Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 89-91)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال الأستاذ الإمام : إن قوله تعالى : { وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ } إلخ . متّصل بقوله قبله : { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } والمعنى . إنّ إيمانهم كان قليلاً حال كونهم كانوا ينتظرون نبيّاً وكتاباً مصدّقاً لما معهم ، وكانوا يستفتحون به على المشركين ، فكيف لا يكون قليلا ، أو أقل بعد ما جاء ما كانوا ينتظرون . وعرفوا أنه الحق ثم كفروا ؟ فالجملة حالية . ويصحّ أيضاً هذا الإتصال الذي ذكره على الوجه الثاني في تفسير { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } والكتاب هنا القرآن نكره للتفخيم ، وقوله : { مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } معناه أنّه موافق له في التوحيد وأصول الدين ومقاصده ، والإستفتاح في قوله : { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } معناه طلب الفتح ، وهو الفصل في الشيء والحكم ، ويُستعمل بمعنى النصر ؛ لأنّه فصل بين المتحاربين . وكانت اليهود تستفتح على مشركي العرب بالنبيّ المنتظر ، يقولون : إنّه سيظهر فينصر كتابه التوحيد الذي نحن عليه ، ويخذل الوثنيّة التي تنتحلونها ويبطلها ، فيكون مؤيّدا لدين موسى : أقول : روى محمد بن إسحاق عن أشياخ من الأنصار : إن هذا نزل فيهم وفي يهود المدينة ، قالوا : كنّا قد علوناهم قهراً دهراً في الجاهليّة ، ونحن أهل شرك وهم أهل كتاب ، وهم يقولون إن نبيّاً سيُبعث الآن نتبعه ، قد أظل زمانه ، نقتلكم معه قتل عاد وإرم إلخ . وروى الضحاك عن ابن عباس في تفسير { يَسْتَفْتِحُونَ } : يستنصرون ، يقولون نحن نعين محمّداً عليهم إلخ ، وتتمته في تفسير العماد ابن كثير . وشذّ بعضهم كالبغوي في تفسيره فقال : إنّهم كانوا يقولون إذا حزّبهم أمر أو دهمهم عدو : اللّهمّ انصرنا عليهم بالنبيّ المبعوث في آخر الزمان الذي نجد صفته في التوراة والإنجيل - فكانوا ينصرون . وفيه روايات ضعيفة عن ابن عباس لم يعرّج ابن كثير على شيء منها ، ولعلّه لأنّها على ضعف روايتها ومخالفتها للروايات المعقولة ، شاذّة المعنى يجعل الإستفتاح دعاء بشخص النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي بعض الروايات " بحقّه " وهذا غير مشروع ولا حق لأحد على الله فيدّعى به ، كما قال الإمام أبو حنيفة وغيره . وكذلك فعل ابن جرير ، لم يذكر شيئاً من روايات الدعاء بحقه والإستنصار بشخصه ، بل ذكر عدّة روايات في أنّهم كانوا يدعون الله بأن يبعثه ليقتل المشركين . وفي بعضها أنّهم كانوا يرجون أن يكون منهم . والكلام هنا في مجيء الكتاب لا في مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يأتي ذكر مجيئه قريباً ، على أنّهما متلازمتان { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } أعاد فلما جاءهم ، وهي عين الأولى لطول الفصل ، ووصل به الجواب وهو " كفروا به " ذلك أنّه راعهم كونه بُعث في العرب ، فحسدوه ، فحملهم الحسد على الكفر به جحوداً وبغياً ، فسجّلت عليهم اللعنة التي أصابتهم بكفرهم الأوّل بأن الكفر صار وصفاً لازماً لهم ولذلك قال : { فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } ولم يقل عليهم ؛ لأنّ المظهر أبلغ وأعمّ وأشمل . ثم ذكر علّة هذا الكفر وسببه ، وبيّن فساد رأيهم فيه بقوله : { بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ ٱللَّهُ } أي بئس شيئاً اشتروا به أنفسهم هو كفرهم بما أنزل الله مصدّقاً لما معهم ، كما كانوا ينتظرون . شرى الشيء واشتراه : يُستعمل كل منهما بمعنى باع الشيء ، وبمعنى ابتاعه ؛ لأنّ الحرف يدلّ على المعاوضة . وقد ذهب جمهور المفسّرين إلى أن " اشتروا " هنا بمعنى باعوا ، أي إنّهم بذلوا أنفسهم وباعوها بما حرصوا عليه من الكفر بغياً وحسداً للنبيّ ، وحبّاً في الرياسة واعتزازاً بالجنسيّة ، وبما كان لكل من الرؤساء والمرءوسين من المنافع المتبادلة في المحافظة عليها ، فهذا كلّه يعد ثمناً لأنفسهم التي خسروها بالكفر حتى كأنّهم فقدوها كما يفقد البائع المبيع . وذكر ابن جرير وجها آخر وهو أنّ " اشتروا " هنا بمعنى ابتاعوا ، أي إنّهم جعلوا أنفسهم ثمناً للكفر الذي ذكرت علّته آنفاً . وفيه من الزيادة على معنى المعاوضة في الوجه الأوّل أنّهم قد أنقذوا أنفسهم بذلك الكفر ، أي أنّهم يزعمون ذلك ويدعونه في الظاهر ، وإن كانوا في الباطن قد عرفوا أن ما جاءهم هو الحق الذي كانوا ينتظرون ، وأنّهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ولكنّهم يكتمون . وقد فهم ممّا تقدّم معنى قوله تعالى : { بَغْياً أَن يُنَزِّلُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } فهو تعليل لكفرهم لا لشرائهم ، أي كفروا به لمحض البغي الذي أثاره الحسد ، كراهة أن ينزل الله الوحي من فضله بمقتضى مشيئته . وأي بغي أقبح من بغي من يريد أن يحجر على فضل الله ويقيّد رحمته ، فلا يرضى منه أن يجعل الوحي في آل إسماعيل كما جعله في آل أخيه إسحاق ؟ قرأ ابن كثير وأبو عمرو ( ينزّل ) بالتخفيف من الإنزال ، والباقون بالتشديد من التنزيل . وأمّا قوله : { فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ } فهو الغضب الذي استوجبوه حديثاً بالكفر بالنبيّ صلى الله عليه وسلم فوق ذلك الغضب الذي لحقهم من قبل بإعنات موسى عليه السلام والكفر به ، وقد ذكر في قوله : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ } [ البقرة : 61 ] ثم توعّدهم بعد الغضب المزدوج فقال : { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } أي مقرون بالإهانة والإذلال ، وبذلك صار بمعنى الآية السابقة ، فكأن الجزاء واحد تكرّر بتكرر الذنب . وقال : { وَلِلْكَافِرِينَ } ولم يقل : ( ولهم ) لما في المظهر من بيان التعليل بالوصف الذي سجّله عليهم كما تقدّم آنفاً ، وهذا العذاب مطلق يشمل عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، وقد تقدّم أنّ ذنوب الأمم تتبعها عقوبتها في الدنيا ؛ لأنها أثر طبيعي لها ، وإنّما جعلها الله كذلك لتكون عبرة يتأدّب المتأخرون بما أصاب منها المتقدّمين . وكذلك الحال في عقوبة الآخرة بالنسبة إلى الأفراد ، فإنّ عذاب كل شخص إنّما يكون بحسب تأثير الجهل في عقله وفساد الأخلاق وسوء الأعمال في نفسه . أعتذر بعض اليهود في عصر التنزيل عن عدم الإيمان به بأنّ قلوبهم غُلف لم تفهم الدعوة ولم تعقل الخطاب ، فردّ الله تعالى عليهم ببيان السبب الحقيقي في ترك الإيمان ، وما استحقوه عليه من الغضب والهوان . ثم ذكر إعتذاراً آخر لهم مقروناً بالرد والإبطال ، وإقامة الحجّة عليهم به فقال : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا } صيغة الدعوة تشعر بوجوب الإيمان بما أنزل الله تعالى ؛ لأنّه هو الذي أنزله لا لأنّ المنزل عليه فلان . ولذلك لم يقل : آمنوا بما أنزل على محمد ، فإنّ ما أنزل عليه لو أنزل على غيره لوجب الإيمان به ، فإنّ الوحي هو المقصود بالذات ، والأنبياء إنّما هم مبلّغون ، فتقييد الخضوع لوحي الله بكونه لا بدّ أن يكون منزلا على شخص من شعب كذا بعينه ، تحكّم على الله تعالى وقضاء عليه بأن تكون رحمته مقيّدة بأهواء فريق من خلقه . فإيراد الدعوة بما ذكر من الإطلاق مع إيراد الجواب مقيّداً بقيد { نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا } يشعر بقوّة حجّة الدعوة ، ووهن ما بُني عليه الجواب من الشبهة . ثم صرّح بالحقيقة ، وهي أنّهم إنّما يدّعون هذا الإيمان بألسنتهم { وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ } من مدلول ولازم لا ينفك عنه ، كالبشارة برسول من بني إخوتهم أي ولد إسماعيل ، وكون ما تثبت به نبوّة محمّد بمساواته لما تثبت به نبوّة موسى ، يستلزم وجوب إتباع محمد كما اتبع موسى ؛ لأن المدلول يتبع دليله في كل زمن وكل موضوع . قال : إنّهم يكفرون بما وراء المنزل إليهم { وَهُوَ ٱلْحَقُّ } أي والحال أنّه الحق الثابت في نفسه بالدليل حال كونه { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ } فهو مؤيّد عندهم بالعقل والنقل ، وقد كان من مكابرتهم وعنادهم ما كان ، فلم يبق إلاّ إلزامهم الحجّة بما اقترفوا من فحش المخالفة لما أنزل إليهم والفسوق عنه ؛ ليعلم أنّهم يتبعون أهواءهم ويحكّمون شهواتهم بما أُنزل إليهم وما أُنزل على محمّد صلى الله عليه وسلم ، ولذلك قال : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ ٱللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } بما أنزل إليكم ، وليس فيه الأمر بقتل الأنبياء بل فيه النهي الشديد عن قتل أنفسكم . ومن مباحث اللفظ أو البلاغة : أنّه جاء بالجملة الحاليّة في بيان كون ما كفروا به هو الحق ؛ لأنّ الجملة الحاليّة تدلّ على تقدّم ثبوت مضمونها على حدوث ما جُعلت قيداً له ، وما كفروا به كذلك هو الحق من قبل كفرهم . وهذا المعنى للجملة الحاليّة هو ما حقّقه الإمام عبد القاهر في دلائل الإعجاز ، ولم يشر إليه شيخنا هنا ؛ لأنه لم يكن عند تفسير هذه الآيات قد قرأ دلائل الإعجاز . وقوله : { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ } حال مفردة مؤكدة ، والأصل فيها المقارنة لما هي قيد له ، وهو يتضمّن إثبات كفرهم بالتوراة بالتبع ؛ لكفرهم بالقرآن المصدّق لها ، ولو فيما صدّقها فيه . والكفر ببعضه ، كالكفر به كلّه كما تقدّم بيانه قريباً . ومن مباحث اللفظ أيضاً : وضع المضارع { تَقْتُلُونَ } موضع الماضي { قَتَلْتُمْ } لما سبق بيانه في مثل هذا التعبير من إرادة إستحضار صورة هذا الجرم الفظيع مبالغة في التقريع ، وإغراقاً في التشنيع . ولمّا كانت هذه الصيغة تدلّ على الحال فتوهم أنّ الذين في زمن التنزيل كانوا لا يزالون يقترفون هذه الجريمة - على أنّه لم يكن في ذلك العهد أنبياء إلاّ من يبكتهم ويحتج عليهم - وصلها بقوله : ( من قبل ) دفعاً لذلك الوهم . والفاء في قوله : { فَلِمَ } واقعة في جواب شرط دلّ عليه ما بعده . وقد سبق القول غير مرّة بأنّ خطاب الخلف بإسناد ما كان من سلفهم إليهم مقصود لبيان وحدة الأمّة وتكافلها ، وكونها في الأخلاق والسجايا المشتركة بين أفرادها كالشخص الواحد ، وبيان أنّ ما تبلي به الأمم من الحسنات والسيئات ، إنّما هو أثر الأخلاق الغالبة عليها والأعمال الفاشية فيها ، منبعثة عن تلك الأخلاق ، فما جرى من بني إسرائيل من المنكرات لم يكن من قذفات المصادفة ، وإنّما كان عن أخلاق راسخة في الشعب تبع الآخرون فيها الأوّلين ، إمّا بالعمل وإمّا بالإقرار وترك الإنكار . ولو أنكر المجموع ما كان من بعض الأفراد لما تفاقم الأمر ، ولما تمادى واستمر . فالحجّة تقوم على الحاضرين بأن الغابرين قتلوا الأنبياء فأقرّهم مَنْ كان معهم ، ولم يعدّوا ذلك خروجاً من الدين ، ولا رفضاً للشريعة ، وتبعهم من بعدهم على ذلك ، وفاعل الكفر ومجيزه واحد ، وقد سبق تقرير هذا غير مرّة .