Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 87-88)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

عهد في سيرة البشر أن الأمّة توعظ وتنذر ، فتتعظ وتتدبّر ، فإذا طال عليها الأمدّ بعد النذير تقسو القلوب ، ويذهب أثر الموعظة من الصدور ، وتفسق عن أمر ربها ، وتنسى ما لم تعمل به ممّا أنذرت به ، أو تحرفه عن موضعه بضروب التأويل ، وزخرف القال والقيل ، ولقد يكون للمتأخر منها بعض العذر لجهله بما فعل المتقدّم وأخذه ما يؤثر عنه بالتسليم لكمال الثقة وحسن الظن . بيّن الله تعالى هذه السنّة الإجتماعية في سورة الحديد بقوله : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [ الحديد : 16 ] ولهذا كان تعالى يرسل الرسل بعضهم في إثر بعض حتى لا يطول أمد الإنذار على الناس فيفسقوا ويضلّوا . ولا يعرف التاريخ شعباً جاءت فيه الرسل تترى كشعب إسرائيل ، لذلك كانوا بمعزل عن صحّة العذر بطول الأمد على الإنذار . وفي ناحية عمّا يُرجى قبوله من التعلّل والإعتذار ؛ لهذا قال تعالى بعد كلّ ما تقدّم : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ } فلم يمرّ زمن بين موسى وعيسى آخر أنبيائهم ، إلاّ وكان فيه نبيّ مرسل ، أو أنبياء متعدّدون يأمرون وينهون كأنّه يقول : اعلموا يا بني إسرائيل أنّه إن كان لطول الأمد على النبوّة وبعد العهد بالرسل يد في تغيير الأوضاع ونسيان الشرائع ، وكان في ذلك وجه لإعتذار بعض المتأخّرين ، فإنّ ذلك لا يتناولكم ، فإنّ الرسل قد جائتكم تترى ثم كان من أمركم معهم ما كان . ذكر رسل بني إسرائيل بالإجمال ، لبيان ما ذكر ، ثم خص بالذكر المسيح عليه السلام فقال : { وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } فأمّا البينات فهي ما يتبيّن به الحق من الحُجَج القيّمة والآيات الباهرة . وقال الأستاذ الإمام : المراد بها ما دعا إليه من أحكام التوراة ، وأمّا روح القدس فهو روح الوحي الذي يؤيّد الله تعالى به أنبياءه في عقولهم ومعارفهم ، وهو المراد بقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ } [ الشورى : 52 ] الآية . ويطلق عليه روح القُدس ؛ لأنّ التعليم الذي يكون به مقدّس ، أو لأنه يقدّس النفوس كما يطلق عليه " الروح الأمين " لأن النبيّ الموحى إليه يكون على بيّنة من ربّه ، فيه يأمن معها التلبيس فيما يلقى إليه ، قال تعالى في القرآن : { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ } [ الشعراء : 193 - 194 ] . ثم قال الأستاذ : ذهب جمهور المفسّرين إلى أن المراد بروح القدس : الملك المسمّى بجبريل الذي ينزل على الأنبياء ، ومنه يستمدون الشرائع عن الله تعالى ، وهو على حدّ قولهم " حاتم الجود " وذكر بعضهم وجها آخر ، وهو : إنّ المراد بها روح عيسى نفسه ، ووصفها بالقداسة والطهارة بمعنى إعاذته من الشيطان أن يكون له حظ فيه ، أو لأنّه أنزل عليه الإنجيل بالتعاليم التي تقدّس النفوس ، بل قال بعضهم : إن روح القدس هو الإنجيل ، والمراد من الكل واحد ، وهو أن الله تعالى أرسل إليهم عيسى بعد ظهور رسل كثيرين فيهم بعد موسى ، وأعطاه ما لم يعط كل رسول من أولئك الرسل من الوحي أو من قوّة الروح ، وزكاء النفس ومكارم الأخلاق ، ونسخ بعض الأحكام ، وقد كان حظّه مع ذلك منهم كحظّ سابقيه الذين لم يؤتوا من المواهب مثل ما أوتي . ماذا كان حظّ أولئك الرسل من بني إسرائيل ؟ كان حظّهم منهم ما أفاده الإستفهام التوبيخي في قوله : { أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمْ ٱسْتَكْبَرْتُمْ } فاتبعتم الهوى وأطعتم الشهوات ، وعصيتم الرسل واحتميتم عليهم أن أنذروكم ودعوكم إلى أحكام كتابكم { فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } كان المعهود في التخاطب وكلام الناس أن تذكر هذه المساوئ ثم يوبخون عليها ، ولكن طواها في الخطاب وأدمجها في الإستفهام ؛ لتفاجيء النفوس بقوّة التشنيع والتقبيح ، وتبرز لها في ثوب الإنكار والتوبيخ ، وفي ذلك الإيمان إلى أنّ هذه المعاملة السوءى ممَّا لا يخفى خبرها ، ولا تغيب عن الإنكار صورها ، فلا ينبغي الإلماع إليها ، إلاّ في سياق تقريع مجترحيها . وهذا من إيجاز القرآن ، الذي لا يعرج إليه فكر الإنسان . وأنظر كيف أورد خبر القتل بصيغة المضارع التي تدلّ على الحال ؛ لإستحضار تلك الصورة الفظيعة وتمثيلها للسامع حتى يمثّلها في الخيال ، وإن مرّت عليها القرون والأحوال ؛ لأنّها أفاعيل لا تخلق جدّتها ، ودماء لا تطير رغوتها ، وإنّ مثل هذا التعبير ليمثّل تلك الصورة المشوّهة ؛ لأنّ الألفاظ إذا قرعت الذهن بمفهومها يتناول الخيال ذلك المفهوم ويصوّره بالصورة اللائقة به ، فيكون له من التأثير ما يناسبه . قتلوا من الأنبياء المرسلين زكريا ويحيى عليهما السلام ، ويروى أنّهم قتلوا في يوم واحد مائة وخمسين نبيّاً ، فإنّ صحّ هذا فالمراد بأولئك الأنبياء مَنْ كانت نبوّتهم محصورة في الدعوة إلى إقامة التوراة ، ودليلها محصوراً في الإنباء ببعض المغيبات . وكان هذا الفريق منتشراً في أسباط بني إسرائيل وكثيراً بكثرتهم . وفي هذه الآية حجّتان للنبيّ صلى الله عليه وسلم : حجّة على بني إسرائيل ، وحجّة على الذين يعجبون لعدم إيمانهم به وإجابتهم دعوته ، وبيان أن المجاحدة والمعاندة من شأنهم وممّا عُرف من شنشنتهم ، وناسب بعد هذا أن يذكر ما كانوا يعتذرون به عن الإيمان به ، والإهتداء بكتابه ، بعد تقرير الدعوة ، وإقامة الحجّة ، فقال : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } الغُلف بضم وسكون وبضمّتين : جمع أغلف ، وهو ما يُحيط به غلاف يمنع أن يصيبه شيء . والمراد أنّنا لا نعقل قولك ولا ينفذ إلى قلوبنا مفهوم دعوتك ، فهو بمعنى قوله تعالى : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [ فصلت : 5 ] . وقد ردّ الله تعالى عليهم بما يُشعر بكذبهم وعنادهم فقال : { بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ } أي أن قلوبهم ليست غلفاً لا تفهم الحق بطبعها ، وإنّما أبعدهم الله تعالى من رحمته بسبب كفرهم بالأنبياء السابقين ، وبالكتاب الذي تركوا العمل به وحرّفوه اتّباعاً لأهوائهم ، فهم قد أنسوا بالكفر وانطبعوا عليه ، فكان ذلك سبباً في حرمانهم من قبول الرحمة الكبرى بإجابة دعوة خاتم النبيّين . هذا هو معنى اللعن ، وقد ذكرت معه علّته ليعلم أنّه جرى على سنّة الله تعالى في الأسباب والمسببات ، وأن الله لم يظلمهم بهذا ، وإنّما ظلموا أنفسهم بالكفر الذي يستتبع الكفر ، والعصيان الذي يجر إلى التمادي في العصيان ، كما هي السنة في أخلاق الإنسان . ولمّا ذكر اللعن معلّلاً بالكفر الذي هو نتيجة تأثير أعمالهم السابقة في أنفسهم ، وكان ممّا يخطر بالبال أن أولئك القوم لم يكونوا كافرين ، بل مؤمنين بالله وكتابه ورسله إليهم ، استدرك فقال : { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } ، وإنّما القلّة في الإيمان بإعتبار ما يؤمن به من أصول الدين وأحكام الشريعة ، وبالنسبة إلى اليقين في الإيمان ، وتحكيمه في الفكر والوجدان . ولقد كان القوم يؤمنون بالشريعة في الجملة وكما تعطيه ظواهر الألفاظ ، ولكنّهم لم يلبسوها مفصّلة تفصيلاً ، ولم يفقهوا حكمها وأسرارها ، فلم يكن لها سلطان على قلوبهم ، ولم تكن هي المحركة لإرادتهم في أعمالهم ، وإنّما كان يحرّكها الهوى والشهوة ، ويصرّفها عامل اللذة ، فالإيمان إنّما كان عندهم قولا باللسان ، ورسماً يلوّح في الخيال ، تكذّبه الأعمال ، وتطمّسه السجايا الراسخة والخلال ، وهذا هو الإيمان الذي لا قيمة له عند الله تعالى . ومن العجب أن نرى آيات القرآن تبطله بالحجج القيّمة ، والأساليب المؤثرة ، وأهل القرآن عن ذلك غافلون ، فقليلاً ما يعتبرون ويتذكّرون . ومن مباحث اللفظ في الآية : إنّ كثيراً من المفسّرين يزعمون أن " ما " زائدة ، وما هي بزائدة وفاقاً لابن جرير الطبري ، وجلّ القرآن أن يكون فيه كلم زائدة ، وإنّما تأتي " ما " هذه لإفادة العموم تارة ، ولتفخيم الشيء تارة ، ويقول ابن جرير : إنّما يؤتى بها في مثل هذا المقام كمبتدأ كلام جديد يفيد العموم ، كأنّه قال : فإيماناً قليلاً ذلك الذي يؤمنون به ، وأمّا التي لتفخيم الشيء فكقوله تعالى : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ } [ آل عمران : 159 ] أي فبسبب رحمة عظيمة الشأن خصّك الله بها لنت لهم - على ما لقيت منهم ، وقد بيّن تعالى هذه الرحمة بقوله في وصفه صلى الله عليه وسلم : { بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] وقوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] . هذا ما اختاره الأستاذ الإمام في تفسير قوله تعالى : { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } وهناك وجه آخر أورده ابن جرير في تفسيره وهو أنّه لا يؤمن بالنبيّ وما جاء به إلاّ قليل منهم . والإستدراك على هذا الوجه أظهر ، فإنّه لمّا بيّن أن كفرهم المستقر ، وعصيانهم المستمر ، كان سبباً في لعنهم وإبعادهم ، كان للوهم أن يذهب إلى أنّهم قوم قد سُجّل عليهم الشقاء وعمّهم ، حتّى لا مطمع في إيمان أحد منهم ، فجاء قوله تعالى : { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } يبيّن أن هذا الوهم لا يصحّ أن ينطلق على إطلاقه ، وأنّ تأثير ما ذكر في مجموع الشعب لم يستغرق أفراده استغراقاً ، وإنّما غمر الأكثرين ، ويرجى أن ينجو منه النفر القليل ، وكذلك كان . أقول : وفيه من دقّة القرآن في الصدق وتحديد الحق ما لا يعهد في كلام الناس .