Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 38-39)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أمرهم الله تعالى بالهبوط مرّتين ، فالأولى بيان لحالهم في أنفسهم بعد الهبوط من تلك الجنّة أو الخروج من ذلك الطور ، وهو أنّ حالهم تقتضي العداوة والإستقرار في الأرض والتمتع بها ، وعدم الخلود فيها ، والثانية بيان لحالهم من حيث الطاعة والمعصية وآثارهما ، وهي أنّ حالة الإنسان في هذا الطور لا تكون عصياناً مستمرّاً شاملا ، ولا تكون هدىً وإجتباء عامّاً - كما كان يفهم لو اقتصر على ذكر توبة الله على آدم وهدايته واجتبائه - وإنّما الأمر موكول إلى إجتهاد الإنسان وسعيه ، ومن رحمة الله تعالى به أن يجعل في بعض أفراده الوحي ويعلّمهم طرق الهداية ، فمن سلكها فاز وسعد ، ومن تنكّبها خسر وشقي ، هذا هو السرّ في إعادة ذكر الهبوط لا أنّه أعيد للتأكيد كما زعموا . قال تعالى : { قُلْنَا ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً } أي فقد انتهى طور النعيم الخالص والراحة العامّة ، وادخلوا في طور لكم فيه طريقان : هدىً وضلال ، إيمان وكفران ، فلاح وخسران { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } من رسول مرشد وكتاب مبين { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } الذي أشرّعه ، وسلك صراطي المستقيم الذي أحدّده { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } من وسوسة الشيطان ، ولا ممّا يعقبها من الشقاء والخسران { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } على فوت مطلوب ، أو فقد محبوب ؛ لأنّهم يعلمون بهذه الهداية أنّ الصبر والتسليم ممّا يرضي الله تعالى ويوجب مثوبته ، ويفتح للإنسان باب الإعتبار بالحوادث ، ويقوّيه على مصارعة الكوارث ، فيكون له من ذلك خير عوض عمّا فاته ، وأفضل تعزية عمّا فقده . قال الأستاذ الإمام ما مثاله : الخوف : عبارة عن تألّم الإنسان من توقّع مكروه يصيبه ، أو توقّع حرمان من محبوب يتمتّع به أو يطلبه . والحزن : ألم يلمّ بالإنسان إذا فقد ما يحبّ ، وقد أعطانا الله - جلّ ثناؤه - الطمأنينة التامّة في مقابلة ما تحدثه كلمة ( اهبطوا ) من الخوف من سوء المنقلب ، وما تثيره من كوامن الرعب ، فالمهتدون بهداية الله تعالى لا يخافون ممّا هو آت ، ولا يحزنون على ما فات ؛ لأن اتّباع الهدى يسهل عليهم طريق اكتساب الخيرات ، ويعدّهم لسعادة الدنيا والآخرة ، ومن كانت هذه وجهته ، يسهل عليه كلّ ما يستقبله ، ويهون عليه كلّ ما أصابه أو فقده ؛ لأنّه موقن بأنّ الله يخلفه ، فيكون كالتعب في الكسب ، لا يلبث أن يزول بلذّة الريح الذي يقع أو يتوقّع . وإذا قال قائل : إنّ الدين يقيّد حريّة الإنسان ويمنعه بعض اللذّات التي يقدر على التمتّع بها ، ويحزنه الحرمان منها ، فكيف يكون هو المأمن من الأحزان ، ويكون باتّباعه الفوز وبتركه الخسران ؟ فجوابه : إنّ الدين لا يمنع من لذّة إلاّ إذا كان في إصابتها ضرر على مصيبها ، أو على أحد إخوانه من أبناء جنسه الذين يفوته من منافع تعاونهم إذا آذاهم أكثر ممّا يناله بالتلذّذ بإيذائهم ، ولو تمثّلت لمستحلّ اللذّة المحرّمة مضارّها التي تعقبها في نفسه وفي الناس ، وتصوّر ما لها من التأثير في فساد العمران لو كانت عامّة ، وكان صحيح العقل معتدل الفطرة لرجع عنها متمثّلاً بقول الشاعر : @ لا خير في لذّة من بعدها كدر @@ فكيف إذا كان مع ذلك يؤمن باليوم الآخر ، ويعلم أنّ هذه المحرّمات تدنّس الروح فلا تكون أهلا لدار الكرامة في يوم القيامة . قال الأستاذ : وليست سعادة الإنسان في حريّة البهائم ، بل في الحريّة التي تكون في دائرة الشرع ومحيطه . فمن اتّبع هداية الله فلا شكّ أنّه يتمتّع تمتّعا حسناً ، ويتلقى بالصبر كلّ ما أصابه ، وبالطمأنينة ما يتوقّع أن يصيبه ، فلا يخاف ولا يحزن . يريد أنّ رجاء الإنسان فيما وراء الطبيعة هو الذي يقيه من تحكّم عوادي الطبيعة فيه ، وبدون ذلك الرجاء تتحكّم فيه أشدّ ممّا تتحكّم في البهائم التي هي أقوى منه طبيعة { وَخُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً } [ النساء : 28 ] فالتماس السعادة بحرّية البهائم ، هو الشقاء اللازم ، وقد صرّح بلفظ التمتّع الحسن أخذاً من قوله تعالى : { وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } [ هود : 3 ] الآية . فالآيات الدالّة على أنّ سعادة الدنيا معلولة للإهتداء بالدين كثيرة جداً ، وقد حجبها عن كثير من المسلمين قولهم في الكافرين : لهم الدنيا ولنا الآخرة ، يغالطون أنفسهم بحجّة القرآن عليهم . وآيات سورة طه في قصة آدم أوضح في المراد من آيات البقرة وهي قوله عزّ وجل : { قَالَ ٱهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ } [ طه : 123 - 124 ] الآيات . قال تعالى : { وَٱلَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَآ } . أقول : الآيات : جمع آية ، وهي كما قال الجمهور : العلامة الظاهرة . قال الراغب . وحقيقته لكلّ شيء ظاهر ملازم لشيء باطن يعرف به ويدرك بإدراكه حسّيّاً كان ، كأعلام الطرق ومنار السفن ، أو عقليّاً ، كالدلائل المؤلّفة من مقدّمات ونتيجة . اهـ بالمعنى . قال : وإشتقاق الآية إمّا من أيّ ، فإنّها هي التي تبيّن أيّاً من أي ، والصحيح أنّها مشتقّة من التأيّي الذي هو التثبّت والإقامة على الشيء اهـ . أقول : بل أصله قصد آية الشيء ، أي شخصه ، ومنه قول الشاعر : @ تتأيّا الطير غدوته ثقة بالشبع من جزره @@ أي تتحرّى الطير وتقصد خروجه صباحاً إلى القتال أو الصيد لثقتها بما سبق من التجارب بأن تستشبع ممّا يترك لها من الفرائس . وأطلقت الآية على كلّ قسم من الأقسام التي تتألف منها سور القرآن العظيم ، وتفصله من غيره فاصلة يقف القارئ عندها في تلاوته . ويميّزها الكاتب له ببياض أو بنقطة دائرة أو ذات نقش أو بالعدد . والعمدة في معرفة الآيات بفواصلها التوقيف المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان أكثرها يدرك من النظم ، والآيات تطلق في القرآن على هذه ، وهي الآيات المنزّلة من عند الله تعالى ؛ لأنّها دلائل لفظيّة على العقائد والحكم والأحكام والآداب التي شرّعها لعباده ، كما تدلّ في جملتها على كونها من عند الله تعالى ؛ لاشتمالها على ما تقدّم بيانه من وجود إعجاز البشر عن مثلها . وتطلق أيضاً على كلّ ما يدلّ على وجود الخالق تعالى وقدرته ووحدانيّته وصفات كماله من هذه المخلوقات ؛ ومن نتائج العقول وبراهينها ، أو على غير ذلك من السنن والعبر . وهذه الآية مقابل قوله قبله : { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } إلخ ، أي وأمّا الذين لم يتّبعوا هداي وهم الذين كفروا بنا وكذّبوا بآياتنا المبيّنة لسبيل ذلك الهدى - كما قال قبل قصّة آدم : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ } [ البقرة : 28 ] - أو : وأمّا الذين كفروا بآياتنا اعتقاداً ، وكذّبوا بها لساناً ، فجزاؤهم ما يأتي ، والتكذيب كفر ، سواء أكان عن إعتقاد بعدم صدق الرسول أم مع إعتقاد صدقه ، وهو تكذيب الجحود والعناد الذي قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في أهله : { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } [ الأنعام : 33 ] كما أنّ الكفر القلبي قد يوجد مع تصديق اللسان ، كما هي حال المنافقين . والمعنى كما قرّره شيخنا بالإختصار : والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا التي يجعلها دلائل الهداية وحجج الإرشاد بأن جحدوا بها وأنكروها ، ولم يذعنوا لصدقها ، اتّباعاً لخطوات الشيطان وعملاً بوسوسته ، وذهاباً مع إغوائه . { أُولَـٰئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ } تقدّم تفسير الخلود في آخر الآية 25 وأقول : إنّ هذه الجملة تدلّ على الحصر أو الإختصاص الإضافيّ ، أي أولئك الكافرون المكذّبون البعداء ، هم - دون متّبعي هداي - أصحاب النار وأهلها ، هم فيها خالدون لا يظعنون عنها . أي وهم في خوف قاهر . وحزن مساور ، وقد فسر الجلال الآيات بالكتب المنزلة ، وهو يصحّ في القرآن فإنّه آية على نفسه ، وعلى صدق من جاء به ، وسائر الكتب تحتاج إلى آية تدلّ على أنّها من عند الله تعالى . قال الأستاذ : بعد تفسير الكفر بالجحود ، والتكذيب بالإنكار ، وكلّ منهما يأتي في فرق من الناس ، فمنهم من لا تقوى ولا إيمان له ، وهم الذين لا يؤمنون بالغيب ؛ لأنّه ليس عندهم أصل للنظر فيما جاءهم ، فهؤلاء منكرون وهم مكذّبون ؛ لأنّ التكذيب يشمل عدم الإعتقاد بصدق الدعوى التي جاء بها الرسول واعتقاد كذبها ، والجحود قد يأتي من المعتقد . قال تعالى : { وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ } [ النمل : 14 ] . فهذا هو الطور الأخير للإنسان بعد ما وكّل إلى كسبه ، وجعل فلاحه وخسرانه بعمله ، فمن لطف الله به أن أيّده بهداية الدين بعد هداية الحسّ والوجدان والعقل ، فبهذه الهدايات يرتقي بالتدريج ما شاء الله تعالى .