Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 31-33)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
تقدّم في بيان معنى الخليفة أنّ علم الملائكة ، وعملهم محدودان ، وأنّ علم الإنسان وعمله غير محدودين ، وبهذه الخاصّة التي فطر الله الناس عليها كان الإنسان أجدر بالخلافة من الملائكة ، وهذه هي حجّة الله البالغة على الملائكة التي بيّنها لهم بعد ما نبّههم إلى علمه المحيط بما لا يعلمون فقال : { وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا } أي أودع في نفسه علم جميع الأشياء من غير تحديد ولا تعيين ، فالمراد بالأسماء المسميّات ، عبّر عن المدلول بالدليل ، لشدّة الصلة بين المعنى واللفظ الموضوع له ، وسرعة الإنتقال من أحدهما إلى الآخر . والعلم الحقيقيّ إنّما هو إدراك المعلومات أنفسها ، والألفاظ الدالّة عليها تختلف بإختلاف اللغات التي تجري بالمواضعة والإصطلاح ، فهي تتغيّر وتختلف والمعنى لا تغيير فيه ولا اختلاف . قال الأستاذ : ثمّ إنّ الاسم قد يطلق إطلاقاً صحيحاً على ما يصل إلى الذهن من المعلوم أي صورة المعلوم في الذهن ، وبعبارة أخرى : ما به يعلم الشيء ، عند العالم . فاسم الله - مثلا - هو ما به عرفناه في أذهاننا ، بحيث يقال : إنّنا نؤمن بوجوده ، ونسند إليه صفاته ، فالأسماء هي ما به نعلم الأشياء ، وهي العلوم المطابقة للحقائق . والاسم بهذا الإطلاق هو الذي جرى الخلاف في أنّه عين المسمّى أو غيره ، وقد كان اليونانيّون يطلقون على ما في الذهن من المعلوم لفظ الاسم . والخلاف في أنّ ما في الذهن من الحقائق هو عينها أو صورتها ، مشهور كالخلاف في أنّ العلم عين المعلوم أو غير المعلوم ، وأمّا الخلاف في أنّ الاسم الذي هو اللفظ عين المسمّى أو غيره فهو ما أخطأ فيه الناظرون ؛ لعدم الدقّة في التمييز بين الإطلاقات لبداهة أنّ اللفظ غير معناه بالضرورة . والاسم - بذلك الإطلاق الذي ذكرناه - هو الذي يتقدّس ويتبارك ويتعالى : { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ } [ الأعلى : 1 ] ، { تَبَارَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ ذِي ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } [ الرحمن : 78 ] فاسمه جلّ شأنه ما يمكننا أن نعلم منه ما نعلم من صفاته ، وما يشرق في أنفسنا من بهائه وجلاله ، ولا مانع من أن نريد من الأسماء هذا المعنى ، وهو لا يختلف في التأويل عمّا قالوه من إرادة المسمّيات ، ولكنّه على ما نقول أظهر وأبين . وأقول : تقدّم لنا في أوّل سورة الفاتحة أنّ اسم الله تعالى يسبِّح ويعظِّم ، ومنه إسناد التسبيح إليه قولا وكتابة . وتسبيحه وتعظيمه بدون ذكر اسمه خاصّ بالقلب . ومن تعمّد إهانة اسم الله تعالى يكفر كمن يتعمّد إهانة كتابه . ثمّ إنّ الذي يتبادر إلى الفهم من صيغة التعليم هو التدريج قال تعالى : { وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 151 ] وما كان ذلك إلاّ تدريجاً وهذا ظاهر في جميع الآيات التي فيها لفظ التعليم كقوله : { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } [ النساء : 113 ] وقوله : { وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } [ آل عمران : 48 ] إلى غير ذلك - ولكنّ المتبادر من تعليم آدم الأسماء : إنّه كان دفعةً واحدة إذا أريد بآدم شخصه بالفعل أو بالقوّة ، ولذلك قال شيخنا : علم الله آدم كلّ شيء ولا فرق في ذلك بين أن يكون له هذا العلم في آن واحد ، أو في آنات متعدّدة والله قادر على كلّ شيء ، ثمّ إنّ هذه القوّة العلميّة عامّة للنوع الآدميّ كلّه ، ولا يلزم من ذلك أن يعرف أبناؤه الأسماء من أوّل يوم ، فيكفي في ثبوت هذه القوّة لهم ، معرفة الأشياء بالبحث والإستدلال ، علّم الله آدم الأسماء على نحو ما بيّنّا { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلَٰئِكَةِ } أي أطلعهم إطلاعاً إجماليّاً بالإلهام الذي يليق بحالهم على مجموع تلك الأشياء ، ولو عرضت على نفوسهم عرضاً تفصيليّاً لعلموها ، ولم يكن علمهم محدوداً . والحال : إنّه عرضها عليهم وسألهم عنها سؤال تعجيز { فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ } المسمّيات والغرض من الإنباء بأسمائها الإبانة عن معرفتها ومعنى { إِن كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ } أي إن كان هناك موقع للدهشة والإستغراب من جعل الخليفة في الأرض من البشر ، وكان ما طرق نفوسكم وطرأ على أذهانكم أوّلا حالاًّ محلّه ، ومصيباً غرضه ، ولمّا تعرفوا حقيقة ما يمتاز به الخليفة : فأنبئوني بأسماء ما عرضته عليكم { قَالُواْ سُبْحَٰنَكَ } أي تنزيهاً لك ، فلفظ سبحان مصدر قلّما يستعمل إلاّ مضافا كمعاذ الله ، وهو منصوب بفعل مقدّر . والمعنى : نقدّسك وننزّهك أن يكون علمك قاصراً فتخلق الخليقة عبثاً ، أو تسألنا شيئاً نفيده وأنت تعلم أنّنا لا نحيط بعلمه ، ولا نقدر على الإنباء به ، وكلمة " سبحانك " تهدي إلى هذا ، فكأنّها جملة وحدها ، وهذه هي البلاغة مضروب سرادقها ، مثمرة حدائقها ، متجلّية حقائقها ، على أنّ القصّة وردت مورد التمثيل ، والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل . وبعد تنزيه الباري تبرؤا من علمهم إلى علمه تعالى وحكمته فقالوا : { لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ } وهو محدود لا يتناول جميع الأسماء ولا يحيط بكلّ المسمّيات { إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ } بخلقك { ٱلْحَكِيمُ } في صنعك . قال الأستاذ : إنّ هذه التأكيدات تشعر بأنّ سؤال الإستغراب الأوّل كان يتنسّم منه شيء ، وكذلك الجواب عن { أَنْبِئُونِي } بقولهم : { لاَ عِلْمَ لَنَآ } ولذلك ختموا الجواب بالتبرؤ من كلّ شيء ، والثناء على الله تعالى بالعلم الثابت الواجب لذاته العليّة ، والحكمة البالغة اللازمة له . فقد تقدّم في تفسير الفاتحة أنّ صيغة ( فعيل ) تدلّ غالباً على الصفات الراسخة اللازمة ، فكان جواب الملائكة بهذا مؤذناً بأنّهم رجعوا إلى ما كان يجب أن لا يغفل مثلهم عنه ، وهو التسليم لسعة علم الله وحكمته حتّى يبلغ الكتاب أجله . { قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ } فكان الإنباء كما أراد الله تعالى وذكره لأجل ترتيب الحكم عليه بقوله : { فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ } الله تعالى للملائكة { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } ومن كان هذا شأنه فلا يخلق شيئاً سدى ، ولا يجعل الخليفة في الأرض عبثاً { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } والذي يبدونه هو ما يظهر أثره في نفوسهم ، وأمّا ما يكتمون فهو ما يوجد في غرائزهم وتنطوي عليه طبائعهم . وقد علم ممّا تقدّم أنّ كلّ هذه الأقوال والمراجعات والمناظرات ، يفوّض السلف الأمر إلى الله تعالى في معرفة حقيقتها ، ويكتفون بمعرفة فائدتها وحكمتها ، وقد تقدّم بيان ذلك . وأمّا الخلف فيلجأون إلى التأويل ، وأمثل طرقه في هذا المقام التمثيل ، وقد مضت سنّة الله في كتابه بأن يبرز لنا الأشياء المعنويّة ، في قوالب العبارة اللفظيّة ، ويجلي لنا المعارف المعقولة ، بالصور المحسوسة ، تقريباً للإفهام ، وتسهيلا للإعلام ، ومن ذلك أنه عرّفنا بهذه القصّة قيمة أنفسنا ، وما أودعته فطرتنا ، ممّا نمتاز به على غيرنا من المخلوقات ، فعلينا أن نجتهد في تكميل أنفسنا بالعلوم التي خلقنا مستعدّين لها من دون الملائكة وسائر الخلق ؛ لتظهر حكمة الله فينا ، ولعلّنا نشرف على معنى إعلام الله الملائكة بفضلنا ، ومعنى سجودهم لأصلنا { وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الحشر : 21 ] .