Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 34-34)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
بعدما عرّف الله الملائكة بمكانة آدم ، ووجه جعله خليفةً في الأرض ، أمرهم بالخضوع له وعبّر عن ذلك بالسجود ، فقال : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ } وهو سجود لا نعرف صفته ، ولكنّ أصول الدين تعلّمنا أنّه ليس سجود عبادة إذ لا يعبد إلاّ الله تعالى . والسجود في اللغة : التطامن والخضوع والإنقياد ، وأعظم مظاهره الخرور نحو الأرض للأذقان ووضع الجبهة على التراب ، وكان عند بعض القدماء من تحيّة الناس للملوك والعظماء ، ومنه سجود يعقوب وأولاده ليوسف عليه السلام . والسجود لله تعالى قسمان : سجود العقلاء المكلّفين له ، تعبّداً على الوجه المشروع ، وسجود المخلوقات كلّها لمقتضى إرادته فيها . قال تعالى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً } [ الرعد : 15 ] الآية وقال : { وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } [ الرحمن : 6 ] وفي معناهما آيات . { فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ } [ الأعراف : 11 ، طه : 116 ] أي سجدوا كلّهم أجمعون إلاّ إبليس وهو فرد من أفراد الملائكة ، كما يفهم من الآية وأمثالها في القصّة إلاّ آية الكهف فإنّها ناطقة بأنّه كان من الجنّ { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [ الكهف : 50 ] وليس عندنا دليل على أنّ بين الملائكة والجنّ فصلا جوهريّاً يميّز أحدهما عن الآخر ، وإنّما هو إختلاف أصناف ، عندما تختلف أوصاف ، كما ترشد إليه الآيات . فالظاهر أنّ الجنّ صنف من الملائكة ، وقد أطلق في القرآن لفظ الجنّة على الملائكة على رأي جمهور المفسّرين في قوله تعالى : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ نَسَباً } [ الصافات : 158 ] وعلى الشياطين في آخر سورة الناس [ وعلى كلّ حال فجميع هؤلاء المسمّيات بهذه الأسماء من عالم الغيب لا نعلم حقائقها ولا نبحث عنها ولا نقول بنسبة شيء إليها ، ما لم يرد لنا فيه نصّ قطعيّ عن المعصوم صلى الله عليه وسلم وصف الله تعالى إبليس بأنّه { أَبَىٰ } السجود والإنقياد { وَٱسْتَكْبَرَ } ، فلم يمتثل أمر الحقّ ترفّعاً عنه ، وزعماً بأنّه خير من الخليفة عنصراً ، وأزكى جوهراً ، كما حكى الله تعالى عنه في غير هذه السورة : { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الأعراف : 12 ] . والإستكبار بمعنى التكبّر ، وهو : الظهور بصفة الكبرياء التي من آثارها الترفّع عن الحقّ ، كأنّ السين والتاء للإشعار بأنّ الكبر ليس من طبيعة إبليس ولكنّه مستعدّ له ، ثمّ قال تعالى بعد وصفه بالإباء والإستكبار ، { وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ } قال بعض المفسّرين : كان من حقّ الترتيب أن يقال : كان من الكافرين واستكبر وأبى ؛ لأنّ الكفر عنده سبب الإستكبار والإستكبار سبب الإباء ، ومثل هذا المفسّر يعلّل مخالفة الترتيب الطبيعيّ في النظم برعاية الفاصلة . قال الأستاذ : ولكنّ نظم الآية جاء على مقتضى الطبيعة في الذكر ، فإنّه يفيد أنّ الله تعالى أراد أن يبيّن الفعل أوّلاً ؛ لأنّه المقصود بالذات ، وهو الإباء ثمّ يذكر سببه وعلّته وهو الإستكبار ثمّ يأتي بالأصل في العلّة والمعلول والسبب والمسبّب وهو الكفر . أقول : وقال بعض المفسّرين : إنّ " كان " هنا بمعنى صار وخطّأه ابن فورك وقال إنّ الأصول تردّه ، ووجهه عند قائله : وصار بهذا الإباء والإستكبار من جملة الكافرين ، لما علم من أنّه لم يكن قبل هذا العصيان المتضمّن للإعتراض على الربّ سبحانه من الكافرين ، وقد جعل بعضهم مناط كفره ، هذا الإعتراض على ربّه عزّ وجلّ ؛ لأنّ المعصية وحدها لا تقتضي الكفر ، كما تدلّ عليه النصوص ، وفيه أنّ ذلك في معصية المسلم ، وهو المذعن لأمر الله ونهيه إذا غلبه غضب أو شهوة فعصى ، وهو لا يلبث أن يندم ويتوب . وعصيان إبليس رفض للإذعان والإستسلام ابتداءً ، وهو كفر بغير نزاع ، ككفر الذين صدّقوا الرسل بقلوبهم ولم يتّبعوهم عناداً وإستكباراً { وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [ النمل : 14 ] والجمهور : إنّ المعنى : وكان في علم الله من الكافرين . ثم إنّ الأستاذ أعاد هنا ملخّص ما تقدّم بيانه في وجه اتّصال الآيات بما قبلها ، وكون الكلام في القرآن والرسول الذي جاء به وتسليته بهذه القصّة ، ثمّ توسّع في الكلام عن الملائكة فقال ما مثاله ملخّصاً : تقدّم أنّ الملائكة خلق غيبيّ لا نعرف حقيقته ، وإنّما نؤمن به بإخبار الله تعالى الذي نقف عنده ولا نزيد عليه ، وتقدّم أنّ القرآن ناطق بأنّ الملائكة أصناف لكلّ صنف وظيفة وعمل ، ونقول الآن : إنّ إلهام الخير والوسوسة بالشرّ ممّا جاء في لسان صاحب الوحي صلى الله عليه وسلم وقد أسندا إلى هذه العوالم الغيبيّة ، وخواطر الخير - التي تسمّى إلهاماً - وخواطر الشرّ - التي تسمّى وسوسة - كلّ منهما محلّه الروح ، فالملائكة والشياطين إذن أرواح تتّصل بأرواح الناس ، فلا يصحّ أن تمثّل الملائكة بالتماثيل الجثمانيّة المعروفة لنا ؛ [ لأنّ هذه لو اتّصلت بأرواحنا ، فإنّما تتّصل بها من طرق أجسامنا ، ونحن لا نحسّ بشيء يتّصل بأبداننا لا عند الوسوسة ولا عند الشعور بداعي الخير من النفس ، فإذن هي من عالم غير عالم الأبدان قطعاً ] والواجب على المسلم في مثل الآية : الإيمان بمضمونها مع التفويض أو الحمل على أنّها حكاية تمثيل ، ثمّ الإعتبار بها بالنظر في الحكم التي سيقت لها القصّة . وأقول : إنّ إسناد الوسوسة إلى الشياطين معروف في الكتاب والسنّة ، وأمّا إسناد إلهام الحقّ والخير إلى الملائكة فيؤخذ من خطاب الملائكة لمريم عليها السلام ، ومن حديث الشيخين في المحدَّثين وكون عمر منهم - والمحدّثون بفتح الدال وتشديدها الملهمون - ومن حديث الترمذيّ والنسائي وابن حبان وهو " إنّ للشيطان لمّة بابن آدم وللملك لمّة . فأمّا لمّة الشيطان فإيعاد بالشرّ وتكذيب بالحقّ ، وأمّا لمّة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحقّ ، فمن وجد ذلك فليعلم أنّه من الله فليحمد الله على ذلك ، ومن وجد الأخرى فليتعوّذ بالله من الشيطان ثمّ قرأ { ٱلشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ ٱلْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِٱلْفَحْشَآءِ } [ البقرة : 268 ] قال الترمذيّ حسن غريب ، لا نعلمه مرفوعاً إلاّ من حديث أبي الأحوص . والرواية " إيعاد " في الموضعين كما أنّ الآية من الثلاثيّ في الموضعين ، فما قالوه في التفرقة بين الوعد والإيعاد أغلبيّ فيما يظهر ، وإلاّ فهو غير صحيح . واللّمة بالفتح الإلمام بالشيء والإصابة . قال الأستاذ : وذهب بعض المفسّرين مذهباً آخر في فهم معنى الملائكة ، وهو أنّ مجموع ما ورد في الملائكة من كونهم موكّلين بالأعمال من إنماء نبات وخلقة حيوان وحفظ إنسان وغير ذلك ، فيه إيماء إلى الخاصّة بما هو أدقّ من ظاهر العبارة ، وهو أنّ هذا النموّ في النبات لم يكن إلاّ بروح خاصّ نفخه الله في البذرة فكانت به هذه الحياة النباتيّة المخصوصة ، وكذلك يقال في الحيوان والإنسان ، فكلّ أمر كلّيّ قائم بنظام مخصوص تمّت به الحكمة الإلهية في إيجاده ، فإنّما قوامه بروح إلهيّ سمّي في لسان الشرع ملكاً ، ومن لم يبالِ في التسمية بالتوقيف ، يسمّي هذه المعاني : القوى الطبيعيّة ، إذا كان لا يعرف من عالم الإمكان إلاّ ما هو طبيعة أو قوّة يظهر أثرها في الطبيعة . والأمر الثابت الذي لا نزاع فيه ، هو أنّ في باطن الخلقة أمرا هو مناطها ، وبه قوامها ونظامها ، لا يمكن لعاقل أن ينكره ، وإن أنكر غير المؤمن بالوحي تسميته ملكاً ، وزعم أنّه لا دليل على وجود الملائكة ، أو أنكر بعض المؤمنين بالوحي تسميته قوّة طبيعيّة أو ناموساً طبيعياً ؛ لأنّ هذه الأسماء لم ترد في الشرع . فالحقيقة واحدة والعاقل من لا تحجبه الأسماء عن المسمّيات [ وإن كان المؤمن بالغيب يرى للأرواح وجوداً لا يدرك كنهه ، والذي لا يؤمن بالغيب يقول لا أعرف الروح ولكن أعرف قوّة لا أفهم حقيقتها . ولا يعلم إلاّ الله علامَ يختلف الناس ؟ وكلّ يقرّ بوجود شيء غير ما يرى ويحسّ ، ويعترف بأنّه لا يفهمه حقّ الفهم ، ولا يصل بعقله إلى إدراك كنهه ، وماذا على هذا الذي يزعم أنّه لا يؤمن بالغيب وقد اعترف بما غيَّب عنه لو قال : أصدّق بغيب أعرف أثره ، وإن كنت لا أقدّره قدره ، فيتّفق مع المؤمنين بالغيب ، ويفهم بذلك ما يرد على لسان صاحب الوحي ، ويحظى بما يحظى به المؤمنون ؟ ] . يشعر كلّ من فكّر في نفسه ووازن بين خواطره ، عندما يهمّ بأمر فيه وجه للحقّ أو للخير ، ووجه للباطل أو للشرّ ، بأنّ في نفسه تنازعاً ، كأنّ الأمر قد عرض فيها على مجلس شورى ، فهذا يورد وذاك يدفع . واحد يقول : افعل ، وآخر يقول : لا تفعل ، حتّى ينتصر أحد الطرفين ، ويترجّح أحد الخاطرين ، فهذا الشيء الذي أودع في أنفسنا ، ونسمّيه قوّة وفكراً - وهو في الحقيقة معنى لا يدرك كنهه ، وروح لا تكتنه حقيقتها - لا يبعد أن يسمّيه الله تعالى ملكاً ( أو يسمّي أسبابه ملائكة ) أو ما شاء من الأسماء ، فإنّ التسمية لا حجر فيها على الناس ، فكيف يحجر فيها على صاحب الإرادة المطلقة والسلطان النافذ والعلم الواسع ؟ وأقول : إنّ الإمام الغزاليّ سبق إلى بيان هذا المعنى ، وعبّر عنه بالسبب ، وقال : إنّه سمّي ملكاً ، فإنّه بعدما قسّم الخواطر إلى محمود ومذموم قال : " ثمّ إنّك تعلم أنّ هذه الخواطر حادثة ، ثمّ إنّ كلّ حادث فلا بدّ له من محدث ، ومهما اختلفت الحوادث ، دلّ ذلك على إختلاف الأسباب ، هذا ما عرف من سنّة الله تعالى في ترتيب المسبّبات على الأسباب ، فمهما استنارت حيطان البيت بنور النار وأظلم سقفه بالدخان ، علمت أنّ سبب السواد غير سبب الإستنارة ، وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمّى ملكاً ، وسبب الخاطر الداعي إلى الشرّ يسمّى شيطاناً ، واللطف الذي يتهيّأ به القلب لقبول إلهام الخير يسمّى توفيقاً ، والذي يتهيّأ به لقبول الشرّ يسمّى إغواءً وخذلاناً . فإنّ المعاني المختلفة تحتاج إلى أسامي مختلفة " . اهـ المراد منه ، فليراجعه في كتاب شرح عجائب القلب من الإحياء ، ثمّ قال الأستاذ الإمام ما معناه : فإذا صحّ الجري على هذا التفسير ، فلا يستبعد أن تكون الإشارة في الآية إلى أنّ الله تعالى لمّا خلق الأرض ودبّرها بما شاء من القوى الروحانيّة ، التي بها قوامها ونظامها ، وجعل كلّ صنف من القوى مخصوصاً بنوع من أنواع المخلوقات لا يتعدّاه ولا يتعدّى ما حدّد له من الأثر الذي خصّ به ، خلق بعد ذلك الإنسان وأعطاه قوّة يكون بها مستعدّاً للتصرّف بجميع هذه القوى وتسخيرها في عمارة الأرض ، وعبّر عن تسخير هذه القوى له بالسجود الذي يفيد معنى الخضوع والتسخير ، وجعله بهذا الاستعداد الذي لا حد له والتصرف الذي لم يعط لغيره خليفة الله في أرضه ؛ لأنه أكمل الموجودات في هذه الأرض ، واستثنى من هذه القوى قوّة واحدة عبّر عنها بإبليس وهي القوّة التي [ لزّها الله بهذا العالم لزّاً ، وهي التي تميل بالمستعدّ للكمال أو بالكامل إلى النقص ، وتعارض مدّ الوجود لتردّه إلى العدم ، أو تقطع سبيل البقاء وتعود بالموجود إلى الفناء أو التي ] تعارض في اتّباع الحقّ وتصدّ عن عمل الخير ، وتنازع الإنسان في صرف قواه إلى المنافع والمصالح التي تتمّ بها خلافته ، فيصل إلى مراتب الكمال الوجوديّ التي خلق مستعدّاً للوصول إليها [ تلك القوّة التي ضلّلت آثارها قوماً فزعموا أنّ في العالم إلهاً يسمّى إله الشرّ . وما هي بإله ولكنّها محنة إله لا يعلم أسرار حكمته إلاّ هو ] . قال : ولو أنّ نفساً مالت إلى قبول هذا التأويل لم تجد في الدين ما يمنعها من ذلك ، والعمدة على اطمئنان القلب وركون النفس إلى ما أبصرت من الحقّ . وأقول : إنّ غرض الأستاذ من هذا التأويل الذي عبّر عنه بالإيماء وبالإشارة إقناع منكري الملائكة بوجودهم ، بتعبير مألوف عندهم تقبله عقولهم ، وقد اهتدى به كثيرون ، وضلّ به آخرون فأنكروه عليه وزعموا أنّه جعل الملائكة قوىً لا تعقل فردّ عليهم كتابة بما نصه بحروفه : [ ولست أحيط علماً بما فعلت العادة والتقاليد في أنفس بعض من يظنّون أنّهم من المتشدّدين في الدين ، إذ ينفرون من هذه المعاني كما ينفر المرضى أو المخدجون من جيد الأطعمة التي لا تضرّهم ، وقد يتوقّف عليها قوام بنيتهم ، ويتشبّثون بأوهام مألوفة لهم تشبّث أولئك المرضى والمخدجين بأضرّ طعام يفسد الأجسام ، ويزيد السقام . لا أعرف ما الذي فهموه من لفظ روح أو ملك ، وما الذي يتخيّلونه من مفهوم لفظ قوّة ، أليس الروح في الآدميّ - مثلا - هذا الذي يظهر لنا في أفراد هذا النوع بالعقل والحسّ والوجدان والإرادة والعمل ، وإذا سُلِبوه سُلِبوا ما يسمّى بالحياة ؟ أو ليست القوّة هي ما تصدر عنه الآثار فيمن وهبت له ، فإذا سمّي الروح لظهور أثره قوّة ، أو سمّيت القوّة لخفاء حقيقتها روحاً ، فهل يضرّ ذلك بالدين ، أو ينقص معتقده شيئاً من اليقين ؟ ألا لا يسمّى الإيمان إيماناً ، حتّى يكون إذعاناً ، ولا يكون كذلك حتّى يستسلم الوجدان ، وتخشع الأركان ، لذلك السلطان الذي تعلّق به الإيمان ، ولا يكون كذلك حتّى يلقي الوهم سلاحه ، ويبلغ العقل فلاحه ، وهل يستكمل ذلك لمن لا يفهم ما يمكنه فهمه ، ولا يعلم ما يتيسّر له علمه ؟ كلاّ إنّما يعرف الحقّ أهله ، ولا يضلّ سبله ، ولا يعرف أهل الغفلة . لو أنّ مسكيناً من عبدة الألفاظ من أشدّهم ذكاءً وأذربهم لساناً ، أخذ بما قيل له إنّ الملائكة أجسام نورانيّة قابلة للتشكّل ، ثمّ تطلّع عقله إلى أن يفهم معنى نورانيّة الأجسام ، وهل النور وحده له قوام يكون به شخصاً ممتازاً ، بدون أن يقوم بجرم آخر كثيف ، ثمّ ينعكس عنه كذبالة المصباح أو سلك الكهرباء ؟ ومعنى قابليّة التشكّل ، وهل يمكن للشيء الواحد أن يتقلّب في أشكال من الصور مختلفة حسبما يريد ، وكيف يكون ذلك ؟ ألا يقع في حيرة ؟ ولو سئل عمّا يعتقده من ذلك ألاَّ يحدث في لسانه من العقد ما لا يستطيع حلّه ؟ أليس مثل هذه الحيرة يعدّ شكّاً ؟ نعم ، ليست هذه الحيرة حيرة من وقف دون أبواب الغيب ، يطرف لما لا يستطيع النظر إليه ، لكنّها حيرة من أخذ بقول لا يفهمه ، وكلّف نفسه علم ما لا تعلمه فلا يعدّ مثله ممّن آمن بالملائكة إيماناً صحيحاً ، واطمأنّت بإيمانه نفسه ، وأذعن له قلبه ، ولم يبق لوهمه سلاح ينازع به عقله ، كما هو شأن صاحب الإيمان الصحيح . فليرجع هؤلاء إلى أنفسهم ليعلموا أنّ الذي وقر فيها ، تقاليد حفّت بالمخاوف ، لا علوم حفّت بالسكينة والطمأنينة ، هؤلاء لم يشرق في نفوسهم ذلك السرّ الذي يعبّر عنه بالنور الإلهيّ ، والضياء الملكوتيّ ، واللألاء القدسيّ ، أو ما يماثل ذلك من العبارات . لم يسبق لنفوسهم عهد بملاحظة جانب الحقّ ، ولم تكتحل أعين بصائرهم بنظرة إلى مطلع الوجود منه على الخلق ، ولو علموا أنّ العالم بأسره فان في نفسه ، وأن ليس في الكون باق كان أو يكون ، إلاّ وجهه الكريم ، وأنّ ما كشف من الكون وما لطف ، وما ظهر منه وما بطن ، إنّما هو فيض من جوده ، ونسبة إلى وجوده ، وليس الشريف منه ، إلاّ ما أعلى بذكره منزلته ، ولا الخسيس إلاّ ما بُيِّن لنا بالنظر إلى الأوّل نسبته ؛ فإنّ كلّ مظهر من مظاهر الوجود في نفسه واقع موقعه ، ليس شيء أعلى ولا أحطّ منه ، فإن كان كذلك ولا بدَّ أن يكون كما قدّره - لو عرفوا ذلك كلّه لأطلقوا لأنفسهم أن تجول في تلك الشؤون حتّى تصل إلى مستقرّ الطمأنينة ، حيث لا ينازع العقل شيء من وساوس الوهم ، ولا تجد طائفاً من الخوف ، ثمّ لا يتحرّجون من إطلاق لفظ مكان لفظ . هذه القوى التي نرى آثارها في كلّ شيء يقع تحت حواسّنا ، وقد خفيت حقائقها عنّا ، ولم يصل أدقّ الباحثين في بحثه عنها إلاّ إلى آثار تجلّ إذا كشفت ، وتقلّ بل تضمحلّ إذا حجبت ، وهي التي يدور عليها كمال الوجود ، وبها ينشأ الناشئ ، وبها ينتهي إلى غايته الكامل ، كما لا يخفى على نبيّه ولا خامل ، أليست أشعّة من ضياء الحقّ ؟ أليست أجلّ مظهر من مظاهر سلطانه ؟ ألاَّ تعدّ بنفسها من عالم الغيب ، وإن كانت آثارها من عالم الشهادة ؟ ألا يجوز أن يشعر الشاعر منها بضرب من الحياة والإختيار خاصّ بها ، لا ندرك كنهه لإحتجابه بما نتصوّره من حياتنا واختيارنا ؟ ألا تراها توافي بأسرارها ، من ينظر في آثارها ، ويوفيها حقّ النظر في نظامها يستكثر من الخير بما يقف عليه من شؤونها ، ومعرفة الطريق إلى استدرار منافعها ؟ . أليس الوجود الإلهي الأعلى من عالم الغيب وآثاره في خلقه من عالم الشهادة ؟ أليس هو الذي وهب تلك القوى خواصّها ، وقدّر لها آثارها ؟ لم لا نقول أيّها الغافل : إنّه بذلك وهبها حياتها الخاصّة بها ؟ ولم قصرت معنى الحياة على ما تراه فيك وفي حيوان مثلك ، مع إنّك لو سئلت عن هذا الذي تزعم أنّك فهمته ، وسمّيته حياة لم تستطع له تعريفاً ، ولا لفعله تصريفاً ؟ لم لا تقول كما قال الله وبه نقول : { تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء : 44 ] . أفلا تزعم أن لله ملائكة في الأرض وملائكة في السماء ؟ هل عرفت أين تسكن ملائكة الأرض ؟ وهل حددّت أمكنتها ، ورسمت مساكنها ؟ وهل عرفت أين يجلس من يكون منهم عن يمينك ؟ ومن يكون عن يسارك ؟ هل ترى أجسامهم النورانيّة تضيء لك في الظلام ، أو تؤنسك إذا هجمت عليك الأوهام ؟ فلو ركنت إلى أنّها قوىً أو أرواح منبثّة فيما حولك ، وما بين يديك وما خلفك ، وأنّ الله ذكرها لك بما كان يعرفها سلفك ، وبالعبارة التي تلقّفتها عنهم ، كيلا يوحشك بما يدهشك ، وترك لك النظر فيما تطمئنّ إليه نفسك من وجوه تعرفها . أفلا يكون ذلك أروح لنفسك ، وأدعى إلى طمأنينة عقلك ؟ أفلا تكون قد أبصرت شيئاً من وراء حجاب ، ووقفت على سرّ من أسرار الكتاب ؟ فإن لم تجد في نفسك استعداداً لقبول أشعّة هذه الحقائق ، وكنت ممّن يؤمن بالغيب ويفوّض في إدراك الحقيقة ويقول : { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } [ آل عمران : 7 ] فلا ترم طلاّب العرفان بالريب ما داموا يصدّقون بالكتاب الذي آمنت به ، ويؤمنون بالرسول الذي صدّقت برسالته ، وهم في إيمانهم أعلى منك كعباً ، وأرضى منك بربّهم نفساً ، ألا إنّ مؤمناً لو مالت نفسه إلى فهم ما أنزل إليه من ربّه على النحو الذي يطمئنّ إليه قلبه - كما قلنا - كان من دينه في ثقة ، ومن فضل ربّه في سعة ] اهـ . هذا ما كتبه شيخنا في توضيح كلامه في تقريب ما يفهمه علماء الكائنات من لفظ القوى ، إلى ما يفهمه علماء الشرع من لفظ الملائكة ، ولا يفقهه من هؤلاء ، إلاّ من له إلمام بما يقوله أولئك في القوى ، وإسناد كلّ أحداث الكائنات وتطوّراتها إليها ، مع إعترافهم بجهل كنهها ، وإلمام أيضاً بما كان يقوله قدماء اليونان من أنّ لكلّ نوع من أنواع الموجودات إلهاً أو ربّاً مدبّراً هو المسيّر لنظامه ، وكلّ هذه الأرباب خاضعة للربّ الإله الأكبر الذي يرجع إليه الأمر كلّه . فالمعنى العامّ عند الأوّلين والآخرين ، هو : إنّ أحداث هذا العالم وتغيّراتها وتطوّراتها ، والنظام فيها ، كلّها لا بدّ له من سبب خفيّ غير أجزاء مادّتها . فالتعبير عن ذلك عند المتقدّمين قد وصل إلينا بإصطلاحات تدلّ على الشرك بربّ العالمين ، وتعبير المادّيين المتأخّرين يدلّ على التعطيل . وتعبير القرآن وما ثبت في السنة هو الذي حرر الحقيقة التي يمكن إذعان العقلاء لها ، وهي : إنّ الفاعل الحقيقيّ واحد ، وأنّ نظام كلّ شيء قد ناطه سبحانه بموجودات روحيّة خفيّة ذات قوى عظيمة جداً سمّيت الملائكة ، فالأستاذ الإمام يقول : إن التسمية وحدها لا تعطي أحداً علم الحقيقة ، وإن من فهم الحقيقة لا يحجبها عنه اختلاف التسمية ، وأراد بهذا أن يحتجّ على المادّيّين ويقنعهم بصحّة ما جاء به الوحي من طريق علمهم المسلم عندهم ، كما صرّح به فيما مر فأنكره عليه عباد الألفاظ وهم لا يعقلون مراده ، وهو بمثل هذه الأساليب في الإقناع بحقّيّة الدين كان حجّة لله في هذا العصر ، حتّى قال له أحد نوابغ رجال القضاء الأذكياء : إنّك بتفسيرك للقرآن بالبيان الذي يقبله العقل ولا يأباه العلم ، قد قطعت الطريق على الذين يظنّون أنّه قد اقترب الوقت الذي يهدمون فيه الدين ويستريحون من قيوده وجهل رجاله وجمودهم . وإنّني أنا قد جرّبت هذه الطريقة التي استنكروها عليه في إقامة الحجّة على بعض المنكرين لوجود الله تعالى فلم يستطيعوا لها دحضاً ، ذلك بأنّ علماءهم إنّما ينكرون إله اللاهوتيّين وكذا إله المتكلّمين لا إله الخليقة . فإذا قلت لهم : هل تعقلون أنّ هذا النظام الدقيق في كلّ نوع من المخلوقات ووحدة النظام العامّ في مجموعها كلّها ، قد وجدوا بالمصادفة وليس لهما مصدر وجوديّ ؟ يقولون : لا ، بل لا بدّ لذلك من مصدر لكنّنا نجهل حقيقته ، حينئذٍ كنت أقول لهم ، وهذا أسّس عقيدة الإسلام ، وهو أنّنا نجهل كنه ربّ العالمين ، وإنّما نعرفه بآثاره في خلقه ، فالفرق بيننا لفظيّ . ذلك . وإنّ ترتيب النظم يلتئم مع التأويل الذي أورده الأستاذ الإمام في السياق ، فإنّ هذه المعاني التي وردت بصيغة الحكاية وبرزت في صورة التمثيل ، جاءت عقب قوله تعالى : { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } [ البقرة : 29 ] . وبقي شيء واحد لهم يصرّح به في الدرس وقد سبقت الإشارة إليه ، وهو أنّ كلّ قوّة من قوى هذه الأرض وكلّ ناموس من نواميس الطبيعة فيها ، خلق خاضعاً للإنسان ، وخلق الإنسان مستعدّاً لتسخيره لمنفعته ، إلاّ قوّة الإغراء بالشرّ ، وناموس الوسوسة بالإغراء الذي يجذب الإنسان دائماً إلى شرّ طباع الحيوان ، ويعيقه عن بلوغ كماله الإنسانيّ ، فالظاهر من الآيات أنّ الإنسان لا يغلب هذه القوّة ، ولا يخضعها مهما ارتقى وكمل ، وقصارى ما يصل إليه الكاملون هو الحذر من دسائس الوسوسة والسلامة من سوء عاقبتها ، بأن لا يكون لها سلطان على نفس الكامل تجعله مسخّراً لها وتستعمله بالشرور ، كما قال تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42 ] وقال عزّ وجلّ : { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } [ الأعراف : 201 ] ، ثمّ زاد الأستاذ هنا قوله : [ أمّا سلطان تلك القوّة في الفناء وقطع حركة الوجود إلى الصعود ، فلا يستطيع إخضاعه لقدرته من البشر كامل ، ولا يقاوم نفوذه عامل ، وإنّما ذلك لله وحده . وهذا حكمها في الكائنات ، إلى أن تبدّل الأرض غير الأرض والسماوات ] فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل التقوى والبصيرة ، وأن يعيذنا من الشيطان الرجيم .