذا الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم ؟ وإذا كان الإنسان خليفة بهذا المعنى فكيف تعجب الملائكة منه ؟ { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } بادروا إلى السؤال واستفهام الإستغراب و { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ } فيغفل بذلك عن تسبيحك وتقديسك { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } بلا غفلة ولا فتور ؟ لا شكّ أنّ هذا السؤال نشأ من فهم المعنى المراد من الخليفة ، وما يقتضيه من العلم غير المحدود والإرادة المطلقة ، وكون هذا العلم المصرّف للإرادة لا يحصل إلاّ بالتدريج ، وكون عدم الإحاطة مدعاة للفساد ، والتنازع المفضيّ إلى سفك الدماء كما تقدّم . نعم ، إنّ هذا العلم الواسع لا يعطاه فرد من أفراد الإنسان ، ولا مجموع النوع دفعة واحدة فيشابه علمه علم الله تعالى ، وكلّما أوتي نصيباً منه ؛ ظهر له من جهله ما لم يكن يعلم ، وكلّما أعطي حظّاً من الأدب والعقل ؛ ظهر له ضعف عقله ، ولله درّ الشافعيّ حيث قال : @ كلّما أدّبني الدهـر أراني نقص عقلي وإذا ما ازددت علماً زادني علماً بجهلي @@ فهو على سعة علمه لم يؤت من العلم الإلهيّ إلاّ قليلا ، وهو مع ذلك أوسع مظاهر العلم الإلهيّ ، ولذلك أجاب الله الملائكة بالعلم { قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } فأثبت لذاته العلم بحكمة هذه الخلافة ونفاه عنهم ، ثمّ أظهر لهم أنّ الإنسان يكون خليفة بالعلم وما يتبعه فقال : { وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلَٰئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ … } .