Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 67-71)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذه القصة ممّا أراد الله تعالى أن يقصّه علينا من أخبار بني إسرائيل في قسوتهم وفسوقهم للإعتبار بها . ومن وجوه الإعتبار : إنّ التنطّع في الدين والإحفاء في السؤال ، ممّا يقتضي التشديد في الأحكام ، فمنْ شَدّد شُدّد عليه ؛ ولذلك نهى الله تعالى هذه الأمّة عن كثرة السؤال بقوله : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ } [ المائدة : 101 - 102 ] . وفي الحديث الصحيح " ويُكره لكْنَ قيل وقال ، وإضاعة المال ، وكثرة السؤال " وقد امتثل سلفنا الأمر ، فلم يشدّدوا على أنفسهم ، فكان الدين عندهم فطريّاً ساذجاً وحنيفيّاً سمحاً ، ولكنّ منْ خَلفنا من عمد إلى ما عفا الله عنه ، فاستخرج له أحكاماً استنبطها بإجتهاده ، وأكثروا منها حتّى صار الدين حملا ثقيلا على الأمّة فسئمته وملّت ، وألقته وتخلّت . قال الأستاذ الإمام : جاءت هذه الآيات على أسلوب القرآن الخاصّ الذي لم يسبق إليه ولم يلحق فيه ، فهو في هذه القصص لم يلتزم ترتيب المؤرّخين ولا طريقة الكتّاب في تنسيق الكلام وترتيبه على حسب الوقائع ، حتّى في القصّة الواحدة ، وإنّما ينسّق الكلام فيه بأسلوب يأخذ بمجامع القلوب ، ويحرّك الفكر إلى النظر تحريكاً ، ويهزّ النفس للإعتبار هزّاً . وقد راعى في قصص بني إسرائيل أنواع المنن التي منحهم الله تعالى إيّاها ، وضروب الكفران والفسوق التي قابلوها بها ، وما كان في أثر كلّ ذلك من تأديبهم بالعقوبات ، وابتلائهم بالحسنات والسيّئات ، وكيف كانوا يحدثون في أثر كلّ عقوبة توبة ، ويحدث لهم في أثر كلّ توبة نعمة ، ثمّ يعودون إلى بطرهم ، وينقلبون إلى كفرهم . كان في الآيات السابقة ، يذكر النعمة ، فالمخالفة ، فالعقوبة ، فالتوبة ، فالرحمة كالتفضيل على العالمين ، وأخذ الميثاق ، والإنجاء من آل فرعون وما كان في أثر ذلك على ما أشرنا الآن وأجملنا ، وأوضحنا من قبل وفصّلنا . وفي هذه القصّة اختلف النسق ، فذكر المخالفة بعد في قوله : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَٱدَّارَأْتُمْ فِيهَا } [ البقرة : 72 ] ثمّ المنّة في الخلاص منها في قوله { فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا } [ البقرة : 73 ] إلخ ، وقدّم على ذلك ذكر وسيلة الخلاص ، وهي ذبح البقرة بما يعجب السامع ويشوّقه إلى معرفة ما وراءها [ حيث لم يسبق في الكلام عهد لسبب أمر موسى لقومه أن يذبحوا بقرة . فالمفاجأة بحكاية ما كان من ذلك الأمر ، والجدال الذي وقع فيه ، يثير الشوق في الأنفس إلى معرفة السبب ، فتتوجّه الفكرة بأجمعها إلى تلقّيه ] : إذ الحكمة - في أمر الله أمّةً من الأمم بذبح بقرة - خفيَّة وجديرة بأن يعجب منها السامع ويحرص على طلبها . لا سيّما إذا لم يعتدْ فهم الأساليب الأخّاذة بالنفوس الهازّة للقلوب . وأقول : قد جرى على هذا الأسلوب كتاب القصص المخترعة والأساطير التي يسمّونها الروايات في هذا العصر . يقول أهل الشبهات في القرآن : إنّ بني إسرائيل لا يعرفون هذه القصّة ؛ إذ لا وجود لها في التوراة ، فمن أين جاء بها القرآن ؟ ونقول : إنّ القرآن جاء بها من عند الله الذي يقول في بني إسرائيل المتأخّرين : إنّهم نسوا حظّاً ممّا ذكّروا به ، وأنّهم لم يؤتوا إلاّ نصيباً من الكتاب . على أنّ هذا الحكم منصوص في التوراة ، وهو أنّه إذا قتل قتيل لم يعرف قاتله ، فالواجب أن تذبح بقرة غير ذلول في واد دائم السيلان ، ويغسل جميع شيوخ المدينة القريبة من المقتل أيديهم على العِجْلة التي كسر عنقها في الوادي ، ثمّ يقولون إنّ أيدينا لم تسفك هذا الدم ، اغفر لشعبك إسرائيل ، ويتمّون دعوات يبرأ بها من يدخل في هذا العمل من دم القتيل ، ومن لم يفعل يتبيّن أنّه القاتل ، ويراد بذلك حقن الدماء فيحتمل أن يكون هذا الحكم هو من بقايا تلك القصّة أو كانت هي السبب فيه . وما هذه بالقصّة الوحيدة التي صحّحها القرآن ، ولا هذا الحكم بالحكم الأوّل الذي حرّفوه أو أضاعوه وأظهره الله تعالى . قال الأستاذ : وقد قلت لكم غير مرّة : إنّه يجب الإحتراس في قصص بني إسرائيل وغيرهم من الأنبياء ، وعدم الثقة بما زاد على القرآن من أقوال المؤرّخين والمفسّرين . فالمشتغلون بتحرير التاريخ والعلم اليوم يقولون معنا : إنّه لا يوثق بشيء من تاريخ تلك الأزمنة التي يسمّونها أزمنة الظلمات ، إلاّ بعد التحرّي والبحث واستخراج الآثار ، فنحن نعذر المفسّرين الذين حشّوا كتب التفسير بالقصص التي لا يوثق بها لحسن قصدهم ، ولكنّنا لا نعوّل على ذلك بل ننهى عنه ونقف عند نصوص القرآن لا نتعدّاها ، وإنّما نوضّحها بما يوافقها إذا صحّت روايته . وأقول : إنّ ما أشار إليه الأستاذ من حكم التوراة المتعلّق بقتل البقرة ، هو في أوّل الفصل الحادي والعشرين من سفر تثنية الإشتراع ونصّه : 1 - إذا وجد قتيل في الأرض التي يعطيك الربّ إلهك لتمتلكها واقعاً في الحقل لا يعلم من قتله . 2 - يخرج شيوخك وقضاتك ويقيسون إلى المدن التي حول القتيل . 3 - فالمدينة القربى من القتيل ، يأخذ شيوخ تلك المدينة عِجلة من البقر لم يحرث عليها ، لم تجرّ بالنير . 4 - وينحدر شيوخ تلك المدينة بالعجلة إلى واد دائم السيلان ، لم يحرث فيه ولم يزرع ، ويكسرون عنق العجلة في الوادي . 5 - ثمّ يتقدّم الكهنة بني لاوي ؛ لأنّه إياهم اختار الرب إلهك ليخدموا ويباركوا باسم الربّ ، وحسب قولهم ، تكون كلّ خصومة وكلّ ضربة . 6 - ويغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من القتيل أيديهم على العجلة المكسورة العنق في الوادي . 7 - ويصرخون ويقولون : أيدينا لم تسفك هذا الدم وأعيننا لم تبصر . 8 - اغفر لشعبك إسرائيل الذي فديت يا ربّ ، ولا تجعل دم بريء في وسط شعبك إسرائيل . فيغفر لهم الدم اهـ . فعلم من هذا أنّ الأمر بذبح البقرة كان لفصل النزاع في واقعة قتل ، ويروون في قصّته روايات منها : إنّ القاتل كان أخ المقتول ، قتله لأجل الإرث ، وأنّه اتّهم أهل الحيّ بالدم وطالبهم به . ومنها : إنّه كان ابن أخيه ، وغير ذلك ممّا لا حاجة إليه . وكانوا طلبوا من موسى الفصل في المسألة وبيان القاتل ، ولمّا أمرهم بذبح البقرة استغربوه لما فيه من المباينة لما يطلبون ، والبعد بينه وبين ما يريدون ، فذلك قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُوۤاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً } أي سخريّة يُهزأ بنا ، وهذا القول من سفههم . وخفّة أحلامهم وجهلهم بعظمة الله تعالى ، وما يجب أن يقابل به أمره من الإحترام والإمتثال ، وإن لم تظهر حكمته بادي الرأي ، ولولا ذلك لامتثلوا وانتظروا النتيجة بعد ذلك . ولمّا كان في جوابهم هذا رمي لموسى عليه السلام بالسفه والجهالة { قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ } أي ألتجيء إلى الله وأعتصم بتأديبه إيّاي من الجهالة والهزء بالناس . { قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ } أي ما الصفات المميّزة لها ؟ قال الأستاذ الإمام : إنّ السؤال بما هي ليس جارياً هنا على إصطلاح علماء المنطق من جعله سؤالا عن حقيقة الماهيّة . وإنّما هو على حسب أسلوب اللغة ، والعرب يسألون بما عن الصفات التي تميّز الشيء في الجملة ، كالذي ذكره في الجواب { إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ } أي غير مسنّة انقطعت ولادتها { وَلاَ بِكْرٌ } لم تلدْ بالمرّة والمراد بها التي لم تلد كثيراً { عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ } العوان : النصف في السنّ من النساء والبهائم ، أي هي بين ما ذكر من السنين الفارض والبكر ، فالمشار إليه بكلمة ( ذلك ) متعدّد في المعنى وإن كان لفظه منفرداً . و " بين " من الكلم التي تختصّ بالمتعدّد ، تقول : جلست بينهم ، أو بينهما ، ولا تقول : جلست بينه . واستعمال الإشارة والضمير المفردين فيما هو بمعنى الجمع ، على تقدير التعبير عنه بالمذكور أو " ما ذكر " كثير في كلامهم ومنه قول رؤبة : @ فيها خطوط من سواد وبلق كأنّه في الجسم توليع البهق @@ ذكر هذا الوصف المميّز للبقرة في الجملة وقال : { فَٱفْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ } وكان يجب عليهم الإكتفاء به والمبادرة بعده للإمتثال ، ولكنّهم أبو إلاّ تنطّعاً وإستقصاء في السؤال : { قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ ٱلنَّاظِرِينَ } الفاقع : الشديد الصفرة في صفاء ، بحيث لا يخالطه لون آخر ، وبعض أهل اللغة لا يخصّه بالأصفر ، بل يجعله وصفاً لكلّ لون صاف . وكان يجب أن يكتفوا بهذه المميّزات ولكنّهم زادوا تنطّعاً إذ : { قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } وقد أرادوا بهذا السؤال زيادة التمييز ، ككونها عاملةً أو سائمة { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ } سائمة { لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي ٱلْحَرْثَ } أي غير مذلّلة بالعمل في الحراثة ولا في السقي { مُسَلَّمَةٌ } من العيوب أو من سائر الأعمال { لاَّ شِيَةَ فِيهَا } أي ليس فيها لون آخر غير الصفرة الفاقعة . والشية : مصدر كالعدة ، من وشى الثوب يشيه إذا جعل فيه خطوطاً من غير لونه بنحو تطريز . ولمّا استوفى جميع المميّزات والمشخّصات ، ولم يروا سبيلا إلى سؤال آخر { قَالُواْ ٱلآنَ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } أي وما قاربوا أن يذبحوها إلاّ بعد أن انتهت أسئلتهم ، وانقطع ما كان من تنطّعهم وتعنّتهم . روى ابن جرير في التفسير بسند صحيح عن ابن عبّاس موقوفاً : " لو ذبحوا أيّ بقرة أرادوا لأجزأتهم ، ولكن شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم " وأخرجه سعيد بن منصور في سننه عن عكرمة مرفوعاً مرسلاً : وهاهنا يذكر المفسّرون قصّة في حكمة هذا التشديد ، وهو المصير إلى بقرة معيّنة لشخص معيّن كان بارّا بوالدته ، وقد يكون هذا صحيحاً غير أنّه لا داعي إليه في التفسير وبيان المعنى . وقد يشتبه بعض الناس فيما ذكر بأنّ أحكام الله تعالى لا تكون تابعة لأفعال الناس العارضة . ويردّ هذه الشبهة أنّ التكليف كثيراً ما يكون عقوبة ؛ لأنّه تربية للناس . وقد وردت الأسئلة والأجوبة في هذه القصّة مفصولة غير موصولة بالفاء ، وذلك ما يقتضيه الأسلوب البليغ ، فقد تقرّر في البلاغة أنّ القول إذا أشعر بسؤال ، كان ما يأتي بعده ممّا يصحّ أن يكون جواباً للسؤال المقدّر ، مفصولا عمّا قبله ، وقوله : { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } يشعر بسؤال ، كأنّه قيل : ماذا كان منهم بعد الأمر فأجيب عنه بقوله : { قَالُوۤاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً } وهذا يشعر بسؤال أيضاً كأنّه قيل : ماذا قال موسى إذ قالوا ذلك ، فأجاب : { قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ } ، إلخ . وهكذا ورد غيرها من المراجعات في التنزيل كما ترى في قصّة موسى وفرعون .