Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 35-37)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
مجمل الآيات السابقة : إنّ هذا العالم لمّا استعدّ لوجود هذا النوع الإنسانيّ ، واقتضت الحكمة الإلهية إيجاده واستخلافه في الأرض ، آذن الله تعالى الأرواح المنبثّة في الأشياء لتدبيرها ونظامها بذلك ، وأنّ تلك الأرواح فهمت من معنى كون الإنسان خليفة أنّه يفسد النظام ويسفك الدماء ، حتى أعلمها الله تعالى بأنّ علمها لم يحط بمواقع حكمته ، ولا يصل إلى حيث يصل علمه تعالى ، ثمّ أوجد آدم وفضّله بتعليمه الأسماء كلّها ، على أنّ كلّ صنف من تلك الأرواح لا يعلم إلاّ طائفة منها ، ولذلك أخضع له تلك الأرواح إلاّ روحاً واحداً هو مبعث الشرّ ومصدر الإغواء فقد أبى الخضوع ، واستكبر عن السجود ، لِما كان في طبيعته من الإستعداد لذلك . والإستعداد في الشيء إنّما يظهر بظهور متعلّقه ، فلا يقال : إذا كان لكلّ روح من هذه الأرواح والقوى الغيبيّة علم محدود فكيف ظهر من الروح الإبليسيّ ما لم يسبق له ، وهو مخالفة الأمر بالسجود لآدم والتصدّي لإغوائه ؟ لا يقال ذلك ؛ لأنّه كان مستعدّاً لهذا العصيان والإباء فلمّا أُمر عصى ، ولمّا وجد خلقاً مستعدّاً للوسوسة اتّصل به ووسوس إليه ، كما أنّ ألوان ورق الشجر والزهور موجودة كامنة في البذرة ، ولكنّها لا تظهر إلاّ عند الإستعداد لها ببلوغ الطور المحدود من النمو . ومجمل الآيات اللاحقة : إنّ الله تعالى أمر آدم وزوجه بسكنى الجنة والتمتّع بها ، ونهاهما عن الأكل من شجرة مخصوصة ، وأخبرهما أنّ قربها ظلم . وأنّ الشيطان أزلّهما عنها فأخرجهما ممّا كانا فيه من النعيم إلى ضدّه . ثمّ إنّ آدم تاب إلى الله من معصيته فقبله . ثمّ جعل سعادة هذا النوع باتّباع هدى الله وشقاءه بتركه . وقد تقدّم أنّ الآيات كلّها قد سيقت للإعتبار ببيان الفطرة الإلهية التي فطر عليها الملائكة والبشر ، وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم عمّا يلاقي من الإنكار . وتقدّم وجه ذلك في الآيات السابقة . وأمّا وجهه في هذه الآيات فظاهر ، وهو أنّ المعصية من شأن البشر ، كأنّه يقول : فلا تأسَ يا محمّد على القوم الكافرين ، ولا تبخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً [ فقد كان الضعف في طباعهم ينتهي إليهم من أوّل سلف لهم ، تغلب عليهم الوساوس ، وتذهب بصبرهم الدسائس ، أنظر ما وقع لآدم وما كان منه ، وسنّة الله مع ذلك لا تتبدّل ، فقد عوقب آدم على خطيئته بإهباطه ممّا كان فيه ، وإن كان قد قبل توبته ، وغفر هفوته ] فالمعصية دائماً مجلبة الشقاء . وقد استقرّ أمر البشر على أنّ سعادتهم في اتّباع الهداية الإلهية وشقاءهم في الإنحراف عن سبلها . وأمّا تفسير هذه الآيات بالتفصيل ، فقد اختلف علماء المسلمين من أهل السنّة وغيرهم في { ٱلْجَنَّةَ } هل هي البستان ، أو المكان الذي تظلّله الأشجار بحيث يستتر الداخل فيه كما يفهمه أهل اللغة ؟ أم هي الدار الموعود بها في الآخرة ؟ والمحقّقون من أهل السنّة على الأوّل . قال الإمام أبو منصور الماتريدي في تفسيره المسمّى بالتأويلات : نعتقد أنّ هذه الجنّة بستان من البساتين ، أو غيضة من الغياض كان آدم وزوجه منعّمين فيها ، وليس علينا تعيينها ولا البحث عن مكانها ، وهذا هو مذهب السلف ، ولا دليل لمن خاض في تعيين مكانها من أهل السنّة وغيرهم . وبهذا التفسير تنحلّ إشكالات كثيرة وهي : 1 - إنّ الله خلق آدم في الأرض ليكون هو ونسله خليفة فيها ، فالخلافة مقصودة منهم بالذات فلا يصحّ أن تكون عقوبةً عارضة . 2 - إنّه لم يذكر أنّه بعد خلقه في الأرض عرج به إلى السماء ، ولو حصل لذكر ؛ لأنّه أمر عظيم . 3 - إنّ الجنّة الموعود بها لا يدخلها إلاّ المؤمنون المتّقون ، فكيف دخلها الشيطان الكافر الملعون ؟ 4 - إنّها ليست محلاًّ للتكليف . 5 - إنّه لا يمنع من فيها من التمتّع بما يريد منها . 6 - إنّه لا يقع فيها العصيان . وبالجملة : إنّ الأوصاف التي وصفت بها الجنّة الموعود بها ، لا تنطبق على ما كان في جنّة آدم ، ومنه كون عطائها غير مجذوذ ولا مقطوع وغير ذلك . أقول : وقد أجاب بعضهم عن بعض هذه الإشكالات ولكل من الفريقين إشكالات وأجوبة أطال في بيانها ابن القيّم في ( حادي الأرواح ) ولم يرجّح شيئاً ؛ ولذلك مال بعضهم إلى الوقف ، وما اختاره شيخنا أقوى ، وقد قال به أبو حنيفة وتبعه أبو منصور ، وقد كان ظهر لي عند كتابة تفسير الآيات شيء آخر لم يذكره الأستاذ الإمام ولم أرَه في كتب التفسير ، وهو : إنّ القول بأن آدم أسكن جنّة الآخرة ، يقتضي أن تكون الآخرة هي الدار الأولى والدنيا فتكون ، التسمية للدارين غير صحيحة ، وينافي أيضاً كون الجنّة دار ثواب يدخلها المتّقون جزاءً بما كانوا يعملون كما ورد في الآيات الكثيرة . وقد قال تعالى : { وَقُلْنَا يَآءَادَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ } ولم يقل : ( ادخل ) ولو انتقل من الأرض التي خلق فيها إلى الجنّة لقال هذا أو ما بمعناه ممّا يشير إلى الإنتقال فقوله : { ٱسْكُنْ } يشير إلى أنّ الخلقة كانت في تلك الجنّة أو بالقرب منها ، وقوله : { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا } إباحة للتمتّع بتلك الجنّة والتنعّم بما فيها ، أي كلا منها أكلا رغداً واسعاً هنيئاً من أيّ مكان منها إلاّ شيئاً واحداً نهاهما عنه بقوله : { وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّٰلِمِينَ } لأنفسكما بالوقوع فيما يترتّب على الأكل منها . ولم يعيّن الله تعالى لنا هذه الشجرة فلا نقول في تعيينها شيئاً ، وإنّما نعلم أنّ ذلك لحكمة اقتضته ، ولعلّ في خاصيّة تلك الشجرة ما هو سبب خروجهما من حال إلى حال ، وربّما كان في الأكل منها ضرر ، أو كان النهي ابتلاءً وامتحاناً منه تعالى ؛ ليظهر به ما في استعداد الإنسان من الميل إلى الإشراف على كلّ شيء وإختباره ، وإن كان في ذلك معصية يترتّب عليها ضرر . قال تعالى : { فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَٰنُ عَنْهَا } أي حوّلهما وزحزحهما عن الجنّة أو حملهما على الزلّة بسبب الشجرة ، وقرأ حمزة { فأزالهما } والشيطان إبليس الذي لم يسجد ولم يخضع ، وقد وسوس لهما بما ذكر في سورتي الأعراف وطه ، حتّى أوقعهما في الزلل وحملهما على الأكل من الشجرة فأكلا { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } أي من ذلك المكان أو النعيم الذي كانا فيه ، فكان الذنب متصلاً بالعقوبة إتّصال السبب بالمسبّب . ثمّ بيّن الله تعالى كيفيّة الإخراج بقوله : { وَقُلْنَا ٱهْبِطُواْ } يعني آدم وزوجه وإبليس فلا حاجة لتقدير إرادة ذريّة آدم بالجمع ، كما فعل مفسّرنا ( الجلال ) فإنّ العداوة في قوله عزّ وجل - : { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } تنافي هذا التقدير ، فإنّ العداوة بين الإنسان والشيطان لا بين الإنسان وذريته . والأصل في الهبوط أن يكون من مكان عال إلى أسفل منه ، ولذلك احتجّ به من قال : إنّ آدم كان في السماء ، وقد يستعمل في مطلق الإنتقال ، أو مع اعتبار العلوّ والسفل في المعنى . وقال الراغب : الهبوط الإنحدار على سبيل القهر . ولا يبعد أن تكون تلك الجنّة في ربوة فسمّى الخروج منها هبوطاً أو سمّي بذلك ؛ لأنّ ما انتقلوا إليه دون ما كانوا فيه ، أو هو كما يقال هبط من بلد إلى بلد ، كقوله تعالى لبني إسرائيل { ٱهْبِطُواْ مِصْراً } [ البقرة : 61 ] . ثم قال تعالى : { وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ } أي إنّ إستقراركم في الأرض وتمتّعكم فيها ينتهيان إلى زمن محدود ، وليسا بدائمين ، ففي الكلام فائدتان : إحداهما : إنّ الأرض ممهّدة ومهيّأة للمعيشة فيها والتمتّع بها . والثانية : إنّ طبيعة الحياة فيها تنافي الخلود والدوام ، فليس الهبوط لأجل الإبادة ومحو الآثار ، وليس للخلود كما زعم إبليس بوسوسته إذ سمّى الشجرة المنهيّ عنها : { شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَىٰ } [ طه : 120 ] . يعني أنّ الله أخرجهم من جنّة الراحة إلى أرض العمل لا ليفنيهم ، وعبر عن ذلك بالإستقرار في الأرض ، ولا ليعاقبهم بالحرمان من التمتع بخيرات الأرض ، وعبر عن ذلك بالمتاع ، ولا ليمتّعهم بالخلود وعبّر عن ذلك بكون الإستقرار والمتاع إلى حين . ثم قال : { فَتَلَقَّىٰ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَٰتٍ } أي ألهمه الله إيّاها فأناب إليه بها ، وهي كما في سورة الأعراف : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 23 ] تاب آدم بذلك وأناب إلى ربّه { فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } أي قبل توبته ، وعاد عليه بفضله ورحمته ، وبيّن سبب ذلك بأنّه تعالى هو التوّاب ، أي الذي يقبل التوبة كثيراً ، فمهما يذنب العبد ويندم ويتب ، يتب الربّ عليه ، وبأنّه هو الرحيم بعباده مهما يسيء أحدهم بما هو سبب لغضبه تعالى ويرجع إليه فإنّه يحفّه برحمته . وكلّ ما ورد في هبوط آدم وحوّاء من تعيين الأمكنة فهو من الإسرائيليّات الباطلة . وبقي ممّا يتعلّق بهذا التفسير مسألتان قد أكثر الناس الكلام فيهما ، وهما : مسألة خلق حوّاء من ضلع من أضلاع آدم ، ومسألة عصمة آدم . فأمّا الأولى فليس في القرآن نصّ فيها ولا يلزمنا حمل قوله تعالى : { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ النساء : 1 ] على ذلك لأجل مطابقة سفر التكوين ، فإنّ القصّة لم ترد في القرآن كما وردت في التوراة التي في أيدي أهل الكتاب حكاية تاريخية ، وإنما جاء القرآن بموضع العبرة في خلق آدم واستعداد الكون لأن يتكمّل به ، وكونه قد أعطي إستعداداً في العلم والعمل لا نهاية لهما ليظهر حكم الله ، ويقيم سننه في الأرض فيكون خليفة له ، وكونه لا يسلم من داعية الشرّ والتأثّر بالوسوسة التي تحمل على المعصية . ولكون التاريخ غير مقصود له ؛ لأنّ مسائله من حيث هي تاريخ ليست من مهمّات الدين من حيث هو دين ، وإنّما ينظر الدين من التاريخ إلى وجه العبرة دون غيره . لم يبيّن الزمان والمكان كما بيّنا في سفر التكوين ، وكان بيانهما سبباً لرفض الباحثين في الكون وتاريخ الخليقة لدين النصرانيّة ؛ لأنّ العلم المبنيّ على الإختبار والمشاهدة أظهر خطأ ما جاء من التاريخ في التوراة ، ووجدت للإنسان آثار في الأرض تدلّ على أنّه أقدم ممّا حدّدته التوراة في تاريخ تكوينه ، فقام فريق من أهل الكتاب يركب التعاسيف في التأويل ، وفريق يكفر بالكتاب والتنزيل . أقول : فإن قلت : إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي هريرة في الصحيحين في تعليل التوصية بالنساء " فإنّ المرأة خلقت من ضلع " قلنا : إنّه على حدّ قوله تعالى : { خُلِقَ ٱلإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ } [ الأنبياء : 37 ] كما قالوا في شرحه . وسيأتي في تفسير القصّة من سورة الأعراف . ولم يتعرّض شيخنا في الدرس لقوله تعالى : { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ النساء : 1 ] ولكنّه كتب بعد ذلك وقبل ما ستراه عنه في تفسير سورة النساء ما نصّه : وأمّا قوله تعالى في سورة النساء : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ النساء : 1 ] وفي سورة الأعراف : { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } [ الأعراف : 189 ] فقد قال غير واحد من المفسّرين : إنّ المعنى من جنسها كما قال في سورة الروم : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } [ الروم : 21 ] فإنّ المعنى هناك على أنّه خلق لكم أزواجاً من جنسنا ، ولا يصحّ أن يراد أنّه خلق كلّ زوجة من بدن زوجها كما هو ظاهر . قال : وأمّا مسألة عصمة آدم فالجري على طريقة السلف يذهب بنا إلى أنّ العصيان والتوبة من المتشابه ، كسائر ما ورد في القصّة ممّا لا يركن العقل إلى ظاهره ، ولنا أن نقول : إنّ تلك مخالفة صدرت منه قبل أن يدركه عزم النبوّة ، كما قال جلّ شأنه : { فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [ طه : 115 ] والإتّفاق إنّما هو على العصمة عن مخالفة الأوامر بعد النبوّة . وقد يكون الذي وقع من آدم نسياناً ، فسمّي تفخيماً لأمره عصياناً ، والنسيان والسهو ممّا لا ينافي العصمة ، فإن جعلنا الكلام كلّه تمثيلا ، فحديث الإخلال بالعصمة ممّا لا يمرّ بذهن العاقل . وأمّا تفسير الآيات على طريقة الخلف في التمثيل فيقال فيه : إنّ القرآن كثيراً ما يصوّر المعاني بالتعبير عنها بصيغة السؤال والجواب ، أو بأسلوب الحكاية لما في ذلك من البيان والتأثير ، فهو يدعو بها الأذهان ، إلى ما وراءها من المعاني ، كقوله تعالى : { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ ق : 30 ] فليس المراد أنّ الله تعالى يستفهم منها وهي تجاوبه ، وإنّما هو تمثيل لسعتها وكونها لا تضيق بالمجرمين مهما كثروا ، ونحوه قوله عزّ وجل بعد ذكر الإستواء إلى خلق السماء : { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] والمعنى في التمثيل الظاهر . أقول : وهذا الأمر يسمّى أمر التكوين ، ويقابله أمر التشريع ، وإنّما سمّي أمر التكوين للتعبير عنه في التنزيل بقوله تعالى : { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] فهو تصوير لتعلّق إرادة الربوبيّة بالإيجاد ، ولا أذكر عن أحد من المفسّرين المتّبعين للأثر ، تصريحاً بأنّ الأوامر في قصّة آدم من أمر التكوين ، إلاّ للحافظ ابن كثير فإنّه ذهب في تفسير { قَالَ فَٱهْبِطْ مِنْهَا } [ الآية : 13 ] من سورة الأعراف إلى أنّ الأمر فيه أمر قدريّ كونيّ ، ومثله ما في معناه من قصّة آدم ومن الآيات الأخرى من مخاطبة إبليس للربّ وجوابها في شأن إغوائه للبشر وإنظاره إلى يوم القيامة . قال الأستاذ الإمام ما مثاله : وتقرير التمثيل في القصّة على هذا المذهب هكذا : إنّ إخبار الله الملائكة بجعل الإنسان خليفة في الأرض ، هو عبارة عن تهيئة الأرض وقوى هذا العالم وأرواحه التي بها قوامه ونظامه ، لوجود نوع من المخلوقات يتصرّف فيها ، فيكون به كمال الوجود في هذه الأرض . وسؤال الملائكة عن جعل خليفة يفسد في الأرض ؛ لأنّه يعمل باختياره ويعطي استعداداً في العلم والعمل لا حدّ لهما ، هو تصوير لما في استعداد الإنسان لذلك ، وتمهيد لبيان أنّه لا ينافي خلافته في الأرض . وتعليم آدم الأسماء كلّها ، بيان لإستعداد الإنسان لعلم كلّ شيء في هذه الأرض ، وإنتفاعه به في إستعمارها . وعرض الأسماء على الملائكة وسؤالهم عنها وتنصّلهم في الجواب ، تصوير لكون الشعور الذي يصاحب كلّ روح من الأرواح المدبّرة للعوالم محدوداً لا يتعدّى وظيفته . وسجود الملائكة لآدم عبارة عن تسخير هذه الأرواح والقوى له ينتَفِع بها في ترقية الكون بمعرفة سنن الله تعالى في ذلك . وإباء إبليس وإستكباره عن السجود تمثيل لعجز الإنسان عن إخضاع روح الشرّ وإبطال داعية خواطر السوء التي هي مثار التنازع والتخاصم ، والتعدّي والإفساد في الأرض ، ولولا ذلك لجاء على الإنسان زمن يكون فيه أفراده كالملائكة بل أعظم ، أو يخرجون عن كونهم من هذا النوع البشريّ . هذا ملخّص ما تقدّم في سابق آيات القصّة . وأمّا التمثيل فيما نحن فيه منها ، فيصحّ عليه أن يراد بالجنّة الراحة والنعيم ، فإنّ من شأن الإنسان أن يجد في الجنّة التي هي الحديقة ذات الشجر الملتفّ ما يلذّ له من مرأي ومأكول ومشروب ومشموم ومسموع ، في ظلّ ظليل ، وهواء عليل ، وماء سلسبيل ، كما قال تعالى في القصّة من سورة طه : { إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىٰ * وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىٰ } [ طه : 118 - 119 ] ويصحّ أن يعبّر عن السعادة بالكون في الجنّة وهو مستعمل ، ويصحّ أن يراد بآدم نوع الإنسان كما يطلق اسم أبي القبيلة الأكبر على القبيلة ، فيقال كلب فعلت كذا ، ويراد قبيلة كلب ، وكان من قريش كذا يعني القبيلة التي أبوها قريش ، وفي كلام العرب كثير من هذا . ويصحّ أن يراد بالشجرة معنى الشرّ والمخالفة ، كما عبّر الله تعالى في مقام التمثيل عن الكلمة الطيّبة بالشجرة الطيّبة ، وفسّرت بكلمة التوحيد ، وعن الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة ، وفسّرت بكلمة الكفر ، وفي الحديث تشبيه المؤمن بشجرة النخل . ويصحّ أن يكون المراد بالأمر بسكنى الجنّة وبالهبوط منها ، أمر التكوين فقد تقدّم أنّ الأمر الإلهيّ قسمان : أمر تكوين وأمر تكليف . والمعنى على هذا : أنّ الله تعالى كوّن النوع البشريّ - على ما نشاهد - في الأطوار التدريجيّة التي قال سبحانه : { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } [ نوح : 14 ] فأوّلها طور الطفوليّة ، وهي لا همّ فيها ولا كدر ، وإنّما هي لعب ولهو ، كأنّ الطفل دائماً في جنّة ملتفّة الأشجار ، يانعة الثمار ، جارية الأنهار ، متناغية الأطيار ، وهذا معنى { ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ } وذكر الزوجة ، مع إنّ المراد بآدم النوع الآدميّ ، للتنبيه على الشمول وعلى أنّ استعداد المرأة كإستعداد الرجل في جميع الشؤون البشريّة ، فأمر آدم وحوّاء بالسكنى أمر تكوين ، أي إنّه تعالى خلق البشر ذكوراً وإناثاً هكذا ، وأمرهما بالأكل حيث شاءا ، عبارة عن إباحة الطيّبات . وإلهام معرفة الخير والنهي عن الشجرة عبارة عن إلهام معرفة الشرّ ، وأنّ الفطرة تهدي إلى قبحه ووجوب اجتنابه . وهذان الإلهامان اللذان يكونان للإنسان في الطور الثاني ( وهو طور التمييز ) هما المراد بقوله تعالى : { وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ } [ البلد : 10 ] ووسوسة الشيطان وإزلاله لهما عبارة عن وظيفة تلك الروح الخبيثة التي تلابس النفوس البشريّة ، فتقوّي فيها داعية الشرّ ، أي إنّ إلهام التقوى والخير أقوى في فطرة الإنسان أو هو الأصل ، ولذلك لا يفعل الشرّ إلاّ بملابسة الشيطان له ووسوسته إليه . والخروج من الجنّة مثال لما يلاقيه الإنسان من البلاء والعناء بالخروج عن الإعتدال الفطريّ . وأمّا تلقّي آدم الكلمات وتوبته ، فهو بيان لما عرف في الفطرة السليمة من الإعتبار بالعقوبات التي تعقب الأفعال السيّئة ، ورجوعه إلى الله تعالى عند الضيق والتجائه إليه في الشدّة . وتوبة الله تعالى عليه ، عبارة عن هدايته إيّاه إلى المخرج من الضيق ، والتفلّت من شرك البلاء ، بعد ذلك الإعتبار والإلتجاء ، وذكر توبة الله على الإنسان تردّ ما عليه النصارى من إعتقاد أنّ الله تعالى قد سجّل معصية آدم عليه وعلى بنيه إلى أن يأتي عيسى ويخلّصهم منها وهو إعتقاد تنبذه الفطرة ، ويردّه الوحي المحكم المتواتر . فحاصل القول : أنّ الأطوار الفطريّة للبشر ثلاثة : طور الطفوليّة ، وهو طور نعيم وراحة ، وطور التمييز الناقص : وفيه يكون الإنسان عرضةً لإتّباع الهوى بوسوسة الشيطان ، وطور الرشد والإستواء ، وهو الذي يعتبر فيه بنتائج الحوادث ، ويلتجيء فيه عند الشدّة إلى القوّة الغيبيّة العليا التي منها كلّ شيء وإليها يرجع الأمر كلّه ، فهكذا كان الإنسان في أفراده مثال للإنسان في مجموعه . قال الأستاذ : كأنّ تدرّج الإنسان في حياته الإجتماعية ، ابتدأ ساذجاً سليم الفطرة ، قويم الوجهة ، مقتصراً في طلب حاجاته على القصد والعدل ، متعاوناً على دفع ما عساه يصيبه من مزعجات الكون ، وهذا هو العصر الذي يذكره جميع طوائف البشر ويسمّونه بالذهبيّ . ثمّ لم يكفِه هذا النعيم المرفّه ، فمدّ بعض أفراده أيديهم إلى تناول ما ليس لهم ، طاعةً للشهوة ، وميلاً مع خيال اللذّة ، وتنبّه من ذلك ما كان نائماً في نفوس سائرهم فثار النزاع ، وعظم الخلاف ، واستنزل الشقاء وهذا هو الطور الثاني ، وهو معروف في تاريخ الأمم . ثمّ جاء الطور الثالث ، وهو طور العقل والتدبّر ، ووزن الخير والشرّ بميزان النظر والفكر ، وتحديد حدود للأعمال تنتهي إليها نزعات الشهوات ، ويقف عندها سير الرغبات ، وهو طور التوبة والهداية إن شاء الله . وأقول الآن : إنّ توبة آدم عليه السلام - بناءً على تفسير القصّة بحمل الكلام على الحقيقة - قد كانت بالرجوع إلى الله واعترافه مع حوّاء بظلمهما لأنفسهما وطلبهما المغفرة والرحمة منه تعالى ، لا بمجرّد تدبّر العقل ووزن الخير والشرّ بميزان الفكر ، إلخ . ما قاله شيخنا هنا تبعاً لبعض علماء الإجتماع من المؤرّخين ، وقد بيّن هو في بحث الحاجة إلى الرسالة من رسالة التوحيد : إنّ عقل البشر لا يستقلّ بوضع حدود للأعمال تنتهي إليها نزغات الشهوات ؛ ويقف عندها سير الأهواء والرغبات ، بل لا بدّ له من تشريع إلهي لذلك ، ولكنّه أوجز هنا فترك المسألة مبهمة مظلمة ، وإنّنا نرى أنّ طور العقل والفكر قد بلغ في هذا العصر مرتقى لم يعرف في التاريخ ما يقربه ، ووضع علماؤه وحكماؤه شرائع وقوانين لإيقاف التنازع والتخاصم عند حدّ لا يتفاقم شرّه ، ثمّ نرى أعلم هذه الأمم ودولها مبعث الشرور والشقاوة ، والخبث والرياء والحروب والفتن ، فلا هداية إلاّ هداية الدين الإلهيّ الذي تذعن له الأنفس بمحض العبوديّة لله تعالى . قال : وبقي طور آخر أعلى من هذه الأطوار ، وهو منتهى الكمال وأعني به : طور الدين الإلهيّ والوحي السماويّ الذي به كمال الهداية الإنسانيّة . وبيانه في قوله تعالى : { قُلْنَا ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً … } .